الفصل الخامس عشر

وأيسر ما تغير من حياته المادية أنه هجر مجلسه من الغرفة على البساط القديم الذي بسط على الحصير البالي العتيق، فلم يعرفه إلا حين كان يجلس للإفطار أو للعشاء، وحين كان يأوي إلى مضجعه حين يتقدم الليل؛ وإنما كان يقضي يومه كله أو أكثره في الأزهر، وفيما حوله من المساجد التي كان يختلف فيها إلى بعض الدروس. فإذا عاد إلى «الربع» لم يدخل الغرفة إلا ليتخفف من عباءته، ثم يعود فيخرج منها ليجلس مع صاحبه على فراش ضيق من اللبد قد فرش أمامها وأخذ أكثر الطريق على المارة، فلم يخل لهم منه إلا موضع أقدام الرجل الواحد أو الرجلين.

وفي هذا المجلس كان الصبيان يلهوان بالحديث قليلًا وبالقراءة كثيرًا، وقد يفرغان لما كان يجري في الطبقة السفلى من حركة وحديث، يسمع أحدهما، ويرى الآخر ويفسر لصاحبه ما لا يرى.

وكذلك عرف الصبي الربع أكثر مما كان يعرفه، وعرف من شئون أهله أكثر مما كان يعرف، وسمع من أحاديثهم أكثر مما كان يسمع، عاش جهرة بعد أن كان يعيش سرًّا. ولكن حياته الخصبة الممتعة منذ أقبل عليه صديقه لم تكن في الغرفة ولا في الربع، وإنما كانت في الأزهر نفسه، فقد استراح الصبي من درس الفجر وتلبَّث في غرفته حتى يدنو درس الفقه، فكان يستمتع إذن مع صديقه بصوت الشيخ الموسوس حين كان يُقيم الصلاة في كل يوم، بعد أن كان لا يستمتع بهذا الصوت إلا يوم الجمعة من كلِّ أسبوع.

فإذا حان وقت الدرس خرج مع صاحبه إلى الأزهر، فسلكا الطريق نفسها التي كان يسلكها مع أخيه، ولكنهما يسلكان هذه الطريق متحدثين بالجِدِّ مرَّةً وبالهزل مرة أخرى، وقد ينحرفان عن حارة الوطاويط تلك القذرة، إلى شارع خان جعفر ذلك النظيف، ويخلصان على كل حال إلى شارع سيدنا الحسين. والغريب أن الصبي تعوَّد منذ أقبل صديقه عليه ألا يمر بمسجد سيدنا الحسين ولا يدخله إلا قرأ الفاتحة، عوَّده صديقه هذه العادة فدأب عليها. وقد تقدَّمت به السنُّ واختلفت عليه أطوار الحياة، وما يذكر أنه مرَّ بمسجد سيدنا الحسين إلا قرأ في نفسه هذه السورة الكريمة من سور القرآن.

وكان أخو الصبيِّ قد خصص له ولصاحبه مقدارًا يسيرًا جدًّا من النقد ثمنًا لإفطارهما، على أن يأخذا بعد درس الفقه جراية الشيخ الفتى من رواق الحنفية، وكانت أربعة أرغفة، فيأكلان منها رغيفين إذا أفطرا ويحفظان منها رغيفين للعشاء، ومع أن هذا المقدار الذي خُصِّص لهما من النقد قد كان يسيرًا ضئيلًا لا يتجاوز القرشَ الواحد في كل يوم، فقد عرفا كيف يحتالان وكيف يقتصدان ليمتعا أنفسهما ببعض ما كانت نفوسهما تتوق إليه من طرائف الطعام والشراب. وما يمنعهما أن يغدوَا ذات صباح مع الطير، فإذا تجاوزا ذلك الباب المقفل من فجوته الضيقة، واستدارا ليأخذا طريقهما نحو الأزهر، وقفا عند بائع البليلة فأخذ كل منهما قدرًا من هذا الطعام الذي كانا يحبانه أشدَّ الحب؛ لكثرة ما أكلا منه في الريف، ولكثرة ما كان يوضع عليه من السكر الذي يختلط بحباته الغلاظ ويذوب في مائه الشديد الحرارة جدًّا، فلا يكادان يسيغانه حتى يطرد عنهما بقية النوم ويُشيع في جسميهما النشاط ويثير في أفواههما وأجوافهما لذَّةً كانا يقدرانها قدرها، ويهيئهما تهيئةً صالحةً لدرس الفقه، يسمعان لحديث الشيخ وقد عمرت بطونهما ورءوسهما معًا.

