الفصل السادس عشر

طلب تأجيل الامتحان للزواج!

وكان أمر الفتى في عامه الدراسي ذاك عجبًا كله، فهو لم يتهيَّأ لامتحان الليسانس وحده على ما فيه من عسرٍ ومشقةٍ، وإنما جعل يعدُّ رسالته للدكتوراه عن فلسفة ابن خلدون الاجتماعية. فقرأ لذلك ما شاء الله أن يقرأ في اللغتين العربية والفرنسية، وترجمت له نصوص أخرى من لغات أوروبية مختلفة، ثم أخذ في إملاء رسالته، يقول هو وتكتب صاحبته، وتقوِّم في أثناء ذلك ما يعوج من لغته الفرنسية. ولا يكاد يفرغ من إملاء فصل من فصول هذه الرسالة حتى يعيد قراءته، ثم يعرضه على أستاذه المستشرق الفرنسي كازانوفا، فإذا أقرَّه أخذ في إملاء الفصل الذي يليه. ولم تكن الجامعة قد فرضت عليه هذه الرسالة، بل لم يكن بين هذه الرسالة وبين برنامجه الدراسي سبب؛ فهو قد أرسل ليدرس التاريخ، وكُلِّفَ الحصول على درجة الليسانس، وتطوع هو بهذه الرسالة لأنه سمع دروس الاجتماع التي كان يلقيها الأستاذ دوركيم، فشغف بهذا العلم أيَّ شغف، وأراد أن تكون له مشاركة فيه، وأن يشرف الأستاذ على هذه المشاركة. فاتفق معه على موضوع الرسالة، وعلى أن يكون هو مشرفًا عليها من الناحية الفلسفية، وأن يشاركه في الإشراف مستشرق يحسن العلم بالشئون العربية والإسلامية، فكان كل فصل من هذه الرسالة يقرؤه أستاذان؛ يقرؤه الأستاذ المستشرق أولًا، ثم يقرؤه الأستاذ دوركيم بعد ذلك.

ولما استقام أمر هذه الرسالة للفتى كتب إلى الجامعة ينبئها بما صمم عليه، وبأن هذا لن يغير من برنامجه المرسوم شيئًا، بل ينبئها بأنه يزمع أن يضيف إلى هذا البرنامج المرسوم شيئًا آخر: يريد — إن ظفر بالليسانس — أن يظفر بالإجازة التي تليه، وهي دبلوم الدراسات العليا. واستأذن الجامعة في أن يتهيَّأ لنيل درجة دكتوراه الدولة في التاريخ، على أن ذلك يستلزم أن تمتد إقامته في أوروبا أربعة أعوام بعد حصوله على الليسانس والدبلوم.

فكتبت إليه الجامعة تأذن له بنيل الدبلوم إن استطاع بعد الليسانس، وتعفيه من دكتوراه الدولة في التاريخ؛ لأنها تطيل إقامته في أوروبا وتكلف الجامعة من النفقات أكثر مما تطيق.

ثم أذنت له بتقديم رسالته عن ابن خلدون لنيل دكتوراه الجامعة، وذكرته بالعهد الذي قطعه على نفسه قبل أن يسافر من مصر وهو: ألا يقدم رسالة إلى جامعة أجنبية مهما يكن موضوعها إلا بعد أن تقرأها الجامعة المصرية وتأذن في تقديمها، وكان الصديق الكريم الدكتور منصور فهمي هو الذي اضطر الجامعة إلى أن تأخذ طلابها في أوروبا بأن يعطوا على أنفسهم هذا العهد.

والناس لم ينسَوا بعدُ ما أثارت رسالة الدكتور منصور التي حصل بها على الدكتوراه من ضجيج وعجيج أثارا سخط الهيئات الرسمية أولًا، وسخط الرأي العام بعد ذلك. واضطر الصديق الكريم إلى أن ينأى عن مصر قريبًا من عام، ولا يعود إليها إلا حين اضطرته الحرب إلى أن يعود، وحيل بينه وبين التعليم في الجامعة أعوامًا، حتى إذا كانت الحركة المصرية سنة تسع عشرة وتسعمائة وألف، وما نشأ عنها من الأحداث ومن تحرر العقول، أُذِن له بما كان ينبغي أن يؤذن له فيه منذ أتم درسه في فرنسا، وكان ثروت باشا رحمه الله هو الذي أذن له في ذلك.

