الفصل الرابع

عندما خفق القلب لأول مرة!

على أن فضل الشيخ عبد العزيز جاويش على الفتى لم يقف عند هذا الحد، وإنما تجاوزه فأمعن في تجاوزه، فهو الذي عرَّف الفتى إلى جماهير الناس ووقَّفه بين أيديهم ذات صباح مُنشدًا للشعر، كما كان يفعل الشعراء المعروفون، وحافظٌ منهم خاصة، في بعض المناسبات العامة.

كان الناس قد ألفوا الاحتفال برأس العام الهجري كلما انقضى عام هجري، وأقبل عام جديد. وكان الشيخ عبد العزيز جاويش يحرص على أن يكون للحزب الوطني احتفاله بهذا اليوم، فأقام حفلة ذات عام في مدرسة مصطفى كامل، واحتشد لهذا الحفل عدد ضخم من الناس شبابًا وكهولًا وشيبًا، وكان الفتى قد أنشأ فيما بينه وبين نفسه قصيدة يستقبل بها عيد الهجرة، وأنشدها أمام الشيخ عبد العزيز جاويش، فرضي عنها وحثَّه على أن يقول أمثالها.

فلما كان هذا الحفل شهده الفتى مع الشاهدين، ولكنه لم يكد يتخذ مكانه بين الناس، حتى أقبل من أخذ بيده وأجلسه على المنصَّة. ولم يقدر الفتى في نفسه إلا أن الشيخ عبد العزيز جاويش قد أراد أن يرفق به ويتلطَّف له ويُقرِّبه من مجلسه، فرضي عن ذلك كل الرضا، وعدَّه فضلًا من الشيخ عظيمًا، وألقِيَت الخطب وصفَّق المصفقون، ولم يَرُع الفتى إلا أن سمع اسمه يعلن إلى الناس، ورأى نفسه يُدعى إلى إنشاد قصيدته العصماء! فلبث في مكانه جامدًا واجمًا لا يدري ماذا يصنع، ولا يعرف كيف يقول، وأقبل من أخذ بيده، وهَمَّ الفتى أن يمتنع حياءً وخجلًا، ولكن الذي أخذ بيده جذبه جذبًا شديدًا وجعل الذين من حوله يدفعونه وينهضونه حتى أنهضوه وجروه جرًّا إلى المائدة. واستقبل الفتى بتصفيق شديد منحه قوة وجرأة، فأنشد قصيدته في صوت ثابت ممتلئ، ولكنه لم يكن يستقر في موقفه، وإنما كان جسمه يرتعد ارتعادًا، واستُقبلت قصيدته أحسن استقبال وأروعه حتى خُيِّل إلى الفتى أنه قد أصبح حافظًا أو قريبًا من حافظ.

ثم مرَّت الأعوام وتبعتها الأعوام، واختلفت على الشيخ وعلى الفتى خطوب أيُّ خطوب، وتعاقبت أحداث في مصر أيُّ أحداث! وجلس الفتى ذات مساء إلى صديق له كريم، وقد جاوز الفتى سنَّ الشباب والكهولة، وأخذ في ذكر الصبا وأيام الطلب، وأُنسِيَ الشيخُ شبابَه وصباه وشُغِل عن حياته الماضية، وأعرض عن الشعر كلَّ الإعراض بعد أن استبان له أنه لم يقل الشعر قط، وإنما قال سخفًا كثيرًا. وإذا الصديق الكريم يذكُره بموقفه ذاك في مدرسة مصطفى كامل وإنشاده قصيدتَه تلك، ويذكر له مطلع تلك القصيدة، فيرثي الشيخ لما أضاع من شبابه وما أنفق من جهده في غير طائل ولا غناء.

figure

ثم لم يقف الشيخ عبد العزيز جاويش بالفتى عند هذا الحدِّ، ولكنه علَّمه الكتابة في المجلات؛ فقد أنشأ مجلة «الهداية»، وطلب إلى الفتى أن يشارك في تحريرها، ثم ترك له — أو كاد يترك له — الإشراف على هذا التحرير، وكان له الفضل كل الفضل فيما تعلم الفتى من إعداد الصحف وتنسيق ما ينشر فيها من فصول. ولم تخل «الهداية» من جدال عنيف دُفع إليه الفتى دفعًا، وكان خصمه الشيخ رشيد رضا، وقد أسرف الفتى على نفسه وعلى الشيخ رشيد في ذلك الجدال، وكتب أحاديث استحى منها فيما بعد حين ذكرت له، ولكن الشيخ عبد العزيز كان عنها راضيًا وبها كَلِفًا، وقد أجاز نشرها وشجَّع الفتى على المضي فيها. كان يمقت من الشيخ رشيد ممالأته للخديو وانحرافه عن طريق الأستاذ الإمام، وما دُفع إليه من إعجاب بنفسه واغترار بثناء الناس عليه وإعجابهم به.

