في ميلانو

بعد خمسة وعشرين يومًا قضيتها في أحضان الطبيعة البديعة متنقلًا بين جبال السافوا العليا وثلوجها الناصعة البياض، وجبال سويسرا الخضراء الزاهرة المطلة على البحيرات الناطقة الجمال بآي السحر الفاتن، وبعد أن امتلأ ناظري وقلبي من هذه العظمة التي يشعر الإنسان أمام جمالها البارع وجلالها المهوب بصغره وضعفه، انتقلت في طريقي إلى تريستاكي أستقل الباخرة حلوان إلى مصر، وحططت أولى مراحلي بمدينة ميلانو حيث أقمت يومين وبعض يوم، وما كدت أتركها حتى امتلأ فؤادي وعقلي بشعور آخر غير ذلك الشعور الأول، وحتى جمعت ذاكرتي مما رأت عيناي وسمعت أذناي وفكر فيه عقلي وخالج خيالي صورة أخرى ليست أقل من جلال الطبيعة وهيبتها جلالًا ولا هيبة؛ تلك صورة مجد الإنسان. وتقاربت الصورتان واقتربتا، فأذكرتاني أن كل ما في الوجود من جمال وجلال إنما هو من خلق الإنسان، وأن الإنسانية كانت ولن تزال صاحبة مجد الحياة في العالم.

بلغنا ميلانو والشمس تكاد تتهيأ للانحدار إلى مغيبها، فلما اخترنا فندقنا، ونزعنا عنا غبار السفر، ونزلنا نرود المدينة، كان أول ما أخذ بناظرنا بناء فخم لا تحيط به النظرة ولا تستقر العين عند جزء منه حتى تدعوها سائر أجزائه إلى اجتلاء ما تتحدث به من معاني الجمال. واستشرنا الدليل، فإذا البناء كاتدرائية ميلانو الباهرة البارعة التي استنفدت من جهود رجال الفن أجيالًا متعاقبة قبل أن تتم، والتي تبدو أمامك في عظمتها وفخامتها كأنها جوهرة لم يدع الجوهري الصنع منها جانبًا إلا صقله وجمله. فلما كان اليوم الثاني مررنا بها كرة أخرى وقد ألقى النهار على تماثيلها خمس المائة والألفين من نوره ما جلاها لينطق كل منها بما أودعه صائغه من معنى ديني جليل، ثم دخلناها، فإذا داخلها أكثر هيبة وأدق صنعًا: ركبت في كل نوافذها التي تزيد على العشرين قطع من زجاج تزيد في كل واحد على مائتي قطعة، ونقش على كل قطعة منها صورة تمثل القصص المقدس وحديث المسيحية وأوليائها. وقامت فيها — على حد قول قسيس من قسسها — غابة من عمد من المرمر رفيعة ضخمة دقيقة الصنع أيما دقة، وتوسط الكنيسة قبر سان شارل وضع فيه تابوته من الفضة وحلِّي صدره وأصابعه بما أهدى الملوك لذكرى صاحب الجثة من نفيس الجوهر. وصعدنا إلى أعلى الكنيسة فإذا هذه الدرة الثمينة في جبين الفن ثمينة حتى في نظر الذين لم يقفوا على دقائق الفن، وإذا هي في تاريخ الفن الإنساني آية مجد وجلال لا تبلى.

