الفصل الثامن عشر

أطول الناس لسانًا!

وكان دين سعد عند صاحبنا قديمًا يرجع تاريخه إلى العام الذي قدم فيه رسالته عن أبي العلاء إلى الجامعة، وظفر بعد مناقشتها بدرجة الدكتوراه، وكثر حديث الصحف والناس عن هذه الرسالة وصاحبها. وفي تلك الأيام قدَّم عضو من أعضاء الجمعية التشريعية اقتراحًا يطلب فيه أن تقطع الحكومة معونتها عن الجامعة؛ لأنها خرَّجت ملحدًا هو صاحب رسالة «ذكرى أبي العلاء».

وكان سعد رحمه الله رئيس لجنة الاقتراحات فيما يظهر، فلما عرض عليه هذا الاقتراح دعا المقترح للقائه، وطلب إليه أن يعدل عن اقتراحه. فلما أبى قال له سعد: إن أصررت على موقفك فإن اقتراحًا آخر سيقدم، وسيطلب صاحبه إلى الحكومة أن تقطع معونتها عن الأزهر؛ لأن صاحب هذه الرسالة عن أبي العلاء تعلم في الأزهر قبل أن يتعلم في الجامعة.

واضطر الرجل إلى أن يسترد اقتراحه، وسلمت للجامعة معونتها، ولم يتعرض الفتى لشرٍّ، وكان الأستاذ أحمد لطفي السيد هو الذي أنبأ صاحبنا بهذه القصة، وطلب إليه أن يسعى إلى سعد بشكر هذا الجميل، ولكن الفتى استحيا إذ ذاك فلم يسعَ إلى سعد، وأين هو من سعد؟

فلما أتيح له لقاء رئيس الوفد في باريس شكر له تلك العارفة، وأثنى على جهده الخصب في خدمة مصر وتضحيته في سبيل الوطن والشعب. فسمع منه سعد ولكنه أجابه في فتور وضيق بأن جهده وجهد أصحابه وجهد الشعب كله لن يغني عن الوطن شيئًا، ألا ترى إلى كل هذه الأبواب التي غلِّقت من دوننا؟ وها نحن أولاء قد وصلنا إلى باريس فقطعت علينا الطريق إلى مؤتمر الصلح، وألقيت الحجب الكثاف بيننا وبين ممثلي الدول المشتركة فيه؟

قال الفتى: ولكن هذه الجهود توقظ الشعب، وتنبهه لحقه، وتدفعه إلى المطالبة به والجهاد في سبيله.

قال سعد محولًا الحديث عن مجراه: ماذا تدرس في باريس؟

قال الفتى: أدرس التاريخ.

قال سعد: أومؤمنٌ أنت بصدق التاريخ؟

قال الفتى: نعم، إذا أحسن البحث عنه والاستقصاء له، وتخليصه من الشائبات.

قال سعد: أما أنا فيكفي أن أرى هذا التضليل، وهذه الأكاذيب التي تنشرها الصحف في أقطار الأرض، ويقبلها الناس في غير تثبت ولا تمحيص، لأقطع بألَّا سبيل إلى تصفية التاريخ من الشائبات، ولأقطع بعد ذلك بألا سبيل إلى استخلاص التاريخ الصحيح من هذه الشائبات، وانظر إلى ما ينشر عنا في مصر وفي باريس، وحدثني كيف تستطيع أن تستخلص منه التاريخ الصحيح؟!

وهمَّ الفتى أن يتكلم، ولكن سعدًا مضى في حديثه قائلًا: لقد أقبلنا إلى باريس والأمل يملأ نفوسنا فلم نقم فيها أيامًا حتى استأثر بنا اليأس.

قال الفتى: وكيف نيأس وقد أيقظتم الشعب فاستيقظ، ودعوتموه فاستجاب؟

قال سعد: وماذا يستطيع الشعب أن يصنع وهو أعزل لا يستطيع الدفاع عن نفسه، فضلًا عن أن يثور بأصحاب القوة والبأس؟

قال الفتى: هو الآن أعزل، ولكنه سيجد السلاح غدًا.

