الفصل السابع

ولم يكن هؤلاء الشباب يَستمدُّون فرحهم ومرحهم من ذلك الشيخ وحدَه، وإنما كان لفرحهم ومرحهم مصدر آخر في بعض الأحيان. ولكن فرحهم كان مقتصدًا ومرحهم كان هادئًا إذا جاءهم من هذا المصدر الآخر. كانوا يفرحون بمقدار، ويمرحون من وراء سِتار، إذا لَقُوا صاحبهم ذاك الذي كان يسكن غرفةً في أقصى الرَّبع من يمين، كما كان الشيخ في أقصى الربع من شمال. وكان صاحب الغرفة اليمنى رجلًا متوسط السن قد جاوز الأربعين من غير شكٍ ولكنه لم يبلغ الخمسين. وكان طالب علم، وقد أنفق في الأزهر أكثر من عشرين سنة ولم يظفر بدرجة العالِمية بعدُ، ولم يستيئس من الظفر بها، ولكنه لم يقصر عليها جهده ولم يقف عليها حياته، وإنما كان يطلبها ويطلب معها أشياء أخرى هي التي يطلبها الناس في حياتهم؛ فقد كان له زوج وكان له بنون، وكان يمنح زوجه وأبناءه من وقته إجازة الصيف وإجازة الصوم. وهذه الإجازات القصار التي كانت تتخلل دراسة الأزهريين أحيانًا. وكان أهله يُقيمون في القرية قريبًا من القاهرة؛ فلم يكن الانتقال إليهم والارتحال عنهم يكلفان الرجل جهدًا ثقيلًا أو نقدًا كثيرًا. وكان ككثير من أهل إقليمه يملك قطعة أو قطعًا صغيرة من الأرض، وقد أصهر إلى رجل يملك قطعة أو قطعًا من الأرض أيضًا، فلم يكن فقير الحال كما كان يُقال في ذلك الوقت، ولكنه لم يكن عظيم اليسار؛ وكان قبل كلِّ شيءٍ مقتصدًا يوشك اقتصاده أن يبلغ البخل.

وكان حبه للعلم معتدلًا، وكانت رغبته في العلم متواضعة، وكان إقباله على الدرس ضئيلًا جدًّا، وكان ذكائه أضأل من إقباله على الدرس، واستعداده لفهم العلم أقل من إقباله عليه، وكان مع ذلك يرى نفسه ذكيًّا، ويرى نفسه مظلومًا؛ لا لأنه تقدَّم لنيل الدرجة فرُدَّ عنها واشتطت عليه اللجنة في الامتحان، فقد أنفق في الأزهر أكثر من عشرين سنة ولم يتقدَّم للامتحان، وكان يستطيع أن يتقدَّم بعد اثنتي عشرة سنة، ولكنه لم يفعل؛ لأنه كان يرى الأزهر من وراء منظار قاتم أو شاحب.

كان يُسيء الظن بالطلاب، وكان يرى — مخطئًا أو مصيبًا، وأكبر الظن أنه كان مُخطئًا — أن الدرجات لا تنال في الأزهر بالذكاء والبراعة، ولا بالجد والتحصيل، وإنما تنال من جهة بالحظ والمصادفة، ومن جهة أخرى بالتملُّق وحسن الحيلة والمهارة في التوسُّل إلى الممتحنين. وكان يرى أن الحظ قد ظلمه وتحوَّل عنه لسببٍ مجهول، وأنه مخفق إن تقدم إلى الامتحان؛ فالخير في أَلَّا يتقدم.

وكان يبتدئ عامه الأزهريَّ مصممًا على أن يتأهَّب للامتحان، فيتفق مع جماعة من أصدقائه على أن يقرأ معهم طائفة من الكتب التي لم يكن بدٌّ من إتقانها قبل التقدُّم للامتحان، ثم لا يمضي شهر أو شهران حتى يشعر بأن الحظَّ لا يُواتيه، فيهمل ثم يكسل ثم ينصرف عن الدرس إلى غيره من شئون الحياة. وكان يعتقد أن الحظ قد ظلمه مرة أخرى، فلم يمنحه من نباهة الذكر ومن هذا الذكاء الخدَّاع ما يلفت إليه الشيوخ، كما منح فلانًا وفلانًا من أصدقائه، مع أنه في حقيقة الأمر ليس أقل من أصدقائه فهمًا للعلم، ولا قدرة على التصرف فيه.

