الفصل الخامس عشر

المرأة التي أَبْصَرْتُ بعينيها!

واستأنف الفتى حياة جديدة، بأوسع معاني هذه الكلمة وأعمقها! كان يرى نفسه في كلمة أبي العلاء حين قال: إنه إنسيُّ الولادة، وحشيُّ الغريزة.

كان يرى نفسه إنسانًا من الناس ولد كما يولدون، وعاش كما يعيشون، مقسم الوقت والنشاط فيما يقسمون فيه وقتهم ونشاطهم. ولكنه لم يكن يأنس إلى أحد، ولم يكن يطمئن إلى شيء، قد ضُرب بينه وبين الناس والأشياء حجاب ظاهره الرضا والأمن، وباطنه من قِبَلِه السخط والخوف والقلق واضطراب النفس، في صحراء موحشة لا تحدُّها الحدود، ولا تقوم فيها الأعلام، ولا يتبيَّن فيها طريقه التي يمكن أن يسلكها، وغايته التي يمكن أن ينتهي إليها.

ولكنه ينظر ذات يوم فإذا هو قد أخذ يتخفَّف قليلًا قليلًا من غريزته تلك الوحشية القلقة، ويحسُّ شيئًا من الأنس الرفيق إلى بعض الناس، ثم يحسُّ هذا الأنسَ يقوَى في نفسه من يوم إلى يوم، وإذا هو لا يطمئن إلى ذلك الشخص الحبيب إليه الكريم عليه، وإنما يطمئن إلى غيره من الناس أيضًا.

كان يرى نفسه غريبًا أينما كان وحيثما حلَّ، لا يكاد يفرق في ذلك بين وطنه الذي نشأ فيه، وبين غيره من الأوطان الأجنبية التي كان يلمُّ بها؛ لأن ذلك الحجاب الصفيق البغيض الذي ضُرب بينه وبين الدنيا منذ أول الصبا كان محيطًا به، يأخذه من جميع أقطاره في كل مكان، فكان الناس بالقياس إليه هم الناس الذين يسمع أصواتهم، ويحس بعض حركاتهم، ولكنه لا يراهم ولا ينفذ إلى ما وراء هذه الأصوات التي كان يسمعها والحركات التي كان يحسها.

كان غريبًا في وطنه، وكان غريبًا في فرنسا، وكان يرى أن ما يصل إليه من حياة الناس ليس إلا ظواهر لا تكاد تغني عنه شيئًا.

وكانت الطبيعة بالقياس إليه كلمة يسمعها ولا يعقلها، ولا يحقِّق من أمرها شيئًا، كأنما أُغلق من دونها بالقياس إليه باب لا سبيل له إلى النفوذ منه. كان ينكر الناس وينكر الأشياء، وكان كثيرًا ما ينكر نفسه ويشك في وجوده!

كانت حياته شيئًا ضئيلًا نحيلًا رقيقًا لا يكاد يبلغ نفسه. وكان ربما تساءل بين حين وحين عن هذا الشخص الذي كان يحسه مفكرًا مضطربًا في ضروب من النشاط ما هو؟ وما عسى أن يكون؟ وكان ذلك ربما أذهله عن نفسه وقتًا يقصر أو يطول، فإذا ثاب إليها أو ثابت إليه أشفق من هذا الذهول وظن بعقله الظنون، وتساءل: أيجد الناس من الذهول عن أنفسهم مثل ما يجد، ويحسون من إنكار أنفسهم مثل ما يحسُّ؟!

كانت حياته حَيرةً متصلة كلما خلا إلى نفسه، وكان لا يملك أمره إلا حين كان يتحدَّث إلى الناس أو يسمع لهم أو يختلف إلى الدروس، أو يُصغي لما كان يُقرأ عليه. فأخذ كل هذا ينجاب عنه وأخذ يدخل في الحياة كأنه لم يعرفها من قبل، وكان ذلك الشخص الحبيب إليه الكريم عليه هو الذي أخرجه من عزلته تلك المنكرة، فألغى في رفق وفي جهد متصل أيضًا ما كان مضروبًا بينه وبين الحياة والأحياء والأشياء من الحجب والأستار!

كان يحدِّثه عن الناس فيُلقي في رُوعِه أنه يراهم وينفذ إلى أعماقهم، وكان يحدِّثه عن الطبيعة فيشعره بها شعور من يعرفها من قرب.

كان يحدِّثه عن الشمس حين تملأ الأرضَ نورًا، وعن الليل حين يملأ الأرضَ ظلمة، وعن مصابيح السماء حين ترسل سهامها المضيئة إلى الأرض، وعن الجبال حين تتخذ من الجليد تيجانها الناصعة، وعن الشجر حين ينشر من حوله الظلَّ والروح والجمال، وعن الأنهار حين تجري عنيفة، والجداول حين تسعى رشيقة، وعن غير ذلك من مظاهر الجمال والروعة ومن مظاهر القبح والبشاعة فيمن كان يحيط به من الناس، وفيما كان يحيط به من الأشياء.

