في بوادبست

بعد أربعة أيام على الدانوب

لما اعتزمت اجتياز أوربا عن طريق الآستانة فروما فالمجر والنمسا، روى لي صديق عن أحد أصحابه ركب قطار إكسبريس الشرق من الآستانة إلى باريس، فظل يشعر بأنه لم يصل أوربا، حتى إذا اجتاز القطار البلقان إذا هذا القطار عينه قد صار أنظف مما كان؛ لأن الوسط الذي أحاط به خلع عليه من معاني البهجة ما نبه النفس إلى جمال فيه لم تكن لتعنى به في غير وسط أوربا الراقي، ولست أستطيع أن أقول ما قاله صاحب صديقي، فإنني لم أركب إكسبريس الشرق، وإنما ركبت السفينة النهرية على الدانوب، وأشهد لقد شعرت ساعة نزلنا إليها في مرفأ جيورجيو بعبء ينزاح عن عاتقي، وبغبطة تشيع في كل نفسي، ألم نقطع في القطار من بخارست إلى السفينة ثلاث ساعات لم نرَ فيها ضياء الكهرباء ولم نتبين فيها مظهرًا للحضارة؟ ألم نجتز جمرك المرفأ بعد عناء أي عناء؟

وها نحن أولاء تحيط بنا الأنوار من كل جانب، وهذا البدر يعين الكهرباء ويمد على صفحة الماء من ضيائه ما يذيب فيه فضة ونورًا، لكن هذا الإحساس بالطمأنينة لم يمازجه ما كنت أرجو من إعجاب بشواطئ الدانوب؛ فقد ظللنا بين رومانيا من جانب، وبلغاريا ويوجوسلافيا من الجانب الآخر، وليلتين لا نرى على الشاطئ إلا مزارع لا يحدها سوى الأفق، ولا يحدث شيء مما عليها عن جمال، وكادت النفس تمل هذا المنظر المتشابه الذي لا يبعث إليها بجديد لولا أن أسعدتنا جبال «بوابات الحديد» بإحساس جديد. ما أشبه هذه الجبال بجبال البسفور! وما أشبه الدانوب بينها بالبوغاز هناك! ننظر فإذا الجبال عن أيمان الركب وشمائلهم وأمامهم ومن خلفهم، وإذا الدانوب بحيرة ضيقة تحصرها السفوح القاسية القليلة الشجر والخضرة، ثم إذا السفينة كأنها وسط هذه البحيرة حيرى وقف ربانها حركتها ومال بها إلى أحد الشاطئين حتى يتميز الطريق. وما هي إلا سويعة حتى تدور السفينة وتتقدم، وإذا هي من جديد تحصرها وسط بحيرة ضيقة جبال تسد عليها الجهات الأربع، وعلى سفوح هذه الجبال ضياع منتثرة، وقرى صغيرة، وعليها طرق تمر من فوقها العربات والدواب والناس، ولكنها خالية أكثر الوقت من كل مارٍّ، ورَكْب السفينة فرحون بهذا المنظر الذي يحدث لهم في كل آن جديدًا يبعث في نفوسهم شوقًا لجديد غيره، ويذرها حية متجددة لا يتطرق إليها السأم ولا الملال ولا شيء مما إليهما من علائم الجمود والموت.

لست أدري أغلوت في نسبة هذا الإحساس إلى ركب السفينة، لكن ذلك هو ما بدا لي منهم، أو هو ما لاحظت منهم، وهو إحساسي أنا بأن جمال الحياة إنما هو تجديد مظاهر الحياة؛ فجمال سكينة الخلد يبهر ولا يسحر، وهو أثر نرتجيه بعد الحياة، وإن أعجبنا أن نتخيل صورة جماله قبل بلوغه. ولعل شعوري هذا هو الذي يجعل الجبل أحب إليَّ من البحر؛ فإذا كان في البحر وموجه وزوابعه وعواصفه من التجدد مما يجعل راكبه دائم اليقظة، فإن البحر ما صفا متشابه، وهو إن ابتعث الخيال إلى تصوير ما وراء الأفق من غيب عجيب، فإنه لا يحرك المشاعر في كل لحظة بجديد، فأما الجبل فمأوى المباغتات في كل خطوة من خطواته؛ انظر إلى هذا السحاب المتراكم فوق الأرض يحجب الشمس ويحيل النهار ليلًا، والناس في كل لحظة يتوقعون الودق يخرج من خلاله ينهمر هتونًا! هأنتذا تصعد الجبل فتخترق هذا السحاب فتعلو فوقه فتراه بين سفوح الجبل لججًا من دخان، وترى الثلوج على قيد النظر منك. وحذارِ من الثلج؛ ففيه فرجات للأقدام فيها مزالق. بل ما لنا ولهذه المراقي العنيفة الرفيعة في الجبال نلتمس عندها دوام الجدة؟! إن في أقل الجبال ارتفاعًا مفاجآت تتكرر ولا يأمنها أشد الناس بالجبل معرفة، وفي المفاجآت جمال وحياة، فإن أنت لم تكلف نفسك مؤونة العرض لها واكتفيت من الجبل بصخرة تجلس فوقها، رأيت حولك من تعدد مناظر الجبل ما يقل مثيله في البحر، مع ما للبحر من هيبة وجلال.