وفي مساء ذلك اليوم ذهبنا إلى سكالا ميلانو، ولم تكن تمثل فيها أوبرا من الأوبرات؛ لأن أبوابها موصدة للأوبرا من أبريل إلى نوفمبر، لكنها كانت تصدح موسيقاها بألحان بتهوفن. وفي نفسي لبتهوفن ميل، بل حب لا أدري سببه؛ أهو لفنه، أم لمصابه في حياته بالصمم، أم لأنفته، أم لإيمانه بواجبه، أم لكل ذلك جميعًا؟ وكانوا يوقعون في هذا المساء لحن الريف (La Symphonie Pastorale) أحب ألحان بتهوفن إلى سمعي. وسكالا ميلانو أفسح مسارح أوربا، تتسع عند تمثيل الأوبرا لستمائة وثلاثة آلاف سامع، فلما دخلناها ألفينا أهلها وضعوا مكان مسرحها الفسيح مقاعد، وألفيناها تضيق بالحاضرين قعودًا ووقوفًا حتى ازدادوا عن خمسة آلاف عدًّا، وليقدرهم مقدرو الحفلات العامة بعشرة آلاف أو يزيدون، وصدحت الموسيقى، فتطاولت الأعناق وخفتت الأنفاس، ولم يكن بين هذه الألوف الحاشدة نابس أو هامس … وانتهى القسم الأول من اللحن فإذا هذه الصحراء الصامتة من بني آدم تنفجر بالتصفيق انفجارًا، وإذا مدير الجوقة يحيي شاكرًا فلا تزيد تحيته الحضور إلا إمعانًا في التصفيق اعترافًا بجميله أن أعاد إلى مسامعهم هذا اللحن المقدس من ألحان بتهوفن العظيم، وإذا الرءوس تهتز إعجابًا، والصدور تستنشق في هوادة وطمأنينة هذا الغذاء الفني الجميل الذي يسبغ على الحياة نعمتها، ويجعل لها من القيمة ما تستحق معه أن تحب وأن تخدم بإخلاص وعناية.

ولما انتهى اللحن قلت في نفسي: «إن هذه الألوف الحاشدة لتنطلق أكفهم بالتصفيق إعجابًا بهذا اللحن الساحر، وهو بعدُ حكاية الطبيعة والحياة حكاية دقيقة صادقة؛ فلحن الريف ليس إلا أهل القرية في جذلهم يدهمهم الرعد والبرق والمطر وتحيط بهم شدة الطبيعة من كل مكان فينزوون ويبتهلون، فإذا أمسكت السماء وكفها، وأشرقت الشمس من جديد، عاد إليهم جذلهم وشكروا أنعم ربهم وزادوه حمدًا وتسبيحًا. وما أكثر ما تتكرر هذه الصورة في الحياة من غير أن تثير إعجاب معجب أو تصفيق مصفق، لكن جمع بتهوفن إياها وسوقه لها في صورة من الفن دقيقة هو مثار الإعجاب؛ فأي العنصرين أقوى: بتهوفن أم الطبيعة؟ وإذا كان الإنسان هو الأقوى أليس هذا مجدًا له ليس يعدله مجد؟!

ومن الحاضرين من ليسوا في الفن ذوي دقة، ومع ذلك مرت بهم نغمات أخذت منهم بشغاف القلب ومجامع الفؤاد، وأثارت مسرتهم بمثل ما تثير الكلمات القليلة التي يعرف الطفل كيف يقرؤها في مقال طويل زهوه ومسرته؛ أليس معنى هذا أننا كلما ازددنا لما في الحياة إدراكًا ازددنا للحياة حبًّا وكنا لها أدق تقديرًا؟ فإذا أحاط الإنسان بها من جانب الفن أو من جانب العلم خلق فيها جديدًا يزيدها حياة ويزيده مجدًا.»

وأوقع الموسيقيون لحنًا آخر من ألحان بتهوفن فيه من حكاية الطبيعة بعض ما في لحن الريف، فأعانني ذلك على متابعة ما أفكر فيه، ودارت بنفسي خواطر لم تقف عند بتهوفن وألحانه، زادتني كلها إيمانًا بأن الإنسان إن كان بعض ما في الوجود وكان بعضًا قليلًا فهو لا شك خالق مجد الحياة، وأن خياله كان في هذا الخلق أوفر حظًّا من عقله، أو أن عقله وخياله تعاونا في هذا الخلق، فكان من تعاونهما نعيم الحياة الذي يزداد كل يوم بما يزيدها خلقًا وإيجادًا.

