الفصل الثاني عشر

على هذا الربع أقبل الصبي، وفي هذه البيئة عاش. وأكبر الظن أن ما اكتسب فيهما من العلم بالحياة وشئونها والأحياء وأخلاقهم لم يكن أقل خطرًا مما اكتسبه في بيئته الأزهرية من العلم بالفقه والنحو والمنطق والتوحيد.

ولم يكد الصبيُّ يستقر في ربعه يومين أو ثلاثة، حتى أسلمه أخوه إلى أستاذ كان قد ظفر بالدرجة أثناء الصيف، وكان سيبدأ الدرس ويجلس مجلس الأستاذ من صغار التلاميذ لأول مرة في حياته، وكان قد بلغ الأربعين أو كاد يبلغها. وكان معروفًا بالتفوق مشهورا بالذكاء، قد غالب الحظ فغلبه، وإن لم يكن انتصاره على الحظ ملائمًا لحقه في الفوز، فقد ظفر بالدرجة الثانية، وعُدَّ هذا انتصارًا، وقصر عن الدرجة الأولى وعُد هذا ظلمًا. وكان ذكاؤه مقصورًا على العلم، فإذا تجاوزه إلى الحياة العملية فقد كان إلى السذاجة أدنى منه إلى أي شيء آخر. وكان يعرف بين أصدقائه الطلاب والعلماء بأنه محب لبعض لذاته المادية متهالك عليها، يفرض عليه مزاجه ذلك ولا تفرضه عليه رذيلة أو فساد خلق مألوف، وكان كثير الأكل قد شُهر بأنه يتهالك على اللحم ولا يستطيع أن ينقطع عن أكله والإسراف فيه يومًا واحدًا، وكان ذلك يكلفه عناءً كثيرًا.

وكان إلى هذا غريب الصوت إذا تحدَّث، كان صوته مُتهدِّجًا مُتكسِّرًا يٌقطِّع الحروف تقطيعًا، ويتراكم مع ذلك بعضه فوق بعض، وتنفرج شفتاه عن كلامه أكثر مما ينبغي، فلا يكاد يسمعه المتحدث إليه حتى يضحك، ولا يكاد يمضي في الحديث معه حتى يُقلِّد فتور صوته وتكسره وانفراج الشفتين عنه.

ولم يكد يظفر بدرجة العالِمية حتى أسرع إلى شارة العلماء فاتخذها ولبس «الفراجية» متعجلًا لُبسها، ولم يكن العلماء يتَّخذون هذه الشارة إلا بعد أن يَبْعُدَ عهدُهم بالدرجة وتُعرف لهم في العلم سابقة، وقُدْمةٌ تيسر لهم حياتهم المادية شيئًا.

ولكن صاحبنا أسرع إلى «الفراجية» فلبسها وأضحك منه أصحابه من الطلاب وأساتذته من الشيوخ، وزادهم ضحكًا منه وتندرًا عليه أنه كان يلبس الفراجية ويمشي حافيًا في نعليه — إن صح هذا التعبير — لا يتخذ الجوارب عجزًا منه عنها أو زهدًا منه فيها. وكان إذا مشى في الشارع تثاقل وتباطأ واصطنع وقار العلماء وجلال العلم، فإذا خطا عتبة الأزهر ذهب عنه وقاره وفارقته أَنَاتُهُ ولم يمشِ إلا مهرولًا.

وقد عرف الصبي رِجْلَيْهِ قبل أن يسمع صوته؛ فقد أقبل على مكان درسه لأول مرة مهرولًا كما تعوَّد أن يمشي، فعثر بالصبيِّ وكاد يسقط من عثرته، ومسَّت رِجْلاه العاريتان اللتان خُشُنَ جِلْدُهُمَا يدَ الصبيِّ فكادت تقطع. ثم مضى حتى جلس وأسند لأول مرة ظهره إلى ذلك العمود الذي تمنَّى أن يسند ظهره إليه معلمًا.