وانحدرت الشمس وراء جبال أبواب الحديد، وانتشرت الظلمة في السماء رويدًا حتى اكتسى بها كل الوجود، ثم أصبحنا فإذا نحن فوق السفينة على الماء تحيط بشاطئيه سهول لا يقف النظر فيها سوى الأفق، هنالك بدأ الملال يعاودنا، ملال لم أجد سبيلًا إلى التغلب عليه إلا أن بدأت أكتب الرسائل الأولى من هذه السلسلة الثانية. فلما كنا عصر الجمعة تبددت على الدانوب بشائر بودابست، تبدت جسور تتلوها جسور، وبدت على قيد النظر جبال ومبانٍ شاهقة. إذن فقد نجونا من الملال وآن لنا أن ننزل منازل الحضارة، وأنستنا النجاة من الملال سخطنا على من أشار علينا بسياحة يمل الإنسان فيها الطمأنينة وتجهده أثناءها الراحة، حتى ليود لو لم يكن في الحياة راحة ولا طمأنينة.

ونزلنا بودابست، وقصدنا فندق سان جلير. وللفنادق في المدن أثر في النفس كبير؛ هي التي تدفع إليك بالفكرة الأولى والأثر المادي المباشر عن المدينة. وفندق سان جلير كخير الفنادق التي زرت في مصر وفي مختلف عواصم أوربا، فإذا أضفت إلى ما تركه نزولنا به من حسن الأثر، هذا العناء الذي أضجرنا من الراحة، وهذه الأيام التي قضيناها في بلاد البلقان، سهل عليك أن تدرك مدى الأثر الجميل لما استقبلنا به بودابست.

على أن هذا الأثر الجميل جعل يزداد بعد ذلك، والأسبوع الذي قضيناه في عاصمة المجر هو، ولا ريب، من خير أسابيع هذه السياحة برغم جهلنا للغة وعدم وجود أي مصري نستطيع التفاهم معه أو نعرف البلد من سبيله. وإذ كنت لا أستطيع أن أقول إن مغادرة السفينة لبلاد البلقان قد جعل السفينة خيرًا مما كانت، فإن الذي شعرت به أثناء مقامي في بودابست هو أنني انتقلت حقًّا إلى أوربا حيث جمَّل الإنسان الطبيعة بما أوحاه له ذوقه من الجمال، فجعل منها لنفسه متاعًا صحيحًا، وحيث أنشأ مظاهر الفن الجميل في خير صورها، وحيث أطلق الفكر الإنساني حرًّا في الإعراب عما يجول به، حرًّا في تنفيذه، لا تقيده الجماعة بأوهامها ولا تكرهه على الخضوع لأعباء خرافاتها.

ثمانية عشر يومًا منذ غادرت مصر لم أشهد فيها من مظاهر الفن الغربي شيئًا يقف عنده النظر، فسألت حاجب (بواب) الفندق لأول ما وصلنا وبعدما أزلنا عنا غبار السفر عن ملهى نستمتع فيه بالموسيقى والغناء، ونشهد فيه مختلف المناظر، ودلنا الحاجب على الأورفيوم (Ľorpheum) فذهبنا إليه، وسمعنا موسيقى وغناء، وشهدنا مناظر ورقصًا. ما أكبر الفرق بين الذي رأينا وبين ما يعرض علينا في ملاهي مصر! فيما رأينا ببودابست فن أن يك من الفن الخفيف فهو فن تشعر بجماله وببراعة أصحابه، فن يقصد منه إلى إرضاء النفس الإنسانية لا إلى إثارة مشاعر الإنسان الدنيا، فن تبتهج له تارة وتضحك أخرى، وتخرج آخر الليل محدثًا نفسك عما شاهدته من جمال، مكتفيًا به غير باحث بعده إلا عن راحتك وطمأنينتك إلى عمل الصباح، وهذا ما شعرت أنا به مع جهلي للغة، ما بالك لو أني كنت أعرفها، فأضيف إلى شعر الموسيقى والغناء شعر اللفظ الجميل الترتيل.