وما جمال الطبيعة، وما نعيمها لو لم يتغنَّ بهما الشعراء ويلحنهما الموسيقيون ويصفهما الكتَّاب ويقيم لهما المثَّالون التماثيل ويفتن العلماء في بيان دقائقهما واستنباط سننهما؟ كيف نرى التجاوب والاتساق في الجبال والبحار وفي العاصفة المقوضة وفي المطر الهاتن يفر منه كل إلى وكره، لو لم يجتمع ذلك كله في خيال خصب كخيال بتهوفن، فيهضمه ويسيغه ويلحنه في لحن الريف البديع، أو كخيال روسو أو بيرون أو رفايل أو غير هؤلاء من رجال الفن الخالقين الذين يلبسونه من ثوب الفن ما يصل به إلى كل حس وكل قلب، فيطبع فيه ما شعر به الفنان من جمال فأنشأه إنشاء وخلقه خلقًا!! أوليس هذا التجاوب والاتساق هو جمال الحياة وزينتها؟ فالذين خلقوه هم الذين خلقوا جمال الحياة، وهم لذلك أصحاب مجد الحياة في العالم!

بل إن ألحان بتهوفن وقصائد بيرون وكتب روسو وصور رفايل وفلسفة أفلاطون ومخلفات كل فنان وكل عالم، لآثار خالدة هي ما للإنسان في الحياة من مجد وجلال، وإذا كانت جبال الألب المهوبة الخالدة العظمة والجلال تمتع اللب والخيال بعظمتها وامتدادها واختلاف مظاهرها وصورها، فإن كتدرائية ميلانو وحدها لا تقل عن جبال الألب كلها إمتاعًا للعقل والخيال بكل معاني العظمة والقوة والجلال والجمال، بل لعلها أكثر منها إمتاعًا وأبقى في النفس أثرًا؛ فإنك كلما وقفت تشهد نقوشها وتماثيلها وعمارتها رأيت في كل قطعة منها، بالغًا ما بلغ صغرها، ما أراد صانعها أن تحمل من أسرار ومعانٍ، فإذا أنت خلوت إلى نفسك وتمثلت هذه الجوهرة النفيسة من جواهر الفن وأردت استكناه دقائق أسرارها ومعانيها، رأيت أمام بصرك خلقًا عظيمًا كثير الأسرار جم المعاني، فآمنت بمجد أصحابه وبأنهم هم الذين جعلوا للحياة قيمتها.

وموسيقى بتهوفن، وكاتدرائية ميلانو، وآثار من ذكرنا من الفنانين في الشعر والأدب والتصوير، كل ذلك ليس إلا قطرة من هذا المجد الذي يبدأ مع الإنسان منذ كان الإنسان، والذي سيظل زينة الحياة ما بقيت الحياة. ما بالك بما خلفت حضارة مصر وآشور واليونان والرومان والمسلمين وبما تقيمه حضارة هذا العصر الذي نعيش فيه! وهل مما في الوجود شيء لم تصقله هذه الحضارات ولم تخلع عليه الطابع الذي له اليوم؟ بل هل في الوجود فكرة ليس الخيال الإنساني خالقها؟! فإذا كان عمل الإنسان فما جلال الطبيعة وما عظمتها أمام مجده الخالد الذي لا يبلى! وما جلال الطبيعة وما عظمتها إلا بعض خلق الإنسان فيما خلق من صور الفن وآي العلم.