وما يمنعهما إذا كانا في شارع سيدنا الحسين أن يعطفا على هذا البائع أو ذاك فيجلسا على مجلس ضيق من الخشب قد أُلقيَ عليه حصير ضيق أحيانًا، ولم يُلقَ عليه شيء أحيانًا أخرى، ولكنه كان وثيرًا على كل حال؛ لأن الجلوس عليه كان يصحبه انتظار لذة كانا يحبانها ويقدرانها؛ لذة هذا التين المرطب الذي يُقدَّم إليهما في إناء صغير، فيلتهمانه التهامًا ثم يعبَّان في مائة عبًّا، ثم يأكلان ما كان تحته من زبيب في أناة وهدوء! وما يمنعهما حين يعودان قبل العصر أو بُعَيْدَهُ أن يجورا على ثمن العشاء فيقفا عند بائع الهريسة أو بائع البسبوسة، ويرضيا لذاتهما البريئة إلى هذا اللون من الحلوى أو ذاك! وليس على إفطارهما ولا على عشائهما بأس.

فأما الإفطار فقد كان أمرُه يسيرًا جدًّا: زيارة لبائع من هؤلاء الباعة الذين كانوا يعرضون الفول النابت، ومعهما رغيفاهما وهما يدفعان إلى هذا البائع مليمين ونصف مليم، وقد اشتريا بنصف مليم حُزْمَةً أو حُزْمَتَيْنِ من كُراثٍ، وهذا البائع يقبل عليهما بإناء ضخم عميق قد امتلأ مرقًا وسبحت فيه حبات من الفول وأُلقي عليه قليل من الزيت، فهما يغمسان خبزهما في المرَق، ويتصيَّدان ما تيسَّر من حَبٍّ، ويلتهمان ما تحمله يدهما اليسرى إلى أفواههما من الكراث … وما يبلغان آخر الرغيف وآخر الكراث حتى يبلغا حظَّهما من الطعام وقد امتلأا حتَّى كادا يكتظَّان. ولكن في الإناء بقية من مرق، فكان الصبي يستحيي أن يجيب صاحبه إلى ما يعرض عليه من شرب هذا المرق، وكان صاحبه يضحك منه ويرفع الإناء فيعبُّ فيه حتى يرده إلى البائع نظيفًا.

فقد أفطرا إذن ولم ينفقا أكثر من ثلاثة مليمات، وقد غنما ما طعما قبل الدرس. وما عليهما الآن إلا أن يعودا إلى الأزهر ليرضيا عقولهما بعد أن رضيت أجسامهما. وكان الصبي قد حرص كلَّ الحرص على أن يواظب على درس شيخه المجدد المحافظ في الفقه والنحو، طاعةً لأخيه من جهة وإرضاءً لنفسه من جهة أخرى. ولكنه كان شديد الطمع في أن يسمع لغير هذا الشيخ، وأن يذوق غير هذين اللونين من ألوان العلم. وقد أتيح له ذلك في غير مشقة ولا جهد بفضل هذه الدروس التي كانت تُلقى في الضحى بعد أن يفرغ الطلاب من إفطارهم. وقد قرر الصديقان أن يحضرا شرح «الكفراوي» وكان يُلقى في الضحى من كل يوم، يلقيه شيخ جديد ولكنه قديم؛ جديد في الدرجة، قديم في الصلة بالأزهر، قد تقدمت به السن وطال عليه الطلب حتى ظفر بدرجته، وبدأ كما كان يبدأ أمثاله بقراءة «شرح الكفراوي».

وكان الصبي يسمع من شيخه الأول ومن أخيه وأصحابه عبثًا كثيرًا بشرح الكفراوي، وسخطًا كثيرًا عليه، فكان ذلك يغريه به ويرغبه فيه.

وما هي إلا أن يحضر الدرس الأول ويسمع الأوجه التسعة في قراءة بسم الله الرحمن الرحيم وإعرابها، حتى يُفتن بهذا اللون من العلم ويكلف به أشد الكلف، وإذا هو يواظب مع صاحبه في دقة على هذا الدرس من دروس النحو، ويواظب في دقةٍ أيضًا على درسه القديم. وكان يرى أنه يتعلَّم النحو في درسه القديم، وأنه يلهو بالنحو في درسه الجديد. وكان يلهو في درسه الجديد حقًا؛ يلهو بهذا الإعراب المتصل الذي ألحَّ فيه الشارح على المتن إلحاحًا شديدًا. ويلهو خاصة بالشيخ الذي كان يقرأ متنه وشرحه ويفسر ما يقرأ في صوت غريب مضحك حقًّا، لم يكن يقرأ وإنما كان يغني، ولم يكن غناؤه يصعد من صدره، وإنما كان يهبط من رأسه. وكان صوته قد جمع بين خَصْلَتَيْنِ متناقضتين، فكان أصم مكظومًا، وكان ممتدًّا عريضًا.