وكنا نود أن نرى غير هذا الفن الخفيف في الموسيقى شيئًا من الجد نسمعه في الأوبرا، لكن أوبرا بودابست لم تكن تفتح أبوابها إلا في أول أكتوبر؛ أي بعد الموعد الذي حددناه لمغادرتنا إياها، فذهبنا إلى ملعب للأوبرات شهدنا فيه رواية ألكسندرا، رواية ظريفة فيها كثير من الكلام وكثير من الغناء، والموسيقى تساير الكلام كما تساير الغناء. وخلاصة الرواية أن يحب فتى في الجيش ألكسندرا الجميلة وتحبه، ثم يراها القائد فيغرم بها، ويكره الفتى الضابط على تركها أو تجريده من سلاحه، ثم يقيم القائد حراسًا من الجند على الفتاة، فإذا جاء دور الضابط الذي يحبها في حراستها ألبسها ملابسه، فخرجت ساعة استبدال الحارس، فرأى القائد في تعريض كل من المحبين نفسه للهلاك دليلًا على إخلاصهما لحبهما وإقدامهما على التضحية في سبيله، فنزل عن شهوته احترامًا لهذه العاطفة الشريفة وتركهما يقترنان.

وكانت الممثلة التي قامت بدور ألكسندرا بارعة الجمال براعة عاونت على حسن التمثيل، وأعانها جمال الصوت، فاجتمع لها من ذلك كله ما شد إليها أنظار الجمهور وقلوبه وعواطفه، حتى لم يكن فصل من فصول الرواية يتم حتى تدمى الأيدي بالتصفيق، وحتى يهرع الكثيرون إلى ناحية المسرح يمتعون عيونهم عن قرب بجمال هذه الفتاة الفتانة؛ رشيقة القوام نحيفة، حلوة النظرة والابتسامة، يزين قوامها ملابسها ويضيف إلى رقتها جمالًا ورشاقة ورقة، فهي قطعة فنية أبدعها الخالق لتكون كمالًا وزينة، ولتكون على المسرح زهرة بجمالها، وبلبلًا بصوتها، وروحًا ملائكيًّا برشاقتها وخفتها وبوجودها البسام كله.

لم نكن في حاجة إلى فهم اللغة المجرية لتسري إلى نفوسنا كل المعاني وكل العواطف التي كانت تعبر عنها هذه الفتاة التي ينطق وجودها كله بأرق المعاني وأجملها، ولولا ضيق وقتنا وكثرة مشاغلنا لترددت لأرى ألكسندرا وسحرها الجمهور سحرًا يجذبه إليها ويقفه عند أقدامها.

