الفصل السادس

أساتذتي

ولم تكن حياة الجامعة عيدًا متصلًا رائع الإمتاع لمكان الأساتذة الأجانب فيها فحسب، بل كان فيها أساتذة مصريون يضيفون إلى روعتها روعة وإلى إشراقها إشراقًا. ولم ينسَ الفتى طائفة من هؤلاء الأساتذة كان لهم في حياته أَبْعدُ الأثر وأعمقه؛ لأنهم جدَّدوا علمَه بالحياة وشعوره بها وفهمه لقديمها وجديدها معًا، وغيَّروا نظرته إلى مستقبل أيامه، وأتاحوا لشخصيته المصرية العربية أن تقوى وتثبت أمام هذا العلم الكثير الذي كان يأتي به المستشرقون، وكان جديرًا بأن يحوِّل هذا الفتى تحويلًا خطيرًا يُفنيه في العلم الأوروبي إفناء، ولكن أساتذته المصريين هؤلاء أتاحوا له أن يأوي إلى ركن شديد من الثقافة الشرقية الخالصة، وأتاحوا لِمزاجه أن يأتلفَ ائتلافًا معتدلًا من علم الشرق والغرب جميعًا. وكان الأساتذة المصريون يختلفون فيما بينهم اختلافًا شديدًا، كان منهم المطربشون والمعممون والذين سبقت العمامة إلى رءوسهم ثم انحسرت عنها وجاء مكانها الطربوش.

وكان منهم الصارم الحازم الذي لم يكن ثغره يعرف الابتسام إلا قليلًا، والمازح الباسم الذي لم يكن وجهه يعرف العُبوس إلا نادرًا. وكان منهم ذو العلم العميق العريض الذي يبهر ويسحر ويذكر القلوب والعقول، وذو العلم الضَّحل والثقافة الرقيقة الذي يخلب باللفظ ثم لا يكون وراء لفظه الخلَّاب شيءٌ ذو بال.

وكان منهم من يخلب بلفظه العذب ودعابته الساحرة وعلمه الغزير. كان منهم إسماعيل رأفت رحمه الله، ذلك الذي لم يكن يعرف من طلابه إلا أنهم يحملون رءوسًا يجب أن يصب العلم فيها صبًّا. فكان يُقبل عليهم عابسًا وينصرف عنهم عابسًا، لا يُلقي إلى أحدهم كلمة، وإنما يأخذ مجلسه ويبسط أوراقه ويأخذ في القراءة حتى تنتهي ساعة الدرس لا يقطعها إلا حين يفسر ما قد يحتاج إلى التفسير، وحين يُلقي على الطلاب هذا السؤال الذي تعوَّد أن يُلقيه في دار العلوم — وقد كان أستاذًا فيها: فاهمين يا مشايخ؟

وقد سمع الفتى منه وصف أفريقيا على اختلاف أقطارها وعلى اختلاف ما يكون لهذا الوصف من صور يتَّصل بعضُها بطبيعة الإقليم، ويتَّصل بعضها الآخر بالسياسة والاقتصاد ونظم الحياة الاجتماعية وأجناس السكان.

وقد سمع الفتى فيما بعد دروسًا مختلفة في الجغرافيا من أساتذة ممتازين في جامعات فرنسا، فلم يحسَّ لأحدهم فضلًا على أستاذه ذلك المصري العظيم.

وكان من هؤلاء الأساتذة حفني ناصف رحمه الله، وكان ابتسامًا كله، وفكاهة كله، وتواضعًا كله، على غزارة في العلم، وأصالة في الفقه بما كان يدرِّس من الأدب العربي القديم، وكان الطلاب يكلفون به أشدَّ الكلف، ويطمعون فيه أعظم الطمع؟ وكان بعضهم ربما انصرف عن دروسه ليجلس إليه في قهوة كوبري قصر النيل التي كان يجلس فيها ساعة قبل الدرس من يوم الخميس من كل أسبوع.