•••

وردت هذه الخواطر إلى خيالي وتمكنتْ من نفسي على أثر ما شهدته في سكالا ميلانو، ففتحت أمامي عالمًا جديدًا من عوالم التفكير واسع المدى، وكم كان يسعدني أن أظل في أحضانه أجتلي من آثار هذا المجد الخالد ما فيه نعمة الحياة، لكني رأيت في جانب آخر من ميلانو ما بعث إلى نفسي لونًا من التفكير كالذي بعثته الكاتدرائية والأسكالا، وإن يكن من نوع آخر. هذا الجانب الآخر هو مقبرة ميلانو؛ فهي تصور صورة من مجد الإنسان ليست دون ما يصوره غيرها من خالد آثاره، لكن إحساسنا فيها كان متأثرًا بشعورنا، حتى كاد يحرك لاذع الألم في نفوسنا. وما أحسبنا وحدنا الذين تثير المقابر هذا الإحساس عندهم، بل لعله إحساس الناس جميعًا؛ فهم ونحن جميعًا تشتد للمقابر رهبتنا، ويشتد إليها هُويُّنا؛ نرهبها لأنها المثوى الذي نحمل إليه غير مختارين، ونهوي إليها لأنها مثوى الأعزة وفلذات الأكباد، ولأنها مستقر تاريخ الإنسانية الذي أورثنا من آثاره ما زادنا على الحياة سلطانًا ولها حبًّا. لذلك تهوي أفئدتنا إلى المقابر في خشوع ورهبة، فإذا اشتملنا سكونها المهيب تنازعت نفوسنا عوامل الإجلال والمخافة، والرجاء واليأس، ما لم تنحدر بنا عواطفنا في وهاد الحزن والألم فتنسينا ظلماتها الموحشة ما سواهما من العواطف والإحساسات.

وللمقابر على الأحياء سحر لا يقل عن سحر الحياة إياهم؛ فهم يؤمونها وإن اختلفت طوائفهم وتفاوتت مداركهم وانشعبت في زيارتها أغراضهم. وليست مقابر أعزتهم هي وحدها التي تسحرهم، بل هم يهوون إليها جميعًا وكأنما يردد عندها كل منهم في غور نفسه وقرارة فؤاده قول الشاعر:

وقال أتبكي كل قبر رأيته
لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك
فقلت له إن الشجا يبعث الشجا
فدعني فهذا كله قبر مالك

وكأنما يجد كل منهم سر الحياة ومعنى الوجود دفينًا في كل قبر؛ فالمرأة الساذجة الذاهبة تستندي سر الصالحين وتستجدي بركتهم، والمنحدر في وادي الملوك إلى مقابر الفراعنة يستشف خلال ألوف سنين مضت عظمة الأزمان الغابرة، والسائر في بانثيون باريس يطوف بقبول الكتاب والشعراء والفلاسفة الذين طواهم البلى فخلدوا برغمه على وجه الزمان، والضارب في صحراء القاهرة بين مقابر مجهولة، أولئك وغيرهم تدعوهم المقابر إليها فيلبون الدعاء، وإن اختلف ما يصورونه لأنفسهم من غاية في إجابته. فإذا مثلوا في حضرة الموت رأوا كيف يستجن في الموت سر الحياة، فالتمست الساذجة من قبر الصالح الصحة والحب والسعادة، والتمس المنحدر في وادي الملوك إلى قبر الفرعون أسباب العظمة والمجد، والسائر في بانثيون باريس إلى قبور الفلاسفة والكتاب أسباب الحكمة والخلود، والتمس الضارب بين المقابر سر الحياة الدفين فيها.

وأين يلتمس الناس سر الحياة إن لم يلتمسوه في الموت وهو غاية الحياة ومدى ما يصل إليه علمهم منها! أولم ينفق كثير من المفكرين والفلاسفة أعمارهم في استكناه ما بعد الموت؟ والمقابر دور الموت، كما أن المنازل دور الحياة.

وهذه العواطف المختلفة التي تختلج في نفوسنا ساعة زيارة المقابر هي التي أدت بالناس منذ ألوف السنين إلى أن يجعلوا منها قصورًا فخمة تتجلى فيها المعاني التي جالت بنفوس الأحياء ممن بنوها، وما تزال أمم كثيرة تجعل من المقابر صلة الحياة بما بعد الحياة، وتسعى لتجعل مقابرها زينة للناظرين، فتجمل لهم الموت كما جملت الحياة. وإنك لترى من بدائع الفن في بعض المقابر ما تقف أمامه معجبًا به برغم ما يمثله من عواطف محزونة وقلوب كسيرة وأفئدة جريحة، والذين زاروا «جنوا» في إيطاليا يذكرون أن ليس فيها من آثار الفن غير مقبرتها. ومقبرة ميلانو هي أيضًا متحف من متاحف الفن، إن لم تبلغ كاتدرائيتها في العظمة ولم تبلغ بعض آثارها الأخرى في الجلال فهي ولا ريب أشد ما في ميلانو من الآثار رهبة، وأنفذها إلى النفس معنى.