وكان كغيره من أقرانه في ذلك الوقت بارعًا في العلوم الأزهرية كلَّ البراعة، ساخطًا على طريقة تعليمها سخطًا شديدًا. قد بلغت تعاليم الأستاذ الإمام قلبَه فأثَّرت فيه، ولكنها لم تصل إلى أعماقه؛ فلم يكن مجددًا خالصًا ولا محافظًا خالصًا، وإنما كان شيئًا بين ذلك، وكان هذا يكفي لينظر الشيوخ إليه شزرًا وليلحظوه في شيء من الريبة والإشفاق. ولم يكد يبدأ درسَه الأول في الفقه حتى أعلن إلى تلاميذه أنه لن يقرأ لهم كتاب «مراقي الفلاح على نور الإيضاح» كما تعود الشيوخ أن يقرءوا للتلاميذ المبتدئين، ولكنه سيعلمهم الفقه في غير كتاب بمقدار ما في «مراقي الفلاح»، فعليهم إذن أن يسمعوا منه ويفهموا عنه، وأن يكتبوا ما يحتاجون إلى كتابته من المذكرات. ثم أخذ في درسه فكان قَيِّمًا مُمتعًا، وسار هذه السيرة في درس النحو، فلم يقرأ للتلاميذ «شرح الكفراوي»، ولم يعلمهم الأوجه التسعة لقراءة بسم الله الرحمن الرحيم وإعرابها، وإنما هيَّأهم للنحو تهيئة حسنة، وعرَّفهم الكلمة والكلام والاسم والفعل والحرف؛ فكان درسه سهلًا ممتعًا أيضًا.

وسئل الصبي أثناء شاي العصر عمَّا سمع من أستاذه في الفقه والنحو، فلما أعاد على أخيه وأصحابه ما سمع رضيت الجماعة عن الشيخ وعن منهجه وأقرَّت طريقتَه في التعليم. وجعل الصبيُّ يختلف إلى هذين الدرسين لا يتجاوزهما أيامًا لا يذكر عددها، ولكنه كان يسأل نفسه متى ينتسب إلى الأزهر ويصبح طالبًا مقيَّدًا في سجلاته؛ فلم يكن في هذه الأيام إلا صبيًّا يستمع إلى هذين الدرسين استماعًا منظمًا محتومًا، ويستمع إلى درس الحديث الذي كان يُلقى بعد صلاة الفجر لا لشئ إلا لأنه كان ينتظر أن يفرغ أخوه من درس الأصول، وأن يحين الوقت الذي يبدأ فيه درس الفقه.

وقد أقبل اليوم المشهود، فأُنبئ الصبيُّ بعد درس الفقه أنه سيذهب إلى الامتحان في حفظ القرآن توطئةً لانتسابه إلى الأزهر. ولم يكنِ الصبيُّ قد أُنبئ بذلك من قبلُ، فلم يتهيَّأ لهذا الامتحان، ولو قد أُنبئَ به لَقَرَأَ القرآن على نفسه مرةً أو مرتين قبل ذلك اليوم، ولكنه لم يفكر في تلاوة القرآن منذ وصل إلى القاهرة، فلما أُنْبِئَ بأنه سيمتحن بعد ساعة خفق قلبه وَجِلًا، وسعى إلى مكان الامتحان في زاوية العميان خائفًا أشدَّ الخوف مضطربَ النفس أشدَّ الاضطراب، ولكنه لم يكد يدنو من الممتحنين حتى ذهب عنه الوَجَلُ فجأة، وامتلأ قلبه حسرةً وألمًا، وثارت في نفسه خواطر لاذعة لم ينسها قط؛ فقد انتظر أن يفرغ الممتحنان من الطالب الذي كان أمامهما، وإذا هو يسمع أحد الممتحنين يدعوه بهذه الجملة التي وقعت من أذنه ومن قلبه أسوأ وقع: «أقبل يا أعمى!»