ثم أضاف الشيخ إلى كل هذا الفضل فضلًا آخر وقع من نفس الفتى موقع الماء «من ذي الغُلَّة الصادي» أرضاه عن بعض حاله، وأكبره في نفسه شيئًا، وأشعره بأن قد أتيح له أن يجلس مجلس المعلم، وأن يكون له تلاميذ كثيرون بعد أن حال الأزهر بينه وبين ذلك.

فقد أنشأ الشيخ عبد العزيز جاويش مدرسة ثانوية كما أنشأ مصطفى كامل مدرسة، وكلِّف الفتى أن يعلِّم فيها الأدب على ألا ينتظر على ذلك أجرًا؛ فالمدرسة عمل وطني لا أجر عليه لمن يُشارك فيه. ولم يكن الشيخ يفيد من هذه المدرسة شيئًا، وربما أنفق عليها من رزقه وكلف نفسه في سبيل ذلك شيئًا من الحرمان، وربما ألحَّ على بعض الأغنياء وأوساط الناس حتى استكرههم على أن يُعينوه على نفقاتها ببعض المال. وقد أقبل الفتى على تعليمه ذاك فرِحًا به مبتهجًا له، يرى فيه شفاء لغيظه من الأزهر، ويرى فيه مع ذلك مشاركة في بعض الخير.

ثم لم يلبث هذا كله أن انقطع فجأة، صُرف الشيخ عنه بأحداث السياسة، ثم اضطر إلى أن يهاجر من مصر على غير انتظار لهجرته، ولم يره الفتى منذ ودعهم ليلة سفره إلا بعد أعوام طوال، بعد أن عاد عودته تلك، فقد سافر من مصر فجأة، وعلى غير علم من أهلها، وعاد إلى مصر فجأة، وعلى غير علم من أهلها أيضًا.

وهو على كل حال قد أعان الفتى على الخروج من بيئته تلك المغلقة إلى الحياة العامة، وعلى أن يكون له اسمٌ معروف. ومثل ذلك فعل الأستاذ أحمد لطفى السيد؛ فعرَّف الفتى إلى كثيرين من الذين كانوا يُلمُّون بمكتبه في الجريدة من الشيوخ والشباب. وفي مكتبه اتصل برفاق له أحباء عمل معهم فيما بعد، ولقي معهم خطوبًا أيَّ خطوب، عرف عنده هيكل ومحمود عزمي والسيد كامل، وكامل البنداري وأترابًا لهم كثيرين. وعرف بفضله لونًا من المعرفة لم يكن يُقدِّر أنه سيتاح له في يوم من الأيام؛ فقد لَقِيَ عنده ذات يوم تلك الفتاة التي كان الناس يتحدثون عنها فيكثرون الحديث، لا لأنها كانت جميلة فاتنة، ولا لأنها كانت جذابة خلابة، ولكن لأنها كانت طامحة مُلحَّة في الطموح، ظفرت لأول مرة بالشهادة الثانوية، وكانت أول فتاة ظفرت بها، وهي نبوية موسى.

وكان الفتى قد لقي السيدات في بيئته تلك الريفية، ولكنه لم يلقَ منهم القارئة الكاتبة البرْزَة التي تظهر في مجالس الرجال وتحاورهم، فتلجُّ في المحاورة وتخاصمهم فتعنف في الخصام، قبل أن يلقَى تلك الفتاة.

