الفصل السابع عشر

وأقبل صاحبنا على دروسه في الأزهر وغير الأزهر من المساجد، فأمعن في الفقه والنحو والمنطق، وأخذ يُحسن «الفنقلة» التي كان يتنافس فيها البارعون من طلاب العلم في الأزهر على المنهج القديم، ويسخر منها المسرفون في التجديد، ولا يُعرض عنها المجددون المعتدلون. وإذا هو يدرس «شرح الطائي على الكنز» مُصبحًا، و«الأزهرية» مع الظهر، وشرح السيد الجرجاني على إيساغوجي مُمسيًا.

وكان يحضر الدرس الأول في الأزهر، والدرس الثاني في مسجد محمد بك أبي الذهب، والدرس الثالث في مسجد الشيح العدويِّ على أستاذ من سلالة الشيخ العدويِّ نفسه. وربما ألمَّ بدرسٍ من دروس الضحى كان يُقرأ فيه كتاب «قطر الندى» لابن هشام؛ تعجلًا للتعمق في النحو والفراغ من كتب المبتدئين والوصول إلى «شرح ابن عقيل على الألفية»، ولكنه لم يكن يواظب على هذا الدرس؛ كان يستجهل الشيخ، ويرى في «فنقلة» الشيخ عبد المجيد الشاذلي حول «الأزهرية» و«حاشية العطار» ما يكفيه ويرضيه.

وقد بقيت في نفسه آثار لا تمحى من درس الأزهرية هذا؛ ففيه تعلم «الفنقلة» حقًّا، وكان أول ذلك هذا الكلام الكثير والجدال العقيم حول قول المؤلف: «وعلامة الفعل قد»؛ فقد أتقن صاحبنا ما أثير حول هذه الجملة البريئة من الاعتراضات والأجوبة، وأتعبَ شيخه حوارًا وجدالًا حتى سكت الشيخ فجأة أثناء هذا الحوار، ثم قال في صوت حلوٍ لم ينسه صاحبنا قط، ولم يذكره قط إلا ضحك منه ورقَّ له: «الله حكم بيني وبينك يوم القيامة.» قال ذلك في صوت يملؤه السأم والضجر، ويملؤه العطف والحنان أيضًا؛ وآية ذلك أنه بعد أن أتم الدرس وأقبل الصبيُّ ليلثم يده كما كان الطلاب يفعلون، وضع يده على كتف الصبي، وقال له في هدوء وحب: «شد حيلك الله يفتح عليك.»

وعاد الصبي مبتهجًا بهذه الكلمات والدعوات، فأنبأ بها أخاه وانتظر به أخوه موعد الشاي. فلما اجتمع القوم إلى شايهم قال للصبي مداعبًا: قرر لنا «وعلامة الفعل قد.» فامتنع الصبي حياءً أول الأمر، ولكن الجماعة ألحَّت عليه، فأقبل يقرر ما سمع وما وعى وما قال، والجماعة صامتة تسمع له، حتى إذا فرغ نهض إليه ذلك الكهل الذي كان ينتظر الدرجة فقبل جبهته وهو يقول: «حصَّنتك بالحيِّ القيوم الذي لا ينام.»

وأما الجماعة فأغرقت في الضحك، وأما الصبي فأغرق في الرضا عن نفسه، وبدأ منذ ذلك الوقت يعتقد أنه أصبح طالبًا بارعًا نجيبًا.

وقوَّى هذا الرأيَ في نفسه أن زملاءه في درس النحو التفتوا إليه وجعلوا يستوقفونه بعد الدرس، أو يدنون منه قبل الدرس، فيسألونه ويتحدَّثون إليه، ثم يعرضون عليه أن يعدُّوا معه الدرس قبل الظهر. وقد أغراه هذا العرض فترك درس «القَطْرِ»، وجعل يطالع مع زملائه هؤلاء يقرءون له ويأخذون في التفسير، وجعل هو يسبقهم إلى هذا التفسير ويستبدُّ به من دونهم، فلا يقاومونه وإنما يسمعون منه ويصغون إليه. وجعل ذلك يَزيده غرورًا إلى غرور، ويخيل إليه أنه قد بدأ يصبح أستاذًا.

