الفصل الخامس

وكانت الوحدة المتصلة مصدر ذلك العذاب؛ فقد كان الصبي يستقر في مجلسه من الغرفة قبيل العصر بقليل، ثم ينصرف عنه أخوه فيذهب إلى غرفة أخرى من غرفات «الربع» عند أحد أصحابه.

وكان مجلس الجماعة لا يستقر في غرفة بعينها من غرفاتهم، وإنما هو عند أحدهم إذا أصبحوا، وعند ثانٍ منهم إذا أمسَوا، وعند ثالث منهم إذا تقدَّم الليل، وكان أخو الصبيِّ يتركه في غرفته بعد درس الظهر ويذهب إلى حيث يلقى أصحابه في إحدى الغرفات، فينفقون وقتًا طويلًا أو قصيرًا في شيء من الراحة والدعابة والتندُّر بالشيوخ والطلاب، وكانت أصواتهم ترتفع وضحكاتهم تدوِّي في «الرَّبع» تدويةً فتبلغ الصبي وهو جاثم في مكانه، فتبتسم لها شفتاه ويحزن لها قلبه؛ لأنه لا يسمع كما كان يسمع في الضحى ما أثارها من فكاهة أو نادرة، ولأنه لا يستطيع كما كان يستطيع في الضحى أن يشارك صامتًا بابتسامة نحيلة ضيقة في هذا الضحك الغليظ العريض.

وكان الصبي يعلم أن القوم سيجتمعون حول شاي العصر إذا أرضَوا حاجتهم إلى الراحة وإلى التندر بالشيوخ والزملاء، وسيستأنفون حول هذا الشاي حديثًا هادئًا منتظمًا، ثم يستعيدون ما يرون أن يستعيدوه من درس الظهر مجادلين مناظرين، ثم يعيدون درس المساء الذي يلقيه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في كتاب «دلائل الإعجاز» في بعض أيام الأسبوع، وفي تفسير القرآن الكريم في بعضها الآخر. وسيتحدثون أثناء إعدادهم لهذا الدرس عن الأستاذ الإمام، وسيستعيدون ما كانوا يسمعون من نوادره وما كانوا يحفظون من رأيه في الشيوخ ومن رأي الشيوخ فيه، وما كانوا يحفظون من أجوبته التي كان يلقيها لبعض السائلين له والمعترضين عليه فيُفحمهم ويُضحك منهم زملاءهم الطلاب.

وكان الصبي لهذا كله محبًّا وبه كَلِفًا وإليه مشوقًا متحرقًا. وربما أحس الصبيُّ في دخيلة نفسة الحاجةَ إلى كوب من أكواب الشاي تلك التي تدار هناك، فقد كان هو أيضًا قد كَلِف بالشاي وشعر بالحاجة إلى أن يشربه مصبحًا وممسيًا، وإلى أن يستكمل منه النصاب. ولكنه حُرم هذا كله؛ فهولاء القوم يتندَّرون ويتناظرون ويدرسون ويشربون الشاي غير بعيد، وهو لا يستطيع أن يشارك في شيء من هذا، ولا يستطيع أن يطلب إلى أخيه الإذن له بأن يحضر مجلس هؤلاء الشباب، ويستمتع بما فيه من لذة العقل والجسم معًا.

