الفصل الثامن

ثلاث تجارب

واتصلت أسباب الفتى بثلاثة من الصديق غير صاحبيه: الزناتي والزيات، كان لكل واحد منهم أثر أي أثر في حياته الجامعية، وكان لاثنين منهم أثر بعيد عميق في حياته بعد أن جاوز طور الطلب وأصبح أستاذًا ومؤلفًا، عرف أحد هؤلاء الثلاثة في الجامعة، كان يختلف مثله إلى دروسها، ولم يكن أزهري النشأة، وإنما كان من فئة المطربشين، كان متوقد الذهن، نافذ الذكاء، قويَّ الذاكرة، محبًّا للدرس. وكان إلى ذلك حلو الروح، رقيق الصوت، ساحر الحديث، وقد ألِفَه الفتى في دروس اللغات السامية، وبفضله استطاع أن يفرغ لهذه الدروس، ويحسن العناية بها، ويحفظ كثيرًا من النصوص السريانية عن ظهر قلب. كان رفاقه الأزهريون ينفرون من هذه الدراسات ويكرهون أن يثقلوا على أنفسهم بها. وكان ذلك الصديق لها محبًّا وبها كلفًا، فكان يلقى الفتى في دروس الأستاذ ليتمان فيكتب عن الأستاذ كل ما كان يقول، وكان يخلو إلى صديقه بعد ذلك فيعيد معه الدرس والاستظهار.

ولم ينسَ الفتى يومًا احتفل فيه طلاب الجامعة بوداع أستاذهم ليتمان في آخر العام بفندق من فنادق مصر الجديدة، وشهد هذا الاحتفال أساتذة الجامعة من المصريين والمستشرقين؛ وخطب الطلاب مثنين على أساتذتهم، فأكثروا، ثم قام هذا الصديق فأثنى على الأساتذة المستشرقين، وعلى الأستاذ ليتمان خاصة، ولكنه لم يخطب باللغة العربية ولا بلغة أوروبية، وإنما ألقى كلمته باللغة السريانية، وتصور رضا الأساتذة الأجانب عنه وإعجابهم به واغتباط الأستاذ ليتمان بما أتيح له من نجح، وبأن تلميذًا من تلاميذه المصريين قد استطاع أن يخطب بهذه اللغة القديمة التي لا تجري بها الألسنة إلا في بعض الكنائس وفي قاعات الجامعات بين الأساتذة والطلاب.

وقد رأى الفتى أستاذه ليتمان بعد ذلك مرات كثيرة في مواطن مختلفة، فلم يحس عنده مثل هذه السعادة إلا في موطنين اثنين: أحدهما؛ في ليدن بهولندا عندما سمع تلميذه الفتى يلقي بحثه في مؤتمر المستشرقين، فلم يملك دموعه التي أخذت تفيض على وجهه بين الزملاء، والآخر: في كلية الآداب بجامعة القاهرة عندما شارك تلميذه في امتحان السيدة سهير القلماوي لدرجة الماجستير، وأعلن مفاخرًا بعد فوزها بالدرجة أنه مغتبط سعيد؛ لأنه يشارك في تخريج هذه الفتاة التي يعدها حفيدته، لأنها ابنة تلميذه ذاك الفتى، وما أكثر ما تحدث بعد ذلك بأنه جد في علم له ابن وله حفدة.

أما الصديق الثاني: فقد كان أزهريًّا مُبغضًا لدروس الأزهر، شديد النفور منها، قليل الإلمام بمجالس الشيوخ، غير حفيٍّ بالجامعة ولا مكترث لها ولا مختلف إليها، ولم يعرفه الفتى في الأزهر ولا في الجامعة، وإنما عرفه في قهوة الكلوب المصري قريبًا من سيدنا الحسين، وكان غريب الأطوار، يضحك من نفسه، وربما أغرى الناس بالضحك منه.

كان من أهل القرن الثالث أو الرابع، وكان يعيش في القرن الرابع عشر للهجرة، كان قليل الاحتفال بزيِّه وشكله وبزته، يهمل هذا كله إهمالًا ظاهرًا، ربما تكلّفه ممعًنا في مخالفة الناس، وكان معنيًّا باللغة يجدُّ في إتقانها ويتتبع غريبها، فيحفظه ويحصي نوادره، وكان مع ذلك شغوفًا بالحياة الحديثة يأخذ منها طيباتها حين تتاح له، ويكره أن يتعمقها أو يعرف دقائقها، وحاول أن يتعلم الفرنسية فلم يُحسن منها إلا تحية الصباح وتحية المساء وجملًا قصارًا، يلقيها بعض الناس إلى بعض حين يلتقون، ثم ضاق بها فأعرض عنها، واكتفى من الحياة الحديثة بما كان يصيب من طيباتها بين حين وحين.