ولم ينسَ الفتى مساء يوم من الأيام جلس فيه بين زملائه إلى بعض الأساتذة في الجامعة حين كان طالبًا، وإنه لمصغٍ إلى الأستاذ وإذا يدٌ تمسُّه مسًّا رفيقًا ثم تحاول إقامته مكانه، فيلتفت فينبئه صوت بأن الذي يريد أن يقيمه هو علوي باشا، فيستجيب الفتى لهذه اليد وهو يشفق في نفسه من بعض الشر، فهو قد أُقيم مرة من درسه في الأزهر مع صاحبين له ليقدما للمحاكمة أمام شيخه الأكبر الشيخ حسونة رحمه الله. وقد سأل الفتى إلى من سيقدم، وفيم يمكن أن يحاكم هذه المرة، ورأى الفتى نفسه قد أُجلس على كرسيٍّ وقيل له: إنك أمام مجلس إدارة الجامعة، وإن المجلس يريد أن يسألك عن بعض الأمر، وإذا صوت رقيق يتحدث إليه في رفق، فينبئه أولًا باسمه: عبد الخالق ثروت، ويسأله بعد ذلك عن حكم الدين في أشياء تليت عليه من رسالة لطالب من طلاب الجامعة في أوروبا.

قال الفتى: فإنه لا يملك الإفتاء في أمور الدين.

قال محدثه: فإنا نريد أن نعرف رأيك.

قال الفتى وهو يبسُم في شيء من غضبٍ ساخرٍ: كنت أظن أنني في الجامعة حيث لا يحاسب الناس على آرائهم، فإذا أنا أُراني في الأزهر لا أسأل عن رأي نفسي وإنما أستفتى في رأي غيري من الناس.

قال صوتٌ غليظٌ: رده يا علوي باشا إلى درسه فلن نأخذ منه شيئًا.

ورُدَّ الفتى إلى درسه لم يصحبه في عودته علوي باشا وإنما صحبه خادم من خدم الجامعة.

ومنذ أثار الدكتور منصور ذلك الضجيج أقامت الجامعة نفسها رقيبًا على رسائل طلابها، وأخذت عليهم العهد ألا يقدموا رسائلهم إلى الجامعات الأجنبية حتى تأذن لهم هي في ذلك بعد أن تقرأ الرسائل وتقرَّها. فلما استأذنها الفتى في تقديم رسالة عن ابن خلدون ذكرته بعهده ذاك، فوفَّى به وأرسل نسخة من الرسالة بعد أن أتمها، وأحالها مجلس الإدارة إلى الأستاذ أحمد لطفي السيد فقرأها ورضي عنها، وأذنت الجامعة في تقديمها إلى السوربون.

ولم ينقضِ شهر يوليو من ذلك العام حتى كان الفتى قد نجح في الليسانس من جهة، وأذنت له السوربون في طبع رسالته توطئة لمناقشتها بعد الصيف.

وقد تخفف الفتى من عبئين ثقيلين؛ عبء الليسانس وما فيه من امتحان اللغة اللاتينية، وعبء الرسالة وما فيها من رقابة الجامعة والإذن في تقديمها. على أن فوزه بالليسانس لم يكن كاملًا، فهو قد نجح في الامتحان التحريري نجاحًا حسنًا، ولكنه كان قد شق على نفسه بالاستعداد لهذا الامتحان وكتابة الرسالة، وهو بعد ذلك مشغول متصل التفكير في زواجه الذي أذنت به الجامعة والذي كان يجب أن يتم في ذلك الصيف.

فخادع الفتى نفسه شيئًا، وقرر أن يرجئ الامتحان الشفهي إلى الدور الثاني في أول العام الدراسي، وما هي إلا أن يعرض نفسه على طبيب فيشهد كتابة بأنه مكدود الأعصاب محتاج إلى الراحة، ويقدم هذه الشهادة إلى السوربون فتؤجل ما بقي من امتحانه إلى شهر نوفمبر، ويفرغ الفتى لنفسه وخطيبته، وما كان يعنيهما من أمر الزواج.

فإذا كان اليوم التاسع من أغسطس من ذلك العام، أصبحا زوجين حين انتصف النهار، وتركا باريس إلى الجنوب حين أقبل الليل، ولم يفرغا مع ذلك لحياتهما الجديدة في أثناء الصيف، وإنما استقرا في مدينة هادئة من مدن الجنوب، وأقبلا فور استقرارهما على ما لم يكن بدٌّ من الإقبال عليه وهو الاستعداد للامتحان الذي يجب أن يؤدى بعد شهرين.