لا يستطيع أن يطلب ذلك؛ فأبغض شيء إليه أن يطلب إلى أحد شيئًا، ولو قد طلب ذلك إلى أخيه لرده عنه ردًّا رفيقًا أو عنيفًا، ولكنه مؤلم له، مؤذٍ لنفسه على كل حال، فالخير في أن يملك على نفسه أمرها، ويكتم حاجة عقله إلى العلم، وحاجة أذنه إلى الحديث، وحاجة جسمه إلى الشاي، ويظل قابعًا في مجلسه مطرقًا مغرقًا في تفكيره. ولكن كيف السبيل إلى ذلك وقد ترك أخوه باب الغرفة مفتوحًا إلى أقصى غايته، وهذه أصوات القوم تبلغه، وهذه ضحكاتهم تصل إليه، وهذه دقات مصمتة تنتهي إليه فتؤذنه بأن صاحب الشاي يحطم الخشب ليوقد النار. وكل هذه الأصوات التي تنتهي إليه تثير في نفسه من الرغبة والرهبة، ومن الأمل واليأس، ما يُعَنِّيه ويضنيه، ويملأ قلبه بؤسًا وحزنًا، ويزيد في بؤسه وحزنه أنه لا يستطيع حتى أن يتحرَّك من مجلسه، وأن يخطو هذه الخطوات القليلة التي تمكِّنه من أن يبلغ باب الغرفة ويقف أمامه حيث يكون أدنى إلى هذه الأصوات، وأجدر أن يسمع ما تحمله مما يتحدث به القوم، لقد كان ذلك خليقًا أن يَسرُّه ويُسليه، ولكنه لا يستطيع أن ينتقل من مكانه، لا لأنه يجهل الطريق إلى الباب، فقد كان حَفِظَ هذه الطريق، وكان يستطيع أن يقطعها متمهلًا مستأنيًا، ولكن لأنه كان يستحيي أن يفاجئه أحد المارة فيراه وهو يسعى متمهلًا مضطرب الخطى. وكان يشفق أن يفاجئه أخوه الذي كان يلمُّ بالغرفة من حين إلى حين؛ ليأخذ كتبًا أو أداةً، أو لونًا من ألوان الطعام التي كانت تُدَّخَر ليتبلَّغ بها أثناء الشاي في غير أوقات الإفطار أو العشاء.

وكان كل شيء أهون على الصبي من أن يفجأه أخوه وهو يسعى مضطربًا حائرًا فيسأله: ما خطبك؟ وإلى أين تريد؟ فكان إذن يرى الخير في أن يبقى في مكانه ويؤثر العافية، ويردد في نفسه تلك الحسرات اللاذعة التي كان يجدها، وحسراتٍ أخرى لم تكن أقل منها لذعًا وإيلامًا؛ حسرات الحنين إلى منزله ذلك، في قريته تلك من قرى الريف، هنالك حين كان يعود من الكُتَّاب وقد أرضى حاجته إلى اللعب، فيتبلَّغ بكسرة من الخبز المجفف، مازحًا مع أخواته قاصًّا على أمه ما أحبَّ أن يقصَّ عليها من أنباء يومه في الكُتَّاب. فإذا بلغ من ذلك ما أراد خرج من الدار فأغلق الباب وراءه، ثم مضى حتى يبلغ جدران البيت الذي كان يقوم أمامه فلزمه ماضيًا نحو الجنوب، حتى إذا بلغ مكانًا بعينه انحرف إلى يمين، ثم مضى أمامه خطواتٍ حتى ينتهي إلى حانوت الشيخ محمد عبد الواحد وأخيه الشاب الحاج محمود، فجلس هناك متحدثًا مُتندرًا مستمعًا لما كان يقوله المشترون من الرجال، والمُشترِيات من النساء من هذه الأحاديث الريفية الساذجة التي تمتع باختلافها وطرافتها وسذاجتها أيضًا.

وربما قلَّ الطارئون على الحانوت من المُشتَرِين والمشترِيات، فخلا للصبي أحد صاحبي الحانوت، وجعل يتحدَّث إليه أو يقرأ له في كتاب من الكتب. وربما عدل الصبيُّ عن السعي إلى الحانوت وخرج من داره فجلس على المصطبة الملاصقة لها مطرقًا يسمع حديث أبيه الشيخ مع أصحابه في مجلسهم ذاك الذي كانوا يعقدونه منذ تُصلَّى العصر إلى أن يدعوهم مؤذن المغرب إلى العشاء.

وربما عدل الصبي عن الخروج من داره وخلا إلى رفيق من رفاقه في الكُتَّاب، قد أقبل عليه ومعه هذا الكتاب أو ذاك من كتب الوعظ، وهذه القصة أو تلك من قصص المغازي، فجعل يقرأ له حتى يدعوه غروب الشمس إلى العشاء. هنالك لم يكن الصبي يشعر بالوحدة، ولم يكن يضطر إلى السكون، ولم يكن يجد ألم الجوع، ولم يكن يجد ألم الحرمان، ولم يكن يتحرَّق إلى كوب من أكواب الشاي.