قال سعد: وأين يجده؟

قال الفتى: إن الذين يهربون لنا الحشيش يستطيعون أن يهربوا لنا الأسلحة.

فأغرق سعد في الضحك، وقال وهو ينهض: ألا تعلم أن الذين يراقبون تهريب الحشيش سيراقبون تهريب الأسلحة؟

وانصرف الفتى عن سعد فلم يره إلا بعد عام، بل بعد أكثر من عام، ولم يلقَه سعد في تلك الزيارة الثانية بباريس لقاء الهاشِّ له المرحب به، وإنما لقيه في شيء من الفتور، قال له وسمع منه، ولكنه لم يقل شيئًا ذا بالٍ، ولم يسمع منه شيئًا ذا بال، وإنما كان لقاء قصيرًا قوامه المجاملة ليس غير.

وقد عرف الفتى مصدر هذا الفتور، فلم يضق به، ولم يبتهج له، وإنما هز رأسه ورفع كتفيه. وكان مصدر هذا الفتور أن جماعة من تلاميذ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده أحيَوا ذكرى وفاة أستاذهم في الجامعة، وخطب صاحبنا في ذلك الحفل فزعم أن مصر مدينة بما أتيح لها من اليقظة لثلاثة رجال لا ينبغي أن تنساهم:

أولهم: الأستاذ الإمام الذي أحيا الحرية العقلية.

والثاني: مصطفى كامل الذي أذكى جذوة الحرية السياسية.

والثالث: قاسم أمين الذي أحيا الحرية الاجتماعية.

وقرأ سعد هذا الحديث فوجد على الفتى؛ لأنه لم يذكره بين هؤلاء العظماء.

وتوالت خطوب السياسة بعد ذلك، وكان صاحبنا أطول الكُتَّاب لسانًا وأجرأهم قلمًا في مهاجمة سعد ونقد سياسته قبل أن يلي الحكم وبعد أن وليه، وبعد أن اضطر إلى اعتزاله. وأصاب الفتى من هذه الخصومة مكروه أي مكروه، ولكنه لقي سعدًا بعد ذلك للمرة الثالثة والأخيرة في دار شوقي، رحمه الله.

كان شوقي يستقبل الشاعر الهندي العظيم تاجور، وقد دعا لهذا الاستقبال من شاء الله أن يدعوهم من أصحاب الثقافة ورجال السياسة والحكم، وكان صاحبنا أحد المدعوين. وإنه لبين جماعة من أصحابه وإذا سعد بقيا، فيخفُّ الناس جميعًا للقائه ويهمُّ صاحبنا أن يتأخر ولكن أصحابه يدفعونه دفعًا، وكان أشدهم في ذلك الشيخ عبد العزيز البشري رحمه الله، ويجد الفتى نفسه يصافح سعدًا ويسمع سعدًا يلقاه لقاءً حسنًا، ثم يعود الناس إلى أماكنهم ويقيم سعد ساعة أو بعض ساعة ثم ينصرف إلى مجلس النواب، وكان له رئيسًا.

وقد كاد الفتى يلقى سعدًا مرة أخرى لو أريد الفتى على أن يلقى سعدًا مرة أخرى، ولكنه امتنع وألحَّ في الامتناع فلم يتم هذا اللقاء. كان ذلك حين أراد بعض النواب الوفديين أن يثير قصة الشعر الجاهلي مرة أخرى في المجلس، فرده سعد عن ذلك قائلًا: لقد انتهى هذا الموضوع فلا معنى للعودة إليه.