وكان الاستعداد عسيرًا حقًّا، فلم يكن بدٌّ لطالب الليسانس في التاريخ من أن يكون مستعدًّا بعد نجاحه في الامتحان التحريري لأن يسأل فيما يريد الأساتذة أن يسألوه فيه من تاريخ العصور القديمة، وتاريخ القرون الوسطى، والتاريخ الحديث، والتاريخ المعاصر، والجغرافيا، والفلسفة، ولغة أوروبية غير اللغة الفرنسية، وحسبك بهذا كله عبئًا ثقيلًا وعناءً طويلًا، وحسبك به أو بالاستعداد له نعيمًا يلائم حياة عروسين قد أتما زواجهما منذ أيام!

وهما مع ذلك يقبلان على هذه المحنة الثقيلة لا يضيقان بها ولا ينفران منها، وإنما يصبحان في التاريخ ويمسيان في الجغرافيا ويلمان بالإنجليزية بين ذلك، ويتركان أمر الفلسفة إلى الله وإلى ذاكرة الفتى، وما يمكن أن يكون قد استقر فيها مما سمع في السوربون أثناء العام.

وينقضي الصيف ويعود الزوجان إلى باريس، ويقبل صاحبنا على الامتحان مشفقًا منه أعظم الإشفاق، مروَّعًا به أشد الروع لا يخاف التاريخ القديم، وإنما يخاف أشد الخوف أساتذة التاريخ الحديث والتاريخ المعاصر، ولا يكاد يذكر الجغرافيا حتى يُجَنَّ جنونه، فقد كان واثقًا بأنه مخفق فيها من غير شك، وقد كتب عليه أن يرضى في يوم من أيام الامتحان كل الرضا مصبحًا وأن يسخط فيه كل السخط ممسيًا.

وأقبل من ضحى ذلك اليوم على أستاذ تاريخ القرون الوسطى وكان من أعظم أساتذة السوربون قدرًا، وهو الأستاذ شارلي ديل، فإذا الأستاذ قد كتب على أوراق صغيرة أسئلة كثيرة وضعها أمامه، وجعل الطلاب كلما أقبل واحد منهم على الأستاذ يرمقونه ويرقبون ما يسعفه به الحظ، ويقبل صاحبنا ترافقه زوجه، فإذا أخذت ورقة ودفعتها إلى الأستاذ نظر فيها ثم ابتسم ثم قال في صوت عذب: لقد أسعدك الحظ بمرافقة هذه الآنسة، حدثني إذن عن الإمبراطورية العربية أيام بني أمية، وما أرى إلا أنك تعرفها خيرًا مما أعرفها.

واندفع الفتى في حديثه لا يلوي على شيء حتى وقفه الأستاذ قائلًا: حسبك فقد ظفرت بالدرجة العليا.

في ذلك اليوم لم يعد الزوجان إلى البيت ليصيبا غداءهما، وإنما ألحَّ الفتى على صاحبته في أن يُرفِّها عن نفسيهما بتناول الغداء في مطعم من مطاعم الحي اللاتيني، يجدان فيه من لين الطعام ما لم يكن مقدرًا أن يجداه إن عادا إلى البيت. وكانت صاحبته تكره له أن يسرف فيما يبقى له من مرتبه بعد أداء ما عليه فيه من الحق، فامتنعت عليه وألحَّت في الامتناع، ولكنه ما زال بها حتى استجابت له، فأصابا في ذلك اليوم غداء قلما كانا يصيبان مثله في سائر أيامهما.

وعادا بعد ذلك إلى السوربون، وإنَّ قلب الفتى ليخفق فَرَقًا وقلقًا؛ وكيف لا وهو مقبلٌ على امتحان الجغرافيا بعد قليل؟ وكان قد قدر في نفسه أن الأستاذ الذي سيمتحنه لن يراه مقبلًا عليه حتى يرفق به ويعرف أن مثله لا ينبغي أن يسأل إلا فيما يفهمه العقل وتحفظه الذاكرة بدون أن يحتاج إلى الإبصار، يسأله في الجغرافيا السياسية أو الاقتصادية أو البشرية، ولا يسأله في الجغرافيا الطبيعية مثلًا. ولكن الأستاذ يدعوه فيسعى إليه ويجلس بين يديه، ويقول الأستاذ في هذه المداعبة الرفيقة التي يتكلفها الممتحنون عادة: مسيو حسين، صف لي مجرى نهر الرون.