وكان قد أقبل من أقصي الصعيد، واحتفظ بلهجته تلك فلم يكد يغيِّر منها شيئًا، وكان ربما أضفى هذه اللهجة على تلك الجمل الفرنسية التى كان يلقيها فيضحك منها ويضحك الناس.

وبفضل هذا الصديق استطاع الفتى أن يقرأ آثار أبي العلاء عندما حاول أن يضع رسالته لنيل درجة الدكتوراه من الجامعة. كان يغدو عليه في داره بدرب الجماميز إذا كان الضحى، فلا يفارقه إلا إذا أقبل الليل، وكان يقرأ له اللزوميات وسَقْط الزَّنْد وما شاء مما حفظ عن أبي العلاء، كان يقرؤه متغنِّيًا به غناءً عذبًا. وكان الفتى يسمع منه ويحفظ عنه، ويطرب لإنشاده وغنائه، وما زال كلما قرئ عليه شعر أبي العلاء لم يسمع صوت قارئه، وإنما يسمع صوت صديقه ذاك مترنمًا بهذا الشعر في صوته ذاك العذب الذي كان يضطرب بين الخشونة واللين.

ولم يذكر الفتى كم مرة قرأ شعر أبي العلاء ونثره مع صديقه ذاك، ولكنه عرف أنه قرأه مرات كثيرة وتأثر به أعمق التأثر، وآمن به أشد الإيمان، واستيقن أن حياة أبي العلاء تلك هي الحياة التي يجب عليه أن يحياها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.

ورأى الفتى نفسه ذات يوم مُستعدًّا لإملاء رسالته، فتجرد صديقه ذاك للكتابة، وجعل الفتى يملي، والصديق يكتب، فإذا احتاج إلى الاستشهاد بشعر أبي العلاء أو نثره أو بما شاء الله أن يستشهد به من كلام القدماء، بحث الصديق له عن هذه النصوص وأثبتها في مواضعها من الرسالة، وفي أشهرٍ قليلة تمَّ الإملاء وتمت الكتابة. وقرأ الصديق على صاحبه رسالته متغنيًا بنثرها وشعرها، كما كان يتغنى بنثر أبي العلاء وشعره، واطمأن الفتى إلى رسالته، وأزمع أن يقدمها إلى الجامعة، ولكن كيف السبيل إلى تقديمها وليس عنده منها إلا هذه النسخة التي كتبها الصديق، وعليه أن يقدم منها نُسخًا خمسًا؟

figure

وهنا يظهر الصديق الثالث فيحمل عن الفتى ثقل هذا العناء، وكان هذا الصديق الثالث أزهريَّ النشأة أيضًا، ولكنه كان من طرازٍ آخر مخالف كل المخالفة لمن عرف الفتى في الأزهر والجامعة من الرفاق، كان حسن الصورة، وسيم المنظر، رائق الشكل، معنيًا بزيِّه أشد العناية، يتكلف فيه الأناقة وينسق بين ألوانه تنسيقًا، وكان شديد عذوبة الصوت، ممعنًا في خفة الروح، ظريفًا لبِقًا مترفًا إلى حد ما. كان أبوه شيخًا كريمًا مُيَسَّرًا عليه في الرزق، مبسوط اليد في الإنفاق على ابنه ذاك، ولكنه كان على ذلك معتدلًا محافظًا على التقاليد. وكان ابنه طموحًا إلى مزيد من نعيم الحياة، وما أباح الله من طيِّباتها، فلم يَكْفِه ما كان أبوه يعطيه من المال، فسعى حتى أصبح مدرسًا في كلية الفرير، ليضيف نفقةً إلى نفقة، وليحسن العناية بنفسه وزينته، وكان أبوه يرى ذلك فلا يصدُّه عنه، وإنما ينظر إليه مبتسمًا مشجِّعًا، يرى أن خير ما يصنع الشباب إنما هو الجدُّ والعمل والاعتماد على النفس وكسب المال، ما وجدوا إلى كسبه سبيلًا. وكان الفتى ورفاقه ينظرون إلى هذا الصديق في شيءٍ من الإعجاب به والرثاء له؛ يعجبون به لثرائه وظَرفه، ويرثون له لأنه لم يكن يحبُّ الدرس، ولم يكن يتعمق لونًا من ألوان العلم، وإنما كان يلمُّ بهذا كله إلمامًا، يختلف إلى دروس الأزهر ليسخر من الشيوخ والطلاب، ويختلف إلى دروس الجامعة ليقى أترابه وليتحدث عن الجامعة بين زملائه من المصريين والفرنسيين في كلية الفرير. وكان يضحك من كل شيء، ومن كل إنسان، ويتندَّر بكل شيء وبكل إنسان، ويرى الحياة فكاهة حلوة يجب أن يأخذ الإنسان منها خير ما فيها.

