الفصل الثالث عشر

في الحي اللاتيني

وكان صاحبنا مقسَّم النفس بين السعادة المشرقة والشقاء المظلم في أثناء سفره هذا الطويل منذ ترك القاهرة إلى أن بلغ باريس.

كان سعيدًا لأن الغمرة قد انجلت عنه، فاتصل من إقامته في فرنسا ما انقطع، وأذن الله له في أن يتمَّ ما بدأ من الدرس، ويحاول تحقيق ما كان يداعب من الآمال، ويسمع من جديد ذلك الصوت العذب يقرأ عليه روائع الأدب الفرنسي وأوليات التاريخ اليوناني الروماني، ويعينه على درس اللاتينية.

وليس هذا كله بالشيء القليل، وبعض هذا كان جديرًا أن يُنسيه كل ما لقيَ من جهد، وكل ما احتمل من عناء، ولكنه كان يحمل في نفسه ينبوعًا من ينابيع الشقاء لا سبيل إلى أن يغيض أو ينضب إلا يوم يغيض ينبوع حياته نفسها؛ وهو هذه الآفة التي امتحن بها في أول الصبا، شَقِيَ بها صبيًّا، وشقيَ بها في أول الشباب. وأتاحت له تجاربه بين حين وحين أن يتسلَّى عنها، بل أتاحت له أن يقهرها ويقهر ما أثارت أمامه من المصاعب وأنشأت له من المشكلات، ولكنها كانت تأبى إلا أن تُظهر له بين حين وحين أنها أقوى منه، وأمضى من عزمه، وأصعب مراسًا من كل ما يفتق له ذكاؤه من حيلة.

والغريب من أمره وأمرها أنها كانت تؤذيه في دخيلة نفسه وأعماق ضميره. كانت تؤذيه سرًّا ولا تجاهره بالخصومة والكيد، لم تكن تمنعه من المضيِّ في الدرس، ولا من التقدم في التحصيل، ولا من النجح في الامتحان حين يعرض له الامتحان، وإنما كانت أشبه شيء بالشيطان الماكر المسرف في الدهاء الذي يكمن للإنسان في بعض الأحناء والأثناء بين وقت ووقت، ويخلي له الطريق يمضي فيها أمامه قُدُمًا، لا يَلوِي على شيء. ثم يخرج له فجأة من مكمنه ذاك هنا أو هناك، فيصيبه ببعض الأذى، وينثني عنه كأنه لم يعرض له بمكروه بعد أن يكون قد أصاب من قلبه موضع الحس الدقيق والشعور الرقيق، وفتح له بابًا من أبواب العذاب الخفي الأليم.

كان حين ركب السفينة لأول مرة وخرج من زيِّه ذاك الأزهري ودخل في زيِّه الأوروبي الجديد قد نسيَ شيئًا واحدًا لم يحسب له حسابًا لأنه لم يكن يخطر له ببال، نسيَ بصره ذاك المكفوف، وأجفانه تلك التي كانت تتفتح ولكن على الظلمة المظلمة.

وكان قد قرأ فيما قرأ من أحاديث أبي العلاء أنه كان يقول: إن العمى عورة. وفهم هذا كما فهمه أبو العلاء نفسه. فكان يتحرَّج في كثير من الأشياء أمام المبصرين، وكان يستخفي بطعامه وشرابه كما كان يستخفي بهما أبو العلاء حتى لا يظهر المبصرون منه على ما يثير الإشفاق والرثاء، أو السخرية.

ولم يخطر له قطُّ أن الحياة الحديثة تفرض عليه أن يستر أجفانه تلك التي لا تغني عنه شيئًا سترًا مادِّيًّا. وقد أنفق أيامه في السفينة الأولى على هذا النحو، ولكنه لم يلقَ كيدًا؛ لأنه لبث تلك الأيام قابعًا في غرفته لا يتجاوز بابها مهما تكن الظروف، إلا أن يضطر إلى ذلك اضطرارًا، فكان لا يخرج في تلك الحال إلا حين يتقدَّم الليل.