وكان الطلاب يأبَوْن عليه أن يختم دروسه في آخر العام دون أن يزيدهم على المقرَّر درسين أو دروسًا. وكان الفتى لسانهم حين كانوا يرغبون إليه في ذلك. وكان الفتى يطلب إليه المزيد من الدرس نثرًا حينًا وشعرًا حينًا مستعطفًا مرة ومنذرًا مرة أخرى. وكان رحمه الله قد شرح كتاب «الكافي في العَروض» حين كان طالبًا في الأزهر. وكان يخجل من هذا الشرح ويكره أشد الكره أن يُنسب إليه، فكان الفتى يقسم له في آخر العام لئن لم يُضفْ إلى المقرر دروسًا لينسبنَّ إليه «شرح الكافي» في مقال ينشره في الجريدة. وكان رحمه الله يستجيب فيضيف درسين، وربما أضاف أربعة دروس.

وكان أروع صورة عرفها الفتى لتواضع الأستاذ، أنه لم يتكلَّف قطُّ ذلك الوقار المصنوع الذي يتكلفه بعض الأساتذة حين يرقون إلى مجلسهم في غرفة الدرس، وإنما كان يخلط نفسه بطلابه كأنه واحد منهم لولا أنه كان يكبر أكثرهم سنًّا، فقد كان بين طلابه من تقدمت به السن كثيرًا.

وقرأ الفتى ذات يوم في الجريدة حديثًا لأحد القراء يطرح فيه موضوعًا لمسابقة شعرية، ويجعل لهذه المسابقة جائزة هي كتاب «الأمالي» لأبي عليٍّ القالي، ويحكم بين المستَبِقين الأستاذ حفني ناصف وتلميذه ذاك الفتى. وأنكر صاحبنا أن يقرن إلى أستاذه، وأحسَّ شيئًا من غرور، ولكن يجلس ذات مساء في بيته بدرب الجماميز مع جماعة من رفاقه يأخذون في بعض ما كانوا يخوضون فيه من حديث، وإنهم لفي ذلك وقد تقدَّم بهم الليل وإذا الباب يطرق عليهم. فإذا أدخِل الطارئ، وَجَم الفتى ودهش الرفاق؛ فلم يكن الطارق إلا الأستاذ حفني بك ناصف، قد جمع شعر المستبقين في الجريدة، وسعى به إلى تلميذه في بيته ذاك في الطبقة السادسة من تلك الدار التي كان يسكنها، وقال له في رفقٍ عذب: «أتيتُ لأخلوَ إليك ساعة نفرغ فيها من قضية هؤلاء المستبقين.»

وكان من بين الأساتذة المصريين الشيخ محمد الخضري رحمه الله؛ كان يدرس التاريخ الإسلامي، وقد سحر الفتى بعذوبة صوته وحسن إلقائه وصفاء لهجته، وأحب دروسه في السيرة، وفي تاريخ الخلفاء الراشدين وفتوحهم، وفي تاريخ الفِتَن ودولة بني أمية والصدر الأول من دولة العباسيين. وكان يظنَّ أن ليس فوق علم الأستاذ علم، ولكنه لم يكد يسمع دروس التاريخ في أوروبا حتى عرف أن الأستاذ رحمه الله كان ينقل دروسه نقلًا من كتب القدماء في غير نقد ولا تعمق، وفي أيسر ما كان يمكن من فقه التاريخ.

وكان من الأساتذة المصريين أستاذان أحبهما الفتى أشدَّ الحب، وعبث بهما أشدَّ العبث، واستغل سذاجتهما ووداعتهما أشنع الاستغلال. كان أحدهما الشيخ محمد المهدي رحمه الله، أقبل يدرِّس الأدب العربي بعد حفني ناصف، فكان الفرق بين الأستاذين خطيرًا بعيد المدى؛ كان أحدهما عميق العلم، وكان الآخر أبعد ما يكون عن العمق، كان أحدهما سَمْحًا لا يتكلف ولا يتصنَّع، وكان الآخر متكلِّفًا متفاصحًا لا يتكلَّم إلا العربية الفصحى مُغرِبًا فيها يملأ بها فمه، وربما أضحك منها طلابه. وكان يقدِّم السيجارة إلى الفتى، فإذا همَّ الفتى أن يشعلها قال له: «انتظر يا بني حتى ألفَّها لك!» ولم يكد الطلاب يسمعون هذه الكلمة حتى يغرقوا في ضحكٍ لا يَسْتَخَفون به، وكان الأستاذ يضحك معهم ويغرق في الضحك!

