الفصل الثاني

لم يكن الصبيُّ يعرف من بيئته القريبة أكثر من هذا. فأما الطَّور الثاني من أطواره فقد كان اضطرابه في الطريق بين هذه البيئة وبين الأزهر. وكان يخرج من ذلك المكان المسقوف، فيجد حرَّ القهوة على صفحة وجهه من شمال، وتبلغ قرقرة الشيشة أذنه اليُمنى، فيستقبل حانوتًا كان له في حياته أثر عظيم؛ حانوت الحاج فيروز الذي كان يبيع لأهل الحي أكثر ما كانت تقوم عليه حياتهم من الغذاء: يبيع لهم ألوان الفول المدمس إذا أصبحوا. وكان الفول عنده كما هو عند غيره ألوانًا مختلفةً، ولكنه كان يمتاز بإتقانه ويغالي بثمنه؛ فقد كان يبيع الفول صرفًا، وكان يبيعه بالزيت على اختلاف ألوانه، وكان يبيعه بالسمن، وكان يبيعه بالزبد، وكان يضيف إليه عند الحاجة فنونًا من التوابل تُرغِّب فيه وتغري به وتدفع طلاب العلم إلى أن يُسرفوا على أنفسهم إذا طعموا منه، ثم يثقلون بعد ذلك عن درس الضحى وينامون أثناء درس الظهر.

فإذا أقبل المساء فقد كان الحاج فيروز يبيع لأهل الحي طعامهم من الجبن والزيتون والطحينة والعسل؛ وربما باع للمترفين منهم علب التونة والسردين، وربما باع لبعضهم حين يتقدَّم الليل أشياءَ لم تكن تُسمَّى ولم تكن تُؤكل، وإنما كان يتحدَّث المتحدثون عنها همسًا ويتنافسون فيها تنافسًا شديدًا.

وكان الصبي يسمع لهذا الهمس فيفهم حينًا، ويستغلق الأمر عليه في أكثر الأحيان، حتى إذا مضت الأيام وتبعتها الأيام وشبَّ الصبي وأُتيح له أن يفهم عن الملغزين وأصحاب الرمز، علم ما علم، فتغيرت في نفسه قيمُ كثيرٍ من الأشياء، ومعاييرُ كثيرٍ من الأحكام، وأقدارُ كثيرٍ من الناس.

وكان الحاج فيروز رجلًا أسود فاحمًا طويلًا قليل الكلام، فإذا تكلَّم لم يكد يُبين، وإنما كان يلتوي لسانه بالعربية التواءً غريبًا ترك في نفس الصبي أثرًا لا يُمحى؛ فهو لا يقرأ في «البيان والتبيين» قصة زياد مع غلامه حين أراد أن يقول له: «أُهدي إلينا حمار وحش.» فجعل الحاء هاءً في الكلمتين، وأنكر زياد عليه ذلك فقال له: «ويلك! قل أُهدي إلينا عير.» فلما قال الغلام ذلك جعل العَين همزة، فارتاع زياد ورده إلى حمار الوحش.

لا يقرأ هذه القصة إلا ذكر الحاج فيروز. وكان للحاج فيروز في الحي وبين طلاب العلم من أهله خاصة خطر عظيم؛ فإليه كانوا يفزعون إذا تقدم الشهر أو تأخر الراتب أو نفدت النقود؛ يفزعون إليه ليُطعمهم نسيئة، ويفزعون إليه ليقرضهم القرش أو القروش، ويفزعون إليه في كثيرٍ من شئونهم؛ ولذلك كان اسمه يدور على ألسنتهم كما كانت تدور عليها أسماء كثير من شيوخهم الأعلام في الأزهر الشريف.

وكان للحاج فيروز خطر عظيم آخر في حياة هؤلاء الطلاب؛ فباسمه كانت تُرسل إليهم الرسائل التي تحمل إليهم أخبار الأسر، والتي تحمل إليهم في طياتها أحيانًا تلك الورقة الضئيلة التي كانوا يذهبون بها إلى مكتب البريد فيدخلون وجيوبهم خالية، ويخرجون وللفضة في جيوبهم رنين حسن الوقع في آذانهم وفي قلوبهم أيضًا.

