الفصل الأول

على باب الأزهر

كان صاحبنا الفتى قد أنفق أربعة أعوام في الأزهر، وكان يعدُّها أربعين عامًا؛ لأنها طالت عليه من جميع أقطاره، كأنها الليل المظلم، قد تراكمت فيه السحب القاتمة الثقال، فلم تَدَعْ للنور إليه منفذًا، ولم يكن الفتى يضيق بالفقر ولا بقصر يده عما كان يريد، فقد كان ذلك شيئًا مألوفًا بالقياس إلى طلاب العلم في الأزهر الشريف.

وكان الفتى يرى من حوله عشرات ومئات يَشْقَوْن كما يشقى، ويلقَوْنَ مثل ما يلقى، وتقصر أيديهم عن أقصر ما كانوا يحبون، قد اطمأنوا إلى ذلك، وألفته نفوسهم، واستيقنوا أن الثراء والسعة وخفض العيش أشياء تعوق عن طلب العلم، وأن الفقر شرط للجدِّ والكدِّ والاجتهاد والتحصيل، وأن غنى القلوب والنفوس بالعلم خيرٌ وأجدى من امتلاء الجيوب والأيدي بالمال.

وإنما كان يضيق أشدَّ الضيق بهذا السأم الذي ملأ عليه حياته كلها، وأخذ عليه نفسه من جميع جوانبها.

حياة مُطَّرِدَةٌ متشابهة لا يجدُّ فيها جديد منذ يبدأ العام الدراسي إلى أن ينقضي: درس التوحيد بعد أن تُصلَّى الفجر، ودرس الفقه بعد أن تشرق الشمس، ودرس في النحو بعد أن يرتفع الضحى، وبعد أن يُصيب الفتى شيئًا من طعامٍ غليظ، ودرس في النحو أيضًا بعد أن تُصلَّى الظهر، ثم فراغ فارغ كثيف بعد ذلك يُصيب فيه الفتى شيئًا من طعامٍ غليظٍ مرة أخرى. حتى إذا صُلِّيت المغرب راح إلى درس المنطق يسمعه من هذا الشيخ أو ذاك، وهو في كل هذه الدروس يسمع كلامًا مُعادًا وأحاديث لا تمس قلبه ولا ذوقه، ولا تغذو عقله، ولا تضيف إلى علمه علمًا جديدًا، فقد تربَّت في نفسه تلك الملَكة كما كان الأزهريون يقولون، وأصبح قادرًا على أن يفهم ما يُكرره الشيوخ من غير طائل.

وكان الفتى يُفكر في أن أمامه ثمانية أعوام أخرى، سيعدُّها ثمانين عامًا، كما عدَّ الأعوام الأربعة التي سبقتها، وفي أن عليه أن يختلف إلى هذه الدروس كما تعوَّد أن يفعل، وأن يعيد ويبدئ في هذا الكلام، الذي لا يُسيغه ولا يجد فيه غَناء.

وفي أثناء هذا كله ذُكر اسم الجامعة، فوقع في نفسه أول الأمر موقع الغرابة الغريبة؛ لأنه لم يسمع هذه الكلمة من قبل، ولم يعرف إلا الجامع الذي كان ينفق فيه بياض النهار وشطرًا من سواد الليل. فما عسى أن تكون الجامعة؟ وما عسى أن يكون الفرق بينها وبين جامعِهِ ذاك أو جوامعه تلك الكثيرة التي كان يختلف فيها إلى شيوخه؟ فما أكثر ما كان بعض الشيوخ ينْأَوْن بدروسهم وطلابهم عن الأزهر، ويُؤْثرون أنفسهم بمسجد من هذه المساجد الكثيرة في الحي! وكان تنقُّل الفتى بين هذه المساجد يرفِّه عنه بعض الترفيه.

figure

على أنه لم يلبث أن فهم كلمة الجامعة هذه فهمًا مقاربًا، وعرف أنها مدرسة لا كالمدارس، وأحسَّ أن مزيتها الكبرى عنده أن الدروس التي ستلقى فيها لن تشبه دروس الأزهر من قريبٍ أو بعيدٍ، وأن الطلاب الذين سيختلفون إليها لن يكونوا من المعمَّمين وحدهم، بل سيكون فيهم المطربشون، وعسى أن يكونوا أكثر عددًا من أصحاب العمائم؛ لأن هؤلاء لن يعدلوا بعلمهم الأزهري علمًا آخر، ولن يشغلوا أنفسهم بهذه القشور التي يُضيع فيها أبناء المدارس — كما كانوا يُسمونهم في تلك الأيام — أوقاتهم.

