الفصل الثالث عشر

وكانت هذه الحياة شاقة على الصبي وعلى أخيه معًا؛ فأما الصبي فقد كان يستقلُّ ما كان يقدَّم إليه من العلم ويتشوَّق إلى أن يشهد أكثر ممَّا كان يشهد من الدروس، ويبدأ أكثر مما كان قد بدأ من الفنون. وكانت وحدته في الغرفة بعد درس النحو قد ثَقُلَتْ عليه حتى لم يكن يستطع لها احتمالًا، وكان يود لو استطاع الحركة أكثر مما كان يتحرك، والكلام أكثر مما كان يتكلم. وأما أخوه فقد ثَقُلَ عليه اضطراره إلى أن يقود الصبيَّ إلى الأزهر وإلى البيت مصبحًا وممسيًا، وثقلَ عليه أيضًا أن يترك الصبيَّ وحدَه أكثر الوقت، ولم يكن يستطيع أن يفعل غير هذا؛ فلم يكن من الممكن ولا من الملائم لحياته ودرسه أن يهجر أصدقاءه ويتخلَّف عن دروسه ويُقيم في تلك الغرفة ملازمًا للصبي مؤنسًا له.

ولم يتحدَّث الصبيُّ بذات نفسِه إلى أحد، ولم يتحدَّث أخو الصبي إليه بذات نفسه أيضًا، وأكبر الظن أنه تحدَّث بذلك إلى أصدقائه غير مرة، ولكن المشكلة بلغت أقصاها ذات ليلة، وانتهت إلى الحل بعد ذلك دون أن يقول الصبيُّ لأخيه شيئًا أو أن يقول له أخوه شيئًا.

دُعيتِ الجماعةُ ذات يوم إلى أن تَسْمُرَ عند صديق لها سوريٍّ لا يسكن الربع ولا يسكن الحي، وقبلت الجماعة دعوة الصديق، ومضى اليوم كما تعودت الأيام أن تمضي. وذهبت الجماعة إلى درس الأستاذ الإمام ثم عادت منه بعد صلاة العشاء، ليتخفَّفَ كل واحد منها مما كان يحمل من محفظته وأوراقه.

وهيَّأ الشيخ الفتى أخاه الصبيَّ لنومه كما كان يفعل كل ليلة، وانصرف عنه بعد أن أَطْفَأَ المصباح كما كان ينصرف كل ليلة. ولكنه لم يكد يبلغ الباب حتى كان الحزن قد غلبَ الصبيَّ على نفسه فأجهش ببكاءٍ كظمه ما استطاع، ولكنه وصل في أكبر الظن إلى أذن الفتى، فلم يُغيِّر رأيه ولم يصرفه عن سَمَرِهِ، وإنما أغلق الباب ومضى في وجهه. وأرضى الصبي حاجة نفسه إلى البكاء ثم عاد إلى اطمئنانه شيئًا فشيئًا، ومثل قصته التي كان يمثلها في كل ليلة، فلم يستسلم إلى النوم إلا بعد أن عاد أخوه. ولكنه أصبح فإذا أخوه يُقَدِّمُ إليه بعد درس الفقه وبعد أن أفطر ألوانًا من الحلوى كان قد اشتراها له في طريقه إلى العودة من سَمَرِهِ، وقد فَهِمَ الصبيُّ عن أخيه وفهم أخوه عنه، فلم يقل أحدهما لصاحبه شيئًا.

ومضى يوم ويوم آخر، وأخذ الشيخ الفتى كتابًا من الحاج فيروز ففضه ونظر فيه ثم قال لأخيه وقد وضع يده على كتفه، وامتلأ صوته حنانًا ورفقًا: «لن تكون وحدك في الغرفة منذ غد، فسيحضر ابن خالتك طالبًا للعلم، وستجد منه مؤنسًا ورفيقًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