كانت كلُّ هذه الحسرات تضطرب في نفس الصبيِّ أشد الاضطراب وهو ساكن أشد السكون. وربما صرفه عنها لحظةً صوت المؤذن حين كان يدعو إلى صلاة العصر في جامع بيبرس، ولكنه كان صوتًا منكرًا أشد النُّكر، فكان يذكِّر الصبي بصوت المؤذن في بلده، ولم يكن خيرًا من هذا الصوت ولكنه كثيرًا ما أتاح للصبي ألوانًا من اللهو واللعب، فكم صعد المنارة مع المؤذن، وكم أذَّن مكانه وكم شاركه في هذا الدعاء الذي يُدعى به بعد الأذان! ولكنه هنا في هذه الغرفة لا يستحب هذا الصوت، ولا يستطيع أن يشارك في الأذان، ولا يعرف حتى من أين يأتي هذا الصوت، وهو لم يدخل قط مسجد بيبرس، وهو لا يعرف الطريق إلى مئذنته، وهو لم يَبْلُ دَرَجَ هذه المئذنة، ولم يعرف أتستقيم للمصعد فيها وتتسع له أم تلتوي به وتضيق عليه كشأن مئذنته في الريف.

لا يعرف شيئًا من ذلك ولا سبيل إلى أن يعرف منه شيئًا، إنما هو السكون، والسكون المتصل الطويل، يا للألم! إن العلم ليكلف طلَّابه أهوالًا ثقالًا.

وكان هذا السكون يطول على الصبي فيجهده، وربما أخذته إغفاءة وهو جالس في مكانه، وربما اشتدت عليه هذه الإغفاءة فاضطرته إلى أن يستلقى ويسلِّم نفسه للنوم، وكان يسمع من أمه أن نوم العصر بغيض مؤذٍ للأجسام والنفوس، ولكن كيف السبيل إلى أن يرد عن نفسه هذا النوم البغيض! ولكنه يهبُّ فَزِعًا مذعورًا؛ فقد سمع صوتًا يدعوه بهذه الكلمة التي رنَّت في آذانه أعوامًا وأعوامًا: «مولانا أنائم أنت؟» يهبُّ فزعًا مذعورًا لأن أخاه أقبل ينظر إليه ويسأله عن شأنه ويحمل إليه عشاءه. وكان عشاؤه لذيذًا حقًّا؛ فقد كان يتألَّف من رغيف وقطعة من الجبن الذي يُسمَّى الجبن الرومي، أو قطعة من الحلاوة الطحينية، كان هذا عشاءه في أثناء الأسبوع، فكان أخوه يضع ذلك أمامه ويودِّعه منصرفًا عنه ليذهب إلى الأزهر فيحضر درس الأستاذ الإمام.

وكان الصبي يُقبل على طعامه راغبًا عنه حينًا وراغبًا فيه حينًا آخر، ولكنه كان يستنفده على كل حال. كان يبيح لنفسه الإقلال من الطعام إذا أكل مع أخيه، ولم يكن أخوه يكلمه في ذلك أو يسأله عنه. فأما إذا خلا إلى طعامه فقد كان يأتي عليه كله حتى ولو رغب عنه أو ضاق به؛ مخافةَ أن يُبقى منه شيئًا، ويعود أخوه ويرى ذلك فيظن به المرض أو يظن به الحزن، وكان أبغض شيءٍ إليه أن يثير في نفس أخيه همًّا أو قلقًا.

كان إذن يقبل على طعامه، حتى إذا فرغ منه عاد إلى سكونه وجموده في ركنه الذي اضطر إليه، وقد أخذ النهار يتصرَّم وأخذت الشمس تنحدر إلى مغربها، وأخذ يتسرب إلى نفسه شعور شاحب هادئ حزين، ثم يدعو مؤذن المغرب إلى الصلاة، فيعرف الصبي أن الليل قد أقبل، ويقدر في نفسه أن الظلمة قد أخذت تكتنفه، ويقدِّر في نفسه أن لو كان معه في الغرفة بعض المبصرين لَأُضيءَ المصباح ليطرد هذه الظلمة المتكاثفة، ولكنه وحيد لا حاجة له إلى المصباح فيما يظن المبصرون، وإن كان ليراهم مخطئين في هذا الظن؛ فقد كان ذلك الوقت يفرِّق تفرقةً غامضة بين الظلمة والنور، وكان يجد في المصباح إذا أضئ جليسًا له ومؤنسًا، وكان يجد في الظلمة وحشةً لعلها كانت تأتيه من عقله الناشئ ومن حسه المضطرب. والغريب أنه كان يجد للظلمة صوتًا يبلغ أذنيه، صوتًا متصلًا يشبه طنين البعوض لولا أنه غليظ ممتلئ، وكان هذا الصوت يبلغ أذنيه فيؤذيهما، ويبلغ قلبه فيملؤه روعًا، وإذا هو مضطر إلى أن يغير جِلسته فيجلس القرفصاء، ويعتمد بمرفقيه على ركبتيه ويخفي رأسه بين يديه، ويسلِّم نفسه لهذا الصوت الذي يأخذه من كلِّ مكان. ومع أن سكون العصر كان كثيرًا ما يضطره إلى النوم فقد كان سكون العشية يضطره إلى اليقظة التي لا تشبهها يقظة.