زرناها في ثامن أكتوبر سنة ١٩٢٦، وكان يومًا غائمًا لم تبزغ منذ صباحه شمسه، وظل رذاذه يداعب السائرين في الطرقات حينًا بعد حين، ووصل بنا الترام في منتصف الساعة الثالثة بعد الظهر إلى أبواب المقبرة، فإذا بائعو الأزهار وبائعاتها انتحوا من الطريق جانبًا، وإذا رجال وسيدات وفتيات يبتاعون ما تنتعش له نفوس أعزائهم في وحدة القبر. ونظرت نحو المقبرة فإذا فناء فسيح شيد على جوانبه الثلاثة بناء فخم ويفصل بينه وبين الميدان سياج من عمد الحديد، فتخطينا السياج ووقفنا هنيهة نحدق في صدر الفناء إلى هذه العمد الرفيعة والأقواس فوقها، تحسبها عمد القصور وأقواسها. ومن فوق هذه العمد والأقواس التي تؤدي إلى منازل الدار الآخرة شيِّد طابق ثانٍ فيه عمد وأقواس، وفيه محاريب وتماثيل، وفيه صناديق كبيرة من حجر هي مثوى أصحاب التماثيل القائمة إلى جانبها. وأدرنا النظر يسرة فألفينا بواب هذه المقابر واقفًا على باب غرفته عرضت في زجاجها كتب هي دليل المقبرة وما فيها من تماثيل وأنصاب، فسرنا إليه نسأله: أيتقاضى من زائري هذه المقابر أجرًا غير ثمن الدليل؟ قال: إنما الأجر لمن يزور المقابر، وكل ما عليه أن يضرع عند الله لأهلها بدعوة صالحة.

سرنا في الفناء محاذين هذا الجناح الأيسر من سراي المدخل، فأخذ بنظرنا فيه باب نزلنا عنده خطوة، فإذا حولنا صناديق الحجر وتماثيل من احتوت الصناديق رفاتهم صنعت من المرمر صنعًا دقيقًا، ووضعت إلى جوانبها شواهد من المرمر كذلك، نقش عليها اسم صاحب التمثال ورجاء مغفرة من الله له. ويلي هذه الغرفة الضيقة دهليز أفقي طويل صفت المقابر عن جانبيه، ويشعر الإنسان في هذا المكان المسقوف الضيق بين هذه المقابر الكثيرة بشيء أقرب إلى الفزع منه إلى الرهبة، ويخيل إليه كأن ساعة الحشر دانية، ولا يجتلي جمال التماثيل ولا حلاوة الأزهار الملقاة على أقدامها وحول الشواهد المستغفرة لها بسبب هذا الفزع إلا قليلًا.

وعدنا إلى الفناء، وتخطينا بين العمد وتحت الأقواس إلى رحب المقبرة، فإذا بنا في ميدان فسيح يزيد على خمسين فدانًا، وإذا هذا الميدان حديقة ناضرة، نثرت فيها التماثيل على اختلاف صورها وأحجامها، وإذا بك يزايلك الفزع مخافة ساعة الحشر الدانية، وتطمئن نفسك إلى هذه الخضرة الباسمة وإلى الأزهار مختلفًا ألوانها، وإلى الأنصاب الرفيعة وقفت أو تمطت في حناياها وإلى جانبها ومن حولها تماثيل آية في الدقة. إذ ذاك تسائل نفسك: أهذه هي المقبرة التي تكنُّ في جوفها رفات أعزة تدمى لذكرهم قلوب وتذوب أكباد وتغوص في لجج الهم نفوس وأفئدة؟ يا ما أعجب نظر هؤلاء الناس إلى العيش! وما أشدهم حرصًا على المتاع بكل لحظة من لحظاته! ها هم أولاء قد جعلوا من منازل الموت زينة للحياة ومتاعًا لعيون الأحياء. ولعل أولئك الذين يحملون الورود والرياحين إلى القبور إنما يريدون أن يزيدوا جمال هذا المتحف الذي تفتخر به ميلانو وتجعله في حياتها عنوان عز ومجد.