وكان الفتى جريئًا عليه يجادله في الدرس فيرهقه من أمره عسرًا، وربما أضحك منه الطلاب؛ لأنه كان لا يحقِّق ما يروي من الشعر، ولأن الفتى كان يردُّه إلى الصواب، فيظهر عليه الاضطراب. وقد حاول أن يصده عن هذا الجدال، ويصرف أترابه عن هذه الجراءة، فدعاهم ذات يوم إلى الغداء في داره، وقدم إليهم من طيِّبات الطعام ما لم يكن لأكثرهم به عهد، وظن أنه قد ردَّهم إلى شيء من الحياء. ولكنه لم يلبث أن تبيَّن أنه لم يزد على أن أطمعهم في نفسه، ورغَّبهم في طعامه، وزادهم عليه اجتراء. وكانت سيرة الفتى مع هذا الأستاذ الكريم مسرفة على الفتى وعلى الأستاذ جميعًا حتى أوشكت أن تترك في حياة الفتى آثارًا منكرة.

وضع الفتى رسالته التي تقدم بها للدكتوراه، ونقد فيها أستاذه مصرِّحًا باسمه، وكان الأستاذ من الممتحنين، فضاق بهذا النقد، وأبى في أثناء المداولة أن يمنح الفتى درجة الامتياز، ولم يكن سبيل إلى هذه الدرجة إلا إذا أجمع عليها الممتحنون؛ فاضطرت اللجنة إلى أن تنزل بالفتى من درجة فائق إلى جيد جدًّا.

وسافر الفتى إلى أوروبا فأقام بها عامًا، ثم عاد منها في خطوبٍ سيأتي حديثها.

وفي أثناء إقامته في مصر ذهب إلى الجامعة واستمع لدرس الأستاذ الشيخ مهدي، ثم خرج فكتب عن هذا الدرس مقالًا في مجلة «السفور»، نقد الأستاذ فيه نقدًا مُرًّا ممضًّا. وأسرع الأستاذ فكتب إلى مجلس الجامعة شاكيًا من هذا التلميذ المتمرِّد، طالبًا إلغاء بعثته عقابًا له على هذا التمرد، وكان أن أمر المجلس بالتحقيق مع الفتى، وكلَّف ثروت باشا وعلوي باشا رحمهما الله والأستاذ أحمد لطفي السيد، سؤالَ الفتى عن هذا المقال، فلم ينكر من مقاله شيئًا، ولم يرَ لأحد الحق في أن يعاقبه على نقدٍ حرٍّ بريءٍ، لم يُرد به إلا الخير، ولم يرَ لأحد حقًّا في أن يسأله في هذا النقد. وتضاحك المحققون، وكلَّف مجلس الجامعة الأستاذ أحمد لطفي السيد أن يصلح بين الأستاذ الغاضب والتلميذ المتمرِّد، فحضر الأستاذ لطفي السيد ذات مساء درس الشيخ، ثم دعاه ودعا التلميذ إلى العشاء، وفي العشاء كان الصلح، وعاد الفتى بعد ذلك إلى أوروبا موفورًا.

وكان الأستاذ الآخر الذي ملأ الجامعة فكاهة ودعابة، وملأ الطلاب عبثًا به واجتراءً عليه، وملأ بطون الطلاب من طعامه، وهو الشيخ طنطاوي جوهري رحمه الله.

كان يدرس الفلسفة الإسلامية بعد الأستاذ محمد سلطان وبعد الأستاذ سنتلانا خاصة. وكان يتكلم كثيرًا ولا يقول شيئًا، وكانت كلمات الجمال والجلال والبهاء والكمال والروعة والإشراق أكثر الكلمات جريانًا على لسانه منذ يبدأ الدرس إلى أن يُتمَّه. وكان لا ينطق بكلمة منها إلا مدَّ ألفها فأسرف في المدِّ، وربما أخذه شيء من ذهول وهو يمد هذه الألف فيغرق الطلاب في ضحك يخافت به بعضهم ويجهر به بعضهم الآخر؛ ويفيق الأستاذ من ذهوله على هذا الضحك، فيلوم الطلاب لا على أنهم يضحكون، بل على أنهم لا يشاركونه في الإعجاب بجمال الطبيعة وجلال الكون وبهاء القمر حين يرسل ضوءه المشرق على صفحة النيل، ويمدُّ ياء النيل فيسرف في مدها ويأخذه ذهول يرد الطلاب إلى ضحك متصل.

