مقدمة

تمهيد مفيد

لا مراء ولا مشاحة أنَّ الوقوف على ما كانت عليه الأمم الغابرة، ومُقابلته على ما آلت إليه حالتها الحاضرة، أمر ترتاح له الرُّوح وتصبو إليه النفس؛ بناء على أنَّ الإنسان يميل بطبعه إلى ذلك كل الميل.

وناهيك ما في ذلك من الفوائد الجمة، والمزايا المهمة، التي تَجِلُّ عن الوصف والتعبير، ويقصر دون سردها وتَعْدَادِهَا قلم الكاتب النحرير، بل لا يَصِلُ إلى إدراك كُنْهِها وماهيتها فكر كل جهبذ خطير خبير.

لأنَّ الاطِّلاع على تاريخ الأمم السالفة قد يدعو إلى تحسين العوائد، وتدميث الأخلاق، والسعي وراء احتواء الفضائل والتحلي بها، واجتواء المساوي والرذائل والتخلي عنها. وهذا هو سر تقدم الأمم ومصدر ترقيتها، وأصل حضارتها ورفاهيتها وسعادتها، ومنشأ مجدها وسؤددها وأبهتها.

فالتاريخ مرآة يرى الإنسان في داخلها أسباب التقدُّم والترقِّي فيهتدي إلى معرفتها ويُقدِم على مناولتها وممارستها، ويرمق ببصر بصيرته بواعث التأخر ودواعي الانحطاط والتقهقر؛ حتى يُصبح على بصيرة منها، فيُحجِم عنها ويسعى في ملاقاتها وتداركها بأنجع الوسائل وأنفع الوسائط. وبهذه المثابة يكون واقفًا على قبيله ودبيره، وعارفًا طريق الوصول إلى معارج الفلاح ومدارج الارتقاء والنجاح. وهذه هي أفضل غاية وأجل بغية يجدُّ في طلبها المجدون، ويتنافس في تحصيلها ونوالها المتنافسون.

ولا ريب أنَّ تاريخ الأمة القبطية لَمِن التواريخ الخليقة بالذكر والحقيقة بالنشر؛ نظرًا لما وعاه وحواه من الحكم المنثورة، والمواعظ المأثورة التي يفتقر إليها أفراد الهيئة الاجتماعية كل الافتقار، ويضطر العاقل إلى معرفتها جُلَّ الاضطرار؛ لأنَّه يمثِّل للمتأمل بأجلى وضوح ما كانت عليه تلك الأُمَّة من سمو المكانة ورِعَايَةِ الجانب. وما تحصلت عليه من العلوم والمعارف التي لم يجارها في مضمارها مُجَارٍ، ولم يُبَارها في ميدانها مبارٍ. وإنها لم تصل إلى ما وصلت، ولم تتحصل على ما تحصلت إلا بهمة وُجَهَائها ونبلائها ورؤسائها. أيام كان هؤلاء الرؤساء لا يسعون لغاربهم، بل يعرفون ما لهم وما عليهم، ويغارون على مصلحة أمتهم ويشق عليهم أن يروها في حالة يُرثى إليها. عالمين أنَّ العار والشنار إنما هو منسوب إليهم إذا هم أهملوها ولم يعبئوا بأمرها، ويكترثوا بإصلاح شئُونها. وأنَّ الشرف والفخر إنما هو عائد عليهم إذا سَعَوْا في ترقيتها وإصلاح حالتها؛ لأنَّه إن لم يهتم صاحب الدار بما فيها فهيهات هيهات أن تقوم لها قائمة إذ لا يُنتَظَر إصلاحها ممن لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ثم يشخص هذا التاريخ أيضًا أمام عيني الناظر ما آلت إليه حالتها من السقوط والهبوط، الذي لم يكن يخطر بالبال. لولا أنَّ دوام الحال من المحال. ومَتى علم ذلك وتَحَقَّقَ ما هنالك، يستفد عندئذٍ الفائدة المقصودة بالذات، ألا وهي إصلاح ما اختل واعتل وإحياء ما درس وما مات.

فإليكم إليكم أيها المصريون عمومًا، وخلف هذا السلف المبارك خصوصًا تاريخ آبائكم الأوَّلين وأسلافكم السالفين. حتى إذا علمتموه ووعيتموه فاحذوا حذوهم واختطوا خطتهم. واسعَوْا في رأم الخلل ورأب الصدع، فعساكم تُعيدون شهرة أولئك القوم التي لعبت بها أيدي العدم.

واعلموا أنَّ آثار أجدادكم وعظام آبائكم قد قامت اليوم تطالبكم بحقوقهم المقدسة المسلوبة، وكأني بها تناديكم وتناجيكم قائلة: ألا رحم الله قومًا عرفوا ما لهم وما عليهم من الحقوق والواجبات؛ فقاموا بأدائها خير قيام، وألا قاتل الله خلفًا هدم ما بناه السلف، فكان كالباحث عن حتفه بظلفه، والجادع مارن أنفه بكفه.

فهل يجمل بنا أن يَطْرُق مسامعنا هذا النِّدَاء ونحنُ عن إجابته وتلبية دعوته غافلون ساهون؟!

فهلموا بنا أيها الأفاضل الأماثل، نعير هذا النداء جانب الالتفات. وكفانا كفانا ما أحدق بنا وأحاق بطائفتنا من الآفات والعاهات؛ حتى يُقال نِعم الخلف الذي اقتفى أثر السلف، وذلك إنما يكون بإخلاص النيات، وحسم أسباب العداوات والخصومات. فإننا إذا اتحدنا قلبًا وقالبًا، واعتصمنا بعروة الالتئام والوئام، وصرمنا حبال البغضاء والشَّحناء، فُزنا بنوال آمالنا وأمانينا التي هي إِصْلَاحُ هذه الطائفة حتى تصبح رافلة في حُلَل التَّقَدُّم والارتقاء. ومُختالة في ثياب الهناء والرخاء تحت ظل أمير بلادنا، ومالك قلوبنا قبل رقابنا، الملك العادل الجليل، صاحب المجد الأثيل، خديوينا الذي تعلقت بأهداب كرمه وحلمه الآمال والأماني «أفندينا عباس باشا حلمي الثاني» أدام الله أيامه مقرونة بالعز والصفاء. ولا زلنا له عبيدًا مخلصين في السراء والضراء. وحفظ لنا الوزراء الكرام ورجال مصر العظام ما مرت الأيام وكرت الأعوام، بمنه وكرمه آمين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