ويسمع الفتى هذا السؤال فيسرع إليه الوجوم، ولكن العناد يسبق الوجوم إلى عقله وقلبه جميعًا، وإذا هو يرفض الإجابة عن هذا السؤال في صوت لا تردد فيه ولا اضطراب.

قال الأستاذ متلطفًا: فإن من الحق عليك أن تجيب حين تسأل.

قال الفتى: ولكني لن أجيب.

قال الأستاذ: فقد اكتفيت.

ودعا طالبًا آخر.

فانصرف صاحبنا محزونًا مدحورًا، مستيقنًا أنه قد أخفق في الامتحان، وأن نجحه في أول الصيف قد ذهب هباء، مشفقًا في الوقت نفسه على صاحبته من هذا الحزن الذي سيسعى إليها من غير شك، ولكن صاحبته تخرج به من هذه الغرفة مترفقة به قائلة له في ابتسامة عذبة: وما رأيك في فنجان من القهوة تتهيَّأ به للقاء أستاذ الفلسفة! وقال: وفيم لقاء هذا الأستاذ وقد ذهب الامتحان كله هباء؟

قالت متضاحكة: لا عليك، فقد كان هذا الممتحن غليظ الطبع قليل الحظ من الذوق.

وما زالت به حتى سقته القهوة، ثم عادت به إلى السوربون، فلقي أستاذ الفلسفة وسمع منه وقال له غير محقق في نفسه شيئًا مما سمع أو مما قال.

وراحا إلى بيتهما وهو يضمر اليأس ويظهره، وهي تظهر الأمل، والله يعلم ما كانت تضمر.

وتكلَّف صاحبنا أن يشغل نفسه عن التفكير في الامتحان بالتفكير في مناقشة الرسالة التي تم طبعها وقدمت إلى السوربون، والتي سيُحدد لمناقشتها فيما كان يُقدِّر موعد قريب.

ولم تتحدث إليه صاحبته في أمر هذا الامتحان، وإنما جعلت تتحدث إليه في أشياء كثيرة ليس بينها وبين السوربون وعنائها صلة، ثم تقبل عليه ذات يوم فلا تكلمه ولا تلقي إليه تحيتها وإنما تقبله ثم تهمس في أذنه: لقد نجحت!

ولم يصدق الفتى ما سمع حتى أنبأته بأنها عائدة من السوربون حيث أعلنت أسماء الناجحين وفيها اسمه.

وعلم الفتى بعد ذلك أن الأستاذ ريمونجون أستاذ الجغرافيا لم يكن غليظ الطبع ولا قليل الحظ من الذوق، فلم يمنحه الصفر الذي كان يستحقه، وإنما منحه درجتين اثنتين ليعصمه من الإخفاق إن أتيح له النجح في غير الجغرافيا من مواد الامتحان.

وتريد الظروف بعد سنين أن يعقد في مصر مؤتمر للجغرافيا، وأن يكون هذا الأستاذ من الذين مثلوا وطنهم في هذا المؤتمر، وأن يلقاه صاحبنا في حفلة من حفلات الشاي التي تكثر حول المؤتمرات، فإذا قُدِّم إليه صافحه وأطال النظر إليه وإلى صاحبته ثم قال متضاحكًا: يخيل إليَّ أني رأيتك!

قال الفتى مغرقًا في الضحك: نعم رأيتني، وكدت تضيع عليَّ درجة الليسانس.

قال الأستاذ: الآن ذكرتك … ولعلك راضٍ عني؛ لأني لم أعطك الصفر الذي كنت له أهلًا!

ولم يضحكا وحدهما، وإنما ضحك معهما من كان حولهما من الناس.

وكذلك خلص الفتى من مشكلات الليسانس، وأقبل على الرسالة يتهيأ لمناقشتها مستريح القلب هادئ النفس راضي الضمير، ولكنه لم يلبث أن رُوِّع بوفاة الأستاذ دوركيم المشرف الفلسفي على رسالته، وكان الفتى لأستاذه محبًّا وبه معجبًا إعجابًا يوشك أن يبلغ الفتون، فأدركه للخطب فيه حزن عميق، ولكن للحياة حقائقها وتبعاتها، وليس بدٌّ لهذه الرسالة من أن تناقش، وليس بدٌّ لمناقشتها من فيلسوف متخصص في الاجتماع.