وكان نبأ الجامعة هذا إيذانًا للفتى بأن غمَّته تلك توشك أن تُكشَف، وبأن غَمْرَته تلك توشك أن تنجلي، فقد يُتاح له أن يسمع غير ما تعوَّد أن يبدئ فيه ويعيد من علمه ذاك الممل، وقد أقام الفتى مع ذلك على شكٍّ ممضٍّ يؤذي نفسَه أشد الإيذاء، ولا يستطيع أن يُصرح به لأحد من أصدقائه أو ذوي خاصَّته.

أتقْبله هذه الجامعة بين طلابها حين يتم إنشاؤها أم ترده إلى الأزهر ردًّا غير جميل لأنه مكفوف، وليس غير الأزهر سبيلًا إلى العلم للمكفوفين؟ كان هذا الشك المؤلم يؤرِّق ليله ويقضُّ مضجعه، ولم يكن يُناجي به إلا نفسه. كان يستحي أن يتحدث عن آفته تلك إلى الناس، وكان يؤذيه أشدَّ الإيذاء أن يتحدث الناس عنها إليه، وما أكثر ما كانوا يفعلون!

عاش إذن بين خوف ملحٍّ ورجاء ضئيل يعتاده بين حين وحين، فيتيح لنفسه شيئًا من راحة وَرَوْحٍ، حتى إذا أنشئت الجامعة وعلم الفتى علمها ذهب عنه الخوف، وملأ الأمل نفسه رضًا وبهجةً وسرورًا. واختلف إلى دروسه في الأزهر ذات يوم فلم يسمع من شيوخه شيئًا، ولم يفهم عنهم شيئًا، كان في شغلٍ عنهم وعن دروسهم بما سيكون حين يُقبل المساء، ولأول مرة سمع درس الأدب في الضحى فكان حاضرًا كالغائب، وَيَقِظًا كالنائم، ولم ينتظر أن تُصلَّى العصر، وإنما سعى إلى الجامعة في أعقاب درس البلاغة مع زميليه، فأدَّى كل منهم ذلك الجنيه الذي لم يكن بدٌّ من أدائه ليؤذن له بالاستماع إلى الدروس. وكان غريبًا عند هؤلاء الفتية أن يشتروا العلم بالمال وإن كان قليلًا، فهم لم يتعودوا ذلك ولم يألفوه، وإنما تعودوا أن يُرزقوا أرغفةً في كل يوم ليطلبوا العلم في الأزهر، وقد وجدوا بعض ما يُقيم الأَوَد، وكان أداء ذلك الجنيه عليهم عسيرًا، ولكنهم أحبوا دروس الجامعة بمقدار ما وجدوا من العسر في أداء ثمنها.

واستمع الفتى لأول درس من دروس الجامعة في الحضارة الإسلامية، فراعه أول ما راعه شيء لم يكن له بمثله عهد في الأزهر؛ فهذا أحمد زكي بك يبدأ الدرس بهذه الكلمات التي لم يسمعها الفتى من قبل: «أيها السادة: أحييكم بتحية الإسلام، فأقول: السلام عليكم ورحمة الله.»

وإنما كان الفتى يسمع في الأزهر كلامًا آخرَ لا يتجه به الشيوخ إلى الطلاب، وإنما يتَّجهون به إلى الله عز وجل فيحمدونه ويُثنون عليه، ولا يحيي فيه الشيوخ طلابهم، وإنما يُصلون فيه على النبي وعلى آله وأصحابه أجمعين!