هذا الفن الجميل في الموسيقى وفي الغناء والتمثيل يزين مدينة من أجمل المدن موقعًا على ضفاف نهر الطونة، وإذا لم يكن للدانوب جمال البسفور، فإن الجبال الصغيرة التي تتخلل المدينة والتي جعل المجريون منها حدائق لنزهتهم، تضيف إلى الدانوب جمالًا، ثم إن يد الإنسان لم تترك هذا النهر من غير أن تجعل من الجسور التي يعبر الناس عليها فوقه ومن القصور القائمة على ضفتيه ومن التماثيل المطلة على مياهه ما يكسوه بهجة وجمالًا. صعدنا غداة وصولنا في جبل سان جلير المجاور لفندقنا، وكنا نحسب أن سنصل من سفحه إلى ارتفاع غير بعيد ثم نعود أدراجنا، فإذا بنا نسير في طريق معبَّد تحيط به حدائق وأشجار حتى يصل إلى حصن قديم أقيم في الماضي للدفاع عن المدينة، ثم ينحدر الطريق إلى الناحية الأخرى من الجبل تحيط به الحدائق والأشجار، حتى يصل إلى تمثال سان جلير يطل من فوقه كهف تنحدر عنده المياه على جسر إليزابث المعلق، ويبارك بالصليب في يده عاصمة المجر منذ القدم. وذهبنا يومًا على شواطئ النهر المنظمة أبدع تنظيم، حتى وصلنا إلى جزيرة سانت مارجريت. جزيرة صغيرة لو أنها تركت وشأنها لما كان لها شأن ولا كان فيها جمال، لكن يد الإنسان جعلت منها جنة صغيرة بما غرست فيها من حدائق ومن أشجار باسقة، وبما عطرت به جوها من ألوف أشجار الورد التي غرست على حافتها عند ملتقاها بمياه النهر. ولست أستطيع أن أصف جمال جسر فرانس جوزيف الذي كنا نطل عليه من نوافذ فندق سان جلير؛ فن وجمال في عمارته يكاد ينسيك جمال جسر الإسكندر في باريس، فإذا أنت نظرت إليه وإلى البقعة المحيطة به ليلًا بهرتك الأنوار، وكان نظامها أكثر لك بهرًا من لألائها. وكم من سويعات قضيتها محدقًا إلى هذا الجسر وأنواره مأخوذًا بها عن كل ما سواها، ناسيًا نفسي وناسيًا برد الليل وما قد يجره من مذهبات الصفو. على أن هذه الجسور وجزيرة سانت مرجريت والتماثيل البديعة المطلة على الدانوب، ليست شيئًا إلى جانب المباني الفخمة البديعة القائمة على ضفتيه، ولو لم يكن من هذه المباني إلا البرلمان المجري وقصر الهابسبور لكفى بهما لشاطئ الطونة جمالًا، لكن القصور المشيدة تتتالى على الجانبين، ومنها الفنادق الضخمة، ومنها المتاحف البديعة العمارة، ومنها القصور القديمة، ومنها مباني الحكومة ذات الرهبة والهيبة والجلال. وفوق مياه الطونة وتحت جسوره وحول جزيرة سانت مارجريت وبين هذه العمائر المشيدة كلها الجمال الفني البارع، تحبو الزوارق وتمخر السفن وتتهادى المراكب، فتضيف إلى روعة الفن حياة، وإلى جمال تناسقه روحًا ونشاطًا.

وداخل هذه المباني أجمل وأروع من مظاهرها؛ دخلنا البرلمان ودخلنا قصر الهابسبور. وبرلمان المجر من أفخم برلمانات العالم عمارة، ومن أحسن ما في عمارة العالم كله عظمة ودقة وإتقانًا، ما يكاد يواجهك سلمه الكبير حتى تقف عند أول درجة من درجاته مأخوذًا مبهورًا. يا للعظمة ويا للروعة ويا للجمال! كلا! ليس هذا درجًا يرتقي عليه إلى طابق أعلى، وإنما هو معرض فسيح لأكثر آيات الفن الجميل بهاء ودقة! ما هذه العمد، وما هذه التماثيل وما هذه الصور! ثم ما هذا السقف! قف بربك أيها الدليل ولا تسرع! ذر لنا من الوقت ما يروي ظمأ العين والنفس والروح من هذه الفتنة في العمارة! عرض كل درجة من درجات هذا السلم ثلاثون مترًا أو يزيد، وعلى الجدران إلى جانب الدرج صور ونقوش وتماثيل وعمد اقتعدت على تيجانها ثريات الكهرباء جل جمالها عن وصف الكاتب، ونقش السقف وصوره! إن القلم ليقصر عن وصف هذا كله في رسالة، بل في كتاب، وأشك في أن تستطيع ريشة الرسام استظهاره، بل يجب أن يتعاون قلم الكاتب وريشة الرسام وشدو المغني ونغم الموسيقي ليعبر عن هذا التجاوب والاتساق في جمال نادر المثال. فليعذرني القارئ إذا لم تجد عليه وقفتي عند أولى درجات السلم الكبير شيئًا، وليصعد معي إلى منتصفه، ثم ليقف مرة أخرى ذاهلًا مبهوتًا؛ أي شيء هذا الذي يؤدي إليه السلم الكبير؟! هو القبة La Coupole قبة برلمان بودابست.