كان في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة من عمره، وحدَّثته نفسه بأن ليس له من الزواج بدٌّ، فلما كلم أسرته في ذلك سخرت منه وهزئت به، وقال له أبوه في دعة ورضًا: ما زال بينك وبين الزواج وقت طويل وعمل ثقيل.

ولكن الفتى صمَّم على الزواج، وأزمع أن يُكرِه أهله على أن يزوِّجوه، وكان له ما أراد؛ لأنه اصطنع الجنون إذا دخل داره، فكان عاقلًا بين رفاقه في الأزهر والجامعة، وكان مجنونًا إذا أغلق الباب من دونه في منزله ذاك عند سيدنا الحسين، كان لا يكاد يدخل الدار حتى يؤذن أهله بمقدمه رافعًا صوته ما استطاع بهذه الكلمة التي كانت تخيفهم كل الخوف: «جنان»، ثم يأخذ في تحطيم ما يستطيع تحطيمه، وفي إفساد نظام الدار حتى يضطر أهله إلى اصطناع شيء من القوة لرده إلى بعض الهدوء، وما زال يعقل بين رفاقه ويجنُّ بين أهله حتى أصبح زوجًا، وحتى رزق الولد، قبل أن يبلغ العشرين.

وأقبل ذات يوم على رفاقه متحدِّيًا أيهم يستطيع أن يؤرخ له بالشعر مولد الصبية التي ولدت له صباح ذلك اليوم، فلما لم يجد عند رفاقه شيئًا أنشدهم شعره الذي ختمه بتاريخ مولد تلك الصبية، ثم دعاهم إلى غداء أعده لهم، فأطمعهم في نفسه منذ ذلك اليوم، وكانوا كلما أرادوا أن يدعوهم إلى غداء أو عشاء تملقوه بالشعر، يجدِّون قليلًا ويعبثون في أكثر الأحيان، ويستجيب لهم هو دائمًا.

وأقبل ذات يوم لا يملك نفسه من الإغراق في الضحك حتى ظن به أصحابه الجنون، وحدَّثهم بعد أن أفاق بأن الذين رأوه بين داره وبين الأزهر ظنوا به الجنون أيضًا. وكان مصدر إغراقه في الضحك أن اجتمعت له طائفة حسنة من الجنيهات، فاشترى لنفسه خاتمًا له فص من ألماس نفيس، ورأى أبوه هذا الخاتم، فلما سأله عن ثمنه أنبأه بأنه اشتراه بأربعين جنيهًا، فقال الشيخ ساخرًا: لقد فسد الزمان! ما رأيت قبل اليوم قط فتى يحمل في أصبعه أربعين إردبًا من القمح.

وجعل الفتى يتصور هذا المقدار الضخم من القمح وقد كُدِّس بعضه على بعض، وأقبل هو فحمله بأصبع واحدة، وكانت هذه الصورة هي التي أغرته بالضحك، ودفعته إليه حتى عرَّضته لتهمة الجنون.

لقي هذا الصديق صاحبه الفتى ذات مساء في قهوة الكلوب المصري. وكان الفتى ذاهلًا يفكر في رسالته كيف يقدمها إلى الجامعة وليس عنده منها إلا النسخة التي أملاها، وهو لا يعرف كيف يكتب النسخ الأربع الأخرى. فلما عرف صديقُه منه ذلك قال له متضاحكًا: «هوِّن عليك … فلن تنقضي أيام حتى تقدِّم رسالتك إلى الجامعة.» ثم أصبح فاشترى أداة من أدوات الطبع على البلوظة، واستأجر ناسخًا كتب الرسالة بالحبر الذي يُلائم تلك الأداة، وأعد من الرسالة نُسخًا قُدمت إلى الجامعة، وأصبح الفتى أول طالب مصري يرشح نفسه في الجامعة المصرية للظفر بدرجة الدكتوراه.