وفي ذات يوم ختم الأستاذ دروس العام، وقرر الطلبة قبل الدرس أن يكون الفتى لسانَهم في شكر الأستاذ على دروسه القيِّمة، واشترطوا عليه أن يشكر الأستاذ بكلام غير مفهوم، واشترط عليه الأستاذ إبراهيم مصطفى ألا تخلو جملة من حديث الشكر هذا الذي يجب أن يكون طويلًا من إحدى هذه الكلمات الست: الجمال والجلال والبهاء والكمال والروعة والإشراق.

وقَبِل الفتى هذه الشروط كلها، فخطب وأجاد، ولكنه لم يقل شيئًا، ورضِيَ الأستاذ كل الرضا، وقال للفتى: لا يكافئ هذه الخطبة الرائعة إلا ديك رومي، ولكنك لن تأكله وحدك، وإنما يشاركك فيه زملاؤك جميعًا، فإذا كان يوم الجمعة فأنتم تعرفون أين أقيم!

ولم يكن الأساتذة المصريون وحدهم هم الذين يملأون الجامعة فكاهة ودعابة، ويتعرَّضون لعبث الطلاب وجراءتهم الماجنة، وإنما كان الأساتذة الأجانب مصدرًا من مصادر الفكاهة وموضوعًا من موضوعات العبث. كانت لهجتهم العربية تملأ أفواه الطلاب بالضحك، وكان منهم الذين يَلوون ألسنتهم بالعربية يقلدون هذا الأستاذ أو ذاك من أساتذتهم الإيطاليين أو الألمانيين. ولم ينسَ الفتى يومًا قرر فيه الطلاب أن يُضربوا عن درس الأستاذ نالِّينو الإيطالي؛ لأن إيطاليا أعلنت الحرب على تركيا، وأرسلت سفنها غازية لطرابلس، فأزمع الطلاب أن يجتمعوا في غرفة الدرس، حتى إذا أقبل الأستاذ وارتقى إلى مجلسه خرجوا من الغرفة وتركوه فيها وحيدًا. وقد أتمَّ الطلبة ما قرروا، فتركوا الأستاذ وحيدًا في غرفة الدرس، ووقفوا أمام الغرفة ينتظرون ما يكون من أمره؛ ولبث الأستاذ في الغرفة دقائق ثم خرج، فأقبل على تلاميذه وقال لهم في لهجة عربية صحيحة فصيحة يلتوي بها لسانه بعض الشيء: مَثَلُكُمْ مَثَلُ الرَّجُلِ الذي أَرادَ أَنْ يَغِيظَ امْرَأَتَهُ فَخَصَى نَفْسَهُ!

وكان السهم صائبًا، وكان أثره لاذعًا ممضَّا، ومنذ ذلك اليوم لم يفكر طلاب الجامعة في الإضراب، ومنذ ذلك اليوم استقرَّ في نفس الفتى بغض شديد لإضراب الطلاب عن الدروس مهما تكن الظروف.

وكانت دروس الآداب الإنجليزية والفرنسية تُلقى في الجماعة ويشهدها الذين يحسنون هاتين اللغتين من الطلاب، ويتجنبها الفتى لأنه لم يكن يعرف لغة أجنبية. ولكن الجامعة نُظِّمت ذات يوم، وفُرِضت فيها الامتحانات، وفُرِض فيها العلم بلغة أجنبية من هاتين اللغتين. وأقبل الفتى ذات يوم مع زميله المرصفي — وللمرصفي حديث طويل سيأتي في إبانه — فاتفقا على أن يسمعا درس الأدب الفرنسيَّ، ليعرفا كيف تكون هذه اللغة، فدخلا غرفة الدرس ولبثا فيها ساعة كاملة لم يفهما فيها حرفًا مما سمعا، ولم يميزا منه إلا لفظًا واحدًا هو لافونتين الذي كان يتردد كثيرًا جدًّا على لسان الأستاذ.

ثم انصرفا بعد ذلك ولم يحفظا من أمر هذه الساعة إلا أنهما سمياها سجن لافونتين. وقد كان لهذه الساعة مع ذلك في حياتهما أثر أيُّ أثر؛ فأما المرصفي فعدل عن الجامعة، وأعرض عنها وعن دروسها وامتحاناتها، واتخذها مكانًا يلقى فيه الصديق، ويتفكَّه فيه بالعبث من بعض الأساتذة.

وأما الفتى فأزمع أن يتعلم الفرنسية حتى لا يعود إلى سجن لافونتين، وكانت له في تعلم هذه اللغة خطوب أيُّ خطوب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