وبحسب القارئ أن أخبره أني حسبتها قاعة العرش أول ما دخلتها ليقدر جمالها الملوكي. دع البسط النفسية التي تفرشها، فالبسط من اليسير في كل وقت أن تبدل، ولكن انظر إلى عظمة العمارة ودقة الفن فيها وفي زخرفتها، هذه القبة الرفيعة التي تتسع مساحتها لبناء كامل كسيت جدرانها بالخشب الثمين، وزخرف هذا الخشب بنقوش كلها الدقة، وكفتت بوارزه بالذهب، لا ترى فيه تظاهرًا بالفن، وإنما ترى فيه جمالًا فنيًّا باهرًا. وليست هذه القبة قاعة عرش، وإنما هي صلة ما بين قاعة الشيوخ وقاعة النواب والسلم الكبير، بينها وبين كل من القاعتين صالة تدخين واستراحة فيما تماثيل وأنصاب يأخذ جمالها بالذهب فيريحه من عناء الفكر، فأما القاعتان فآيتان ليس لي إلى الحديث عنهما من سبيل أو أعيد ألفاظ السحر والبهر والذهول، ثم أين لي ألفاظ فن العمارة والزخرفة لأصف إتقان القباب والنوافذ المتصلة بها والعمد التي تقوم القباب فوقها على الجدران من ألوان النقش البديع، ومن حول القبة والصالات وقاعات الانعقاد غرف لا عدد لها للوزراء، ولمكتب كل من المجلسين وسكرتيريته وإدارته، ومن وراء ذلك كله منظر بديع على الدانوب وجسوره وسانت مارجريت وزهرها وعبيره.

فأما قصر الهابسبور فيرجع تاريخ عمارته إلى ما قبل وصول الأتراك المجر في القرن الخامس عشر، ولعله ترك في نفس الأتراك أثرًا عميقًا؛ ففي عمارته وفي أخشابه وتذهيبها مثل لما ترى في يلدز الكبير في الآستانة، لكن فيه إلى جانب ذلك عظمة وفنًّا لم نشهدهما في شيء مما شهدنا في الآستانة. هو يقع من شاطئ الدانوب المقابل للبرلمان على ربوة عالية، وفي ظاهره من الوجاهة ومن العظمة ما يقفك عنده ولو لم تعرف أي شيء هو. يصعد من أسفل سفح الربوة إلى أبواب القصر سلم فسيح من الرخام، بل — أستغفر الله — سلمان من الرخام يقابل كل واحد منهما الثاني، وينعرجان فيقتربان ثم ينعرجان فينفسحان، وهما أثناء اقترابهما وانفساحهما تحيط بهما حدائق نسقت من الجازون والزهر أبدع تنسيق. على أن الباب الذي يؤدي إلى هذين السلمين مغلق الآن. وللقصر طريق آخر، فأنت ترتفع إلى الربوة في فنكلير (مصعد الجبل) لا يقتضيك أثناء الصعود دقيقة كاملة، فإذا خرجت منه كنت بحذاء القصر المؤدي إلى حدائقه. دخلنا إليه ووقفنا بين الخضرة والأزهار نشاهد جمال عمارته البارع من ناحية، ونشهد الدانوب يجري خاضعًا تحته من ناحية أخرى، ثم تقدمنا نسائل عن الوسيلة إلى دخوله، فلم يكن من يجيبنا حتى اعتزمنا الخروج معتقدين أن ليس إلى زيارة داخله من سبيل. وفي منصرفنا لقينا رجلًا داخلًا إليه، فسألناه فأجابنا بإنجليزية ضعيفة كي نتبعه، وأخذنا تذاكر زيارة القصر، وانتظرنا ذلك الرجل هنيهة ثم تبعناه إلى غرف القصر وأبهائه. ما أشبه سلمه بسلم ما شهدنا في بودابست من متاحف، بل إن الفكرة فيه لهي الفكرة في سلم البرلمان، تتصل كل درجة من درجاته بما بين الجدارين، ويصعد السقف مع الدرج كلما صعد، لكن هذا السلم على عظمته وسعته بسيط لا يقفك عنده. وهذه الغرف الأولى الشبيهة بغرف يلدز لا تقفك هي أيضًا إلا بما يقص الدليل من تاريخ الملوك والملكات الذين أقاموا بها. وفي آخر هذه الغرف غرفة أقامت بها «بلاكون» زعيمة الشيوعيين الذين داهموا المجر في سنة ١٩٢٠، وأقام بها الرفقاء أعضاء الدولية الثالثة، فدمروا وأفسدوا فيها كثيرًا، وقد أعادته الحكومة الحاضرة إلى سابق حاله، لكن في القصر بعد هذه الغرف الأولى عجبًا، تخطينا وراء الدليل إلى دهليز أضاءه الدليل بنور الكهرباء الذي أضاء كذلك غرفة بعيدة، وبينا هو يفعل إذا بنا في متحف للجمال نادر المثال، كسيت كل جدران الغرفة بأثمن الأخشاب نقشت أدق النقش وحفرت فيها إطارات صور زيتية بديعة لبعض آل الهابسبور. وأستار النوافذ! يا لجمال النسيج والصناعة والنقش! والمدفأ بدعة وحده، والمناضد المرصع ظاهرها بطلاء من المينا صُوِّر على ما يريد جمال الفن أن يصور، وإن أنسَ لا أنسَ نقش الخزائن المستندة إلى الجدران، خزائن لباس الملكة وخزائن عطرها. ألا ليست هذه الغرفة بحاجة إلى ضوء النهار مخافة أن يكسف نوره بعض ساطع هذا الجمال، لكن انظر! لقد أزاح الدليل أستار منافذه وأطفأ ضياء الكهرباء، فإذا الغرفة تتبدى في صورة جديدة من الجمال ليس أقل من الصورة الأولى بهاء وروعة. وكذلك الجمال الصحيح لا يجني عليه وضح النهار جنايته على الجمال المصنوع الذي يحتاج إلى ضوء مصنوع مثله لتألفه العين. ثم انظر! إن هذه النافذة لتطل على حديقة تستريح العين والنفس والفؤاد بالنظر إليها أي استراحة، ومن وراء ذلك الدانوب لا يكاد يبدو؛ إذ يحجبه جناح من أجنحة القصر فلا تراه العين إلا بعيدًا بعيدًا.