واحتُفل ذات مساء في حجرة من حجرات الجامعة القديمة بتكريم خليل مطران رحمه الله، وكان الخديو قد أهدى إليه وسامًا. وكان شقيق الخديو الأمير محمد على رئيسًا لهذا الاحتفال، وكان الشعراء سينشدون فيه الشعر، وكان الخطباء سيلقون فيه الخطب، فاعتذر الفتى إلى أستاذه في الجامعة من حضور الدرس، ولم يكن يكره شيئًا كما كان يكره التخلف عن الدروس، وآثر شهود ذلك الحفل. وفيه سمع كثيرًا من الشعر وكثيرًا من الخطب، فلم يحفل بشيءٍ مما سمع، لم يعجبه شعر حافظ في ذلك المقام، مع أنه كان كثير الإعجاب بشعر حافظ، ولم تعجبه قصيدة مطران؛ لأنه لم يفهم منها شيئًا، ولم يذق منها شيئًا، وربما أحس فيها إسرافًا من الشاعر في التضاؤل أمام الأمير الذي أهدى إليه ذلك الوسام؛ فقد شبَّه نفسه بالنبتة الضئيلة، وشبَّه الأمير بالشمس التي تمنحها الحياة والقوة والنماء. لم يَرضَ الفتى عن شيءٍ مما سمع إلا صوتًا واحدًا سمعه فاضطرب له اضطرابًا شديدًا وأَرِق له ليلته تلك، كان الصوت نحيلًا ضئيلًا، وكان عذبًا رائقًا، وكان لا يبلغ السمع حتى ينفذ منه في خِفَّة إلى القلب فيفعل به الأفاعيل. ولم يفهم الفتى من حديث ذلك الصوت العذب شيئًا، ولم يحاول أن يفهم من حديثه شيئًا، شغله الصوت عما كان يحمل من الحديث، وكان صوت الآنسة ميِّ التي كانت تتحدث إلى جمهور من الناس للمرة الأولى. ولم يستطع الفتى حين أصبح من ليلته تلك أن يمتنع عن السعي إلى مدير الجريدة، وقد جلس إليه فقال له وسمع منه. ثم ما زال يدور بحديثه حتى انتهى إلى حفل مطران، وحتى انتهى من حفل مطران إلى ذكر تلك الفتاة التي تحدثت فيه، والتي لم يسمع الفتى عنها قبل يومه ذاك. وقد سأله مدير الجريدة عما قالت الفتاة فلم يحسن ردًّا، وإنما لجلج في القول. وأثنى الأستاذ على ميِّ، وأنبأ الفتى بأنه سيقدمه إليها في يوم قريب، وابتهج الفتى بهذا الوعد وإن لم يُعرب عن ابتهاجه، وظلَّ يرقب البرَّ به. ولكن الأستاذ نسيه، واستحيا الفتى أن يذكره فحمل نفسه على المكروه، وما أكثر ما كان يحملها على المكروه! وأعرض عن ذكر ميِّ، واجتنب حديثها إلى الأستاذ، ومضت أيام وأشهر وظفر الفتى من الجامعة بدرجة الدكتوراه، وأعطى مدير الجريدة رسالته عن أبي العلاء، فقرأها ورضيَ عنها، ولكنه لم يردَّها إلى الفتى، وإنما قال له: إنما ستُرَدُّ إليك رسالتك بعد أيام؛ لأن الآنسة ميَّ قد طلبت أن تقرأها، وسمع صاحبنا ذكر ميِّ، فبدا عليه فيما يظهر شيء من وجوم، وكأن الأستاذ لاحظ ذلك فذكر وعده القديم وقال للفتى في رفق: ألم أعدك بتقديمك إليها؟

قال الفتى: أكاد أذكر ذلك.

قال الأستاذ: فالْقَنِي مساء الثلاثاء فسنزورها معًا.

وفي مساء الثلاثاء رأى الفتى نفسه لأول مرة في حياته في صالون فتاة تستقبل الزائرين من الرجال، حفِيَّةً بهم، معاتبة لهم في رشاقة أيِّ رشاقة، وفي ظَرف أيِّ ظَرف، وفي حديث عذب يخلب القلوب ويستأثر بالألباب.

وطال المجلس وكثر الزائرون، ودارت أكواب الشاي والفتى في مكانه لا يكاد يحس من ذلك شيئًا، قد ملك الوهم والوَجَلُ عليه أمرَه كله، فهو لم يشهد مثل هذا المجلس قطُّ، وليس له عهد بمثل ما يجري في مثل هذه المجالس من المراسم ولا بما يُتَّبع فيها من التقاليد والعادات، فهو منكرٌ نفسَه، منكرٌ مَن حوله وما حوله، إلا شخصين اثنين، هما: الأستاذ لطفي السيد والآنسة ميُّ.

وقد أخذ الزائرون في الانصراف، ورغب الفتى فيه ليخلص من حَرَجه، وأشفق منه حرصًا على صوت ميِّ وحديثها، ولم يحاول أن ينصرف، فما كان له أن يحاول ذلك قبل أن يؤذنه به الأستاذ.

وقد انصرف الزائرون جميعًا وخلا للأستاذ وتلميذه وجه ميِّ، فخاضت مع الأستاذ في بعض الحديث، وأثنت للفتى على رسالته في أبي العلاء، فأغرقت في الثناء، واستحيا الفتى شيئًا، ولم يحسن أن يشكر لها ثناءها. ولكن الأستاذ يطلب إلى الفتاة أن تقرأ عليه مقالها ذاك، فتتردد الفتاة شيئًا، ثم تُقْدِمُ بعد أن تُعلن إلى الفتى أنها تقرأ على الأستاذ هذا المقال؛ لأنه هو الذي يُعلِّمها العربية ويعلِّمها الكتابة.

قال الفتى في صوت مختنق ولفظ مجمجم: كما يعلمني أنا.

قالت ميُّ: فنحن إذن زميلان.

وقرأت المقال، وكان عنوانه «وكنت في ذلك المساء هلالًا.»

وسُحِر الفتى، ورضِيَ الأستاذ، وانصرفا بعد حين، وفي نفس الفتى من الصوت ومما قرئ شيء كثير!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