وكان الشيخ على ذلك من أهل الصعيد أو قل من أقصى الصعيد، وكان قد احتفظ بلهجته الإقليمية لم يُغيِّر منها شيئًا لا في الكلام ولا في القراءة ولا في الغناء. وكان الشيخ على هذا كله غليظَ الطبع، يقرأ في عنف، ويسأل الطلاب ويرد عليهم في عنف. وكان سريع الغضب، لا يكاد يُسأل حتى يشتم؛ فإن ألحَّ عليه السائل لم يُعْفِه من لكمة إن كان قريبًا منه، ومن رمية بحذائه إن كان مجلسه منه بعيدًا. وكان حذاء الشيخ غليظًا كصوته جافيًا كثيابه؛ فلم يكن يتخذ العباءة، وإنما كان يتخذ «الدفية». كان حذاء الشيخ غليظًا جافيًا، وكانت نعله قد ملئت بالمسامير، وكان ذلك أمتن للحذاء وأمنع له من البِلَى، ففكِّر في الطالب الذي كانت تصيبه مسامير هذا الحذاء في وجهه أو فيما يبدو من جسمه!

ومن أجل هذا أشفق الطلاب من سؤال الشيخ وخلَّوا بينه وبين القراءة والتفسير والتقرير والغناء. ومن أجل ذلك لم يُضع الشيخ وقتَه ولا وقت الطلاب، وبدأ سنته الدراسية بشرح الكفراوي، ولم تنته هذه السنة حتى كان قد أتم «شرح الشيخ خالد».

فقرأ الطلاب في سنة دراسية واحدة كتابيْن، على حين لم يكن غيرهم يقرءون مع غير هذا الشيخ إلا كتابًا واحدًا، وعلى حين لم يكن ذلك الشيخ المجدد المحافظ قد تجاوز بطلابه القليلين الأبواب الأولى من النحو.

وكان لهذا كله أثره في حياة الصبي النحوية — إن صح هذا التعبير — فقد قضى إجازة الصيف وعاد إلى القاهرة، فلم يرَ شيخه المحافظ المجدد، وإنما سلك طريق غيره من الأزهريين، فحضر في الفقه «شرح الطائي على الكنز»، وحضر في النحو «حاشية العطار على شرح الأزهرية». ولكن من الخير ألا نتعجَّل الحوادث وأن نَبْقَى مع صاحبنا في سنته الأولى.

كان إذن يفرغ من درس الضحى فينتقل إلى درس الظهر، ثم يعود إلى غرفته فيقرأ مع صاحبه مطالعًا دروس غد كما كان يفعل أصحاب الجِدِّ من الطلاب، أو متنقِّلًا بين كتب مختلفة يفهم عنها أو لا يفهم. فإذا دعيت الشمس إلى غروبها أقبل الصديقان على عشائهما، وكان يختلف رقةً وغلظًا باختلاف ما بقي لهما من نقد؛ فإن كان قد بقى لهما نصف القرش قسماه نصفين، فاشتريا بنصفه شيئًا من الحلاوة الطحينية وبنصفه الآخر شيئًا من الجبن الروميِّ، وأقبلا على عشاءٍ مترفٍ لذيذٍ يجمعان فيه على اللقمة الواحدة قطعة من الجبن وقطعة من الحلاوة، ويريان لهذا المزاج الغريب طعمًا لذيذًا. وإن كانت البليلة أو التين قد أسرفا عليهما في نقدهما فلم يبقَ لهما منه إلا ربع القرش، اشتريا بما بَقِي لهما شيئًا من الطحينة ثم صبَّا عليه شيئًا من عسل أسود أو أبيض كان يأتيهما من الريف، ثم أقبلا على عشاء ليس بالفخم، ولكنه لا بأس به.

فإن جارت البليلة أو التين أو كلاهما على نقدهما فلم يُبقيا منه شيئًا، فليس عليهما من بأسٍ، لقد حفظا رغيفيهما، وفي الغرفة هذه الصفيحة أو تلك، في هذه العسل الأسود، وفي تلك العسل الأبيض، فليأخذا من هذا العسل شيئًا وليغمسا فيه رغيفيهما، فذلك يجزئ عما كانا يجدان في الحلاوة والجبن والطحينة من ترف.

وربما أباحا لأنفسهما على هذا البؤس شيئًا من ترف فغمسا رغيفهما الأول وقد اقتسماه في العسل الأسود، ثم غمسا رغيفهما الثاني وقد اقتسماه أيضًا في العسل الأبيض.