وأقبلت بشائر الصيف، وحُدِّد اليوم الذي تناقش فيه رسالة الفتى. وأقبل الفتية الأزهريون في مساء ذلك اليوم على الجامعة يحيطون بصديقهم مُشجِّعين له، يُحيُون في نفسه الأمل ويُزيِّنون في قلبه المستقبل الذي ينتظره، إلا ذاك الصديق الذي طبع له الرسالة؛ فقد كان يتحدَّث إليه حديث المنذر المحذِّر، لا حديث المشجِّع المؤمِّل، ينذره بقسوة الممتحنين، ويحذره من أن يكون له في الجامعة يوم كيومه في الأزهر، ويؤكد له أنه ليس مستعدًّا لأن يقدم له بعد رسوبه في الامتحان الثاني صينية المكارونة تلك التي قدمها إليه بعد رسوبه في الأزهر.

ولكن الفتى لم يرسب في هذه المرة، وإنما ثبت لأساتذته الذين جادلوه وألحوا عليه في الجدال، وظفر منهم بعد لَأْيٍ بدرجة الدكتوراه.

وسجَّلت الجامعة هذا الامتحان ونجاح الفتى فيه بهذا المحضر:

في الساعة الخامسة من مساء يوم الثلاثاء خامس مايو سنة ١٩١٤ اجتمعت بدار الجامعة لجنة امتحان العالِمية المؤلفة من الأستاذ محمد الخضري رئيسًا، والأستاذين محمد المهدي ومحمود فهمي المدرسين بالجامعة، والأستاذين إسماعيل رأفت بك وعلام سلامة المندوبين من نظارة المعارف العمومية أعضاء لامتحان … الطالب بالجامعة المصرية، وكان اجتماعها بهيئة علنية.

ناقشت الطالب في رسالته التي قدمها في تاريخ أبي العلاء المعري، ثم في العلمين اللذين اختارهما، وهما: الجغرافيا عند العرب، والروح الدينية للخوارج، واستمرت المناقشة ساعتين وسبع دقائق. وبعد نهاية الاختبار اجتمعت للمداولة فيما يستحقه الطالب من الدرجات، فقررت أنه يستحق:
  • (أ)

    درجة جيد جدًّا في الرسالة.

  • (ب)

    درجة فائق في الجغرافيا عند العرب.

  • (جـ)

    درجة فائق في الروح الدينية للخوارج.

وفي منتصف الساعة الثامنة أعلنت هذه النتيجة للجمهور وسط قاعة الامتحان.

رئيس لجنة الامتحان
محمد الخضري
٥ مايو سنة ١٩١٤

وتلقت الجماعة الضخمة التي كانت تضيق بها القاعة هذا الإعلان بالتصفيق الشديد الملحِّ، ثم وقف علوي باشا رحمه الله فأعلن أنه تبرع بجائزة قدرها عشرون جنيهًا لأول طالب تخرَّج في الجامعة المصرية، فاتصل التصفيق. ثم تفرَّق الجمع، وانصرف الفتى مع رفاقه فأنفقوا ساعات في بيت الزيات لم يتحدثوا فيها إلا بأمر الرسالة والامتحان وما أتيح لصديقهم من فوز.

ولم ينمِ الفتى من ليلته تلك … حال الابتهاج بينه وبين النوم، وهو يعلم أنه ما أحسَّ السعادة قط كما أحسها في ذلك اليوم وفيما تلاه من الأيام، لا لأنه ظفر بهذه الدرجة الجامعية، ولا لأنه كان أول ظافر بها، ولا لهذه الاحتفالات التي أقيمت له، ولا لكثرة ما تحدثت الصحف عنه وعن فوزه، ولا للعشرين جنيهًا التي أجازه بها علوي باشا، والتي كانت تزيد على مرتب أبيه عن شهر كامل ملؤه الجِدُّ والكدُّ والعناء، بل لشيء آخر بعيد عن هذا أشدَّ البعد، قريب منه أشدَّ القرب؛ وهو أنه قد قبل تحدي الجامعة وظفر بدرجة الدكتوراه، وأصبح سفره إلى فرنسا دينًا له على الجامعة ليس لها بدٌّ من أن تؤديه إليه.

وكانت حياته في الأشهر التي أنفقها في مصر قبل أن يعبر البحر حلمًا حلوًا متصلًا، ولكنها على ذلك لم تخلُ من أيام شِداد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