وكان ينتهي إلى أن يألف صوت الظلمة ويطمئن إليه. ولكنَّ في الغرفة أصواتًا أخرى كانت تُفزعه وتُروعه، أصوات مختلفة؛ فقد كانت هذه الغرفة من غرفات الأوقاف، ومعنى ذلك أنها كانت قديمة، قد طال عليها العهد، وبعد بها الأمد، وكثرت في جدرانها الشقوق، وعمرت هذه الشقوق طوائف من الحشرات وغيرها من صغار الحيوان، وكانت هذه الحشرات وهذه الصغار من الحيوان كأنما وُكِّلَت بالصبي إذا أقبل الليل عليه وهو قابع وحده في ذلك الركن من أركان الغرفة؛ فهي تبعث من الأصوات الضئيلة، وتأتي من الحركات الخفيفة السريعة حينًا والبطيئة حينًا آخر ما يملأ قلب الصبي هلعًا ورعبًا، فإذا أقبل أخوه وحده أو مع أصحابه فأضيء المصباح انقطعت هذه الأصوات والحركات كأنها لم تكن، وكان الصبي من أجل هذا ومن أجل أشياء أخرى غير هذا لا يجرؤ على أن يذكر من أمر هذه الأصوات والحركات شيئًا، وأيسر ما كان يخاف إنْ تحدَّث ببعض ذلك أن يسفَّه رأيه وأن تُظن بعقله وبشجاعته الظنونُ، فكان يؤثر العافية ويكظم خوفه من الحشرات وصغار الحيوان.

وهذا المؤذن يدعو إلى صلاة العشاء، فيثير في نفس الصبي أملًا قصيرًا يتبعه يأس طويل؛ فقد انتهى درس الأستاذ الإمام، وسيقبل أخو الصبي بعد قليل فيضئ المصباح ويضع محفظته في مكانها، ويأخذ ما يحتاج إليه من كتاب أو أداة أو طعام، ويشيع في الغرفة في أثناء ذلك شيئًا من الأنس، ويطرد من الغرفة في أثناء ذلك تلك الوحدة المنكرة، ولكنه سيُلقي إلى الصبي تلك الوسادة التي سيضع عليها رأسه، وذلك اللحاف الذي سيلتف فيه لينام، وسيشهد التفافه في لحافه ووَضْعَ رأسه على وسادته، ثم يطفئ المصباح وينصرف، ويغلق الباب من ورائه ويدير فيه المفتاح، ويمضي وهو يظن أنه أسلم الصبيَّ إلى النوم، وإن كان لم يسلمه إلا إلى أرقٍ متصل مخيف.

وسيعود بعد ساعتين أو بعد ساعات، وقد طعم وشرب الشاي، وناظر أصحابه وأَعَدَّ معهم ما شاء الله أن يعدَّ من درسٍ للغد، فيدير المفتاح ثم يضئ المصباح، وهو يظن أن الصبيَّ مغرق في نوم هادئ لذيذ، وما ذاق الصبي في حقيقة الأمر نومًا، وإنما انتظر جَزِعًا فَزِعًا عودةَ أخيه.

فإذا استلقى أخوه على فراشه بعد أن أطفأ مصباحه وأخذ تنفسه المضطرب أو المنتظم يدل على أنه نام، فقد أخذ الصبي يحسُّ الأمن والدعة، ويدير في نفسه خواطر الآمِن الوادع وتفكير الهادئ المطمئن.

وهنالك تتصل يقظته الآمنة بنومه اللذيذ دون أن يشعر بهذا الاتصال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