واطَّردت حياته في ذلك العام متشابهة لا جديد فيها إلا ما كان يفيده الصبي من العلم كلما أمعن في الدرس، وما كان يشعر به من الغرور إذا كان بين زملائه، وما كان يُردُّ إليه من التواضع إذا كان بين أولئك الطلاب الكبار في الرَّبع، وإلا ما كان يفيده من العلم بشئون الأساتذة والطلاب في الأزهر لما كان يسمع من حديث زملائه وأصدقاء أخيه عن أولئك وهؤلاء.

فلم يكن شيء من هذه الأحاديث ليحسن ظنه بأولئك أو هؤلاء، وإنما كان ظنه يزداد بهم سوءًا كلما مرَّ عليه الوقت، فقد كان يسمع بين وحين ثناءً بالذكاء والبراعة على هذا الشيخ أو ذاك من صغار العلماء وكبارهم، ولكنه كان يسمع دائمًا عيبًا لأولئك وهؤلاء بألوان من النقائص التي تتصل بالخُلُق أو تتصل بالسيرة أو تتصل بصناعة العلم نفسها، والتي كانت تثير في نفسه كثيرًا من الغضب والازدراء وخيبة الأمل.

ولم يكن يسلم من هذه العيوب أحد، فأما هذا الشيخ فقد كان شديد الحقد على زملائه وأقرانه، شديد المكر بهم والكيد لهم، يلقاهم مبتسمًا فلا يكاد يفارقهم حتى يقول فيهم أشنع القول ويسعى بهم أقبح السعي. وأما هذا الشيخ الآخر فقد كان رقيق الدين، يظهر التقوى إذا كان في الأزهر أو بين أقرانه، فإذا خلا إلى نفسه وإلى شياطينه أغرق في إثم عظيم.

وكان هؤلاء العائبون ربما سمَّوا أولئك الشياطين الذين كان الشيخ يخلو إليهم ويشاركهم في الإثم. وكان كبار الطلاب يتندرون على هذا الشيخ أو ذاك؛ لأنه كان يُعنى عناية خاصة بهذا الفتى أو ذاك، ويلقي نظراتٍ خاصةً على هذا الفتى أو ذاك، ولا يستقرُّ على كرسيِّه إذا حضر من طلابه هذا الفتى أو ذاك.

وكانت الغِيبة والنميمة أشيع وأشنع ما كان يُذكر من عيب الشيوخ، فكان الطلاب يذكرون سعيَ ذلك الشيخ بصديقه الحميم عند شيخ الأزهر أو عند الشيخ المفتي، وكانوا يذكرون أن شيخ الأزهر كان أُذُنًا للنمامين، وأن الشيخ المفتي كان يترفَّع عن الاستماع لهم ويلقاهم بالزجر القاسي العنيف.

وقد تحدَّث الطلاب الكبار ذات يوم بقصة عن جماعة من كبار الشيوخ سمَّوهم يومئذٍ، فزعموا أن هؤلاء الشيوخ لاحظوا أنهم قد أسرفوا على أنفسهم في الغِيبة، فأستعظموا ذلك وذكروا قول الله عز وجل: وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ، فَتَنَاهَوْا عن هذه الخطيئة الكبيرة، وتعاهدوا على أن من أُخذ منهم في الغِيبة فعليه أن يؤدي إلى أصحابه عشرين قرشًا.

وقد كَفُّوا عن الغِيبة يومًا أو بعض يوم ضنًّا بهذا المبلغ من النقد. وإنهم لفي بعض حديثهم، وإذا شيخ يمرُّ بهم فيلقي عليهم تحيةً، ويمضي في طريقه، ولكنه لا يكاد يمضي حتى يخرج أحدهم قطعة من الفضة فيدفعها إلى أصحابه ويأخذ في اغتياب هذا الشيخ.

فأمَّا تَحَدُّثُ الطلاب كبارًا وصغارًا بجهل شيوخهم وتورطهم في ألوان الخطأ المضحك الذي كان بعضه يتصل بالفهم وبعضه يتَّصل بالقراءة، فقد كان أكثر من أن يُحصى وأعظم من أن يقدَّر، ومن أجل هذا كان صاحبنا سَيِّئَ الرأي في العلماء والطلاب جميعًا، وكان يرى أن الخير كل الخير في أن يجدَّ ويجتهد ويحصِّل ما استطاع من العلم معرضًا عن مصادره التي كان يستقيه منها.