فكان يخيَّل إليه أنه يكشف له عن حقائق كانت مستخفيةً عليه، ولم تكن غريبة بالقياس إليه، كأنه قد عرفها في الزمان الأول البعيد، ثم نسيها دهرًا طويلًا، فهو يذكرها بعد أن طال عهده بها.

وكذلك أخذت تثوب إليه ثقته بنفسه وراحته إلى غيره، وأخذ ينجلي عنه الشعور بالغربة، والضيق بالوحدة والسأم من العزلة. وليس من شك في أنه قد صدق كلَّ الصدق وأعرب عن ذات نفسه في غير تكثر ولا غلو حين قال في بعض ما كتب إن فتاته تلك قد جعلت شقاءه سعادة، وضيقه سعة وبؤسه نعيمًا وظلمته نورًا.

ولم ينفقِ الفتى وصاحبته صيفهما ذاك فيما تعود الفتيان المحبون أن ينفقوا فيه أيام حبهم الأولى من تلك الحياة الهائمة التي تخلص من المشقة وتتخفَّف من الجهد وتفرغ لرضا النفوس وغبطة القلوب والذَّهاب مع الخيال الهائم في كل مذهب.

وإنما عرفا أن وقتهما أضيق من الفراغ للحب ونعيمه، فوقت الفتى في فرنسا محدود، وعليه واجبات يجب أن تؤدَّى، وله مهمة يجب أن تتم، وهو مسئول عن هذا كله أمام جامعة في مصر لا تعرف السماح ولا المزاح مع الذين ترسلهم إلى أوروبا ليطلبوا العلم فيها.

ولها الحق كل الحق في ذلك، فهي إنما ترسلهم إلى أوروبا ليتعلموا لا ليحبوا، وليجدُّوا في طلب العلم لا ليتعلقوا بأسباب الخيال.

وما أكثر ما ذكر الفتى أشهر الصيف تلك في أقصى الجنوب الفرنسي، وما جاء بعدها من الشهور في باريس، فرضي عن صاحبته وعن نفسه رضًا لا تشوبه شائبة من سخطٍ أو إنكار.

وانظر إلى فتاة وفتى في أول عهدهما بالخِطبة ينفقان أكثر النهار في درس اللاتينية حين يصبحان، وفي قراءة الترجمة الفرنسية لمقدمة ابن خلدون حين يرتفع الضحى.

فإذا جاء وقت الغداء ألمَّا بالمائدة فأصابا شيئًا من طعامٍ، ثم أقبلا على تاريخ اليونان والرومان فقرأا منه ما شاء الله أن يقرأا.

فإذا كانت الساعة الخامسة انصرفا عن تاريخ اليونان والرومان إلى الأدب الفرنسي فقرأا منه ما شاء الله أن يقرأا كذلك، لا ينصرفان عن القراءة إلا ريثما يخرجان للتروض خارج القرية التي يعيشان فيها، ينفقان في تروضهما ذاك ساعة أو أقل من ساعة، ثم يعودان إلى المائدة فيصيبان شيئًا من طعام ثم تجتمع الأسرة كلها إلى كتابٍ يقرؤه عليها ذلك الصوت العذب.

حتى إذا تقدم الليل شيئًا تفرقت الجماعة، وأوى كل واحد منها إلى غرفته، وخلا صاحبنا إلى نفسه يذكر ماضيه الغريب، وينعم بحاضره السعيد، ويفكر في مستقبله المجهول.

ينفق في ذلك أكثر الليل مؤرقًا لا يكره الأرق ولا يدعو النوم. ولكن النوم يغلبه على أمره من آخر الليل، فإذا أسفر له الصبح استقبل يومه آخذًا في الدرس كما فعل من أمس.

وعلى هذا النحو أنفق الأشهر الأولى لخِطبته، ثم يعود مع الأسرة إلى باريس فيستأنف فيها حياته الجامعية مختلفًا إلى السوربون حين يصبح وحين يمسي، خاليًا إلى قارئته بين ذلك وإلى أستاذ الفرنسية يومًا وأستاذ اللاتينية يومًا آخر، مقدرًا عسر المهمة التي تكلفها وبعد الغاية التي يسعى إليها.

