الفصل الأول
(«كابين» في بلاج سيدي بشر، شرفة الكابين وهي مؤثثة بالمقاعد المريحة
والوسائد الملونة، وفي أحد أركانها جهاز راديو صغير، وفي صدرها منضدة عليها أوراق، يجلس
إليها
رجل يلبس «البنطلون» العادي مع قميص أبيض. حُلَّت منه «الكرافتة» وتدلَّت، هو الأستاذ
«فكري»، وهو
يهرش شعره المنفوش بقلمه، وتحت قدميه كوم من الأوراق الممزقة والمطبقة، يُلقي عليها أيضًا
بورقة
أمامه كتبها ثم مزقها، عندئذٍ يمر به رجل بدين، مفتول الشوارب، ملتف في «برنس» حمام زاهي
اللون،
هو «بيومي أبو النجف»، يقف مسندًا ذراعيه إلى حاجز الكابين الخشبي، ملقيًا على الأستاذ
«فكري» نظرة
إعجاب.)
أبو النجف
:
بسم الله ما شاء الله! اللهم صل على النبي! اللهم زد وبارك! ربنا يقويك يا أستاذ! هكذا
التأليف وإلا فلا!
(فكري مشغول عنه بالنظر في الورق الذي أمامه.)
أبو النجف
:
صباح الخير يا أستاذ فكري!
فكري
(يرفع رأسه ويراه)
:
صباح النور يا «أبو النجف» بك!
أبو النجف
:
اكتب يا أستاذ، اكتب، انسجم في الرواية، أنا كل غرضي، أطمئن عليك، وعلى راحتك، الكابينة
تحت أمرك فيها كل الاستعدادات، عندك الراديو، وعندك في الداخل الثلاجة، وأدوات القهوة
والشاي، والهواء الطلق حواليك، والبحر اللطيف أمامك، أما الهدوء والسكينة، فحدِّث ولا
حرج، من جهتي أنا قد نبهت على كل إنسان أن يتركك وحدك تعيش مع الخيال الجميل الذي سيضع
لنا «الفيلم» المدهش، وقد نفذت تعليمات المخرج بالحرف الواحد، قال لي الأستاذ المؤلف
يريد الهدوء التام، لأن وحيه من غير مؤاخذة لا يهبط ولا يعشش ولا يبيض ولا يفقس إلا في
جو الهدوء، فرأيت أنسب مكان لنزول الوحي هو هذه الكابينة، أليس رأيي في محله؟
فكري
:
في محله، وأين المُخرج؟
أبو النجف
:
لا أعلم، ألم تره أنت؟ إنه نازل معك في فندق واحد.
فكري
:
لم أره منذ الصباح الباكر، سألت عنه، قالوا خرج يتمشى على الكورنيش!
أبو النجف
:
رجل رياضي، هل تريد منه شيئًا يا أستاذ؟ أنا أسد مسده! قل لي كل طلباتك، لا تظن أني رجل
مالي فقط، اختصاصي تمويل الفيلم، لا، أنا لي ذوق يعجبك، لا يغرك أني تاجر خيش، أنا أفهم
في الفن، وأعرف بالفراسة الممثلة التي سيكون لها مستقبل في السينما، ما قولك في بطلتنا
«ميمي كمال»؟! ألا تستحق أن أصنع لها «فيلمًا» بعشرين ألف جنيه؟!
فكري
(بدون التفات)
:
تستحق!
أبو النجف
:
أنا الذي اكتشفتها، أتدري أين يا أستاذ؟ في صالةٍ بسيطة، ترقص رقصةً عادية، ولكن القوام
والنظرات والابتسامات وخفة الدم «الشربات» والعيون والحواجب والشفتين والخدين والذراعين،
والوقفة والغمزة والضحكة، والرمش والخال والتيه والدلال …
فكري
(بضيقٍ خفي)
:
إلى آخره … إلى آخره …
أبو النجف
:
بذمتك، أنا أرضى بذمتك، مَن الألطف والأخف: «ميمي كمال»؟ أو «ريتا» هباب؟!
فكري
:
«ريتا» هباب؟ من تكون؟ تقصد «ريتا هيوارت»؟
أبو النجف
:
كل الفرق بينهما في شيء واحد؛ الدور، ألبس «ميمي كمال» دورًا فيه لطافة وأناقة ورشاقة،
ألبسها دورًا من هذه الأدوار التي تظهر مواهبها، وهي تضرب «ريتا هباب» على عينها، وعين
مخرجها الذي في «هوليود»، وهذا الدور من يؤلفه غير أستاذنا العظيم؟ هكذا قالوا لنا، وهكذا
نحن رهن إشارتك، اعتمادنا على الله وعلى خيالك ووحيك ومزاجك. أمس قال لي المخرج إن مزاجك
لا يروق إلا بقليل من المانجو الفاخرة، فأرسلت إليك البارحة عشرين «منجاية» من هندي وألفونس
وبيض عجل وزبدية، لتأكلها على الريق.
فكري
:
آكلها على الريق؟
أبو النجف
:
نعم، هكذا أوصاني المخرج، وأعطاني رقم حجرتك بالفندق رقم «١٥» وقد أرسلت إلى حجرتك هذه
أيضًا قبل يومين أقة بطارخ مفتخر، حسب تعليمات المخرج أيضًا، لتأكلها قبل النوم حتى يصفو
ذهنك!
فكري
:
بطارخ! قبل النوم؟
أبو النجف
:
قبل النوم، بعد النوم، أنت حر، المهم أن كل طلباتك منفذة، وكل تعليمات المخرج متَّبعة.
فكري
:
بماذا أوصاك المخرج أن ترسل أيضًا، إلى الحجرة رقم «١٥»؟!
أبو النجف
:
السيجار الفخم العجيب، الذي تسبح في دخانه المعطر أحلامك الرايقة!
فكري
(من بين أسنانه)
:
شيء جميل جدًّا.
أبو النجف
:
طبعًا وصلتك هذه الأشياء البسيطة.
فكري
:
أشكرك يا «أبو النجف بك»، شكرًا جزيلًا.
أبو النجف
:
لا شكر على واجب، أهذه أشياء لها قيمة؟ نحن خدام وحيك، الوحي الذي سيطرز لنا الدور الرائع
اللائق ﺑ «ميمي كمال»، لكن، «على فكرة» يا أستاذ، لي عندك رجاء، رجاء واحد، تسمح؟
فكري
:
تفضل!
أبو النجف
:
تذكر أني قلت لك: القبلات ممنوعة، أعني أن دورها يجب أن يكون بعيدًا عن كل ما … أنت فاهم
غرضي! لا تقبِّل أحدًا، ولا أحد يقبلها!
فكري
:
اطمئن، دورها في غاية الجد والاحتشام، لن تغازل ولن تحب، ستحتفظ بقلبها لشخص واحد فقط!
أبو النجف
:
من هو؟
فكري
:
شخص غير موجود في الرواية!
أبو النجف
(يبرم شواربه باسمًا)
:
تعجبني فيك الفطنة، تفهمها وهي طايرة! (يتنهد) لكن، يا خسارة! على كل حال، ربنا يعدل
الأحوال، قل لي يا أستاذ! أنت هنا من الصبح؟!
فكري
:
من نحو ساعة.
أبو النجف
:
ألم يأت أحد هنا، يسأل عني؟
فكري
:
تقصد الآنسة «ميمي كمال»؟!
أبو النجف
:
لا، لا، «ميمي» لا تزال في فندقها، أعرف ذلك، ربنا يحرسها، أبلغتني الآن بالتليفون أنها
لن تغادر حجرتها قبل الظهر، أقصد رجلًا يرتدي طربوشًا ومعطفًا من الجوخ فوق جلباب من
السكروتة.