ولم يكن يُخفي إذا تحدَّث إلى أصدقائه الشباب أنه كان يعرف الطريق المأمونة المضمونة إلى الدرجة، وأنه كثيرًا ما راود نفسه عن سلوكها، ولكنَّ نفسه لم تطب قطُّ عن بيع قيراط أو قيراطين ليظفر بهذه الدرجة التي تمنحه لقلب العالِم، وتزيد جرايته أرغفة، وتُغِلُّ عليه آخر الشهر خمسة وسبعين قرشًا.

وكان من أجل هذا كله ينتظر أن تصفو له الأيام، ويبتسم له وجه الحظ، كما ابتسم لصديقه ومواطنه فلان في العام الماضي؛ فقد أقام صديقه هذا طالبًا للعلم ربع قرن، وكان ذكيًّا بارعًا، ثم تقدَّم فجأةً إلى الامتحان فلم يجُزْه ناجحًا فحسب، ولكنه ظفر بالدرجة الثانية لا بالدرجة الثالثة، ولو أنه أحسن التقرُّب إلى فلان من أعضاء اللجنة لظفر بالدرجة الأولى.

فلينتظر إذن كما انتظر صديقه، ولعل الحظَّ أن يواتيه كما واتى صديقه، فالأمر كله إلى الحظ أيها الأصدقاء؛ فقد درست كما تدرسون وتعبت كما تتعبون، وأنا أتمنى أن يكون حظكم خيرًا من حظي وإن كنت لا أثق بذلك ولا أطمع فيه.

وكان هؤلاء الشباب يسمعون من صاحبهم هذه الأحاديث فيحفظونها ويُثبتون في أنفسهم طريقته في إلقائها، وكانت طريقته طريفة حقًّا؛ فقد كان يتحدث في هدوءٍ شديدٍ وصوت هو إلى الخفوت أقرب منه إلى الجهر، وكان يعتمد على ألفاظه كأنما يريد أن يُثبتها في آذان سامعيه. وكان يفصل بين أحاديثه هذه بكثير من الفكاهات والنوادر التي كان يراها غريبة مضحكة، فيضحك لها ويُطيل الضحك، وقد مرَّت على أصدقائه فلم تضحكهم ولم تلفتهم، ولكنهم رأوه يضحك فوجموا، ثم رأوا ضحكه متصلًا فضحكوا، ثم رأوا إغراقه في الضحك فأغرقوا فيه. وكان ضحكه غريبًا مُضحكًا حقًّا إن جاز هذا التعبير؛ فقد كان يبدؤه عاليًا ثم يقطعه ويضحك صامتًا لحظة، ثم يستأنفه عاليًا ثم يقطعه ويمضي فيه صامتًا، ثم يستأنفه، وهكذا.

وكان الطلاب إذا خَلَوْا إلى أنفسهم أعادوا أحاديثه، وردَّدوا ألفاظه، وقلَّدوا ضحكه وقضوا في ذلك ساعةً مسلية سارَّة.

ولكنَّ الذي كان يُعجب هؤلاء الشباب من صديقهم هذا شيء آخر؛ فقد كان صاحب لذة بل صاحب إغراق في اللذة وتهالك عليها. وكان يحب الحديث عن لذاته، ويستمتع بتفصيل هذا الحديث كما يستمتع بلذاته نفسها أو أكثر مما يستمتع بلذاته نفسها. وكانت اللذات التي يمعن فيها ويتحدث عنها بريئة إن شئت، وآثمة إن شئت أيضًا. كان يذكر لذَّاتِه إذا خلا إلى أهله ويُفصِّل ذلك تفصيلًا منكَرًا يقطعه بضحكه الغريب. وكان يذكر لذَّاتِه إذا جلس إلى طعامه الدسم في القرية وإلى طعامه الخشن في المدينة، ويفصِّل ذلك بفكاهاته النادرة الفاترة وضحكه المتقطع المتصل.

وكان يذكر لذَّاتِه إذا سعى في شوارع المدينة وفي حاراتها، وإذا وقف في الرَّبَع نفسه يستنشق الهواء وألقى عينيه إلى الطبقة السفلى، فلم يكن يرى امرأة في الشارع أو الحارة أو الربع إلا فصَّلها بعيْنه تفصيلًا، وحللها في نفسه تحليلًا، وجرَّدها من ثيابها تجريدًا، ووجد في هذا الجهد الآثم لذَّةً لا تقلُّ عنه إثمًا. ولم يكن يُسمِّي المرأة امرأة ولا سيدة ولا أنثى، ولا شيئًا مما تعوَّد الناس أن يسموها، وإنما كان يُسميها فخذًا. ولم تكن المرأة النحيلة تعدل عنده شيئًا، وإنما المرأة كل المرأة من ضخمت حتى اكتظَّت أعضاؤها بالشحم واللحم، وكان يشبهها بالوسائد حينًا وبالحشايا حينًا آخر.

