الفصل الثامن

وأقبل سيِّدنا إلى الكتَّاب من الغد مسرورًا مبتهجًا، فدعا الشيخ الصبي بلقب الشيخ هذه المرَّة قائلًا: أمَّا اليوم، فأنت تستحق أن تُدعى شيخًا؛ فقد رفعت رأسي وبيَّضت وجهي وشرَّفْت لِحيتي أمس، واضطُرَّ أبوك إلى أن يعطيني الجُبَّة، ولقد كنت تتلو القرآن أمس كسلاسل الذهب، وكنتُ على النار مخافةَ أن تَزِلَّ١ أو تنحرف، وكنت أحصنك بالحيِّ القيوم الذي لا ينام؛ حتى انتهى هذا الامتحان، وأنا أعفيك اليوم من القراءة، ولكن أريد أن آخذ عليك عهدًا، فعدني بأن تكون وفيًّا! قال الصبي في استحياء:٢ «لك عليَّ الوفاء.» قال سيِّدنا: فأعطني يدك، وأخذ بيد الصبي، فما راع٣ الصبي إلا شيء في يده غريب، ما أحسَّ مثله قط، عريض يترجرج،٤ مِلْؤه شَعَرٌ تغور فيه الأصابع، ذلك أن سيِّدنا قد وضع يد الصبي على لحيته، وقال: هذه لحيتي أسلِّمك إيَّاها، وأريد إلَّا تُهينها، فقل: «والله العظيم ثلاثًا، وحقِّ القرآن المجيد لا أُهينُها.» وأقسم الصبي كما أراد سيِّدنا، حتى إذا فرغ من قسمه؛ قال له سيِّدنا: كم في القرآن من جزء؟ قال: ثلاثون، قال سيِّدنا: وكم نشتغل في الكُتَّاب من يوم؟ قال الصبي: خمسة أيام. قال سيِّدنا: فإذا أردت أن تقرأ القرآن مرة في كل أسبوع، فكم تقرأ من جزءٍ كلَّ يوم؟ فكَّر الصبي قليلًا ثم قال: ستَّة أجزاء. قال سيِّدنا: فتُقسمُ لتتْلُوَنَّ على العريف ستة أجزاء من القرآن في كل يوم من أيام العمل، ولتكوننَّ هذه التلاوة أوَّل ما تأتي به حين تصل إلى الكُتَّاب، فإذا فرغت منها فلا جُناح٥ عليك أن تلهو وتلعب، على ألَّا تَصرِف الصبيان عن أعمالهم. أعطى الصبيُّ على نفسه هذا العهد، ودعا سيِّدُنا العريفَ فأخذ عليه عهدًا مثله، لَيَسْمَعَنَّ للصبي في كل يوم ستة أجزاء من القرآن، وأودعه شرفه، وكرامةَ لحيته، ومكانة الكُتَّاب في البلد، وقَبِلَ العريف الوديعة، وانتهى هذا المنظر وصبيان الكُتَّاب ينظُرُون ويَعْجبُون.
١  يزل هنا: يغلط، ويُقال: زل عن الصخرة ونحوها، إذ زلق عنها وسقط، وعن الصواب في منطق، إذا انحرف.
٢  في استحياءٍ: في خجلٍ.
٣  ما راعنى إلا كذا: أي ما شعرت إلا به.
٤  يترجرج: يضطرب.
٥  الجُناح بضم الجيم: الإثم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