وازداد رأيه سوءًا حين استقبل السنة الثالثة من حياته في الأزهر، فالتمس لنفسه أستاذًا يقرأ في الفقه شرح مُلَّا مسكين على الكنز، فدُلَّ على أستاذٍ معروف بعيد الذكر ظاهر المكانة في القضاء، فذهب إليه وجلس في حلقته، ولكنه لم يكد ينفق دقائق حتى أحس حرجًا عظيمًا، رأى نفسه مضطرًا إلى أن يبذل جهدًا شديدًا لمقاومة الضحك؛ وذلك أن الشيخ رحمه الله قد كانت له لازمة غريبة، كما كان يقول الأزهريون، فلم يكن يقرأ جملة في الكتاب أو يفسرها من عند نفسه إلا قال هذه الجملة مرتين: «قال قال، ثم قال إيه.»

يُعيد ذلك مرات في الدقائق القليلة، وصاحبنا يسمع له ويعنف على نفسه حتى لا يضحك فيأتي منكرًا من الأمر.

وقد استطاع صاحبنا أن يضبط نفسه، ولكنه لم يستطع أن يختلف إلى درس الأستاذ أكثر من ثلاثة أيام؛ لأنه لم يجد عنده غناء، وإنما وجد عنده عناء، لم يفد منه شيئًا، وإنما كان يكظم ضحكه كظمًا عنيفًا، ويكلف نفسه من ذلك ما لم تكن تطيق. والتمس غيره من الأساتذة الذين كانوا يقرءون هذا الكتاب، فلم يجد عندهم إلا هذه اللوازم التي كانت تختلف باختلافهم، ولكنها كانت تدفع الغلام إلى الضحك وتضطره إلى أن يبذل في ضبط نفسه من الجهد ما كان يشغله أحيانًا عن الاستماع، وقيل له في أثناء ذلك: إن هذا الكتاب من كتب الفقه ليس بذي خطر، وإن أستاذًا ممتازًا — سمَّوه له — يقرأ كتاب «الدرر»، والخير في أن تحضر درسه، فهو من أذكى العلماء وأبرع القضاة.

واستشار صاحبنا أخاه وأصحاب أخيه فلم يردوه عن ذلك، بل شجعوه عليه وأوصوا به الشيخ، وقد رضي الغلام عن أستاذه الجديد في دروسه الأولى، فلم يكن يلتزم جملة بعينها أو لفظًا بعينه أو صوتًا بعينه، ولم يكن يتردد في القراءة ولا في التفسير، وكان ذكاؤه واضحًا، وإتقانه للفقه بَيِّنًا، وحسن تصرفه فيه لا يتعرض للشك.

وكان الأستاذ رشيقًا أنيقًا حلو الصوت، ممتازًا في حركته وفي لقائه للطلاب وحديثه إليهم، وكان معروفًا بالتجديد، لا في العلم ولا في الرأي، ولكن في السيرة. وكان كبار الطلاب يتحدثون بأنه يُلقي درسه إذا أصبح ثم يمضي إلى محكمته فيقضي فيها، ثم يروح إلى بيته فيطعم وينام، فإذا كان الليل خرج مع لذَّاته فذهب إلى حيث لا ينبغي أن يذهب العلماء، وسمع من الغناء ما لا ينبغي أن يسمع العلماء، وأقبل من اللذات على ما لا ينبغي أن يُقبل عليه رجال الدين. وكانوا يذكرون «ألف ليلة وليلة» فيعجب الغلام؛ لأنه كان يعرف أن «ألف ليلة وليلة» اسم كتاب طالما قرأ فيه ووجد في قراءته لذة ومتاعًا، ولكنهم كانوا يذكرون هذا الاسم على أنه مكان يُسمع فيه الغناء، ويكون فيه اللهو، وتُطلب فيه بعض اللذات.

وكان الغلام يسمع عن شيخه هذه الأحاديث فلا يصدقها ولا يطمئن إليها، ولكنه لم ينفق مع الشيخ أسابيع حتى أحسَّ منه تقصيرًا في إعداد الدرس، وقصورًا عن تفسير النص، وضيقًا بأسئلة الطلاب. بل أحسَّ منه أكثر من ذلك، فقد سأله ذات يوم عن تفسير بعض ما كان يقول فلم يُجبه إلا بالشتم، وكان الشيخ أبعد الناس عن الشتم وأشدهم عنه ترفعًا.