ولكن هذه الخواطر التي مرت بالذهن عندما تخطينا إلى رحب المقبرة لم تلبث إلا يسيرًا حتى أذابتها حسرات نفذت إلى شغاف النفس مما تنطق به التماثيل في نظراتها المحزونة، وفي دمعات هامية من عيونها الحجرية على خدودها، وفي هذا التخشع والانكسار والاستسلام لجبروت الموت القاسي. وأكثر هذه المعاني المحزونة أثرًا في النفس ما جاور قبورًا أغلب الظن أن أصحابها ليسوا أغنياء. لا تعجب! إن هذه المقابر التي يدور في ظن الناس جميعًا أن أصحابها يرقدون فيها على بساط عدل ومساواة، يتفاوت أصحابها أمام أهليهم وأمام الناس في قدر ما كانوا وما صنعوا وما يستحقون من ذكر وأسى؛ فهذا القبر الذي عن يميننا عطل من كل تمثال، واكتفى أهله بشاهد توسطته صورة الشيخين الراقدين فيه، وهذا القبر الثاني إلى جانبه جلس إليه تمثال حسناء مرسل شعرها على ظهرها وصدرها في غير نظام، وقد بلغ منها الحزن مدى اليأس، فألقت بذراعيها فوق القبر، كأنما كانت تريد أن تنزع منه صاحبه المحبوب لتعيد إليه الحياة، فإذا أملها هباء، وذراعاها ملقيتان في عجز واستسلام، وإذا هي لا تملك غير دمع فياض وقلب متحطم؛ فأما ذلك النصب العالي إلى يسارنا فيتوسطه تمثال أبي الأسرة المدفونة تحته، وأحاطت به تماثيل نسوة ارتسم على وجوههن جمال الألم من غير أن تشوهه لذعات الحسرة.

وسرنا في طرق حديقة الموت ومتحفه، وما نكاد نخطو حتى تستوقفنا المعاني المختلفة تعبر بها التماثيل عما تكنه نفوس الأحياء من جزع أمام الموت، أو ألم لفراق عزيز ذاهب، أو فخر برجل عمَّر وترك وراءه ذكرًا يحسبه ذووه باقيًا. ثم وقفنا أمام قبر جثا فوقه تمثال طفل يصلي. يا رعاك الله يا صبي! على من تبكي ولمن تستغفر؟! من ذا أخرجك من براءتك وطهرك، ودس إلى قلبك الصغير ما في الحياة من هموم الألم وسمومه؟! أتصلي لأمك الشابة الصبوح ظلت مطوقة إياك بذراعيها حتى أثلجهما الموت وهي الآن تراب طهور يبعث لك في الحياة من الذكرى ما يغسل حوبات الحياة؟! أم هو أخ لك طفل مثلك شعرت بالوحشة لفراقه فجئت تدعوه إليك يؤنس وحشتك ويسلي هم وحدتك؟ أم لعلك أنت أيهذا التمثال تمثال الوحيد العزيز الراقد طي الثري؟! ادع أيها الحجر الصامت صاحبك وأطل الدعاء! أواه إنه لن يجيبك، وإنك لن تظفر من دعائك إلا بدموع كأنها الحمم تفري أكبادًا جرحى وقلوبًا كليمة، وتدك عزائم كانت أمام ما في الحياة أطوادًا كالجبال، ثم إذا الحياة أمامها سراب خادع ليس فيه من حقيقة إلا الدمع وإلا الألم.