وكان يستدل على مذهبه هذا بقول كعب بن زهير في صاحبته سعاد:

هيفاءُ مُقبلةً عجزاء مدبرةً
لا يُشتكى قِصَر منها ولا طول

وكان يقول لأصدقائه: ألا ترون أنه لم يكد يذكر أن صاحبته كانت هيفاء إذا أقبلت حتى استدرك أمره وقوَّم رأيه فذكر أنها عجزاء إذا أدبرت! ثم يمضي بعد ذلك في ألوان شنيعة من التفصيل، ثم يقص الفكاهات وينثر النوادر، ويُرسل الضحك ثم يُمسكه، وقد ملك على هؤلاء الشباب أمرهم بما يُلقي إليهم من حديث، وأي شيء أبلغ أثرًا في نفوس الشباب المحرومين هذه اللذات بريئها وآثمها من هذا الحديث!

وكان الصبيُّ يسمع ذلك وهو في ركنه منحنٍ مطرقٌ كأنه ليس مع القوم، وما يفوته من حديث القوم لفظ، وما تشذ عنه من أصوات القوم نبرة. وكان يقول في نفسه: لو عرف هؤلاء الرجال مقدار ما أسمع لهم وما آخذ عنهم لاجتنبوا أن يُديروا مثل هذه الأحاديث بمحضرٍ من الصبية الناشئين.

وقد أنفق الرجل منذ عرفه الصبي أعوامًا في الربع اختلفت عليه فيها شئون كانت كلها تُضحك في ظاهر الأمر، ولكنها تُحزن وتثير الأسى عند الرؤية والتفكير.

كان فلاحًا بأدق ما تؤدي هذه الكلمة من معاني الحب للأرض، والحرص على المال، والجزع كل الجزع أن يُغلب في بيع أو تأجير أو شراء. وكان المال، والمال وحدَه، يسيطر على أمره كله إذا ذهب إلى قريته أو فكر فيها أو لقي أحدًا من أهلها. وكان صاحبَ لذةٍ بأدق ما تؤدي هذه الكلمة من معاني الاستجابة للحس والطلب لهذه المُتع القريبة التي لا تحتاج إلى رقة نفس ولا إلى دقة عاطفة ولا إلى صفاء ذوق. وكان طلبه للعلم وانتظاره للدرجة وسيلة من وسائله — أو قُل غاية من غاياته — يستريح إليها إذا جَدَّ في تحصيل المال حتى أعياه الجِدُّ، وإذا تهالك على الاستمتاع باللذة حتى أضناه الاستمتاع. هنالك يعود إلى رَبْعِهِ ويستقر في غرفته، ويُفكِّر في زملائه وشيوخه ودرجته، ويتحدَّث إلى أصدقائه هؤلاء، ويشاركهم في بعض الطعام ويشاركهم في بعض الشاي. ولكنه كان على هذا كله مؤمنًا شديد الإيمان، له نزعات صوفية غريبة تخرجه بين حين وحين عن أطواره هذه كلها، وترده زاهدًا متقشفًا يأخذ نفسه بالشدة والعنف، ويفرض عليها عذاب الحرمان والجوع.

وقد اختلف مع حَمِيهِ ذات يوم في بعض الأمور، وزهد في زوجه الفلاحة، وطمح إلى أن يتخذ لنفسه زوجًا من أهل القاهرة، ويُصهر إلى أسرة متحضرة متأنقة، فطلق امرأته. وكان يتحدث بآماله هذه إلى أصدقائه مُفصِّلًا لهم في أصرح الألفاظ وأبشعها ما يكون من الفروق بين نساء المدينة ونساء الريف. ولكنه أصبح ذات يوم وقد صُرِف عن المال وصرف عن نساء المدينة ونساء الريف، وصرف عن لذة الطعام والشاي؛ لأنه أحس أن الحظ سيواتيه إن تقدم للامتحان، فلا بدَّ إذن من أن يتقدَّم، ولا بدَّ إذن من أن يتهيأ لهذا الصراع بينه وبين الشيوخ، وأمامه أشهر يستطيع أن يستعدَّ فيها، فليعبِّئ أصدقاءه وزملاءه القدماء والمحدثين، وليفرغ للأصول والفقه وللبلاغة والنحو والتوحيد، ولهذه المواد التي كان يتألف منها «التعيين». وقد فعل، وتقدَّم للامتحان وكان يوم امتحانه يومًا مشهودًا.