وكان قد أزمع أن يظفر قبل كل شيء بدرجة الليسانس ثم يتقدَّم لدرجة الدكتوراه بعد ذلك، ولم يكن الطلاب المصريون إلى ذلك الوقت يحاولون الظفر بدرجة الليسانس هذه؛ لأنها كانت تكلف الذين يطلبونها عناءً ثقيلًا … كانت تكلفهم إتقان الفرنسية أولًا ليؤدُّوا الامتحان التحريريَّ فيما يدرسونه من العلم، وليؤدوه كما يؤديه الطلاب الفرنسيون، يكتبون ما يرادون على كتابته في لغة فرنسية مستقيمة لا عوج فيها ولا خطأ. وكانت تكلفهم درس اللاتينية ليؤدُّوا فيها امتحانًا تحريريًّا كذلك.

ولم تكن اللاتينية تدرس في مصر لا في المدارس الثانوية ولا في المدارس العالية.

فكان المصريون يروْن أنهم لن يستطيعوا مجاراة زملائهم من الطلاب الفرنسيين في هذه اللغة التي لم يسمعوا بها قبل وصولهم إلى فرنسا، على حين كان الطلاب الفرنسيون يدرسونها ست سنين في مدارسهم الثانوية، ثم يدرسونها في الجامعة قبل أن يتقدموا لامتحان الليسانس.

من أجل ذلك كان المصريون يعرضون عن درسها إعراضًا لا تكلف فيه، ويعرضون بالطبع عن درجة الليسانس التي لا سبيل إليها من غير هذه اللغة.

وكان ثلاثة من المصريين قد أزمعوا أن يقهروا هذه الصعوبة، ويقتحموا هذه العقبة، ويدرسوا اللغة اللاتينية، ويظفروا بدرجة الليسانس مهما يكلفهم ذلك من الجهد والعناء. فأما أحدهم: فقد جدَّ وكدَّ وتقدم للامتحان فأخفق، ثم أخذ يستعد ليؤدي الامتحان في العام المقبل، ولكن الأسباب تقطعت بينه وبين ذلك؛ أدركته العلة فاضطرب أمره، واختلط عقله، وردّ إلى مصر فأنفق فيها أيامًا كئيبة يائسة، فاستأثرت به رحمة الله فأراحته من أثقال الحياة.

وأما الآخر: فكان الأستاذ الدكتور صبري السوربوني.

وقد جدَّ وكدَّ وتقدَّم للامتحان مرة ومرة، ولكن عقدة اللاتينية أدركته، فكان إذا أقبل على الامتحان وتلقَّى النص اللاتينيَّ الذي يجب أن يترجمه إلى الفرنسية ألقى عليه نظرة سريعة، ثم طواه وقدَّم إلى الممتحنين صفحة بيضاء لم يمسها خطأ أو صواب. وانصرف ضاحكًا يتمثَّل ببيتٍ لاتينيٍّ قديم يصور اليأس والقنوط، ولكنه لم يعرف يأسًا ولا قنوطًا، ولم يذعن لعقبة أو صعوبة، وإنما حاول وطاول وألحَّ في المحاولة والمطاولة حتى تقدَّم للامتحان ذات يوم وتلقَّى النصَّ اللاتينيَّ فلم ينظر فيه نظرة سريعة، وإنما أقبل عليه فترجمه وقدَّم إلى الممتحنين صحفًا أتاحت له الفوز والنُّجْحَ.

وكان صاحبنا ثالث هذيْن الزميلين، وكان قد عرف من أمر صاحبيه ما يحتملان من مشقة وما يبذلان من جهد، وما يلقيان من إخفاق، فلم يفلَّ ذلك من عزمه، وإنما مضى في درس اللاتينية في بيته وفي السوربون مصممًا على أن يظفر بهذه الدرجة مهما يكن دونها من العقاب.

ولكن مشكلة خطيرة عرضت له، وكانت خليقةً أن تفسد عليه أمره كله، ولم يكن بينها وبين الدرس صلة، فهو قد خطب تلك الفتاة إلى نفسها وإلى أسرتها، وقد قبلت الفتاة خطبته بعد تردُّد طويل، وقبلتها الأسرة بعد امتناعٍ وإباء، ولكن صاحبنا لم ينسَ إلا شيئًا واحدًا، وهو أنه قد أعطى الجامعة قبل أن يسافر إلى أوروبا ذلك العهد الذي كان يعطيه أعضاء البعثة جميعًا قبل سفرهم ألا يتزوج في أثناء إقامته في الخارج طالبًا للعلم.

وهو لم ينقض هذا العهد؛ لأنه خطب ولم يتزوج ولكنه عَجِلٌ إلى الزواج، فليس له بدٌّ إذن من استئذان الجامعة أو نقض العهد الذي أعطاه لها، وقد أزمع أن يستأذنها، وكتب إليها في ذلك، ولكنه كان يطيل التفكير في عواقب هذا الكتاب، كان يرجِّح ألا تأذن له الجامعة، وكان يسأل نفسه فيطيل السؤال عمَّا يكون من أمره إن رفضت الجامعة الإذن له فيما يريد.