واستغفرنا الله عما صنع بالصبي الراقد هناك في صحراء القاهرة، وأسرعنا إلى جانب آخر من جوانب المقبرة الفسيحة، وكأنما شعر السحاب بهمنا فبعث من عنده رذاذًا أطفأ ما التهبت به نفوسنا، ودعانا لنحتمي بجدار قريب. وكان على مقربة من الجدار قبر جلس إليه مثَّال ينقر في الصخر موضعًا لمصباح وضعه أهل القبر ليضيء ظلمته. ثم صعدنا درجًا إلى جانب الجدار، فإذا صناديق من حجر وتماثيل وشواهد نقشت عليها أسماء أصحابها، وكأنها تزدهي بمقامها في هذا المقام الأعلى. وسرحنا البصر في المقبرة فلم نحط بغايتها، وخشينا أن تقع العين على مثل تمثال ذلك الطفل، فسرنا في الطابق الثاني صوب باب المقبرة بين صناديق وتماثيل وشواهد كلها لقوم نعموا في الحياة بحظ يبعث إلى النفس الغبطة ولا يحز الفؤاد بلذع الألم.

وخرجنا فخفف عن النفس ما أحاط بنا من ضجة الحياة.

•••

وذكرت مقبرة ميلانو وتماثيلها وأنصابها وشواهدها يوم ١٣ ديسمبر سنة ١٩٢٦م، إذ كنا نجوب صحراء القاهرة نؤدي للصبي الراقد في مقابرها فرض الذكرى، وندع عنده قطعتين من فؤادينا الكليمين، لعلهما أروح لثراه من الورد والزهر. أيهما أبلغ بحديث الموت وعظمته: تلك الجنة في ميلانو، أم هذه الصحراء المنقطعة تسري فيها الأرواح بعيدة عن معاني الحياة الأرضية الوضيعة وإن جسمتها التماثيل ما جسمتها، وإن جلت عن صفائح الحجر وجنادله من معاني الألم والرهبة والجلال ما جلت؟ وأيهما أبقى في النفس أثرًا: هذا التمثال من الحجر تراه اليوم وتراه غدًا وتراه بعد سنين فإذا عواطفه لا تتجدد، وإذا عينه الدامعة لا تجمد دمعتها، وعينه الجامدة لا تجود بدمعة، أم هذه الدمعة الحية الحارة التي انسكبت بمرأى منك ومشهد ثم دخلت منك في عالم الذكرى المتجدد ما تجددت حياتك؟ قد تكون الدمعة الحية أبقى في نفسك أثرًا، لكنك أنت زائل كما زالت الدمعة التي رأيتها أنت وحدك. أما هذا التمثال من الحجر فقد تجسدت فيه عاطفة من العواطف هو عليها شهيد لكل من رآه، وهو أبقى منك على الحياة وأبقى مما تسطره.

ومرت بمخيلتي إذ ذاك صورة من هذه العواطف المحزونة أثارها الألم المبرح زمنًا، ثم ما زالت بها الحياة حتى استترت في قلوب أصحابها وصاحباتها تثيرها الأحداث وتكظمها المظاهر، وحتى انطوت في عالم الذكرى عند من شهدوها ومن شغلوا عنها من بعد بلهو الحياة. مرت في مخيلتي صورة الجدة العجوز فقدت ابنها الوحيد بين بنات سبع، ثم فقدت حفيدها الوحيد كذلك من هذا الابن، فابيضت عيناها من الحزن حتى لا ترى هذه الآلام المكدسة حولها تنم عنها نظرات بناتها وتنطق بها حال حفيدتها، ومرت صورة هذه الشابة الذاهلة المنهدة في سوادها بين قبرين: قبر أمها الشابة وقبر وحيدها الصغير، وأعمار الثلاثة ما تزيد على عمر شخص واحد يبكيه الناس أن ما يزال في الحياة له مطمع، وهي في مقامها هذا خرج بها اليأس عن أن تجد حتى في الدمع عزاء. وصورة أم ذات ولدين انفصل عنها أبوهما زمنًا ثم عاد إليهم وما كاد حتى اختطف الموت الاثنين جميعًا في عشرة أيام. وصورة … لكني ما كدت أبدأ أستعرض هذه الصور الحية ما تزال، وأتخيلها مصوغة في نحو تماثيل مقبرة ميلانو حتى هجم عليَّ خيال برج هائل من الآلام الإنسانية مكدسة بعضها فوق بعض وهي تدمى دموعًا سخينة وقلوبًا حرَّى وأفئدة مصدوعة وأكبادًا مكلومة، وفي كل قطرة من هذه الدماء تمثال ناطق بمعانٍ تنفطر لها النفوس وتتعذب لمشهدها الأرواح.