فلما قصَّ الغلام على أخيه وأصحابه من أمر الشيخ ما رأى، أنكروا ذلك وأَسِفُوا له، وهمس بعضهم لبعض بأن العلم والسهرَ في «ألف ليلة وليلة» لا يجتمعان.

وكان حظ الغلام في النحو خيرًا من حظه في الفقه؛ فقد سمع «القطر» و«الشذور» على الشيخ عبد الله دراز رحمه الله، فوجد من ظَرْفِ الأستاذ وصوته العذب وبراعته في النحو ومهارته في رياضة الطلاب على مشكلاته ما زاده في النحو حُبًّا.

ولكن حظه في النحو لم يلبث أن ساء حين استؤنفت الدراسة في العام الجديد، فقد أخذ الغلام يسمع على الشيخ عبد الله دراز «شرح ابن عقيل». وبينما الأستاذ وطلابه ماضون في درسهم، راضون عن عملهم، صدر الأمر إلى الأستاذ بالانتقال إلى معهد الإسكندرية، فمانع في ذلك ما استطاع، ومانع طلابه ما استطاعوا، ولكن المشيخة لم تسمع له ولا لهم، فلم يجد بُدًّا من إنفاذ الأمر. ولم ينسَ الغلام ذلك اليوم الذي ودَّع الأستاذ فيه طلابه، وإنه ليبكي مخلصًا، وإنهم ليبكون مخلصين ويشيعونه باكين إلى باب المسجد.

ثم أُقيم مقام الشيخ، شيخ آخر ضرير، وكان مشهورًا بالذكاء الحاد والتفوق الظاهر والنبوغ الممتاز، وكان لا يُذْكَرُ إلَّا أثنى عليه ذاكروه والسامعون لذكره بهذه الخصال.

أقبل هذا الشيخ، فأخذ الدرس من حيث تركه الشيخ عبد الله دراز. وكانت حلْقة الشيخ عبد الله دراز عظيمة تملأ رقعتها القبة من مسجد محمد بك أبي الذهب، فلما خلفه هذا الشيخ ازدادت هذه الحلقة ضخامةً واتساعًا حتى اكتظَّ بها المكان، وألقى الشيخ درسه الأول فرضي عنه الطلاب، ولكنهم لم يجدوا عنده وداعةَ أستاذهم القديم ولا عذوبة صوته، ثم ألقى درسه الثاني والثالث، وإذا الطلاب ينكرون منه رضاه عن نفسه وإعجابه بها، وثقته بما كان يقول، وغضبه الحاد على مقاطعيه.

ولم يكد يتقدَّم في درسه الرابع حتى كانت بينه وبين صاحبنا قصةٌ صرفت الغلام عن النحو صرفًا. كان الشيخ يفسر قول تأبَّط شرًّا:

فَأُبْتُ إلى فَهمٍ وما كِدْتُ آئِبًا
وكم مِثْلِها فارقتُها وهي تَصْفِرُ

فلما وصل إلى قوله «تَصفِرُ» قال: إن العرب كانت إذا اشتدت على أحدهم أزمة أو محنة وضعوا أصابعهم في أفواههم ونفخوا فيها، فكان لها صفير يسمع.

قال الغلام للشيخ: وإذن فما مرجع الضمير في قوله: «وهي تصفر»، وفي قوله: «وكم مثلها فارقتها؟» قال الشيخ: مرجعه «فهم» أيها الغبي! قال الغلام: فإنه قد عاد إلى فهم والبيت لا يستقيم على هذا التفسير. قال الشيخ: فإنك وَقِحٌ وقد كان يكفي أن تكون غبيًّا. قال الغلام: ولكن هذا لا يدل على مرجع الضمير. فسكت الشيخ لحظة ثم قال: «انصرفوا، فلن أستطيع أن أقرأ وفيكم هذا الوقح.»