وقد جعلت الشمس تُسرع إلى غروبها، وكاد المؤذن يصعد إلى مئذنته، فليسرع الصديقان إذن إلى الأزهر، فهما يحضران درسًا بعد صلاة المغرب كما يفعل أولئك الطلاب الكبار، هما يحضران درسًا في المنطق، يحضران «متن السلَّم» للأخضري، ومن الحق أنهما كانا يحضران هذا الدرس على شيخٍ كان يرى نفسه عالمًا وإن لم يعترف له الأزهر بالعالِمية، طال عليه الوقت، واشتدَّ إلحاحُه في طلب الدرجة فلم يظفر بها، ولكنه لم ييأس منها ولم يرضَ بحكم الممتحنين فيه، فجعل يطاولهم من جهة، ويغيظهم من جهة أخرى. يطاولهم بحضور الدرس والتقدم للامتحان، ويغيظهم بالجلوس إلى أحد الأعمدة إذا صُلِّيتِ المغرب ومن حوله جماعة من الطلاب وهو يقرأ لهم كتابًا في المنطق كما يقرأ العلماء الممتازون؛ فلم يكن يهجم على تعليم المنطق إلا هؤلاء العلماء الممتازون.

ومن الحق أن ذلك الطالب الشيخ لم يكن بارعًا في العلم ولا ماهرًا في التعليم، وأن جهله وعجزه كانا يظهران حتى لهؤلاء التلاميذ المبتدئين. ومن الحق أنه كان من أقصى الصعيد، وكان محتفظًا بلهجته كما عرفها قبل أن يُقبل على الأزهر، ولم يكن يغير منها شيئًا في قراءته وحديثه.

ومن الحق آخر الأمر أنه كان سريع الغضب شديد الحدة، ولكنه لم يكن يشتم التلاميذ ولا يضربهم، أولم يكن يجرؤ على شتم التلاميذ وضربهم؛ فما ينبغي ذلك إلا للعالم حقًّا وصدقًا، الذي نال الدرجة، ونال معها الإذن الضمنيَّ بشتم التلاميذ أو ضربهم.

كل هذا كان حقًا، وكل هذا سمعه الصديقان من أولئك الطلاب الكبار، ولكنه لم يمنعهما من حضور الدرس والمواظبة عليه، ليقولا لأنفسهما إنهما يدرسان المنطق، وليقولا لأنفسهما إنهما يذهبان إلى الأزهر بعد صلاة المغرب ويعودان منه بعد صلاة العشاء، كما يفعل الطلاب الكبار المتقدمون.

وما أسرع ما انقضت السنة الأولى! وما أسرع ما خُتِمَتْ دروس الفقه والنحو! وما أسرع ما دُعِيَ التلاميذ إلى التفرق ثم الرحيل إلى حيث يُنفقون الصيف بين أهلهم في المدن والقرى! وما أشدَّ ما كان الصبي يتشوَّق إلى هذه الإجازة ويتحرَّق حنينًا إلى الريف!

ولكن الإجازة قد أقبلت، وإذا هو يريد أن يمتنع عن الرحيل وأن يبقى في القاهرة. أكان صادقًا في هذا التمنُّع؟ أم كان متكلِّفًا له؟ كان صادقًا وكان متكلفًا معًا.

كان صادقًا؛ لأنه أحبَّ القاهرة وكَلِفَ بها وشقَّ عليه فِراقُها وقد كَرِهَ الرحيل دائمًا. وكان مُتَكَلِّفًا؛ فقد كان أخوه يقضي أكثر إجازته في القاهرة، وكانت الأسرة تكبر منه ذلك وتراه آية جِدٍّ واجتهاد، وكان يريد أن يصنع صُنْعَ أخيه، وأن يُظَنَّ به ما كان يُظَنُّ بأخيه، ولكن تمنُّعه لم يغنِ عنه شيئًا، وها هو ذا يركب مع صاحبه عربة من عربات النقل ومعهما ثيابهما قد لُفَّتْ في حُزْمَتَيْنِ وقد بلغا المحطة، وأُخِذَتْ لهما تذكرتان ثم دُفِعَتَا إليهما، ثم وُضِعَا في عربة مزدحمة من عربات الدرجة الثالثة، ثم تحرَّك القطار. ولم يكد يمضي قليلًا ويبلغ محطة بعد القاهرة أو محطتين حتى نَسِيَ الصديقان أزهرهما وقاهرتهما ورَبْعَهُمَا، ولم يذكرا إلا شيئًا واحدًا هو الريف، وما سيكون فيه من لذه ونعيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