أقبل على اللجنة مع الصباح وانصرف عنها عند المساء، فأتعبها وأتعبته، وكان قد دَبَّر لنفسه حيلة ظريفة طريفة يستريح بها من اللجنة إن اشتطَّت عليه، فاشترى بِطيخة أو جماعة من البطيخ وتركها قريبًا من غرفة الامتحان، وزعم للجنة حين أُدخل عليها أنه مريض بسَلَس البول، واستأذنها في أن ينصرف كلما اضطرته علته إلى الانصراف، وقد رحمته اللجنة وأذنت له أن ينصرف كلما دعته علته إلى ذلك. فكان يأخذ في تقرير الدرس ويأخذ في محاورة الممتحنين إن ألقى عليه أحدهم هذا السؤال أو ذاك، ثم يقطع تقريره أو حواره فجأة ويستأذن في الخروج، فإذا خرج لم يذهب إلى حيث يرضي حاجة أو يَشفي علة، وإنما ذهب إلى حيث يصيب مقدارًا من البِطيخ يبرِّد به قلبه ويشحذ به ذهنه ويسترد به خاطره كما كان يقول، ثم عاد إلى اللجنة فاستأنف التقرير أو الحوار من حيث قطع التقرير أو الحوار. وما زال باللجنة وما زالت اللجنة به حتى انقضى أكثر النهار، وعاد إلى غرفته سعيدًا موفورًا؛ فقد أُتيح له النجاح وظفر بالدرجة الثالثة وأصبح من العلماء.

وتفرق عنه أصدقاؤه مع الصيف، فلما لقُوه من الخريف كان قد فارق غرفته في الربع وحقق آماله تلك، فأصهر إلى أسرة من المدينة، وأقام معها غير بعيد من مسكنه القديم.

وقد أخذته نزعته الصوفية ذات يوم، فاعتزم أن يعتكف في المسجد أيامًا يروض نفسه فيها على الصلاة والصوم وذكر الله. وقد فعل، فلزم الخلوة أيامًا لا أدري كم عددها ولكنها لم تكن قليلة؛ فقد خرج من الخلوة نحيلًا منهوكًا. فلما عاد إلى أهله أنكروه، ولعلهم سخروا من رجولته، فعادت إليه نفسه الفلاحة المتهالكة على اللذات، وأدركته حميَّته الريفية، فخرج مع الصباح حتى أتى مطعمًا أو قهوة فأسرف على نفسه أشد الإسراف فيما الْتَهَمَ من فول وزيت وخبز وبصل، ثم أسرف على نفسه أشد الإسراف فيما أطفأ به نار هذا الإفطار من شايٍ، ثم أضاف إلى كل ما ألقى في جوفه من سائلٍ وجامدٍ شيئًا من هذه الأشياء التي كان أمثاله يُشيرون إليها ولا يسمونها؛ فلما استقرَّ هذا كله — أو اضطرب — في جوفه عاد إلى أهله فائرًا ثائرًا، فأنكروا قوته واتقوه، وانتهى أمره إلى أن همَّ بأن يثب من النافذة لولا أن أدركه بعض أعضاء الأسرة فردوه عن ذلك بعد جهد وأوثقوه، وإذا هو مجنون قد ذهب عقله.

وما ينسى الصبي ذلك الصوت الذي كان يصل إليه ذات ليلة بعد أن صُلِّيَت العشاء، والذي وقف له أولئك الشباب من الطلاب واجمين محزونين تريد دموعهم أن تنهل فلا يمسكها إلا الحياء. وكان ذلك الصوت صوتَ ذلك الرجل الذي أخذه الجنون وأطلق لسانه فهو يتغنَّى بأبشع الهذيان، فلما أصبح ذهب به أصهاره إلى المستشفى هناك حيث يُداوى أمثاله. وقد أقام في هذا المستشفى أسابيع، ثم خرج منه وقد تغيرت حاله كلَّ التغيير؛ فانخفض صوته أكثر مما كان منخفضًا، وهدأت حركاته وانقطع ضحكه، وأصبح يبعث في نفس من يلقاه شيئًا غريبًا من الخوف منه والإشفاق عليه.

وقد مضت الأيام بما تمضي به من الأحداث، وتفرَّق عن هذا الرجل أصدقاؤه الشباب، وذهب كل منهم لوجه من وجوه الحياة، وقلَّ لقاؤهم لهذا الرجل ثم انقطع، وجعلت أخباره تصل إليهم متقطعة، ثم انقطعت هي أيضًا، وأنبأ المنبئ ذات يوم بأنه قد مات.

فسمع أصدقاؤه هذا النبأ فحزنت نفوسهم لحظة، ولكن عيونهم لم تذرف دمعة، ولكن وجوههم لم تنقبض إلا قليلًا، وإنما انطلقت ألسنتهم بهذه الآية الكريمة التي نتلوها دائمًا كلما انتهى إلينا النَّعْيُ: إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