ونهض الشيخ، وقام الغلام، وقد كاد الطلاب يبطشون به لولا أن حماه زملاؤه وكانوا من أهل الصعيد، حمَوه بأن أحاطوا به وأشهروا نعالهم فتفرَّق الناس، وأيُّ الأزهريين لم يكن يَفْرَقُ في ذلك الوقت من نعال أهل الصعيد!

ولم يعد الغلام إلى درس النحو، بل لم يحضر الغلام بعد ذلك درسًا في النحو، بل ذهب من غده إلى درس كان يلقيه أستاذ معروف من أهل الشرقية، وكان يقرأ «شرح الأشموني»، ولكنه لم يتم الاستماع للدرس، مضى الشيخ يقرأ ويفسر، وسأله الغلام في بعض الشيء، فرد عليه الشيخ بما لم يقنعه، فأعاد السؤال، فغضب الشيخ وأمره بالانصراف. فتوسط بعض أصدقائه عند الشيخ يستعطفونه، فازداد غضب الشيخ وأبى أن يمضي في الدرس حتى يقوم هذا الغلام ومعه أصدقاؤه، ولم يكن لهم بدٌّ من أن ينصرفوا؛ فقد أُشْهِرَتْ عليهم نعالُ الشرقية، ولم تكن نعال الشرقية بأقل خطرًا من نعال الصعيد.

وذهب الغلام من غده مع أصحابه إلى حلْقةٍ أخرى كان يُقرأ فيها «شرح الأشموني»، يقرؤه أستاذ مشهور من أساتذة الشرقية أيضًا. فوقف الغلام على الحلْقة لحظةً لا تتجاوز الدقائق الخمس، ولكنه سمع فيها هذه اللازمة الغريبة يعيدها الشيخ كلما انتقل من جملة إلى جملة: «اخص على بلدي.» فضحك الغلام وضحك أصدقاؤه وانصرفوا، وأزمع الغلام وصديقٌ له أن يدرسا النحو مستقلين، وأن يدرساه في مصادره الأولى، فقرأا كتاب «المفصل» للزمخشري، ثم «كتاب سيبويه»، ولكن هذه قصة أخرى.

ولم يكن حظه في المنطق خيرًا من حظه في الفقه والنحو. لقد أحبَّ المنطق حبًّا شديدًا حين كان يسمع شرح السيد على إيساغوجي من أستاذه ذاك الشاب في العام الماضي. فأما في هذا العام فقد جلس لأمثاله من أوساط الطلاب عَلَمٌ من أعلام الأزهر الشريف، وإمام من أئمة المنطق والفلسفة فيه. وكان معروفًا بين كبار الطلاب بهذا الذكاء الظاهر الذي يَخدع ولا يُغني شيئًا. وكان معروفًا بهذه الفصاحة التي تبهر الأذن ولا تبلغ العقل. وكان يؤثر عنه أنه كان يقول: «ممَّا منَّ الله عليَّ به أني أستطيع أن أتكلَّم ساعتين فلا يفهم أحد عني شيئًا ولا أفهم أنا عن نفسي شيئًا.» كان يرى ذلك مزيةً وفخرًا. ولكن لم يكن بُدٌّ للطالب الذي يُقدِّر نفسه من أن يجلس إليه ويسمع منه. وقد جلس للطلاب بعد صلاة المغرب يقرأ لهم «شرح الخبيصي على تهذيب المنطق»، وذهب إليه صاحبنا وسمع منه درسًا ودرسًا، وكانت حلْقته عظيمة حقًّا تكتظُّ بها القبة في جامع محمد بك. وكان الغلام يسبق صلاة المغرب فيجلس في أقرب مكان من كرسيِّ الأستاذ، وكان الأستاذ جَهْوَرِيَّ الصوت قد احتفظ بلهجة الصعيد كاملة. وكان شديد النشاط كثير الحركة. وكان إذا سأله طالب رد عليه ساخرًا منه، فإن ألحَّ الطالب في السؤال ثار هو به وجعل يقول له في حِدَّةٍ: «اسكت يا خاسر، اسكت يا خنزير!» وكان يُفخم الخاء في الكلمتين إلى أقصى ما يستطيع فيه أن يبلغ من التفخيم.

