مقدمة

انحطاط الأقباط

لا ريب أن من جال بعين فطنته، ونظر ببصر بصيرته في تاريخ الأُمَّة القبطية الذي أتينا على ذكره في الفصول السابقة، يعلم علم اليقين أنَّ هذه الأمة كانت ولا محالة في مقدمة الأمم المتمدِّنة المتقدمة، كيف لا وقد بلغت من الترقي والتقدم درجة لم يتسنَّ لغيرها من الأمم الوصول إليها، وتحصَّلت على جانب من الرقعة والسيادة لم يتمكن سواها من الحصول عليها؛ الأمر الذي يعترف بصحته كل من تَنَزَّهَ عن الغايات الشخصية، وتجرَّدَ عن المآرب الذاتية أو ألقى السمع وكان شهيدًا.

ولكنها لم تلبث أن انحطت انحطاطًا تامًّا وسقطت سقوطًا كليًّا، ففقدت كلَّ ما أحرزته من الامتيازات العديدة التي خُصَّت بها وتحصلت عليها دون غيرها، فأصبحت وأنت لا ترى فيها إلا أمة صغيرة حقيرة لا تُرْمَقُ إلا بعين الامتهان والاستهجان، بعد أن كانت رَبَّةَ السيادة وصاحبة السلطان، ومحط رحال الحكمة والعرفان، تهرع إليها الفلاسفة والجهابذة من جميع الأصقاع والبقاع، وسائر الأنحاء والأرجاء؛ ليقتبسوا من علومهم ويستنيروا بنبراس معارفهم وسراج آدابهم أيام كان هذا السراج وهاجًا.

فليت شعري ما هذا الانقلاب العجيب، والتغيُّر الغريب الذي لم يكن ليخْطُر بالبَال لولا أن دوام الحال من المحال، أَلَعَلَّ عقول أبنائها ضعفت؟ أو أن جدارتهم وكفاءتهم عُدِمَت؟ أو أنَّ نباهتهم القديمة انتُزِعت؟ أو لعلهم ليسوا من سلالة أولئك الأقباط القديمة، بل ادَّعَوْا تلك النسبة والقرابة زورًا وبهتانًا؟!

لا لعمري إنْ هذا إلا زعمٌ عقيم وفَهم سقيم؛ فإنَّ هؤلاء القوم هم هم سلالة أولئك الفراعنة الذين سادوا وشادوا، ووصلوا إلى ما وصلوا، وتحصَّلوا على ما تحصَّلوا، ولم يعترهم ضعف عقل أو قلة نباهة أو عدم جدارة، ولكن هي الهمم فترت والعزائم، خارت؛ فجلبت على رأس الأُمَّة هذا الوبال الوبيل والنكال الذي لم يعهد له مثيل.

قوائم مجد تلك الأمة القديم — وهو قسم لو تعلمون عظيم — أن انحطاطنا هذا إن هو إلا نتيجة تهاوننا وتوانينا الذي أصبح تُضرب به الأمثال، وتتحدثُ بِذِكْرِهِ الأمم على ممر الأحقاب والأجيال؛ فهو الذي كان سبب تأخُّرنا وتقهقرنا وسر انحطاطنا وسقوطنا، حتى أصبحت طائفتنا تشكو ألم الهبوط والتأخير، ولا نَصِيرَ هناك ولا مجير؛ فالعياذ بالله من أوحال هذا الحال، وليس ذلك فقط هو سبب انحطاط تلك الأمة، بل هنالك أسباب أخرى شتى لا يسعنا إلا أن نتحاشى سرد أغلبها، ونَخُصُّ منها بالذكر ما أحدق وأحاق بهذه الأمة من المصائب والنوائب من كل جانب، وما تجشمه أبناؤها من الاضطهادات التي تجاوزت حَدَّ الاعتدال، وبلغت درجة الإفراط، كما يستنبط ذلك من مراجعة تاريخ تلك الأمة أيام حكم العجم والرومان والمماليك البحرية على بلادهم؛ فإن ما لاقوه من التضييق والاضطهاد، وما صادفوه من العوائق والبوائق والعراقيل عاقهم عن المثابرة في خُطَّة التقدُّم والسير على وتيرة الترقي وملازمة جادة الصعود، حتى لقد قال بعض المؤرخين المحققين المدققين أنَّه لولا ما جُبِلَ عليه أبناءُ هذه الأُمَّة من التجلُّد والتسليم لأحكام القضاء والقدر، وملاقاتهم لتلك الأهوال بقوة جأش وثبات جَنان؛ لبادوا جميعًا منذ عهد بعيد، ولم يكن لهم في الوجود وجود، وناهيك أنَّ سوء تصرف بعض أَئِمَّتِهَا وجهل أغلبهم واستبدادهم وطموحهم إلى الطمع والجشع، وجنوحهم إلى مقاومة الإصلاح وعدم توفُّر أسباب تعميم التعليم بينهم كان أيضًا أكبر دواعي التأخُّر، وأعظم بواعث هذا الانحطاط والتقهقر، والله العليم بذات الصدور.

توفيق عزوز

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