قرأ صاحبنا ذلك في الصحف فلم يكد يحفل به أو يلقي إليه بالًا، ولكن الأستاذ أحمد لطفي السيد كان مدير الجامعة ورفيقًا بصاحبنا. فألحَّ عليه في أن يمر بدار سعد ويترك بطاقته، وعسى أن يلقاه فيشكر له كلمته الطيبة في مجلس النواب، ولكن صاحبنا أبى وأصرَّ على الإباء، وقال: إن سعدًا لم يزد على أن أدَّى واجبه وكفَّ سفيهًا أحمق من نوابه عن سفهه وحمقه.

واشتد الجدال في ذلك بين الأستاذ وتلميذه ولكنهما لم يصلا إلى شيء، فاحتكما في المساء إلى عبد العزيز فهمي رحمه الله، ولم يلبث هذا أن قضى لصاحبنا في غير مشقة ولا جدال. وما أسرع ما استحال الأمر كله إلى دعابة بين الأستاذين الكبيرين حول ما كان يملأ قلب عبد العزيز فهمي وعقله ويجري على لسانه من سخط على سعد، وإنكار لكل ما كان يصدر عنه من قول أو فعل، لا لشيء إلا لأنه صدر عن سعد.

وكذلك كانت صلة صاحبنا بسعد يسيرة كلَّ اليسر في ظاهرها، عسيرة أشد العسر في حقائقها ودخائلها، جرَّت على الفتى شرًّا كثيرًّا، وأتاحت له مع ذلك خيرًا كثيرًا، وتقلبت به بين ضروب من الرضا والسخط، وفنون من الأمل واليأس، وألوان من الشدة واللين، ولكن حديث هذا كله لم يأت إبانه بعد.

فلنعد إلى صاحبنا في باريس لنراه مقبلًا على حياته، غارقًا في مشكلتها، مثقلًا بأعبائها، يعدُّ رسالته، ويختلف إلى دروسه، ويلقى أستاذه، ويحتمل ضروبًا من الجهد في إجراء حياة أسرته على ما ينبغي أن تجري عليه من السعة اليسيرة التي تقيم الأود ولا تعرض للبأس أو الشقاء.

وأقبل الصيف وقد قدَّم صاحبنا رسالته إلى السوربون فرضيت عنها. ولكنه لم يرسلها إلى الجامعة، ولم تسأله الجامعة عنها، وإنما أقبل على امتحانه فنجح فيه نجاحًا حسنًا، وظفر بالدبلوم، وأتم بذلك أداء واجبه الذي كلفته الجامعة أن يؤديه، وآن له أن يعود إلى مصر.

ولكن عودته إلى مصر أثارت بينه وبين المدير الإنجليزي للبعثة خلافًا طويلًا ثقيلًا سخيفًا في وقتٍ واحد؛ فقد كان نظام البعثة يقضي بأن يعود الطالب إلى مصر على نفقة الجامعة إن أتم دراسته على الخطة المرسومة له، ولكن صاحبنا لن يعود وحدَه، بل ستصحبه زوجه، فعلى نفقة من تعود هذه الزوج؟

هنا حار المدير الإنجليزي للبعثة، فكتب إلى الجامعة مستفتيًا، وأذنت له الجامعة في أن يعيد الزوجين جميعًا، ولكن الزوجين لن يستطيعا العودة إلا إذا عادت معهما أثقالهما. وكانت الكتب أهم هذه الأثقال، فهي أكثر وأضخم من أن توضع في الحقائب، وكثير منها ملك للجامعة سيستقر في مكتبتها آخر الأمر، والانتقال من باريس إلى القاهرة لا يتم بمجرد أن يتسلم المسافر بطاقات السفر في القطار والسفينة، ولكنه يحتاج إلى فضل من النفقة، فمن يؤدي هذا الفضل من النفقة؟ وكذلك احتاج مدير البعثة أن يكتب إلى الجامعة مستفتيًا مرة أخرى، وليس شيء أضيع للوقت ولا أفلَّ للجدِّ ولا أدعى إلى السأم والضيق من الجدال الطويل المتصل حول الموضوع السخيف الذي لا خطر له ولا طائل فيه.