وقد استقام للشيخ وللطلاب أمرهم حتَّى أتمموا قسم التصورات، فلما بلغوا في كتابهم المقصد الثاني في التصديقات لقي الغلام من نفسه ومن شيخه بلاءً عظيمًا، فاضطر إلى أن يختار له من الغد مكانًا بعيدًا عن الشيخ، وما زال يتأخر يومًا بعد يوم في مجلسه حتى بلغ باب القبة، فخرج منه ذات ليلة، ولم يدخله بعد ذلك.

لَقِيَ الغلام بلاءً من نفسه لم يذكره قط إلا ضحك منه ضحكًا شديدًا، وأضحك منه أخاه وأصدقاءه جميعًا؛ فقد جلس الشيخ على كرسيِّه وأخذ في القراءة، فقال: «المقصد الثاني في التصديقات.» يُقلقل القاف ويُفخِّم الصاد، ويمد الألفات والياءات مدًّا متوسطًا. ثم يعيد هذه الكلمات نفسها فيُقلقل القاف ويُفخم الصاد ويُطيل مد الألفات والياءات. ثم يعيد الكلمات نفسها فيقلقل القاف ويفخم الصاد ويمد الألف والياء في «الثاني»، ولكنه لا يقول «في التصديقات»، وإنما يقول: «في مين؟» فلا يرد عليه أحد، فيرد على نفسه ويقول: «في التصديقات»، ثم يُعيد الكلمة نفسها على هذا النحو نفسه، فإذا انتهى إلى قوله: «في مين؟» ولم يرد عليه أحد، ضرب بظهر يده في جبهة الغلام وهو يقول: «ردوا يا غنم، ردوا يا بهائم، ردوا يا خنازير!» يُفخم الغين والخاء إلى أقصى ما يستطيع فمه أن يبلغ من التفخيم، فيقول الطلاب جميعًا: «في التصديقات».

لَقِيَ الغلام من نفسه عناءً شديدًا؛ فقد كان هذا كله خليقًا أن يُضحكه، وكان يخاف أن يضحك بين يدي الأستاذ. ولقي من شيخه بلاءً عظيمًا بهذه الضربات التي كانت تتوالى على جبهته بين حين وحين. ومهما يكن من شيءٍ فقد تحوَّل الغلام عن هذا الدرس ولم يتجاوز بالمنطق عند هذا الشيخ باب القضايا.

تحول عن هذا الدرس في أثناء العام، وقرر أن يحضر مكانه درسًا في التوحيد كان يُلقيه شيخ جديد حديث الظفر بدرجة العالمية. وكان أصدقاؤه من كبار الطلاب يذكرونه بالظَّرف الشديد والذكاء المتوسط وحلاوة الصوت وحسن الإلقاء، ويقولون: إن علمه يخدع من حدثه أو سمع عنه، فإذا تعمَّقه لم يجد عنده شيئًا، وكان يقرأ «شرح الخريدة» و«مَتْنَهَا» للدردير، فسمع الغلام منه درسًا وأُعجب بصوته وإلقائه وظَرْفِهِ، وجعل ينتظر أن يعجب بعلمه وفنقلته، ولكنَّ الشيخَ صُرف عن الدرس؛ لأنه نُقل من القاهرة وأُرسل إلى مكان بعيد توَلَّى فيه منصب القضاء، فلم يُتح للغلام أن يعلم علمه، ولا أن يقضي في أمره بشيء إلا أنه كان لبقًا ظريفًا حلو الصوت عذب الحديث.

وإذن فقد ضاعت السنة في حقيقة الأمر على الغلام، ولم يُحصِّل فيها أو لم يكد يحصل فيها من العلم شيئًا جديدًا، إلا ما كان يقرؤه في الكتب ويسمعه من أولئك الطلاب الكبار وهم يطالعون أو يتناظرون.

فلما عاد إلى الأزهر من قابلٍ، عاد إليه ضَيِّقَ النفس به، شديدَ الزهد فيه، حائرًا في أمره لا يدري ماذا يصنع، لا يستطيع أن يقيم في الريف، وماذا يفعل في الريف؟! ولا يجد نفعًا من إقامته في القاهرة واختلافه إلى الشيوخ. وفي هذا العام اتصل بدرس الأدب، ولكن لحديث هذا الدرس ساعة:

من الدهر ما حانت ولا حان حينها

كما تقول بُثيْنة في سلوِّها عن جميل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