وانتقل بنا الدليل من هذه التحفة الفنية مقر أسرار الملكات إلى أبهاء الملك ذات الفخامة والمهابة والعظمة؛ فهذه الصالة الأولى بهو استقبال السفراء ورجال الدولة، تزين جدرانها تماثيل وصور، وتزين سقفها الفسيح صورة واحدة عظيمة، وتطل نوافذها على الدانوب، وهي غرفة قديمة بنيت في عصور الملوك الأولين. أما هذه الصالة الثانية فحديثة لا يرجع تاريخ عمارتها إلى أكثر من مائة وخمسين سنة، تصل إليها من الصالة الأولى بعد مرورك بصالة أخرى جعلت موضعًا يذر فيه ضيوف الملك سيدات ورجالًا معاطفهم وفراءهم، ثم ينزلون إلى الصالة الثانية صالة الرقص المتصلة من ناحية أخرى بالمقصف. وصالة الرقص هذه يحار فيها الوصف وهي خالية، ما بالك ساعة كنت تزين بالأزهار والرياحين وتعبق بعطور السيدات يفوح شذاها من أكتافهن وأذرعهن ومن ملابسهن ومن بسماتهن، وتترنم بأنغام الموسيقى يوقعها فنانو الملك من المقاصير العالية القريبة من السقف البعيدة عن الراقصين والراقصات، فكأنما تتنزل إليهم وإليهن من سموات الوحي! وهذه الصالة الثانية من الرخام كلها؛ جدرانها وتماثيلها ونصبها وكل ما فيها رخام مجزع بديع اللون يضيف إلى الرقص والموسيقى وإلى ملابس السيدات وعطرهن جمالًا ورقة. وصور سقفها زينة أخرى تضاف إلى ذلك كله، فإذا آن للرقص أن ينتهي انصرف الكل إلى المقصف. ذكر الدليل أنه كان يحتاج إلى أكثر من أربعمائة كيلو من الحلوى وحدها لكفاية هؤلاء الزائرين إلى جانب ما يتناولون من مرطبات ومفرحات.

هذا القصر القديم القائم على ضفة الدانوب اليمنى من أكثر من خمسمائة سنة يمثل الملك وعظمة الاستبداد وبطشه وجبروته، والبرلمان القائم على الضفة اليسرى من أقل من خمسين سنة يمثل سلطة الأمة ونظام الديمقراطية؛ فكرتان خصيمتان شبت في سبيل خصومتها ثورات وأعلنت حروب وأزهقت أنفس وأريقت دماء، ولم تهدأ العداوة بينهما يومًا من الأيام إلا أن تذل إحدى الفكرتين للأخرى وتحتمي في كنفها. وقصر الملك يحتمي اليوم في كنف قصر الشعب بعد أن أكره الشعب الملك على أن يقام له قصر يكون أعلى من قصر الملك منارًا وأروع جمالًا وأبعد سلطانًا. والقصران مع ذلك هما بجمالهما زينة الدانوب في مروره ببودابست، وربما ظل صاحبا القصرين زينة نظام الحكم لو أنهما تعاونا في سبيل جمال الحياة ما تعاون القصران في بعث معاني الجمال إلى البقعة التي يقومان عليها.