وكم ضاق الفتى بما كان يكتب وما كان يتلقى من الرسائل حول هذا السخف الذي لا يغني عنه شيئًا، ولكنه وصل مع زوجه إلى مارسيليا عشية اليوم الذي حدد لإبحار السفينة.

ولا يكادان يصلان إلى هذه المدينة حتى يعلما، ويا ثقل ما علما! أن سفينتهما لن تبحر من الغد؛ لأن إضرابًا يحول بينها وبين الإبحار، واتصل الإضراب يومًا ويومًا ويومًا. ثم اتصل بعد ذلك حتى بلغ خمسة وعشرين يومًا، وليس مع صاحبنا وزوجه وطفلهما ما ينفقان، ولا أمل في الاتصال بمدير البعثة، ولا سبيل إلى الاتصال المباشر بالجامعة، فليقترض إذن من زميله ذاك الذي سيعود معه على السفينة نفسها، والذي ينتظر مثله أن ينقضي الإضراب، والذي لا يخلو جيبه من مال كثير، لا لأنه كان غنيًّا، بل لأنه كان مدبرًا مقتصدًا أروع تدبير واقتصاد، وقد أخذ يقترض، وبدأ الزوجان حياتهما المستقلة بالدَّين وأيِّ دَين.

ويبلغان الإسكندرية بعد لَأْيٍ وقد شقَّ عليهما السفر، وعنف بسفينتهما البحر، ونفد ما اقترضا من المال، ولكن الفتى كان قد كتب إلى صديقه الكريم عليه المؤثر له حسن باشا عبد الرازق محافظ الإسكندرية إذ ذاك بمقدمه، فلا تكاد السفينة ترسو حتى يقبل رسل المحافظ الصديق فيستخلصوا الأسرة من الضيق والشدة والحيرة إلى السعة والدعة والاطمئنان في ذلك البيت الرائق الجميل الذي كان المحافظ قد اتخذه في رمل الإسكندرية.

وفي هذا البيت تقيم الأسرة مع الصديق الكريم رحمه الله أسبوعًا قبل أن تمضي إلى القاهرة، ولكنها تؤثر الإقامة في الإسكندرية وتشفق من شظف العيش الذي ينتظرها متى هبطت من القطار، ومن لها بالقطار وصاحبنا لا يملك أجره ولا يجرؤ على أن يتحدث إلى صديقه في ذلك، ولا يستطيع أن يكتب إلى أخيه في القاهرة؛ لأن زوجه لا تكتب العربية، ولأن أخاه لا يقرأ الفرنسية!

وإن الزوجين لفي سمرهما مع المحافظ الصديق ذات ليلة، وإذا هو ينبئهما بأن قد آن لهما أن يسافرا، وآن للفتى أن يقدم نفسه إلى الجامعة التي تعرف وصوله إلى مصر وتنتظر مقدمه إليها.

وقد أعد كل شيء لسفرهما في القطار الذي يبرح الإسكندرية ضحى الغد، فإذا أصبحا وفرغا من طعام الإفطار أقبل الصديق متلطفًا يقول لزوج الفتى: أتعرفين النقد المصري؟

قالت متضاحكة: لا.

– هاهو ذا فادرسيه على مهلٍ.

ثم ودعهما وانصرف مسرعًا فركب عربته إلى مكتبه.

وتدرس زوج الفتى هذا النقد، فإذا الصديق قد جمع لها أوراقًا تصوِّر النقد المصري إلى العشرة من الجنيهات، وقد فهم الزوجان عن صديقهما، وأضافا في حسابهما دينًا لم يؤدَّ قط، إلى دين ما أسرع ما طالب صاحبه بأدائه ومعه فوائده على قلة ما لبث الدين في ذمتهما من الأسابيع!

ويتجاوز النهار نصفه قليلًا ويبلغ القطار محطة القاهرة، وينظر الزوجان فإذا هما في غمرة من الأهل والصديق، ومنذ ذلك اليوم اتصلت أسباب حياتهما الجديدة بأسباب مصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