وقد استطاعت السوربون أن تندب لمناقشة الفتى في رسالته أستاذًا من أساتذتها كان من تلاميذ الأستاذ الفقيد وهو الأستاذ بوجليه. وكذلك تم الاستعداد للمناقشة، ولكن الدكتوراه الجامعية في فرنسا لا يكفي فيها أن تقدم الرسالة وأن تناقش، بل يجب أن يناقش الطالب قبل ذلك في موضوعين يختاران له قبل اليوم الموعود ليتهيأ للخوض فيهما.

ويتصل الفتى بأساتذته الذين سيمتحنونه ليعرف منهم هذين السؤالين، فأما الأستاذ المستشرق فلم يقترح شيئًا واكتفى برسالة الطالب عن ابن خلدون، وأما الأستاذ الفيلسوف فاقترح على الفتى موضوعًا رآه في أول الأمر عسيرًا أشد العسر، ثم لم يلبث أن رآه يسيرًا كل اليسر بعد أن عرف الموضوع الثاني الذي اقترحه أستاذ التاريخ، اقترح الأستاذ الفيلسوف: «علم الاجتماع كما يتصوره أجوست كونت»، واقترح أستاذ التاريخ — وكان من مؤرخي الرومان وهو الأستاذ جوستوف بلوك — «القضايا التي رفعت على حكام الأقاليم كما يصورها بلينوس الشاب في رسائله».

وقال الأستاذ وهو يلقي هذا الموضوع إلى الفتى: وأريد أن أناقشك في النصوص فلا تكتفِ بفهم التاريخ.

في ذلك اليوم عاد الفتى إلى أهله يرعد من الخوف والسخط جميعًا. كان يظن أنه قد فرغ من اللغة اللاتينية وعنائها، وإذا أستاذ التاريخ ذاك يرده إليها ويفرض عليه أن يدرس طائفة من رسائل ذلك الكاتب اللاتيني القديم.

وأقبل الفتى على رسائل ذلك الكاتب فقرأها كلها مترجمة إلى الفرنسية أولًا، واستخرج منها الرسائل التي تمسُّ موضوعه فعاد إليها يدرسها في نصوصها اللاتينية درسًا دقيقًا عميقًا؛ لأنه كان يعرف الأستاذ، ويعلم أنه لا يحب المزاح ولا يكتفي بالقليل.

ولم يرتعد الفتى في امتحان قط إلا في هذا الامتحان حين أخذ الأستاذ يناقشه في هذه الرسائل، ونسِيَ حكام الأقاليم وقضاياهم، ولم يحفل إلا بالنص اللاتيني من حيث هو نص أدبي يجب فهمه أولًا وذوقه ثانيًا وتحليله ونقده بعد ذلك.

ولولا فضل من شجاعة واستحياء من الرفاق ومن زوجه التي كانت تشهد الامتحان ومن سائر النظارة لاصطكت أسنانه ذعرًا وهلعًا، ولكنه ثبت للخطب على كل حال، وإن رأى الأساتذة والنظارة أن فرائصه كانت ترتعد، وأنه كان شديد الاضطراب، وثابت نفسه إليه حين سكت عنه أستاذ التاريخ وأخذ أستاذ الفلسفة في مناقشته وجرت ريح الامتحان له رُخاء حتى رفعت الجلسة.

وخلت اللجنة للمداولة وعادت بعد لحظات فأعلن إليه رئيسها، وهو أستاذ التاريخ، أن الكلية ترشحه لدرجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف الممتازة ومع تهنئة اللجنة.

ولأول مرة سمع الفتى تصفيق النظارة من الفرنسيين لشخصه المتضائل الضعيف.

وعاد إلى أهله جذلان فرحًا، وظنَّ أن قد حُطَّت عنه أثقال الدراسة، وأن ما بقي له منها لن يكون شيئًا ذا بال.

ولكن الأيام كشفت له عن أنه كان مغاليًا في تفاؤله بل مسرفًا في الغلو؛ فقد بقي عليه أن يظفر بدبلوم الدراسات العليا، وأراد حظه أن يعدَّ رسالته لهذا الدبلوم بإشراف أستاذ التاريخ ذلك الذي أرهقه من أمره عسرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