وكان ذلك ربما نغَّص عليه حياته من حين إلى حين، ولكن الجامعة كانت أرأف به وأرحم له مما قدَّر، فأذنت له بعد خطوبٍ لم يعرفها إلا بعد أن أتم درسه وعاد إلى مصر. أذنت له الجامعة إذن، ولكنه هو لم يأذن لنفسه ولم تأذن له الفتاة حتى يظفر بدرجة الليسانس هذه التي لم يظفر بها مصري بعد، وحتى يشعر الجامعة بأنه صاحب جدٍّ ونشاط وإنتاج لا صاحب لعب وكسل واشتغال بنفسه عما يجب عليه من الدرس والتحصيل.

والغريب من أمر صاحبنا أنه لم يكن في ذلك العام يتهيَّأ لامتحان الليسانس وحده، وإنما كان في الوقت نفسه يعدُّ رسالته للدكتوراه، وقد زاده إِذْنُ الجامعة له بالزواج جِدًّا وكدًّا ونشاطًا، حتى كان العام الأول لخطبته غريبًا حقًّا، كلَّف فيه نفسه وخطيبته من الأمر أعسره وأشده مشقة.

ولم ينسَ الفتى قط ولم تنسَ صاحبته، أنهما كانا يخرجان بين حين وحين في أيام الآحاد من باريس يطلبان النزهة والتروض، فلم يخرجا قط وحدهما وإنما صحبهما دائمًا كتاب من هذه الكتب الثقال التي ترهق القارئين فيها من أمرهم عسرًا؛ والذين يعرفون كتب أوجست كونت ويقدرون ما فيها من العسر الذي يتصل بمعانيها وألفاظها وأسلوبها، يرحمون هذين الخطيبين اللذين كانا يختلفان إلى هذه الغابة أو تلك من الغابات التي تحيط بباريس، فيأويان إلى ظل شجرة من أشجارها ويأخذان في هذه القراءة العسيرة الشاقة المرهقة التي لم يكن بينها وبين ما كان يملأ قلبيهما من الحب والأمل سبب قريب أو بعيد.

وقد أقبلت بوادر الصيف من ذلك العام وجعل الفتى يستعد للامتحان، ثم دفع إليه في شهر يونيو فلم يتردد ولم يتلكأ، وإنما أقدم في عنادٍ أيِّ عناد، لم يكن واثقًا بنفسه ولا مطمئنًّا إلى نتيجة هذه المغامرة التي يقدم عليها، ولكنه كان يقول لنفسه إن أتيح لى النُّجح فرمية من غير رامٍ، وإن كُتب عليَّ الإخفاق فما أكثر الذين يخفقون!

وكان مزمعًا إن ظفر بالنجح أن يبرق به إلى الجامعة، وإن كتب عليه الإخفاق أن يكتمه ويجعله سرًّا بينه وبين نفسه إن أمكن أن يكتم الإخفاق في الامتحان، ومن حوله زملاؤه المصريون يرقبونه رفاقًا به مشجعين له عاطفين عليه.

وقد أتيح له النجح … وكان الأستاذ الدكتور صبري السوربوني هو الذي أقبل ذات مساء فرحًا يكاد يخرجه الفرح عن طوره، مكدودًا يقطع الإعياء تنفُّسه لشدة ما جرى بين السوربون وبين بيت الفتى، ولشدة ما أسرع في صعود السلم إلى بيت الفتى في الطبقة السادسة، فلم يكد يفتح له الباب حتى أعلن لمن فتحه له أن زميله قد ظفر بدرجة الليسانس، ولم يدخل وإنما رجع أدراجه ولم يُرِدْ أن يستريح.

وكان الزميل الكريم قد تقدم للامتحان، ولم يكن ينظر في النص اللاتيني حتى طواه وقدم صحفه البيضاء ضاحكًا متمثلًا ببيته اللاتيني ذاك الذي يصور اليأس والقنوط، فكان رائعًا حقًّا أن يكون ابتهاجه بفوز زميله بهذه الدرجة العسيرة أملك له وأشد استئثارًا به من إخفاقه هو في الامتحان!

وألقى نبأ النجح إلى الفتى، فلم يصدقه حتى صحبته خطيبته إلى السوربون وقرأت له اسمه بين أسماء الناجحين، ثم لم تعد به إلى البيت حتى حجزت أمكنة للأسرة كلها في بيت موليير تكافئ بذلك صديقها وخطيبها على هذا النجح الذي لم يكن مرتقبًا.

وأصبح الفتى من غده فأبرق إلى الجامعة، ولم يمضِ يومان حتى أبرقت إليه الجامعة تهنئه وترسل إليه مكافأة قدرها عشرون جنيهًا.

في ذلك اليوم قرر الخطيبان أن يتما زواجهما قبل رحلة الصيف إلى الجنوب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