ومن هنا لم يكن بدٌّ لكل واحد منهم من أن يمر بالحاج فيروز ليحييه إذا أصبح، وليحييه إذا أمسى، وليلقي في أثناء ذلك نظرة سريعة خاطفة إلى ذلك المكان الذي كانت الرسائل تنتظر فيه أصحابه. وما أكثر ما كان أحدهم يعود إلى بيته وفي يده ذلك الغلاف المقفل قد أصابه كثير من وضر الزيت والزبد! وإن هذا الغلاف على قذارته لآثر عنده من هذه الملزمة أو تلك من هذا الكتاب أو ذاك من كتب الفقه أو كتب النحو أو كتب الأصول.

كان الصبيُّ إذن يستقبل حانوت الحاج فيروز إذا خرج من ذلك الممر المسقوف، وربما خطا مع صاحبه خطواتٍ فحيَّا الحاج فيروز والتمس عنده رسالة فوجدها أو لم يجدها، فانصرف مبتسمًا أو عابسًا، واستدار إلى الشمال فمضى أمامه في ذلك الشارع الطويل الضيق المزدحم بالمارة من الطلاب والتجار والباعة والعمال وعجلات الحمل تجرها الحمُر أو تجرها الخيل أو تجرها البغال، ويصيح بها الحوذية زاجرين حينًا ومتلاحين حينًا آخر ومخاصمين لمن يعترض طريقهم من الرجال والنساء والصبية أحيانًا. وعن يمين هذا الشارع وعن شماله حوانيت مختلفة، منها ما يهيأ فيه طعام الفقراء والبائسين، فيحمل الهواء منها روائح كريهة، ولكنها مع ذلك كانت محببة إلى كثير من هؤلاء المارة بين طلاب العلم والعاملين بأيديهم والحاملين على ظهورهم وكواهلهم. منهم من كان يعطف على هذه الحوانيت فيشتري منها القليل يلتهمه في مكانه التهامًا أو يحمله إلى بيته ليستأثر به أو يشارك فيه. ومنهم من تبلغه هذه الروائح فتُثيره ولكنه لا يثور، وتدعوه ولكنه لا يُجيب؛ قد رأت عينه وشم أنفه وتحركت شهوته، ولكن قصرت يده وخانه جيبه، فمضى وفي نفسه حاجة وفي قلبه موجدة وحفيظة، وفيه مع ذلك رضًا بالقضاء وإذعان للقدر.

ومن هذه الحوانيت ما كانت تُدار فيه تجارة هادئة مطمئنة صامتة لا تقول شيئًا أو لا تكاد تقول شيئًا؛ فإن نطقت فإنما تنطق همسًا لا يكاد يُسمع، وتنطقه في ظَرْفٍ وأدبٍ وفي رقَّةٍ وتلطفٍ، وهي على هذا كله بل لهذا كله تغلُّ على أهلها الثراء الضخم والمال الكثير، وكانت أكثر هذه الحوانيت إنما تُدار فيها تجارة البن والصابون، وربما أُديرت في بعضها تجارة السكر والأرز أيضًا.

وكان الصبي يسعى بين هذا كله يحسُّه إحساسًا قويًّا ويجهله جهلًا شديدًا، لولا أن صاحبه كان يفسر له بعض ذلك من حين إلى حين. وما يزال الصبي ماضيًا في طريقه، تعتدل مواطئ أقدامه حينًا وتعوج حينًا آخر، وهو يسعى حسن السعي ما اعتدلت له الطريق، ويسعى متعثِّرًا في أذياله حين تعوج أو تضطرب، حتى يبلغ موضعًا ينحرف فيه قليلًا نحو الشمال، ثم يندفع في طريقٍ ضيقة أشد الضيق، ملتوية أشد الالتواء، قذرة أشد القذارة، قد استقر فيها هواء فاسد كل الفساد، انعقدت فيه روائح كريهة منكرة، وانبعثت فيه بين حين وحين أصوات نحيلة ضئيلة تصوِّر البؤس وتبين عن الضر وتلحف في السؤال، يبعثها وقع الخطى كأن أصحابها لا يحسون الحياة إلا بآذانهم، فهم يدعونها كلها سمعوها، وتتجاوب فيها أصواتٌ أخرى قصيرة غليظة مختنقة متقطعة، هي أصوات هذه الطير التي تحب الظلمة وتأنس إلى الخلوة وتألف الخراب. وربما اختلطت هذه الأصوات بخفق الأجنحة، وربما دنا هذا الخفق من أذن الصبي أو من وجهه فأخافه وأفزعه، وإذا يده ترتفع فجأة وعلى غير إرادة لتحمي وجهه أو أذنه، وإذا قلبه يخفق خفقًا خفيفًا متصلًا.

