الفصل الرابع عشر

وكان ابن خالته هذا رفيقَ صباه، وكان له صديقًا وعنده أثيرًا، وكان كثيرًا ما يهبط من بلدته في أعلى الإقليم لزيارة الصبي، فينفق معه الشهر أو الأشهر، يختلفان معًا إلى الكُتَّاب فيلعبان وإلى المسجد فليُصليان، ثم يعودان مع الأصيل إلى البيت فيقرآن في كتب القصص والسمر، أو يمضيان في ألوان من العبث، أو يخرجان للنزهة عند شجيرات التوت التي كانت تقوم على حافَّة الإبراهيمية. وكانا كثيرًا ما أدارا بينهما ألوانًا من الأمانيِّ والأحلام، وكانا قد تعاهدا على أن يذهبا معًا إلى القاهرة ويطلبا العلم معًا في الأزهر.

وكثيرًا ما هبط ابن خالته من مدينته في أعلى الإقليم في آخر الصيف وقد أعطته أمه نقودًا وأعدت له زادًا وودعته على أنه سيذهب مع ابن خالته إلى القاهرة ليطلبا فيها العلم معًا. ولكنه كان يشارك صديقه في الانتظار ثم في الغضب ثم في الحزن والبكاء؛ لأن الأسرة رأت — أو لأن الشيخ الفتى رأى — أن الوقت لم يَئِنْ لذَهابهما إلى القاهرة، ثم كانا يفترقان ويعود الصديق إلى أمه محزونًا كئيبًا.

فلا غرابة في أن يقع هذا الخبر من نفس الصبي موقعًا حسنًا، ولا غرابة في أن يقضي الصبي مساءه راضيًا مبتهجًا لا يُفكر إلا في غد. وقد أقبل الليل وملأ الغرفة بظلمته، ولكن الصبي لم يسمع للظلمة في تلك الليلة صوتًا ولا حديثًا، وأكبر الظن أن حشرات الغرفة قد لعبت كما كانت تفعل كل ليلة، ولكن الصبي لم يسمع لها صوتًا ولم يحس لها حركة.

وقد أرِق الصبي ليلته كلها، ولكنه كان أرقًا فرحًا مبتهجًا، فيه كثير من تَعَجُّلِ الوقت واستبطاء الصبح. وقد ذهب الصبي إلى درس الحديث فسمع صوت الشيخ وهو يتغنَّى بالسند والمتن، ولكنه لم يُلْقِ إلى الشيخ بالًا، ولم يفهم عنه شيئًا. وذهب بعد ذلك إلى درس الفقه فاستمع له لأنه لم يجد عن ذلك بُدًّا، فقد كان أخوه أوصى به الشيخ، وكان الشيخ يُحاوره ويُناظره ويضطره إلى أن يسمع له ويفهم عنه. ثم عاد الصبيُّ إلى الغرفة في الضحى فأنفق وقته هادئًا قلقًا.

هادئًا في ظاهر الأمر؛ فقد كان يكره كلَّ الكره أن يظهر أخوه أو أصحابه على أن شيئًا من أمره قد تغير قليلًا أو كثيرًا، وقلقًا في دخيلة نفسه يتعجَّل الوقت ويستبطئ العصر الذي سيصل فيه القطار إلى محطة القاهرة.

وقد دعا المؤذن بصلاة العصر آخر الأمر، ولم يبقَ بين الصبي وابن خالته إلا هذا الوقت القصير الذي تقطع فيه عربة من عربات النقل هذه المسافة بين المحطة وبين الحيِّ، سالكةً باب البحر فباب الشعرية منتهية إلى هذا الباب الذي ستنعطف نحوه، فتمر بين دخان القهوة وقرقرة الشيشة.

وهاتان قدمان تضربان أرض الربع لا يتردد الصبي في معرفتهما، وهذا ابن خالته يُقبل فيلقي عليه سلامًا ضاحكًا، ثم يعتنقان ضاحكَيْنِ، وهذا سائق العربة يتبعه وقد حمل ما أرسلته الأسرة إلى الطالبيْن من الطُّرَف والزاد، ومن المحقق أن العشاء سيكون دسمًا هذه الليلة، وأن الأصدقاء جميعًا سيُشاركون فيه، وأن الصبيَّيْنِ لن يخلُوَا لأنفسهما وأحاديثهما إلا حين يذهب القوم ليشهدوا درس الأستاذ الإمام.

ولكن من المحقق أيضًا أن حياة الصبي قد تغيَّرت كلها منذ ذلك اليوم، فذهبت عنه العزلة حتى رغب فيها أحيانًا، وكثر عليه العلم حتى ضاق به أحيانًا أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