فكري
:
لم يأت أحد وأنا هنا.
أبو النجف
:
خشيت أن يكون قد سأل عني في الفندق، فدلوه على الكابينة، نسيت أن أترك له خبرًا قبل مجيئي،
أرجوك، إذا جاء الآن فلينتظرني، سأغطس في البحر غطستين وأعود.
فكري
(وهو ينظر في أوراقه)
:
اغطس في البحر، وأنا أغرق في الورق!
أبو النجف
(وهو منصرف)
:
ألا يلزمك شيء يا أستاذ؟
فكري
:
الوحي!
أبو النجف
:
لو كان الوحي يباع، كنت اشتريت لك منه ملء زكايب، لكن هذا الصنف لا أعرف أنا شخصيًّا
في أي سوق يوجد!
فكري
:
ولا أنا شخصيًّا.
أبو النجف
(وهو ينصرف)
:
الله يكون في عونك، الفاتحة لسيدي بشر، بجاهه وبركته ينزل عليك الساعة وحي، بجناح أبيض
مرفرف، ابن حلال، يصور لك أبدع دور سينمائي لميمي كمال، الفاتحة، «بسم الله الرحمن الرحيم»
(ينصرف وهو رافع يديه نحو السماء يتلو الفاتحة).
فكري
(هامسًا)
:
الفاتحة لسيدي بشر، يخلصني على خير من هذه الرواية السخيفة، التي قبضت ثمنها ولا أدري
ما ختامها!
(تظهر «ميمي كمال» وترتمي بسرعة على المقعد في الكابين محاولةً إخفاء نفسها،
وهي مرتدية ثياب البلاج من سراويل وقبعة كبيرة من القش، ومنظار أسود، إلخ …)
ميمي
:
أرجو ألا يكون قد لمحني، ما له يمشي هكذا رافعًا يديه إلى السماء؟ بهذا «البرنس» المضحك،
وكرشه الذي يهتز أمامه، كأولئك الذين يقولون: «الحمد لرب مقتدر»!
فكري
(وهو ينظر في ورقه)
:
يقرأ لك الفاتحة!
ميمي
:
لي أنا؟!
فكري
:
طبعًا، ألا تعرفين؟!
ميمي
:
أعرف، يا سيدي، مصيبة ونزلت على رأسي وأنا في زهرة شبابي!
فكري
:
مصيبة؟! تسمينه مصيبة، ذلك الذي ينفق من أجلك عشرات الألوف من الجنيهات؟! يا للنساء!
يا للنساء!
ميمي
:
لي أحلامي الخاصة يا أستاذ، وهي منسوجة من خيوط الشعر، لا من خيوط الخيش!
فكري
:
خيوط الخيش هي وحدها التي ستنسج منك نجمةً سينمائية!
ميمي
:
ولو! ضع نفسك في مكاني!
فكري
:
أنا في مكانك موضوع جاهز، معك في نفس الزكيبة! جيوبي مملوءة بالذهب لأصنع لك الدور الذي
يجعل «ريتا هيوارت» بجوارك «ريتا هباب» ويجعل من «جريتا جاربو» بالنسبة إليك «جريتا جربوعة»!
اللهم رحمتك! ما أشد إغراء المال! به نقبل تحدي كل المعجزات، نحن الرجال.
ميمي
:
نحن أيضًا نساء بالمال نتحدى كل المعجزات إلا واحدة، الحب، حب رجل مثل بيومي أبو النجف.
فكري
(بتهكم)
:
الحب؟ (يغرق في الورق) عن إذنك.
ميمي
:
نعم الحب، أيستطيع المال أن يشتري القلب؟
فكري
:
من فضلك، أريد أن أكتب.
ميمي
:
الوحي هبط؟
فكري
:
لا، ولكن الذي سيهبط هو المخرج، سيأتي الآن، يفتح حلقه، ويكرر الأسطوانة المعهودة، القصة
يا أستاذ، موعد دخول الاستديو حان، السيناريو لم يقطع، الألحان لم توضع، الأدوار لم توزع،
أنقذنا، أسعفنا، إلى آخر هذا الكلام الذي يصد النفس ويصدع الرأس.
ميمي
:
وجودي إذن يعطلك!
فكري
:
وجودك هنا لن يسرك.
ميمي
:
بالعكس، من أدراك؟
فكري
:
أي سرور وأي تسلية في أن تجلسي أمام رجل مطلوب منه أن يؤلف، ودماغه أفرغ من جوف هذه المحارة
الملقاة على الرمل؟!
ميمي
:
أهذا لأنك تكتب لي أنا دورًا؟
فكري
:
لك أو لغيرك، الدور الذي أكتبه الآن لا بد أن يكون رائعًا، «الفيلم» كله سيكون تحفةً
فنية! لأن الفن الرفيع هو الذي ينبع من أرفع الدوافع، ودوافعنا كلها ولله الحمد شريفة!
الممول لا يهمه سوى إخراج هيامه، والمؤلف لا يهمه سوى إخراج قرشه، والمخرج لا يهمه سوى
إخراج اسمه، والجمهور لن يبقى له سوى إخراج لسانه!
ميمي
:
دعاية مدهشة للفيلم منذ الآن، إنك صريح جدًّا، خذ مني نصيحةً؛ اترك ورقك الآن، وقم معي،
نعم، قم والبس «المايوه»، وأنا ألبس «المايوه» ونسبح في الماء، لأن الوحي إذا لم تجده
على الأرض فابحث عنه في البحر.
فكري
:
البحر؟ أنزل البحر؟
ميمي
:
ألا تعرف العوم؟
فكري
:
كما تعرفين أنت التمثيل.
ميمي
:
قم معي إذن.
فكري
:
ما هذا الكلام الفارغ يا حضرة النجمة؟ أترك عملي الذي جاءوا بي وتكلفوا ودفعوا لي من
أجله، وأتبعك في هذا اللهو واللعب؟ أهذا يجوز؟ بدلًا من أن ألبسك أنا الدور، تلبسينني
أنت «المايوه»؟
ميمي
(تضحك)
:
أليس هذا أحسن لك؟
فكري
:
لست أفكر الآن فيما هو أحسن لي، ولكن فيما هو أحسن عند «أبو النجف».
ميمي
:
«أبو النجف»! «أبو النجف»! ألا يمكن أن نفكر دائمًا إلا في هذا المخلوق؟ أليس من نكد
الدنيا أن يريد مثل هذا الرجل أن يلف في خيشة قلبي وذهنك.
فكري
:
أرجوك، أرجوك، لا تحاولي أن تثيريني ضد هذا الرجل، نقوده في جيبي، وليس من السهل عليَّ
أن أخرجها وألقي بها في وجهه، لا بد لي أن أكتب له قصة فيلمه، بأي طريقة، وجع ساعة ولا
كل ساعة! (يعود إلى ورقه) عن إذنك!
ميمي
:
أهذا تأليف؟ أم خلع ضرس؟ لا يمكن أن تكون هذه حالتك في كل ما سبق أن كتبت ونشرت.
فكري
(منهمكًا في الكتابة)
:
من فضل حضرتك، اتركيني أكتب الفيلم الذي سيقال عنه كالعادة إنه رفع رأس السينما المصرية
عاليًا!
ميمي
(مستمرة)
:
لا بد أن يكون قلبك قد تفتح يومًا ما لموضوع أعجبك وخلب لبك، فسال قلمك متدفقًا يكتبه
بلذة، دون أن تفكر في غايته أو مصيره، هكذا الحب أيضًا، الحب الذي يملك قيادنا، ويسير
بنا بلا غاية ولا غرض، إلى مصير مجهول، هذا الحب تعرفه طبعًا، أليس كذلك؟ أجبني يا أستاذ
… أجبني.