وفزعت لهذا المنظر، وجاهدت كي أمحوه من أمامي، فعدت إلى نفسي أحتمي بها من هول ما تلقى الإنسانية، وليس كالنفس حصن إليه يفزع العقل والخيال يدَّرعان به من خطوب الوجود. وساءلت: أليس في الحياة إلى جانب هذه الصور الرهيب منظرها صور ذات بهجة؟ أو ليس إلى جانب الحزن مسرة وإلى جانب الألم أمل؟ إن الذين تدهمهم الهموم يجدون عنها في حكمة الحياة وفي لهوها عزاء. والحكمة أبلغ في عزائها، ومن الحكمة ألا نرى في الموت إلا طورًا من أطوار الوجود كالحياة سواء. أترى أنَّا لم نكن جزءًا من الوجود قبل أن نكون أناسًا مثلما نحن في الوجود أناس؟! بلى! كنا في الوجود مثلما نحن فيه، وإذا كانت مشاغلنا في هذا الطور تحول دون أن نعرف ما سواه مما مررنا وسنمر به، فليس ذلك إلا لأنَّا نتوهم أنفسنا قطب الوجود ودائرة مركزه، ولو أنَّا عدلنا في النظر إلى الكائنات جميعًا لرأينا أنفسنا ذرة منها تستحيل في شتى الصور، ونحسب استحالتها وانتقالها فناءً وموتًا، والمقابر على ذلك أعدل شاهد؛ فلو أن مقابر من ماتوا من يوم وجدت الإنسانية على الأرض ظلت مقابر، لما وجد الأحياء لأنفسهم على وجه الأرض سكنًا، لكن المقابر استحالت حياة في صور وألوان شتى. ونحن الأحياء على صغر كمنا وقدرنا نستحيل كل يوم أحياء جديدة، ونحيل غيرنا إلى ألوان من الحياة أو — إن شئت — من صور الوجود.

ما لنا إذن نجزع من الموت ونهابه؟ أم نحن في الحق لا نجزع منه لأنفسنا، وإنما نجزع لما يحول بيننا وبين ما اعتدناه وألفناه؟ والحياة وكل ما فيها عادة، ولعل سائر صور الوجود عادة كالحياة الإنسانية، ولعل للنبات وللجماد نوعًا من الحس بالحياة إن اختلف عن حسِّنا بها فهو أوفر عقلًا وأسمى حكمة. وهذه الحيوانات الأخرى التي تتشابه وإيانا في نوع الحس بالوجود، لها من سليقتها ما يبعد بها عن الألم، فهي لا تشعر به إلا إذا أصابها ما يسببه، فإذا انقضى عادت إلى مرحها في الحياة ومتاعها بها، ولم تخلق لنفسها ما نسميه نحن عالم الذكرى نملؤه بالصور المثيرة للحزن والشجن.

ولعل هذا المعنى هو ما دفع أهل الغرب إلى أن يجعلوا من مقابرهم جنات، ولأسباب آلامهم تماثيل محسوسة، حتى إذا اعتادوا رؤيتها أنسوا إليها وارتبط بها خيالهم، فلم يخلق لهم كل يوم سببًا للحزن والألم جديدًا. فأما الحكيم الذي يؤمن بأنه بعض ذرات الوجود، سواء استوى إنسانًا أو انشعبت خلاياه في نواحٍ عدة، فليس في حاجة إلى تمثال يأنس به، بل تهديه حكمته إلى تجنب أسباب الألم ما استطاع، ليبقى له في الحياة المرح والمتاع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