وهو يمضي مع صاحبه في هذه الطريق الضيقة المظلمة الملتوية، يصعد قليلًا لينحدر قليلًا، ويمضي أمامه ليعطف عن يمينه، ثم يمضي أمامه ليعطف عن شماله، وهذه الأصوات المنكرة المختلفة تدعوه مرة وتشيِّعه مرة أخرى وتؤذيه دائمًا، حتى يشعر بعد حين بأن قلبه قد هدأ، وبأن صدره قد اتسع، وبأن طريق التنفس قد استقامت له، فيبعث من جوفه نفَسًا طويلًا كأنه يحمل كلَّ ما استقر في نفس الصبي من ألوان الذعر والألم والحزن.

ثم يتنفس حرًّا طليقًا كأنما يستنشق الحياة في هذا الهواء الطلق الذي أخذ يغمره منذ خرج من «حارة الوطاويط»، ومضى أمامه في تلك الطريق المنحدرة التي لا تعتدل لقدميه، ولكن ما هي إلا لحظات قصيرة، حتى تعتدل الطريق وتستوي الأرض لقدميه؛ فهو يسعى معتدلًا مطمئنًّا، قد تهيَّأت نفسه لشيءٍ من الفرح والمرح تحمله إليه هذه الأصوات الغريبة المختلطة التي يسمعها حين يسعى في ذلك الشارع الهادئ الحلو، وعن شماله مسجد سيدنا الحسين، وعن يمينه هذه الحوانيت الصغيرة التي طالما وقف عند بعضها حين تقدَّمت به الأيام فذاق من طيباتها ما شاء الله له أن يذوق.

ذاق التين المرطب وشرب نقيعه في أثناء الصيف، وذاق البسبوسة واستمتع بما تبعثه من الحرارة في الأجواف أثناء الشتاء. وربما وقف عند بعض الباعة من السوريين فذاق ألوانًا من الطعام؛ منها الحار ومنها البارد، ومنها الحلو ومنها المِلْحُ، كان يجد في ذوقها لذة لا تُقدَّر، ولو قُدِّمت إليه الآن لأشفق أن تَحمل إليه العلةَ أو تُغرى به الموتَ.

وكان يمضي في طريقه هذه حتى يبلغ مكانًا تختلط فيه الأصوات وترتفع، ويشعر بأن الطريق قد افترقت فيه؛ فهو يستطيع أن يمضي أمامه، وأن يمضي عن يمين، وأن يمضي عن شمال، وأن يعود أدراجه.

وكان صاحبه يقول له: هذه هي المفارق الأربعة، إن مضَيْتَ عن يمينك فإلى السكة الجديدة ثم الموسكي ثم العتبةِ الخضراء، وإن مضَيْتَ عن شِمالك فهي الدرَّاسة، ولكننا سنمضي أمامنا فنسلك شارع الحَلوَجيِّ، وهو شارع العلم والجِدِّ والعمل، ضيق تكاد تبلغ جانبيه إذا مدَدت يديك عن يمين وشمال، ولكنك تمضي بين حوانيت صغيرة تُباع فيها الكتب جديدها وقديمها، جيدها ورديئها، مطبوعها ومخطوطها، وكم كانت للصبي في ذلك الشارع الضيق وقفات خصبة ممتعة لم ينسها قط حين تقدمت به الأيام واختلفت عليه أطوار الحياة، ولكنه عَجِلٌ فيجب أن يبلغ صاحبه الأزهر قبل أن يبتدئ الدرس. وها هو ذا قد بلغ «باب المزيِّنين»، فخلع نعليْه وخالف بينهما وأخذهما في يده ومضى مع صاحبه، فلما تقدَّم قليلًا تخطَّى عتبة قليلة الارتفاع، ثم انفرج له صحن الأزهر هادئًا مطمئنًّا يترقرق فيه نسيم بارد هو نسيم الصباح، وهو الآن في الطَّور الثالث من أطوار حياته الأولى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