فكري
(يرفع رأسه نحوها)
:
نعم؟
ميمي
:
هل تعرفه؟
فكري
(شاردًا)
:
من هو؟
ميمي
:
الحب.
فكري
:
وآخرتها معك يا سيدتي؟! هل ترين أني خالي البال الآن للكلام في … في الحب؟!
ميمي
:
ما هذه القسوة؟ أأنت تعامل كل النساء بهذه الطريقة، أم أنا فقط؟
فكري
:
لا تؤاخذيني، إني كما ترين «ملبوخ» لا أعرف لي رأسًا من قدم!
ميمي
:
حسبت أن الحديث في الحب يهدئ نفسك وينعش فكرك، أنت الرجل ذو القلب الرقيق، والإحساس المرهف،
والمزاج العاطفي، والروح الشاعري، هذا الحب الذي له عندك نوع من القداسة.
فكري
:
أنا؟! من قال ذلك؟
ميمي
:
أنت الذي تملأ قصصك بالحب، لا بد أنك أحببت، لا بد أنك تعرف هذا الحب الصارم العارم العاصف
الجارف، الساحق الماحق …
فكري
:
يا ساتر!
ميمي
:
لا شك عندي في ذلك، إني أكون أسعد الناس لو حدثتني قليلًا عن حبك!
فكري
(يتمسك بالصبر)
:
حبي؟
ميمي
:
نعم، حبك، حدثني عنه، من هي السعيدة التي ظفرت بقلبك وملكت قياده؟
فكري
:
قياد ماذا؟ إنك واهمة أيتها الآنسة. إن قلبي ليس له قياد، ولا عيد ميلاد ولا محل إقامة،
لا أعرف شيئًا عن تاريخه، كل معلوماتي عنه أنه تركني منذ زمن طويل، وانقطعت عني أخباره.
ميمي
:
بسبب امرأة؟
فكري
:
لا، أبدًا، بدون سبب.
ميمي
:
غير معقول!
فكري
:
الحاصل!
ميمي
:
أوَيمكن أن تعيش بدونه؟ أتعيش بغير حب؟ ألا تريد أن تحب؟ ألا تريد أن تخلص لشخص عزيز؟
فكري
(يعود إلى الورق)
:
أريد أن أخلص من قصة «أبو النجف».
ميمي
(مستمرة)
:
أتعيش حياتك كلها وحدك؟ ألا ينبغي لك أن تتزوج؟!
فكري
(بدون أن يرفع وجهه عن الورق)
:
أتزوج؟! إن شاء الله، بعد أن أقذف بنفسي أولًا في البحر!
ميمي
:
إنك مخيف!
فكري
(وهو يكتب)
:
قلت لك إن مجلسي لن يسرك.
ميمي
:
فليكن، ولكن الحديث معك يسرني، على الرغم من انشغالك عني بالعمل، لو كنت تترك أوراقك
لحظة وتصغي إليَّ جيدًا، لفتحت لك صدري، وقلت لك أشياء، تعجب لها وتدهش، وربما ترضيك
وربما تغضبك، لست أدري، ولكن سأقول، نعم يجب أن أتشجع وأقول، قبل كل شيء، أرجوك، أرجوك
أن تلتفت إليَّ … أتسمعني؟
فكري
(يلتفت إليها شاردًا)
:
أسمعك؟ طبعًا، أسمع!
ميمي
:
اترك ورقك وتعالَ اجلس هنا، في هذا المقعد المريح، إلى جانبي!
فكري
:
والشغل؟
ميمي
:
لن آخذ من وقتك أكثر من دقيقتين، أقول لك فيهما كلمتين.
فكري
:
ألا يمكن تأجيل الكلمتين إلى ما بعد ساعتين؟
ميمي
:
يكون الموقف قد برد.
فكري
:
أي موقف؟
ميمي
:
ستعرف الآن، تعال بسرعة هنا، ولا تضيع الوقت سدًى.
فكري
(يترك مكانه بحركة آلية ويجلس حيث أشارت له بالجلوس)
:
تفضلي، ما هو الموضوع؟
ميمي
(تنهض برشاقة)
:
تسمح أدير هذا الراديو قليلًا. (تدير الجهاز فتنبعث منه موسيقى) آه، إني أحب هذا النغم!
إنه يثير في نفسي ذكريات! لطالما أبكاني، يا للمصادفة! في جو هذا النغم بالذات الذي حرك
أشجاني فيما مضى، سأحدثك الآن، نعم، سأحدثك الآن … (تجلس إلى جواره.)
فكري
:
تحدثيني عن ماذا؟
ميمي
(بحرارة)
:
عن عواطفي!
فكري
(كاظمًا ما به وهو ينظر إلى ورقه المتروك)
:
عواطفك؟! الآن؟!
ميمي
:
إنك تجهل ولا شك كل شيء عنها، إنك لن تصدق أن امرأة مثلي يمكن أن تكون رقيقة الإحساس،
شاعرية النفس، لا يستهويها غير الخيال، ولا تبهرها غير الأحلام، ولا يعجبها من الرجال
غير الفنان المحلق في سماء الشعر، الشارد في جو الأوهام.
فكري
(وهو ينهض من جوارها ويسرع إلى جهاز الراديو ويغلقه)
:
جو الأوهام! أيوجد اليوم فنان شارد في جو الأوهام؟
ميمي
:
أرجوك، لا تكن قاسيًا، اجلس قليلًا!
فكري
:
أنا الذي أرجوك، وأتوسل إليك، أن تتركيني أكتب القصة لتاجر الخيش.
ميمي
:
أتزدري عواطفي؟!
فكري
:
العفو يا آنسة، إنما الشغل يحكم، الشغل! الشغل!
ميمي
(تخرج منديلها الصغير وتجفف دموعها)
:
إني سيئة الحظ، قليلة البخت، من يومي! (تنشج وتشهق بالبكاء) نعم، من يومي!
فكري
(كالمخاطب نفسه وهو ينظر إليها حائرًا ساخطًا)
:
آه، يا له من يوم! والعمل الآن؟
ميمي
:
حتى دموعي لا تؤثر فيك؟!
فكري
:
مؤثرة جدًّا، لكن، ماذا بيدي؟ معي منديل كبير تجففين به عينيك!
ميمي
:
أهذا كل ما تستطيع أن تقدمه إلي؟
فكري
:
أستطيع أن أقدم إليك نصيحة: اذهبي واغسلي وجهك في موجة من هذه الأمواج الهادئة البيضاء
التي تداعب الشاطئ، ثم «تشقلبي» فوق الرمال ثلاث أو أربع مرات، ثم انهضي واقفزي في الهواء
قفزةً قوية، ثم ارقصي على «البلاج» «سامبا» و«فوكس تروت»، تجدي النشاط قد دب في روحك
المعنوية.
ميمي
(تنهض)
:
متشكرة، الآن فقط صدقت حقيقة أنك رجل تعيش بغير قلب وبغير شعور، تكتب عن العواطف وتصورها
ولا تعيشها، تبيعها للناس في الورق ولا تستعملها، تمامًا مثل «بيومي أبو النجف»؛ يبيع
الخيش للناس، ولا تجد في بيته خيشة، «باي باي»! (تنصرف بسرعة.)
فكري
(وحده يتنفس)
:
أف! (يستنشق الهواء ويمسك رأسه بكفيه) ما ألذ الهدوء! الهدوء! (يحرك ذراعيه متنشطًا)
والآن، إلى الورق … (ينكب على العمل.)
(يظهر المخرج وهو «جلال أنسي»، ويرتمي على مقعد وهو يتوجع.)
جلال
(ممسكًا بقدمه)
:
آه يا رجلي، يا قدمي، يا ساقي، يا مفاصلي، يا ركبي، يا … يا … يا …
فكري
(يترك ورقه ويلتفت إليه)
:
ماذا جرى لك أنت أيضًا يا حضرة المخرج؟
جلال
:
جرى لي ما لم يسبق أن جرى لي.
فكري
(ناظرًا إلى ورقه متنهدًا)
:
خيرًا؟
جلال
:
نزلت اليوم في الصباح الباكر أمشي على الكورنيش …
فكري
:
عندي خبر!
جلال
:
وجدت أمامي أبدع قوام ممشوق صادفته في حياتي، قوام لا يدانيه في الدنيا كلها غير قوام
«إستر وليامز»!
فكري
(بغير اكتراث)
:
مفهوم.
جلال
:
تبِعتُ صاحبة هذا القوام.
فكري
:
طبعًا.
جلال
:
كانت تسير أمامي على بعد عشر خطوات.
فكري
(بصبر نافد)
:
وأخيرًا؟
جلال
:
أخيرًا، صبرًا، نحن لا نزال في أول الطريق.
فكري
:
تفضل!
جلال
:
سارت وسرت خلفها حتى محطة «بولكلي»، ثم سارت وسرت خلفها إلى محطة «سيدي جابر»، ثم سارت
وسرت خلفها إلى محطة «الإبراهيمية»، ثم سارت وسرت خلفها إلى محطة «الشاطبي»، ثم سارت
وسرت …
فكري
:
أرجوك، لا داعي أن تجرني إلى كل المحطات! النتيجة؟ أين وصلتما؟ في أي محطة؟
جلال
:
لم نصل، لا توجد محطة وصول.
فكري
:
وهذا السير؟
جلال
:
مستمرًّا!
فكري
:
أنا غير فاهم.
جلال
:
اصبر عليَّ يا أستاذ، وأنت تفهم.
فكري
:
تفضل!
جلال
:
أين وقفنا؟ في أي محطة؟
فكري
:
«الشاطبي»!
جلال
:
وصلنا «الشاطبي»، ولكنها لم تقف، واستمرت في السير، وأنا طبعًا خلفها، سارت وسرت حتى
محطة «الرمل»!
فكري
:
الحمد لله!
جلال
:
انتظر يا أستاذ، لا تتعجل، لم تقف في محطة الرمل.
فكري
:
هذا نهاية الخط!
جلال
:
لم تقف في نهاية الخط، وسارت وسرت.
فكري
(في صيحة دهشة)
:
سارت وسرت؟! بعد كل ذلك؟ إلى أين؟
جلال
:
الأنفوشي، ثم سارت وسرت خلفها!
فكري
(كالمجنون)
:
انتظر، انتظر يا أخي!
جلال
:
إنها لم تنتظر وسارت وسرت.
فكري
:
حلمك، حلمك، فهمني، عندما طال بكما الطريق هكذا ألم تستوقفها؟
جلال
:
أبدًا!
فكري
:
ألم تكلمها؟
جلال
:
أبدًا!
فكري
:
وما الذي أسكتك وألجمك وكتفك وقادك في ذيلها كل هذا الطريق الطويل الذي يقطع النفس؟!
جلال
:
خطر لي أن أكلمها عندما وصلنا إلى محطة «بولكلي»، كان ظني أنها تقصد «بلاج ستانلي»، ولكنها
عندما واصلت السير، أجلت الكلام حتى أعرف بالضبط أين تقصد، فلما مررنا بكل البلاجات والكازينوهات
وهي لا تعرج عليها ولا تقف عندها، بل تمضي في سيرها الجاد لا تلوي على شيء، ولا تلتفت
يمينًا ولا يسارًا ولا وراء، تملكتني في الحقيقة دهشة وحيرة وعجب وحب استطلاع، وأصبح
كل همي أن أعرف وجهتها وأقف على آخرة مطافها، فلم أرد عندئذٍ أن أكلمها حتى لا يفسد فضولي
ترتيبها أو يغير اتجاهها، واكتفيت بالمشي خلفها لأرى آخرة هذا المسير، ولكن هذا السير
استمر، وسارت وسرت!
فكري
:
أيضًا؟
جلال
:
نعم، أين وقفنا؟
فكري
:
الأنفوشي.
جلال
:
سارت بعدئذٍ في شوارع أدت بنا إلى ميدان «محمد علي»، ورأيتها اتجهت إلى موقف «الأتوبيس»
الذي يذهب إلى الرمل! فتنفست وقلت في نفسي جاء الفرج، إنها ستركب عائدة، وسأستريح أنا
من هذا المشي الذي كاد يهلكني، لكن للأسف!
فكري
:
للأسف؟! ألم تقف؟
جلال
:
أبدًا، سارت متجهةً في طريق المكس.
فكري
(صائحًا)
:
المكس؟! يا قوة الله! وأنت؟ أيها المسكين؟!
جلال
:
أنا؟! اسمح لي، الطاقة البشرية لها حدود، ما شعرت إلا وأنا ساقط من الإعياء فوق سلم «الأتوبيس»،
وخيل إليَّ وأنا شبه غائب عن الوعي أن يد «الكمساري» تنتشلني وتجلسني على المقعد، ولم
أتمالك نفسي إلا منذ قليل، وها أنا ذا أمامك أعود وكأني فقدت قدمي وأضعت مفاصلي.
فكري
:
وتلك المخلوقة؟!
جلال
:
تسير، لا تزال تسير، أغلب ظني أنها الآن قد تركت «مريوط» وسارت في الطريق الصحراوي إلى
القاهرة!
فكري
:
أهذه امرأة؟!
جلال
:
من الجنس اللطيف، الضعيف، في غاية الرقة والرشاقة!
فكري
:
يا لطيف!
جلال
:
لو أن الله هداها ووقفت دقيقةً واحدة، لكنا ظفرنا بوجهٍ جديد، لم تر له السينما المصرية
نظيرًا، هذه حقًّا هي النجمة التي كانت تستطيع أن تسير بالسينما المصرية!
فكري
(مقاطعًا)
:
تسير بالسينما، إلى أين؟ بدون أدنى شك، كانت تسير بالسينما وبالمخرجين والمؤلفين إلى
أن تكسحهم، وتخلع مفاصلهم، وتوجع ركبهم، كفاية يا حضرة المخرج، دع السينما المصرية في
حالها! ودعني أنا أيضًا في حالي، أكتب لكم الكلمتين، وأنتهي منكم على خير! (يعود إلى
ورقه) عن إذنك!
جلال
:
أولم تنته من القصة بعد يا أستاذ؟! الاستديو موعد دخوله اقترب، السيناريو لم يقطع، والحوار
…
فكري
:
والحوار لم يوضع، والأدوار لم توزع، والألحان والديكور، أعرف الأسطوانة، لا داعي لترديدها،
لكن ماذا أصنع؟ الهدوء، أين الهدوء؟ خمس دقائق هدوء!
جلال
:
أويوجد أهدأ من هذا المكان البديع، هذا الكابين المطل على البحر بلونه الأخضر، تحت هذه
السماء بلونها «اللازوردي»؟ أليس هذا أليق مكان في الصيف تظهر فيه بنات أفكارك؟!
فكري
:
بنات أفكاري؟! حتى بنات أفكاري يجب أن تظهر في الصيف على «البلاج»؟
جلال
:
أنا شخصيًّا لا أرى مكانًا أنسب لتأليفك من هذا المكان، من واجبي أن أراعي مزاجك، وأحيطك
بكل ألوان الراحة والرفاهية، وأحرص على كل ما يروق بالك ويصفي ذهنك ويوقظ خيالك!
فكري
:
حقًّا، مثل المانجو الهندية والزبدية والبطارخ والسيجار!
جلال
:
كيف عرفت؟ من قال لك؟
فكري
:
حجرتي رقم ١٥؟!
جلال
(ضاحكًا)
:
الواقع يا أستاذنا أنك ذكرت رقم حجرتي أنا سهوًا، بدل رقم حجرتك، كما يحدث أحيانًا.
فكري
:
وأكلت المانجو والبطارخ ودخنت السيجار بدلًا مني سهوًا؟!
جلال
:
الحق، عندما وجدت هذه الأشياء في حجرتي، لم أفكر في سبب وجودها، واكتفيت بأكلها.
فكري
:
أحسنت صنعًا، تلك القسمة العادلة، أنت الذي تأكل وتتمتع، وأنا الذي يجب أن يروق باله
ويصفو خياله!
جلال
(ضاحكًا)
:
وأبو النجف؟! هل عرف الحقيقة؟!
فكري
:
لا، لم أحب أن أكشفك، استمر! لكن، ما عدا السهو والغلط!
جلال
:
اطمئن من الآن، كلام شرف، المهم هو أن تكتب، وأن تسلمني القصة في ظرف … في ظرف كم يوم
حسب تقديرك؟
فكري
:
هذا يتوقف على الجو!
جلال
(ناظرًا إلى السماء والفضاء)
:
الجو غير منتظر أن يتغير!
فكري
:
لا أتكلم عن هذا الجو، إني لست طيارًا ولا بحارًا، إنما أقصد جو الهدوء والسكينة حولي!
جلال
:
ومن الذي يجرؤ أن يعكر عليك جوك وأنا موجود؟! (يجس عضلاته) إني كما تعلم رياضي قديم،
ولي عضلات أقذف بها من شئت إلى هذا البحر!
فكري
:
ابعد عني «أبو النجف»!
جلال
(متضائلًا)
:
آه، إلا هذا، صاحب الفيلم والمال!
فكري
:
ابعد عني «ميمي كمال»!
جلال
:
آه، إلا هذه، التي لسواد عينيها يصنع الفيلم وينفق المال!
فكري
:
إذن اسكت، لا فائدة لي منك، (يعود إلى ورقه) عن إذنك.
جلال
(يعود إلى قدمه)
:
آه يا ركبي، يا رجلي، يا مفاصلي …
فكري
(يلتفت إليه)
:
أأنت الذي ستضمن لي الهدوء؟ أغلق لي فمك!
جلال
:
سكت وأغلقت فمي، اكتب، لن يعكر صفوك أحد، وأنا هنا.
(يظهر رجل يرتدي معطفًا فوق جلباب سكروتة وعلى رأسه طربوش.)
الرجل
:
من فضلكم، «بيومي بك أبو النجف»!
جلال
(بخشونة)
:
ليس هنا.
الرجل
:
قالوا لي في الفندق رح له في الكابينة!
جلال
:
غير موجود هنا!
الرجل
:
أين يمكن أن أجده؟
جلال
:
لا نعرف!
الرجل
:
وماذا أعمل؟
جلال
:
تسألنا نحن؟ أهذا شيء يخصنا؟
الرجل
:
بيني وبينه ميعاد مهم!
جلال
:
لا شأن لنا.
الرجل
:
من حضرتكم؟
جلال
:
شيء بارد!
فكري
(يرفع رأسه عن الورق)
:
أف! ما هذا اللغط؟!
جلال
:
لست أنا المصدر، (يشير إلى الرجل) حضرته!
الرجل
:
أبو النجف بك، بيني وبينه ميعاد!
فكري
:
انتظره، المسألة لا تحتاج إلى كل هذا الجدل، اجلس هنا وانتظره!
الرجل
:
متشكر (يجلس على مقعد في الطرف)!
فكري
(يعود إلى ورقه)
:
عن إذنكم!
جلال
(لفكري)
:
شيء غريب! هكذا بكل بساطة، وأنا الذي أريد أن أبعد عنك مضايقات الناس! من أدرانا أن حضرته
صادق في دعواه؟ ومن أدرانا أن «أبو النجف» بك يسره أن يراه؟ ومن أدرانا أنه ليس من أدعياء
الفن الذين يلحون على الممولين والمنتجين للحصول على دور من الأدوار؟! انظر إلى هيئته،
أهذا يصلح للقيام بدور ما في أي فيلم عصري؟! انظر إليه، أرجوك لحظة أن تنظر إليه!
فكري
(يرفع رأسه عن الورق بضيق)
:
نظرت!
جلال
:
يصلح لأي دور مثل هذا الرجل؟
فكري
(يبتعد عن أوراقه ساخطًا)
:
أواثق أنت بأنه جاء يطلب دورًا في الفيلم؟
جلال
:
مؤكَّد!
فكري
:
كل إنسان في الدنيا تنظر إليه أنت على هذا الأساس؟ يصلح أو لا يصلح لدور سينمائي؟
جلال
(ينظر إلى الرجل مليًّا)
:
سمسار، «أبونيه»، تاجر مواشي.
فكري
:
«أبو النجف» ينظره باهتمام، فلا بد أن يكون ذلك لأمر يتصل بأعماله التجارية!
جلال
(بانتصار)
:
نظرتي إذن مضبوطة.
الرجل
(خارجًا عن إصغائه الصامت)
:
آسف جدًّا يا حضرة الفاضل، تسمحون لي بكلمة بسيطة، ولو فيها تطفل مني.
فكري
:
بالعكس، الموضوع يخصك، وأنت أدرى به منا، نحن المتطفلون.
الرجل
:
العفو، أنتم أهل النظر، فراستكم صادقة، وحكمكم في محله.
جلال
:
ما هي مهنتك؟
الرجل
:
مهنتي لها دائمًا علاقة بالمواشي.
(يظهر أبو النجف، ويرى الرجل، ويتجه إليه مباشرة.)
أبو النجف
(للرجل)
:
أنت؟ أنت هنا في انتظاري؟
الرجل
:
من مدة قصيرة.
أبو النجف
(بلهفة)
:
تعال نتباحث في مسألتنا في مكان آخر.
فكري
(ينهض)
:
بل أنا الذي أريد أن أذهب إلى مكان آخر، أغير هذا الجو!
أبو النجف
:
لا يا أستاذ، لا يمكن، هذا مكانك!
جلال
(ينهض)
:
له حق، دعه يحرك رجليه قليلًا على البلاج، بعد طول الجلوس، ربما أفاده ذلك، (لفكري) هلم
بنا نأخذ حمام شمس على هذا الرمل، آه يا مفاصلي، ربما استطاعت الأشعة البنفسجية أو التي
فوق البنفسجية!
(يخرج «فكري» وهو يعين «جلال» الذي يعرج، ويبقى «أبو النجف» مع الرجل في
الكابين وحدهما.)
أبو النجف
(للرجل)
:
ماذا صنعت لي؟
الرجل
:
كل ما فيه الفائدة إن شاء الله، «بيتنا الأتر»، لكن لا بد من عمل الحجاب.
أبو النجف
:
قلت لك لا تكلمني في مسألة الحجاب! بك طويل عريض في مركزي يلبس أحجبة، على آخر الزمن!
الرجل
(بخبث)
:
الحجاب يا سعادة البك هو أرخص طريقة!
أبو النجف
:
أرخص؟ أأنا أبحث عن الرخص أم عن الشيء المضمون؟!
الرجل
:
موجود الشيء المضمون الذي لا يلبس ولا يحمل ولا يرى، ولكنه يكلف.
أبو النجف
:
كم يكلف؟
الرجل
:
خمسين جنيهًا!
أبو النجف
:
أرني هذا الشيء؟
الرجل
(يخرج من جيبه قارورةً صغيرة)
:
بها سائل بسيط، مثل دمع العين، كما ترى سعادتك، ولكنه مركب من عقاقير نادرة جدًّا.
أبو النجف
:
وكيفية الاستعمال؟
الرجل
:
بسيطة، أغمس إصبعي في هذا السائل، وأكتب على جبينك كلمة مسحورة، فإذا وقع بصر الحبيبة
عليك بعدئذٍ وقعت في غرامك في الحال بقدرة قادر.
أبو النجف
:
عجيبة! حتى ولو كانت الحبيبة تنفر منك، وتستثقل ظلك، ولم ينفع في كسب قلبها المال، ولم
ينجح في إغرائها المجد.
الرجل
:
لو كتبنا بهذا السائل على جبين قرد، لانقلب في الحال في نظر الحبيبة إلى غزال!
أبو النجف
:
أسرع إذن إليك جبيني!
الرجل
:
أرقيك أولًا، (يرقيه مارًّا بيده فوق رأسه ووجهه) حدرجة بدرجة، من كل عين دارجة، يا بير
بلا قعر، يا كف بلا شعر، يا معزة بلا ديل، يا شجرة بلا ورق، والعين عنك تفترق، كما افترق
الندى عن المرق، والعين إذا شافت والقلب إذا نضر، عين المرة أحد من الشرشرة، وعين الراجل
أحد من المناجل، وعين الضيف أحد من السيف، وعين البنت أحد من الخشت، وعين اللي شافك ولا
صلاش على النبي. (يغمس أصبعه في القارورة) الأولة بسم الله، والتانية بسم الله، والتالتة
بسم الله، والرابعة من عين اللي شافك ولا صلاش على النبي! والآن أغمض عينيك؛ لأكتب الكلمة
المسحورة، (يخط على جبين أبي النجف وهو يتمتم) ﺣ … ﻤ … ﺎ …
أبو النجف
(صائحًا وهو مغمض العينين)
:
حمار؟!
الرجل
:
لا، لا، لا يوجد راء، بل هاء.
أبو النجف
:
هاء؟! حماه؟ حمى من؟
الرجل
:
حمى أمير الجن الأمرد الذي يخدمك، ستكون في حماه!
أبو النجف
:
أفتح عيني؟
الرجل
:
نعم، افتح الآن عينيك، انتهى كل شيء على خير بإذن الله!
أبو النجف
(يمد يده إلى جبينه)
:
وهذه الكتابة …
الرجل
(بسرعة)
:
حذار أن تمسها يدك، أو تمسحها أو تغسل وجهك أو تستحم في البحر، قبل أن ترى الحبيبة وجهك.
أبو النجف
:
وهل سترى الكتابة على جبيني؟
الرجل
:
لا، الكتابة غير منظورة، ولكنها سترى جبينك وضاءً، ومحياك جميلًا.
أبو النجف
(يشير إلى بطنه)
:
وكرشي؟!
الرجل
:
ستراه لطيفًا!
أبو النجف
:
وقوامي؟
الرجل
:
ستبصره نحيفًا!
أبو النجف
(يخرج محفظته)
:
كل هذا بخمسين جنيهًا! (يعطيه المبلغ) سعر معقول!
الرجل
(وهو يضع المبلغ في جيبه)
:
سعر التكاليف، نحن لا يهمنا غير خدمة الزبون.
أبو النجف
(ملتفتًا جهة البلاج ثم يصيح)
:
ها هي ذي تسير على البلاج في اتجاهنا.
الرجل
(يلتفت)
:
أهي هذه المقبلة؟
أبو النجف
(باضطراب)
:
نعم، (يرفع يده إلى جبينه هامشًا) ﺣ … ﻤ … ﺎ …
الرجل
:
لا تلمس جبينك، لئلا تمس الكتابة، تشجع وقابلها بثبات، واسمح لي بالانصراف، (يتحرك بسرعة).
أبو النجف
:
أتتركني؟
الرجل
:
أتركك مع حارسك الأمين، الحروف الأربعة التي فوق الجبين، سلام عليكم!
(ينصرف الرجل على عجل، ويترك «أبو النجف» وحده في الكابينة مرتبكًا مضطربًا
يمد يده بحذر نحو جبينه ثم يجذبها بسرعة خشية أن يلمسه، إلى أن تظهر «ميمي» من طرف
المكان.)
ميمي
:
أنت هنا؟
أبو النجف
(في اضطراب)
:
نعم.
ميمي
(تبحث بعينها)
:
وأين، الأستاذ؟
أبو النجف
:
ذهب يتشمس مع جلال المخرج.
ميمي
(تتحرك)
:
إني عائدة إلى الفندق أستريح في حجرتي.
أبو النجف
:
ابقي لحظة.
ميمي
:
لماذا؟
أبو النجف
:
لي معك كلام!
ميمي
:
أي كلام؟
أبو النجف
:
خبر سار، عندي لك خبر سار!
ميمي
:
ما هو؟
أبو النجف
(يشير إلى مقعد)
:
اجلسي هنا قليلًا وأنا أخبرك.
ميمي
(تجلس)
:
أخبرني ما هو هذا الخبر السار؟
أبو النجف
:
انظري إلى بإمعان.
ميمي
:
تكلم، إني مصغية.
أبو النجف
(يقف أمامها متصنعًا الرشاقة)
:
حدقي ودققي في الشخص الذي أمامك.
ميمي
(غير فاهمة)
:
أحدق وأدقق؟!
أبو النجف
:
نعم، ما رأيك في الآن على وجه العموم؟
ميمي
:
ما هذا السؤال المحرج؟
أبو النجف
:
أجيبي من فضلك، بكل صراحة.
ميمي
:
ما لزوم ذلك الآن؟!
أبو النجف
:
ألا ترين الآن شيئًا يستحق إبداء رأيك؟!
ميمي
:
رأيي أحتفظ به لنفسي.
أبو النجف
:
بالعكس، لا تحرميني سماع هذا الرأي، إنه يملؤني سرورًا وفخرًا وسعادة!
ميمي
:
سرور وفخر وسعادة؟ رأيي؟ فيمن؟ في ماذا؟!
أبو النجف
:
فيما تبصرين الساعة، إنك طبعًا ترين الآن أمامك؟
ميمي
:
طبعًا!
أبو النجف
:
هذا الذي أريد أن أعرفه منك، ترين ماذا؟!
ميمي
(بسخرية)
:
تريد الصراحة؟ أرى أمامي شيئًا اسمه مكون من أربعة أحرف!
أبو النجف
:
أربعة أحرف؟!
ميمي
:
تريد أن تعرف الحرف الأول؟
أبو النجف
:
نعم، ما هو الحرف الأول؟
ميمي
:
الحرف الأول: ح.
أبو النجف
:
شيء عجيب! والحرف الثاني؟
ميمي
:
الحرف الثاني: م.
أبو النجف
:
مدهش، والحرف الثالث؟
ميمي
:
الحرف الثالث: ا.
أبو النجف
(صائحًا)
:
كفاية أنت تقرئين من وجهي.
ميمي
(باسمة)
:
أمعترف بذلك؟
أبو النجف
(تمتد يده إلى جبينه ثم ترتد)
:
مؤكد، أنت ترين المكتوب على جبيني، أهو منظور إذن وظاهر إلى هذا الحد؟!
ميمي
(باسمة)
:
ظاهر جدًّا، شيء واضح جدًّا.
أبو النجف
:
وكيف قيل إنه لا يُرى ولا يظهر، أمعك مرآة؟!
ميمي
(في دهشة وابتسام)
:
مرآة؟! تريد أن ترى هذا في المرآة؟!
أبو النجف
:
بدون شك ما دمت قد رأيت هذا، فلا بد أن يكون موجودًا حقيقةً.
ميمي
:
هذا شيء أراه أنا، وقد يراه غيري، ولكنك لن تراه أنت في المرآة!
أبو النجف
:
على كل حال ما دمت قد رأيت ذلك، فهذه بشرى طيبة وعلامة مطمئنة!
ميمي
(بدهشة)
:
علامة مطمئنة؟! لمن؟ لك؟
أبو النجف
:
طبعًا؛ لأنك لا بد أن تكوني قد رأيت الباقي!
ميمي
:
الباقي؟! أي باقٍ؟!
أبو النجف
:
شكلي، ألم ينقلب؟ ألم يتغير؟ انظري إليَّ أولًا بالجملة.
ميمي
:
بالجملة أو بالقطاعي، ما هو الداعي؟ سأبيعك، سأشتريك، سأتاجر فيك؟!
أبو النجف
:
تأمَّليني جيدًا، تبصري العجب.
ميمي
(تتأمله بابتسامة تهكم)
:
تأملتك جيدًا، أين هو العجب؟!
أبو النجف
(يقف متصنعًا الرشاقة)
:
قوامي!
ميمي
(لا تستطيع كتم ضحكها)
:
قوامك؟!
أبو النجف
:
ألا ترينه الآن نحيفًا؟
ميمي
:
نحيفًا! بهذا الكرش؟!
أبو النجف
(مصدومًا)
:
الكرش! أتبصرين لي كرشًا؟!
ميمي
:
طبعًا، دائمًا.
أبو النجف
(يلمسه)
:
أهو لا يزال موجودًا؟!
ميمي
:
وأين تريد أن يذهب؟
أبو النجف
:
أتبصرينه حقًّا بعينيك؟!
ميمي
:
إني لست عمياء، ها هو ذا صدرك وأمامه الكرش مثل الفنطاس فوق عربة الرش!
أبو النجف
:
عربة الرش؟!
ميمي
:
أتكذب الواقع؟!
أبو النجف
:
ارفعي عن عينيك هذه النظارة، السوداء، وانظري إليَّ من جديد بالعين المجردة.
ميمي
(تخلع منظارها الأسود)
:
ها أنا ذي أخلع المنظار الأسود، وأنظر إليك بكل تفاؤل، بالعين المجردة، المنزهة، عن كل
غلط وغرض ومرض!
أبو النجف
:
ماذا ترين الآن؟!
ميمي
:
نفس الشخص والشكل والحجم واللحم!
أبو النجف
:
مستحيل، أنا تغيرت، تبدلت، تحولت، وجهي مضيء بالنور كالطبق «البنور»، ومحياي جميل، وقدي
نحيل …
ميمي
(بتهكم)
:
يا عيني! يا عيني!
أبو النجف
:
وكان الواجب أن تلاحظي ذلك.
ميمي
:
متأسفة، إني لست قوية الملاحظة!
أبو النجف
:
وكان المنتظر أن تكوني الآن قد وقعت في غرامي!
ميمي
:
وما الذي حال دون وقوع هذه الكارثة؟!
أبو النجف
:
هذا الذي يحير عقلي! أهي مكابرة منك؟ أهو احتيال أنا ضحيته؟ هذا جائز، وذاك جائز، ولكن
الذي كان ينبغي أن يتم هو أن أكون قد بهرتك واستوليت على قلبك منذ خمس دقائق!
ميمي
(بسخرية)
:
منذ خمس دقائق؟! ما كل هذا التأخير يا نور عيني؟
أبو النجف
:
خمس دقائق، ثلاث دقائق، مسألة الوقت ليست بذات أهمية!
ميمي
(ناهضة من مقعدها)
:
ما دام الأمر كذلك فاصبر عليَّ قليلًا.
أبو النجف
:
قليلًا؟ متى؟ في ظرف كم؟
ميمي
(وهي منصرفة)
:
في المشمش، ربما عيني تفتح!
(تنصرف تاركةً «أبو النجف» وحده في الكابينة، واقفًا بلا حراك يشيعها بنظرات
جامدة ذاهلة.)
أبو النجف
(يثوب إلى نفسه وينتفض ثائرًا)
:
يا للرجل النصاب! المحتال، الدجال، أمير الجان! ﺣ … ﻤ … ﺎ …
(ينهال على جبينه مسحًا بشدة وعنف وغيظ، وعندئذٍ يظهر «فكري» و«جلال» قادمين من
حيث ذهبا.)
فكري
:
ما هذا الذي تمسحه من على جبينك؟ قبلة؟
أبو النجف
(بحرارة)
:
قبلة؟ (يهز رأسه ويتنهد.)
فكري
:
على ذكر القبل كنا نتباحث الآن أنا وحضرة المخرج في دور «ميمي كمال» وهو غير موافق على
رأيك.
جلال
:
أنا قلت إني غير موافق على رأي «أبو النجف بك»؟!
فكري
:
وماذا قلت إذن؟
جلال
:
قلت إن دور «ميمي كمال» يحتاج من الوجهة الفنية إلى قليل من التوابل والبهارات.
أبو النجف
:
توابل وبهارات؟! هذه أول مرة أسمع فيها أن التوابل والبهارات توضع أيضًا في أدوار السينما.
فكري
:
يقصد أن الدور فاتر، لأنها فيه لا تغازل أحدًا، ولا أحد يغازلها.
أبو النجف
(للمؤلف)
:
وماذا يريد حضرته أن تفعل البطلة المحتشمة؟
جلال
:
تفعل ما تريده حضرتك، المال مالك، والرأي رأيك!
أبو النجف
:
رأيي يعرفه الأستاذ! (يشير إلى المؤلف.)
فكري
:
نعم أعرفه، ستعيش هذه البطلة المحتشمة بعيدةً عن الناس والرجال طول أيام حياتها.
جلال
:
أين ذلك؟ في جزيرة مهجورة؟!
فكري
:
يكون أحسن وآمن وأصون!
جلال
:
ولكن الرواية مصرية عصرية، حسب ما فهمت!
فكري
:
ستحيا البطلة في بيئة محافظة جدًّا من أهل الصعيد، لا تخرج إلى الطريق، ولا تطل من شباك،
ولا يظهر طيفها لغريب أو قريب.
جلال
:
ولكن ميمي راقصة ويجب في دورها أن ترقص!
فكري
:
سترقص لنفسها بين جدران أربعة.
جلال
:
والثياب الفاخرة التي تصر «ميمي» من الآن على إعدادها للفيلم؟
فكري
:
ستلبسها وتختال بها في حجرتها والستائر مسدلة، وكيف تنتهي هذه القصة؟
جلال
:
في مستشفى المجاذيب طبعًا!
فكري
(صائحًا)
:
البطلة؟! ستدخل مستشفى المجاذيب؟
أبو النجف
:
اطمئن، ليست البطلة، بل المؤلف والمخرج! ماذا تقول؟
فكري
:
الكلام الجد، اسمع يا «أبو النجف بك»، فيلم بهذا الوضع لا يمكن أن يسلي مخلوقًا، حتى
ولا أنت، المقترح لهذه الفكرة النيرة.
أبو النجف
:
أغضبت؟ لا أحب أن تغضب، فلنتفاهم بالراحة.
فكري
:
نعم، فلنتفاهم، أتظن من المعقول أن تظهر بطلة شابة راقصة في فيلم ولا تجد أحدًا يحبها؟
أبو النجف
:
«ميمي»؟ لا تجد أحدًا يحبها! آه، آه. يا ألف آه!
فكري
:
أقصد داخل الفيلم لا في الخارج، مفروض في بطلة الرواية عادةً أن تكون محبوبةً في الرواية.
أبو النجف
:
فليكن يا سيدي، في الرواية وفي غيرها.
فكري
:
نعم، سأجعل شخصًا يحبها في الرواية، ولك عليَّ أن أجعلها هي من جهته لا تحبه ولا تميل
إليه وتنفر منه ولا تعطف عليه وتستثقله ولا تستخف ظله!
أبو النجف
:
أيضًا؟!
فكري
:
ما قولك في هذه الفكرة؟!
أبو النجف
:
هذا شيء معروف، هذا هو الحاصل، بالفعل، أين إذن التأليف يا أستاذ؟!
فكري
:
إن شئت فإني أحور الفكرة وأجعلها تحبه وتقع في غرامه.
أبو النجف
:
تقع في غرام من؟ غرامي؟!
فكري
:
لا، بل بطل الفيلم طبعًا.
أبو النجف
:
الولد الممثل الأجرب، الذي جاء به أمس حضرة المخرج، وحررنا له عقدًا بمائتي جنيه؟!
فكري
:
غرام بالطبع تمثيلي في الفيلم فقط.
أبو النجف
:
ومن أدرانا؟ ألا يجوز أن يصدِّقا الموضوع، ويستمرَّا في دور الحب، بعد الرواية والفيلم،
إلى ما شاء الله؟!
فكري
:
احترت واحتار دليلي، عندك أنت فكرة يا حضرة المخرج؟
جلال
:
لا، أبدًا، الأفكار النيرة عند «أبو النجف بك»! وما دام هو الذي يكلف، فلنطبخ له نحن
على هواه.
أبو النجف
:
بالتوابل والبهارات؟!
جلال
:
بدون ملح بالمرة!
أبو النجف
:
دعنا من الكلام في الطبخ والغرف، إني أريد أن يكون هذا الفيلم درسًا وعظةً، (يلتفت إلى
المؤلف) لماذا لا تعالج فيه يا حضرة المؤلف هذه المشكلة العويصة التي دوخت الناس وأعيت
النفوس، هذه المشكلة الاجتماعية الخطيرة التي عجزَت عن حلها العقول والألباب، واستعصى
داؤها على العلماء، ونُطُس الأطباء!
فكري
:
أي مشكلة؟
أبو النجف
:
هذه المرأة.
فكري
:
أي امرأة؟!
أبو النجف
:
هذه المرأة ذات القلب الحجر، والفؤاد الصخر، والشعور الزلط، والعواطف الأسمنت، لا بالمال
والسخاء تلين، ولا بالتوسل والاستعطاف ترق، ولا بالتذلل والإخلاص تحن، ولم يقدر على قلبها
حب ولا ذهب ولا فن ولا جن!
فكري
:
أتدري ما الذي يلين قلب مثل هذه المرأة؟
أبو النجف
:
ماذا؟ أسعفني!
فكري
:
شيء يكلف.
أبو النجف
:
كم؟ قل ولا تخف، عشرين ألفًا، ثلاثين ألفًا، خمسين ألفًا!
فكري
:
قرش واحد!
أبو النجف
:
قرش واحد؟!
فكري
:
ثمن عصا بسيطة، تنزل بها على جسمها الغض البض، و«تنتشها علقة» لكن نظيفة، ولا تكف عنها
حتى يذرف الدمع السخين، ويلين عظمها على لحمها، عندئذٍ ثق بأن قلبها هو الآخر قد لان.
أبو النجف
(فاغرًا فاه)
:
عجيبة!
جلال
:
هذه وصفة مجربة.
أبو النجف
(مطرقًا متأملًا)
:
فكرة وجيهة!
جلال
:
حقًّا، هذا موقف سينمائي مائة في المائة، وسأعرف كيف أجعل منه «كليماكس» السيناريو!
أبو النجف
(يلتفت حوله باحثًا، ويقع نظره على عصًا خشبية معلقة بها ستارة من ستائر الكابينة، فينزعها
قائلًا)
:
هذه تنفع؟
جلال
(صائحًا)
:
ماذا أنت صانع بها؟!
فكري
:
عن إذنكم دقيقتَين! (ينصرف بسرعة حاملًا الخشبة في يده.)
جلال
:
إلى من يذهب بهذه الخشبة؟! إلى ميمي؟!
فكري
:
ميمي أو غيرها، لعنة الله عليهن جميعًا! (يعود إلى ورقه) عن إذنكم!
جلال
(ملتفتًا جهة البحر يصيح فجأةً)
:
القيوم!
فكري
:
ماذا دهاك؟
جلال
(مشيرًا بأصبعه)
:
انظر …
فكري
(يلتفت)
:
أنظر إلى ماذا؟!
جلال
:
هذه الصخرة، انظر إلى هذه الصخرة، ماذا ترى عليها؟!
فكري
(ناظرًا إلى الصخرة)
:
امرأة.
جلال
(هاتفًا)
:
هي … هي … هي!
فكري
:
هي من؟
جلال
:
المرأة التي خلعت مفاصلي هذا الصباح!
فكري
:
هذه الواقفة فوق الصخرة كالتمثال؟!
جلال
:
هي بعينها! ما بالها تطيل التحديق هكذا في الماء؟!
فكري
:
إنها الآن تضع كفيها على عينيها.
جلال
(صائحًا)
:
انظر، تقذف بنفسها في البحر، إنها تلفظ صيحة، أسامع؟
فكري
(ناظرًا بانتباه)
:
نعم!
جلال
:
إنها تغيب في جوف الماء!
فكري
(ناظرًا)
:
حقًّا!
جلال
:
إنها لم تظهر بعدُ على السطح!
فكري
(صائحًا)
:
هذه امرأة تنتحر، النجدة، أنجدوها، أنجدها …
جلال
(مرتاعًا)
:
أنا؟ أنا أسير خلفها بين الموج؟!
فكري
(صائحًا)
:
النجدة! أتتركها بلا نجدة؟ أتتركها تغرق؟ تحت أنظارنا تغرق، أنحن رجال؟! (يريد أن يندفع
من الكابين.)
جلال
(يمسك به)
:
قف! ماذا تفعل؟
فكري
(يتخلص منه)
:
أُنقِذُها، لا بد من إنقاذها، دعني، دعني، لا تضيع الوقت!
جلال
(يحاول وقفه)
:
انتظر!
فكري
(ينجد بقوة)
:
الغريق لا ينتظر.
جلال
:
أتحسن العوم؟
فكري
(وهو يجري نحو البحر)
:
لا يهم!
جلال
(صائحًا به)
:
جنون، هذا هو الجنون! إنك سائر خلفها في البحر! أنا الذي سرت خلفها على البر وجرى لي
ما جرى، ارجع واسمع كلامي، ارجع، ارجع … (ناظرًا إلى البحر بيأس) نفسه المجنون، بملابسه
وحذائه، يا للنساء! امرأة تأتي لنا بالفيلم، وامرأة تضيع لنا المؤلف! (يجري صائحًا) النجدة!
أنجدوه! الحقوه!
(ستار)