ولولا أن أخاه بذراعه فأنهضه في غير رِفْقٍ وقاده إلى الممتحنين في غير كلام، لما صدَّق أن هذه الدعوة قد سِيقَت إليه؛ فقد كان تعوَّد من أهله كثيرًا من الرفق به وتجنبًا لذكر هذه الآفة بمحضره، وكان يُقدِّر ذلك وإن كان لم ينسَ قط آفته ولم يُشغل قط عن ذكرها. ومع ذلك فقد جلس أمام الممتحنين وطُلب إليه أن يقرأ سورة الكهف، فلم يكد يمضي في الآيات الأولى منها حتى طُلب إليه أن يقرأ سورة العنكبوت، فلم يكد يمضي في الآيات الأولى منها حتى قال له أحد الممتحنين: «انصرف يا أعمى، فتح الله عليك.»

وقد دُهِشَ الصبيُّ لهذا الامتحان الذي لا يُصوِّر شيئًا ولا يدلُّ على حفظ. وقد كان ينتظر على أقل تقدير أن تمتحنه اللجنة على نحو ما كان يمتحنه أبوه الشيخ. ولكنه انصرف راضيًا عن نجاحه، ساخطًا على ممتحنيه، محتقرًا لامتحانهما. ولم يخرج من زاوية العِميان قبل أن يعطف به أخوه على بعض أركانها، فتلقَّاه هناك أحد الفرَّاشين — أو أحد «المشدين» بلغة ذلك الوقت — فأخذ ذراعه اليمنى، وأدار حول معصمه سوارًا من الخيط جمع طرفيه بقطعة مختومة من الرَّصاص، وقال له: انصرف فتح الله عليك.

ولم يفهم الصبي لهذا السوار معنًى، ولكن أخاه أنبأه بأن هذا السوار سيظل حول معصمه أسبوعًا كاملًا حتى يمرَّ أمام الطبيب الذي سيمتحن صحته ويُقدِّر سنَّه ويطعمه التطعيم الواقي من الجدري.

وقد كان الصبي خليقًا أن يبتهج بهذا السوار الجديد الذي كان يدل على أنه مرشح للانتساب إلى الأزهر، قد جاز المرحلة الأولى من مراحله، لولا أنه ظل مشغولًا عن السوار بدعوة الممتحن له وصرفه إياه. وأنفق أسبوعه كما تعود أن ينفق أيامه، مستيقظًا على صوت عمى الحاج عليٍّ، ذاهبًا إلى الأزهر مع الفجر، عائدًا منه بعد درس الفقه، ثم ذاهبًا إلى الأزهر مع الظهر، ثم راجعًا منه بعد درس النحو، ثم مقيمًا في مجلسه ذاك، فنائمًا في مجلسه ذاك، فغاديًا على الأزهر حين يسمع نداء المؤذن بأن الصلاة خير من النوم.

وجاء يوم الامتحان الطبيِّ، فذهب إليه الصبيُّ وفي نفسه شيء من الاشفاق أن يدعوه الطبيب كما دعاه الممتحن. ولكن الطبيب لم يدعه لأنه لم يكن يدعو أحدًا، وإنما دفعه أخوه إلى الطبيب دفعًا، فأخذ ذراعه وخطَّ فيها خطوطًا، وقال: «خمسة عشر»، وانتهى الأمر عند هذا الحد. وأصبح الصبيُّ طالبًا منتسبًا إلى الأزهر، ولم يكن قد بلغ السنَّ التي ذكرها الطبيب والتي لم يكن بدٌّ منها لصحة الانتساب، وإنما كان في الثالثةَ عشرةَ من عمره، وقد حلَّ السوار عن معصمه وعاد إلى غرفته وفي نفسه شكٌ مؤلمٌ لذيذ في أمانة الممتحنين وفي صدق الطبيب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