ثم راع الفتى بعد ذلك أن الأستاذ لم يقل في أول درسه: «قال المؤلف رحمه الله»، وإنما استأنف الدرس يتكلم من عند نفسه ولا يقرأ في كتاب. وكان كلامه واضحًا لا يحتاج إلى تفسير، وكان سوِيًّا مستقيمًا لا قنقلة فيه ولا اعتراض عليه، وكان غريبًا كلَّ الغرابة، جديدًا كلَّ الجِدَّة، مَلَكَ على الفتى عقلَه كلَّه وقلبه كلَّه، فشُغل عن صاحبيه، وشُغل عمن كان حوله من الطلاب، وما كان أكثرهم! حتى إذا أوشك الدرس أن ينقضي، أعلن الأستاذ أنه سيُعيد هذا الدرس بعد دقائق ليتاح للطلاب الكثيرين الذين لم يُتحْ لهم دخول الغرفة أن يسمعوه، وانصرف الفوج الأول من الطلاب، ولكن صاحبنا لم يَرِمْ، وإنما أقام في مكانه حتى سمع الدرس مرة أخرى.

لم ينمِ الفتى من ليلته تلك، وسمع المؤذن يدعو إلى صلاة الفجر فلم ينهض من فراشه، وإنما تثاقل وتثاقل، ولم يخرج من غرفته إلا حين ارتفع الضحى، ولولا درس الأدب في الرواق العباسي لظل في غرفته حتى يُقبل المساء.

وقد سمع الفتى درس الأدب غير حفيٍّ به أول الأمر، ولكن الشيخ سأله عن شيء فلجلج الفتى وسَخِر منه الشيخ، وسأله عن هذين المقطفين اللذيْن رُكِّبا في رأسه ماذا يصنع بهما؟ يريد بالمقطفيْن أذنيه. ومنذ ذلك الوقت أقبل الفتى على درس الأدب هذا كما كان يُقبل عليه من قبل، فلم يُضيِّع مما قال الشيخ حرفًا.

وسمع بعد ذلك درس النحو فلم يمنح الأستاذ إلا أحد مقطفيه هذيْن، ولعله لم يمنحه مقطفه كله، إنما كان يعيش لساعة المساء، ويتعجَّل ذلك الدرس الذي سيسمعه من أحمد زكي بك عن الحضارة المصرية القديمة. وقد سمعه فلم تَسَعْهُ الأرض على رُحْبها؛ سمع أشياء لم تكن تخطر له على بال، ولم يكن يتصور أنها قد كانت، أو أن الناس يمكن أن يتحدثوا بمثلها.

وكان تحرُّقه إلى درس اليوم الثالث أشدَّ وأقوى من تحرُّقه إلى الدرسين اللذيْن سبقاه، فسيكون الأستاذ إيطاليًّا، وسيتحدَّث باللغة العربية، إيطاليٌّ يتحدث إلى المصريين في العلم بلغتهم العربية، وفي شيء لم يسمعِ الفتى وأترابه الأزهريون به قبل يومهم ذاك، ولم يفهمه الفتى وأترابه حين سمعوه، أنكرته آذانهم، وأنكرته نفوسهم وأذواقهم أيضًا، وكان اسم هذا الشيء الغريب: «أدبيَّات الجغرافيا والتاريخ».

ما كلمة الأدبيات هذه؟ وكيف تكون في الجغرافيا والتاريخ؟ وقد أقبل الفتية على الدرس فلم يفهموا شيئًا؛ لأنهم لم يسمعوا شيئًا.

كان الأستاذ أغنالسيو جويدي شيخًا كبيرًا نحيف الصوت ضئيله جدًّا لا يبلغ عنه أقرب الطلاب إليه مجلسًا. وكان الطلاب كثيرين، وكانت ضآلة الصوت تغريهم بالضجيج، فضاع الدرس الأول في غير طائل بعد أن تَعِبَ الأستاذ في إلقائه، وتعب الطلاب في محاولة الاستماع له، واضطرت الجامعة إلى أن تختار من الطلاب أرفعهم صوتًا وأفصحهم نطقًا ليبلغ عن الأستاذ كما يبلغ أحد المصلين عن الإمام حين تقام الصلاة.

ولم ينفق الفتى ثلاثة أيام منذ افتتاح الجامعة حتي تغيرت حياته تغيرًا فجائيًّا كاملًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