هذان القصران وما يتصل بهما من مبانٍ فخمة أخرى، وما يصل بين هذه المباني من جسور، بديعة وما تزدان به شواطئ النهر من طرق وحدائق، وما يجري فوق مياهه من زوارق وسفن ومراكب، كل ذلك يجعل لبودابست رونقًا ليس للقاهرة؛ حيث يشقها النيل شيء من مثله، على أن ذلك ليس كل ما في بودابست من جمال؛ فهي في امتدادها عن يمين النهر ويساره تتسع في طرق جميلة تزيدها بلدية المدينة اليوم جمالًا بحسن رصفها، كما أنها جميلة بالمباني العظيمة المطلة عليها. والحق أن بودابست من خير المدائن التي تضارعها عمارة وسكانًا في مبانيها ونظامها، وإن بها لطريقًا يمتد في آخرها باسم طريق أندرياستي، ويصل إلى غاب يشبه غاب بولونيا، وهو في جماله يذكرك حقًّا بطريق غاب بولونيا أضعاف ما يذكرك به طريق كسلف في بخارست. وفي غابة بودابست يقع المتحف الزراعي الذي زرناه صباح اعتزمنا السفر إلى فينا بالقطار الذي يغادر عاصمة المجر في الساعة الأولى بعد الظهر، فكاد لجماله ودقته الفنية والعلمية وإبداع ما فيه يفوت علينا قطارنا. لكني سأختم هذا الفصل بالحديث عن المتحف، ويجب أن أتحدث قبل ذلك عن غابة يتوج أعلاها برج إليزابث، هي خير من تلك الغابة التي تشبه غاب بولونيا، بل وهي قطعة من سويسرا نقلت على ضفاف الدانوب.

فقد أخبرني مجري تعرفت إليه في رومانيا وعلم أني ذاهب إلى بودابست، أن جبل القديس حنا ومن فوقه برج إليزابث يستحق الزيارة، وتفضل فكتب لي العنوان باللغة المجرية، فأرينا هذا العنوان لسائق أوتموبيل، وركبنا وما ندري ما جبل القديس حنا ولا ما برج إليزابث، فسار الأوتموبيل بادئ الأمر في طريق لا يلفت النظر فيها كثير، حتى لخيل إلينا أن السائق لم يفهم مقصدنا، واستوقفناه ومر رجل، فلما رأى عنوان صاحبنا المجري أشار إلينا أنَّا في الطريق، ولم تك بعد ذلك إلا دقائق وإذا نحن نصعد سفح جبل بين أشجار غابة يانعة غاية في الجمال. ومع أنَّا على أبواب الخريف فما تزال أوراق الشجر خضراء، وكان السحاب قد حجب الشمس، وتساقط رذاذ زاد المنظر بهجة، وجعلت السيارة تدور على سفح الجبل صاعدة صاعدة، حتى إذا بلغت في مسيرتها ارتفاعًا غير قليل رأينا أشجار الغابة تقل كثافتها، ورأينا الدانوب وبودابست يتبديان في هوة سحيقة بعيدة القرار يملؤها ضباب السحاب، فلا ترى من منازل بودابست ومن النهر وسفنه وجسوره إلا أشباحًا. وتابعت السيارة صعودها، ثم وقفت بنا عند قهوة، واضطررنا إلى الصعود بقية الطريق على الأقدام، ولم نتجشم كبير عناء لنبلغ البرج الذي يتوج قمة الجبل ونطل من فوقه على السفوح، تكسوها الأشجار وعلى النهر وعلى المدينة؛ هنالك وقفنا نقدس هذا الجمال الرائع أنبتته الطبيعة فنظمه الإنسان على ما أراد له فنه وذوقه الجمال. وظللنا في إعجابنا زمنًا، ثم عدنا أدراجنا مملوءة نفوسنا طمأنينة بما رأينا مما زادنا حبًّا لبودابست وأسفًا على جهل لغتها وعلى أنها ليست اللغة الفرنسية لتكون عاصمة المجر هي باريس الصغيرة حقًّا.