فلما بلغ مارسيليا نَبَّهه رفاقه في تلطُّفٍ أي تلطُّفٍ أن تقاليد الفرنسيين تقضي على مثله أن يضع على أجفانه تلك غطاء من زجاج أسود، واشتروا له غطاء من تلك الأغطية الزجاجية السود التي يتَّقي بها المبصرون ضوء الشمس، ولم يؤذه تنبيه الرفاق له إلى ذلك وإنما رأى فيه تجديدًا، وارتاح إليه بعض الارتياح، وكاد يُعفَى من الشقاء بعينيه المظلمتين، ثم لم يفكر في شيء من أمرهما ولا من غطائهما ذاك الأسود حتى عاد إلى مصر. وفي مصر لقيه أكبر إخوته رحمه الله، وكان مطربشًا ميالًا إلى الترف على ضيق ذات يده وضآلة مرتبه، فلما رآه أنكر غطاء عينيه وقال: إنه رخيص حقير لا يليق بمثلك.

قال الفتى: وما عليَّ أن يكون رخيصًا أو حقيرًا، فما ينبغي لمثلي أن يَزَّين بمثل هذا الغطاء.

قال أخوه: ولكن غطاءك هذا لا يزيد ثمنه على قرشين اثنين، وأنا مُهدٍ إليك خيرًا منه؛ أستر لعينيك وأليق بمكانتك بين الذين تلقاهم من الرفاق والصديق، وبين الذين تزورهم من أصحاب المكانة الظاهرة في مصر.

ثم أهدى إليه غطاء ذهبيًّا، وعزم عليه ليتخذنه مكان ذلك الغطاء الرخيص الحقير.

واستجاب الفتى لأخيه شاكرًا رفقه به وعطفه عليه، وأقام في مصر ما أقام يحمل على أنفه وأذنيه ذلك الغطاء الذهبي الذي لم يكن رخيصًا ولا حقيرًا. ولكن عودته إلى أوروبا تتقرَّر ويغدو على الجامعة ذات يوم فيُقرأ عليه كتابان، ثم يروح إلى منزله فيقرأ عليه كتاب ثالث، كان قد حمله البريد صباح ذلك اليوم، وتملأ هذه الكتب الثلاثة قلب صاحبنا غمًّا وهمًّا وبغضًا للحياة وضيقًا من الناس، وتلقي على نفسه ووجهه غشاء صفيقًا من الكآبة ينكره الرفاق.

وينكره علوي باشا رحمه الله حين يراه وهو يركب القطار، ويرى على وجهه هذا الغشاء الكئيب، فيهمس في أذنه: مالي أراك محزونًا كئيبًا، وقد كنت أقدِّر أن أراك اليوم أشد ما تكون ابتهاجًا وإشراقًا، ألا يسرُّك أن تعود إلى فرنسا؟

ولم يجب الفتى، ولكن دمعتين تنحدران على خديه.

وإذا علوي باشا يضمُّه إليه، ويُقبِّل جبهته قبلة ملؤها الحنان والبر لم ينسها قط.

ثم يهمس في أذنه: أقسم لك يا بُني ما عاد صديقك هذا — يريد الدرعميَّ — إلى فرنسا إلا من أجلك … ثق بالله ولا تخف شيئًا!

ويمضي القطار وقد سكت البكاء عن الفتى، ولكن هذه الكتب الثلاثة لم تسكت عنه، وإنما رافقته في أثناء سفره كله ملحَّة عليه بالعذاب، حتى لكانت جديرة أن تبغض إليه نفسه لولا ذلك الصوت العذب كان يناجيه بين حين وحين، فيردُّ إلى نفسه المروَّعة شيئًا من أمن، وإلى قلبه اليائس شيئًا من أمل.

كان أول هذه الكتب الثلاثة من علوي باشا إلى أكبر إخوته ذاك المطربش ينبئه فيه بأن الظروف المالية للجامعة قد فرضت عليها أن تردَّ بعثتها إلى مصر كارهةً، وأنه حريص أشد الحرص على أن يتم أخوه درسه؛ لأنه يتوسم فيه خيرًا، ويكره أن يعود قبل أن يحقق أمله من السفر إلى فرنسا، ويقترح عليه أن ترسل الأسرة نصف المرتب الذي كانت الجامعة تمنحه للفتى، ويتبرع هو بالنصف الآخر حتى يبلغ الفتى أَرَبَه، ويعود وقد ظفر بالدرجات الجامعية الفرنسية، ويصبح أستاذًا في الجامعة.

وكان هذا الكتاب جديرًا أن يملأ قلب الفتى سرورًا ورضًا وشكرًا لعلوي باشا، ذلك الذي كان الناس يكثرون الحديث عن حرصه على المال وإشفاقه من إنفاقه في غير موضعه، وهو يتبرع بمقدار من المال في كل شهر ليعين هذا الفتى المكفوف على أن يبلغ من الدرس في أوروبا ما كان يريد.

نعم، كان هذا الكتاب جديرًا أن يملأ قلب الفتى سرورًا وبشرًا وشكرًا لذلك الرجل الكريم النبيل، ولكن ردَّ أخيه على هذا الكتاب محا من قلبه كل سرور وكل بشر، وإن لم يمحُ منه الشكر الدائم والاعتراف بالفضل والجميل لذلك الرجل الكريم. كان رد أخيه بَشِعًا حقًّا؛ كان يشكر فيه للباشا فضله وكرمه، ويعتذر فيه عن الأسرة بأنها فقيرة لا تستطيع أن تستجيب لما تُراد عليه، فمرتبه هو ضئيل لا يبلغ العشرين جنيهًا، وله بنون ينفق عليهم. ووالده شيخ يعمل على تقدُّم سنه، ويتقاضى مرتبًا لا يزيد على مرتبه هو إلا قليلًا، وله بنون آخرون ينفق على تعليمهم في المدارس، وكم كانت الأسرة تتمنى أن تعين هذا المسكين على أن يتم درسه لو وجدت إلى ذلك سبيلًا! وهي تطلب إلى الباشا أن يستعين بالسلطان على تعليم هذا البائس، فإن لم يجد إلى ذلك سبيلًا فليردَّه إلى مصر وليستبقِ رعايته له وعطفه عليه.

وكذلك رأى الفتى رجلًا غريبًا مستعدًّا للقيام ببعض نفقته في أوروبا، وأخًا قريبًا كارهًا لبعض ما يطلب إليه من ذلك. والغريب أنه لم ينبئ بأمر هذا التبرع من علوي باشا أباه ولا أخاه الشيخ، وإنما كتم القصة عن الأسرة كلها، وكان له رحمه الله عذره في هذا الكتمان؛ فقد كان أبوه يرسل إليه بين حين وحين جنيهاتٍ تبلغ العشرة مرة، وتزيد عليها مرة أخرى، ويكلفه أن يرسلها إلى أخويه في أوروبا معونةً لهما على الحياة، فكان يتلقَّى هذه الجنيهات، فإذا استقرَّت في يده لم يسهل عليه إرسالها إلى أوروبا، وإنما أنفقها في بعض شأنه هو.

أما الكتاب الثالث: فكان من أكبر إخوته ذاك يودِّعه ويتمنَّى له النُّجح والتوفيق، ويسترد غطاء عينيه الذهبي؛ لأنه كان شديد الحاجة إليه.

وما أيسر ما ردَّ الفتى ذلك الغطاء الذهبي، وعاد إلى غطائه ذاك الرخيص الحقير الذي لم يكن ثمنه يزيد على قرشين اثنين. ولكن كتاب أخيه في أمر ذلك الغطاء قد أضاف إلى حزنه حزنًا، وإلى ألمه ألمًا. وعاد إلى فرنسا سعيدًا محبورًا، ولكنه مع ذلك كان مزوَّدًا بمقدار من الشقاء غير قليل.

ولم ينسَ صاحبنا قط أنه أُجلس في مكانه من القطار حين بلغ روما وقد انتصف الليل، فلم يبرح مكانه ذاك إلى جانب النافذة إلا حين بلغ القطارُ باريس بعد ثلاثين ساعة كاملة لم يتحرك، وإنما كان أشبه بمتاع قد أُلقي في ذلك الموضع، وانتظر حتى يبلغ القطار غايته لينقل إلى موضع آخر. لم يتحرك، وكان أشبه شيء بالمتاع، ولكنه كان متاعًا مفكرًا، يفكر مرة فيما حفظ من قول أبي العلاء: إن العمى عورة، وقد فهمه الآن على وجهه وهو يرفع يده بين حين وحين ليتحقق من أن ذلك الغطاء الرخيص الحقير ما زال يستر عينيه اللتين كان يجب أن تسترا.

ويفكر مرة أخرى في الفقر والغنى، وفي الذين لا يعرفون كيف ينفقون ما يتاح لهم من المال، فيكدسونه أكداسًا أو ينثرونه نثرًا فيما لا يجدي عليهم ولا على غيرهم شيئًا. والذين لا يجدون ما ينفقون ليقيموا أودهم ويستروا جسمهم ويستروا عورة العمى حين تفرض عليهم آفته. وفي الذين تسمو هممهم إلى أكثر من إقامة الأود وستر الجسم وتغطية العينين المظلمتين إلى الاغتراب في طلب العلم، ثم لا يجدون أيسر ما يحتاجون إليه في ذلك؛ يبخل عليهم القادرون ويبخل عليهم الأقربون، ويهمُّ بالإحسان إليهم بعض الأخيار فيردُّون عن ذلك ردًّا.

ويفكر مرة ثالثة في ذلك الصوت العذب الذي كان ربما ألمَّ به بين حين وحين مواسيًا له مترفقًا به، قارئًا عليه هذا الفصل أو ذاك من هذا الكتاب الفرنسي أو ذاك، منبئًا له بين ذلك بأنه ينتظره في باريس ليقرأ عليه، وما أكثر ما سيقرأ عليه!

لبث في مكانه ذاك لم يبرحه ثلاثين ساعة كاملة، يعرض الرفاق عليه الطعام حين يأتي موعده فيردُّه في رفقٍ ولكن في تصميم، ويعرض عليه الرفاق الشراب بين وقت ووقت فيرده في رفق وفي تصميمٍ أيضًا. ويريد الرفاق أن يراجعوه في ذلك فيجدون منه إعراضًا وصمتًا، حتى ظنوا به الظنون، وحتى يقول له رفيقه الدرعميُّ: ما رأيت كاليوم رجلًا لا يخاف البحر على هوله وعلى ما كان يُذكر من أمر الغواصات، فإذا ركب القطار امتلأ قلبه رعبًا ورَغِبَ حتى عن الطعام والشراب. أشجاعة حين كان يستحب الجبن، وجبن حين يصبح الجبان مثيرًا للهزء والسخرية؟ ما الذي تخاف من القطار؟ إن قطار أوروبا كقطار مصر لا فرق بينهما، ألم تأكل قط حين ركبت القطار في مصر؟

ثم ينصرف عن هذا الحديث إلى غنائه ذاك الذي كان يتغنى به أمام بعض الفتيات الفرنسيات، فيرضَيْن عنه أشد الرضا، ويُعجبن به أشد الإعجاب، ولا يَلْقَيْنَه إلا تمنَّين عليه أن يعيد عليهن غناءه ذاك، وكنَّ يسمينه «أعرابي»، فيقلن له في إلحاحٍ: غنِّ لنا «أعرابي»!

يلغين العين ويلثغن بالراء ويقصرن الألف وبين الباء، ويرتاح صاحبنا إلى إلحاحهن فيندفع في غنائه على نحو ما يصنع بعض المنشدين في الأذكار:

ياربِّ صَلِّ على الهادي
واغفِرْ ما أنتَ بهِ أعلمْ
أعرابي جاء إلى الهادِي
معه ضبٌّ لا يتكلَّم

يوقع هذا الغناء على نغم مرقّص، وكان الفتى لا يسمعه إلا أغرق في ضحك متصل، وكان ربما تمنَّى عليه بين حين وحين أن يغني له أعرابي، ينطقها كما ينطق بها الفتيات الفرنسيات. ولكنه في ذلك القطار لم ينشط حتى لهذا الغناء، واستيأس منه صديقه الدرعميُّ، فخلَّى بينه وبين ما أحب من السكون والصمت. وأعرض عنه كما كان يعرض عن متاعه، يرمقه بين حين وحين ليأمن عليه من السرقة والضياع، ولكنه لا يتحدث إليه ولا يعرض عليه شيئًا، حتى إذا بلغ القطار باريس في أول الضحى أقبل على الفتى متضاحكًا وهو يقول: سننقل المتاع الصامت الهامد أولًا، ثم ننقل المتاع الحيَّ الناطق بعد ذلك!

وأسلم الأمتعة إلى الحمَّالين ثم أقبل على الفتى كأنه يريد أن يحمله، ولكن الفتى نهض ومضى معه كأنه لم يسكن ثلاثين ساعة كاملة.

وبعد قليل كان الفتى في غرفة جميلة رائعة بفندق من فنادق الحي اللاتيني، ولم يكد يستقر في غرفته حتى أصلح من شأنه، وتهيَّأ لاستقبال شخص طالما نازعته نفسه إلى لقائه منذ شهور، وطالما أشفق من ألا يلقاه أبدًا.

ويطرق الباب طرقًا رفيقًا في آخر الضحى، فإذا أذن بالدخول دخل عليه شخصان لم يكد يسمع صوت أحدهما حتى انجلى عنه حزنه، وانجاب عنه يأسه، وانصرف عنه الهمُّ، كأنه يستأنف حياة جديدة لم يحيها من قبل، ولم لا؟ لقد بدأ منذ ذلك اليوم حياة ليس بينها وبين حياته الأولى سبب أو صلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