أما المتحف الزراعي فآية لم أرَ مثلها فيما شهدت من متاحف المدن المختلفة؛ دخلناه وما تزال أمامنا على مغادرة بودابست ساعات، فدخلنا قصرًا فخمًا واجهنا أمام بابه سلم في شكل سلم عمارة البرلمان وسلم قصر الهابسبور، لكن حبلًا مكسوًّا بالقماش الأحمر دلنا على أنه مقفل، فدرنا فإذا الأبواب كلها مقفلة عدا باب صالة واحدة وجدنا بها تماثيل وصورًا دقيقة الصنع غاية الدقة لمختلف الحيوانات؛ للخيل والبقر والكلاب والفيلة، حتى لقد بلغ من دقة بعضها أن جعله حيًّا تلمح فيه ذكاء ونشاطًا، فلما طفنا في أنحائها وخرجنا منها ورأينا أنفسنا أمام أبواب مدت حولها الحبال دلالة على إغلاقها، شعرنا بشيء من ضيعة الرجاء في متحف طالما حدثنا عنه في رحلتنا المحدثون، ثم ألفينا رجلًا هابطًا على السلم، فأقدمنا وصعدنا ودرنا في صالة فيها تماثيل أبدع الخيل وأصائلها، وفي أخرى فيها تماثيل الطيور الداجنة في مختلف أدوار حياتها منذ البيضة إلى الجنين فيها إلى الفرخ إلى الطائر في كمال قوته، وفيما نحن هناك إذ أقبل حاجب يشرح لنا بالمجرية بعض ما نرى، ثم أشار إلينا هل نحن استأذنا مدير المتحف في زيارته؟ ولما أجبناه بالسلب سار بنا إلى غرفة المدير، فحدثناه بالإنجليزية طالبين هذه الزيارة، وكلف المدير الحاجب أن يطوف بنا في المتحف، فشكرنا وخرجنا. انقضت ساعتان كاملتان ونحن نطوف في هذا القصر مسرعين مخافة أن يفلت موعد القطار، ومخافة أن يفوتنا شيء من هذا الجمال والعلم والفن مما اجتمع في المتحف. ليس صنف من أصناف الزراعة المعروفة في المجر، ولا حيوان من الحيوانات الزراعية، ولا صناعة مما يتصل بالزراعة، إلا مثِّل هنا تمثيلًا علميًّا دقيقًا؛ فالحرير منذ شرنقته إلى أن يصير حريرًا ومختلف ما يصنع منه ممثل كمال التمثيل؛ لأن دود القز يتغذى على التوت، فهو إذن متصل بالزراعة. والأخشاب كلها منذ كانت شجرة إلى أن صارت صالحة لصناعة الأثاث. والنحل والعسل، والقمح والخبز على مختلف أنواعه، والآلات الزراعية، وكل شيء زراعي على أحدث ما أدى إليه العلم؛ وهذا كله في نظام جميل كله الفن، وهذا كله يسحرك عن نفسك وعن وقتك إلا أن تكون مثل ما كنا على سفر.

وهذا المتحف الزراعي الفذ بجماله العلمي ودقته مقفل الأبواب دون الكثيرين؛ لأن العلماء الذين يحتاج إليهم أمر العناية به ليسوا فيه، لعجز ميزانية المجر عن أداء ما يحتاجون إليه من رواتب! أليس هذا محزنًا؟

•••

ونسيت أن أذكر زيارتنا لمتحفي الفن الجميل في بودابست وزيارات غيرها، لكن بحسبي ما ذكرت لتترك بودابست في نفسنا من جميل الأثر ما لم تتركه مدائن غيرها، وربما كان مرورنا بها قبل مرورنا بما سواها من كبريات مدائن أوربا له من هذا الأثر فضل، لكنا تركناها بعد زيارة المتحف الزراعي ونحن نود لو أن لدينا من الوقت ما يسمح بمقام فيها أطول مما قمنا، وما نزال إلى اليوم كلما ذكرناها ننعم بتلك الذكرى ونتمثل ما اجتمع أمامنا من جمال الطبيعة وجمال الفن، فنسعد به بمقدار ما تحتمل النفس في الحياة من سعادة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