الفصل الثاني
(مستشفى، حجرة خاصة فاخرة، بها سرير يرقد عليه «فكري»، وحوله مقاعد
وثيرة، وعلى منضدةٍ بقربه آنية بها باقة زهر كبيرة، الطبيب يقف إلى جانبه يفحص نبضه.)
الطبيب
(يترك معصمه)
:
الحمد الله، كل شيء على ما يرام، لا يلزمك غير قليل من الراحة، غدًا أو بعد غد على الأكثر
تستطيع أن تغادر فراشك في صحةٍ تامة!
فكري
:
أشعر «بموعان» نفس.
الطبيب
:
من ماء البحر المالح الذي ابتلعته، لقد أفرغنا من معدتك ما يملأ قربة!
فكري
:
أعوذ بالله!
الطبيب
:
كان بينك وبين الغرق لحظات، لولا أن هيأ الله لك من أنقذ حياتك في الوقت المناسب.
فكري
:
إني لا أذكر شيئًا مما حدث، سوى أني صرت «أهبش وأطبش» في الماء، إلى أن وجدت نفسي أهوي
على الرغم مني نحو القاع، ولم أفق بعدئذٍ إلا هنا في المستشفى.
الطبيب
:
لماذا ألقيت بنفسك في البحر يا أستاذ؟! أنت الرجل المتزن …
فكري
:
قلة عقل! هنالك لحظة يفقد فيها الإنسان اتزانه أمام إحساس حماسٍ فارغ!
الطبيب
:
حصل خير، ما دامت النهاية خيرًا، كل ما نرجو هو ألا تعود إلى هذه الفكرة!
فكري
:
أأنا مجنون؟! بعد أن رأيت الموت بعيني، ووضعت رجلي في قبري؟ نحن على الشط نظن البحر في
صفائه وزرقته شيئًا هينًا، وإذا هو الموت الأزرق، أنا أضع فيه قدمي مرةً أخرى؟ ولو رأيته
ابتلع «بلاج سيدي بشر» بما عليه من جميع النساء!
الطبيب
:
نعم، تسرني منك الآن هذه الحالة النفسية، كن دائمًا متفائلًا، متشبثًا بالحياة، وأبعد
عن رأسك على قدر الإمكان كل فكرة قاتمة سوداء، تدفعك إلى الانقباض واليأس!
(يسمع طرق على باب الحجرة، ثم يظهر «التمرجي»، الممرض.)
الممرض
:
النيابة، البك وكيل النيابة!
الطبيب
(بسرعة)
:
فليتفضل، يتفضل.
(وكيل النيابة وهو داخل خلف الممرض ومعه كاتب التحقيق)
الطبيب
:
ممكن الآن يا «دكتور» استجواب المصاب؟! ممكن الآن، ممكن جدًّا، تفضلوا، إنه الآن بخير،
أتركه بين أيديكم، اسمحوا لي أنا أمر على بقية المرضى!
(يخرج الطبيب وخلفه الممرض، ويبقى في الحجرة وكيل النيابة وكاتب
التحقيق.)
فكري
(يشير إليهما بالجلوس)
:
النيابة تقصدني أنا؟ ما الذي حدث؟ لا سمح الله؟!
وكيل النيابة
:
جناية!
فكري
:
حدثت جناية؟!
وكيل النيابة
:
ما حدث يعتبر في نظر القانون جناية، تنتقل لتحقيقها النيابة العمومية.
فكري
:
يا حفيظ!
وكيل النيابة
:
الانتحار والشروع فيه دائمًا جناية!
فكري
:
وأنا المسئول؟!
وكيل النيابة
:
طبعًا! (لكاتب التحقيق) افتح المحضر، الاسم والصناعة والسن، وكل البيانات موجودة في بطاقة
المستشفى!
فكري
:
محضر؟!
وكيل النيابة
(لفكري)
:
قل لنا يا أستاذ! هل أنت مصاب بمرض عصبي؟
فكري
(في دهشة)
:
لا!
وكيل النيابة
:
هل تشكو أحيانًا من الأرق؟!
فكري
:
الأرق؟ بالعكس، إنَّ أبرع شيء أصنعه في الوجود النوم.
وكيل النيابة
:
هل تنتابك حالات نفسية، تسأم فيها حياتك وعملك ومن يحيط بك؟
فكري
:
أحيانًا أجد عملي سخيفًا، وأرى من يحيط بي من أصناف الناس في مستوى ذهني يجعلني أشمئز
من نفسي.
وكيل النيابة
:
وهذا الاشمئزاز يوحي إليك أحيانًا بأن تهرب من هذه الدنيا؟
فكري
:
أهرب منها إلى أين؟
وكيل النيابة
:
إلى عالم آخر أفضل مثلًا.
فكري
:
ولا أحسنها، وإذا كنت لم أستطع أن أهرب من رواية السينما، هل أستطيع أن أهرب من رواية
الدنيا؟!
وكيل النيابة
:
ما الذي دفعك إذن إلى إلقاء نفسك في البحر؟!
فكري
:
المروءة والإنسانية!
وكيل النيابة
:
ماذا تعني؟ أفصح!
فكري
:
هذه المثالية التي ترقد في نفوسنا، تتغذى من معتقداتنا ومبادئنا ومطالعاتنا، تستيقظ فجأةً،
لتقوم بعمل غير إرادي، قبل أن يفكر العقل في نتائجه أو يتبصر عواقبه!
وكيل النيابة
:
بلا شك، رجل له مثل عملك وثقافتك، لن يكون باعثه طبعًا ضيق ذات اليد، أو السقوط في الامتحان،
أو حب بنت الجيران، بل هذا النوع الفلسفي من المثالية التي يمكن أن تدفعك إلى ارتكاب
هذا الفعل؟!
فكري
:
ارتكاب هذا الفعل؟!
وكيل النيابة
:
غير الإرادي، قام في نفسك فجأةً أن تلقي بنفسك في البحر، لماذا؟ لا تدري؟ فنفذت هذا الخاطر
المفاجئ في الحال، وألقيت بنفسك في البحر، بدون سبب!
فكري
:
بدون سبب؟! أمجنون أنا؟! أيوجد إنسان يلقي نفسه في البحر بدون سبب؟
وكيل النيابة
:
ألم تقل ذلك الآن؟
فكري
:
أنا قلت إني رميت نفسي بدون سبب؟!
وكيل النيابة
:
معذرة، أنا فهمت خطأً إذن، كان هناك سبب؟
فكري
:
طبعًا، كل شيء له سبب.
وكيل النيابة
:
ما هو إذن السبب؟
فكري
:
هذه المرأة، لعنة الله عليها!
وكيل النيابة
:
دائمًا فتش عن المرأة! لماذا لم تذكر لنا ذلك من أول الأمر؟
فكري
:
هذا شيء معروف!
وكيل النيابة
:
معروف عندك، ولكننا لم نعرف بعدُ شيئًا عن حياتك الخاصة.
فكري
:
ألم تعرفوا أني ألقيت نفسي من أجل هذه المرأة؟!
وكيل النيابة
:
معقول أن تلقي بنفسك من أجل امرأة! (يلتفت إلى كاتب التحقيق الذي يدون المحضر) أثبِتْ
هذا، (يعود فيلتفت إلى المؤلف) وما اسم هذه المرأة؟
فكري
:
لا أعرف اسمها.
وكيل النيابة
(في دهشة)
:
لا تعرف اسمها؟! وكيف كانت بينكما العلاقة إذن؟
فكري
:
لم تكن بيننا أي علاقة.
وكيل النيابة
:
وكنت تحبها، بدون أن تعرف اسمها، وبدون أن تكون بينكما علاقة؟!
فكري
:
أحبها؟! ومن قال إني كنت أحبها؟!
وكيل النيابة
:
ألم تكن تحبها؟!
فكري
:
أبدًا!
وكيل النيابة
:
وتلقي بنفسك في البحر من أجل امرأة لا تحبها؟!
فكري
:
شيء عجيب يا حضرة النائب، اسمح لي أن أندهش، ألا بد أن يكون هناك حب وغرام كي نقوم بهذا
العمل؟!
وكيل النيابة
:
أظن هذا هو الطبيعي!
فكري
:
طبيعي أن نرى شخصًا يغرق أو يحرق أو يدوسه قطار، فلا نمد له يد المعونة إلا إذا كانت
تربطنا به معرفة أو عشق أو محبة أو استلطاف؟
وكيل النيابة
:
هذه مسألة أخرى! نحن هنا أمام حادث انتحار.
فكري
:
من باب أولى، لو رأينا شخصًا ينتحر ألا نبادر إلى إنقاذه، دون أن نشترط المعرفة والحب
والهيام؟!
وكيل النيابة
:
طبعًا نبادر إلى إنقاذه بدون قيد ولا شرط.
فكري
:
هذا هو الذي حصل!
وكيل النيابة
:
بالضبط، هذا هو الذي حصل من الشخص الذي أنقذك من الانتحار.
فكري
(بدهشة)
:
أنقذني من الانتحار؟! أأنا انتحرت؟
وكيل النيابة
:
شرعت في الانتحار، ولم تتم الجريمة لسبب خارج عن إرادتك، وهو إنقاذك في الوقت المناسب.
فكري
:
ما هذا الكلام؟ أنا شرعت في الانتحار؟! لماذا؟
وكيل النيابة
:
هذا هو الذي نريد أن نعرفه منك، والذي من أجله نجري هذا التحقيق.
فكري
:
انتحرت؟!
وكيل النيابة
:
تذكر جيدًا، وربما كانت الصدمة وحالتك الصحية بعدها قد أثرتا في ذاكرتك.
فكري
(كالمخاطب نفسه)
:
انتحرت؟! أنا؟ لماذا أنتحر؟ لتفاهة القصة التي أؤلفها؟! جائز، ولكن، لو كان كل مؤلف ينتحر
لهذا السبب لارتفع مستوى التأليف بشكل مخيف!
وكيل النيابة
:
اقدح زناد فكرك وارجع بذهنك إلى ما قبل الحادث، وتذكر السبب الذي حدا بك إلى إلقاء نفسك
في البحر.
فكري
:
هذا السبب معروف، لا يحتاج إلى قدح زناد فكر، قلت لحضرتك إني ألقيت بنفسي خلف هذه المرأة.
وكيل النيابة
:
عدنا إلى هذه المرأة؟!
فكري
:
ضروري لأنها هي أصل الكارثة، ولولاها لما كنت الآن في هذا المستشفى، هي كل السبب.
وكيل النيابة
:
في انتحارك؟
فكري
:
قلت لحضرتك إني لم أنتحر، إني واثق، وأقسم لك.
وكيل النيابة
:
تذكر!
فكري
:
متذكر تمامًا، رأسي بخير، ولم أفقد الوعي، لا يوجد عندي سبب للانتحار، ولكنها هذه المرأة،
اسألوها هي عن سبب الانتحار!
وكيل النيابة
:
سبب انتحارك؟
فكري
:
سبب انتحارها هي!
وكيل النيابة
:
ما هذا الخلط؟!
فكري
:
لا يوجد خلط، هي التي انتحرت، وهي تُسأل عن السبب، أما أنا فكل ما أعرفه هو أني ألقيت
بنفسي خلفها لأنقذها بدافع المروءة والإنسانية!
وكيل النيابة
:
ولكن الوقائع تكذب ذلك!
فكري
:
أي وقائع؟!
وكيل النيابة
:
ما حدث في الواقع هو أن هذه المرأة هي التي أنقذتك من الموت المحقق، وقررت أن عملك كان
انتحارًا.
فكري
:
وهي؟ ألم تنتحر؟
وكيل النيابة
:
لا.
فكري
:
ألم تقذف بنفسها من فوق الصخرة، ويبتلعها الماء، ولا يظهر لها أثر.
وكيل النيابة
:
ثبت أنها سباحة ماهرة، مشتركة في كثير من نوادي المدينة الرياضية، وأنها كانت تقوم بتمرينها
اليومي من فوق الصخرة، وأنها تجيد الغوص والعوم تحت الماء!
فكري
(كالمخاطب نفسه في عجب)
:
شيء لطيف!
وكيل النيابة
:
كما ثبت من أقوالها ومن القرائن أنك لا تحسن السباحة، وأنك ألقيت بنفسك في البحر بملابسك
العادية!
فكري
:
من لهفتي عليها، داهية تلهفها!
وكيل النيابة
:
لا داعي أن تصر على الإنكار يا أستاذ، الحادثة واضحة كالشمس، المنتحر بالغرق لا يمكن
أن يكون تلك السباحة البارعة التي ترتدي «المايوه»، ولكنه ذلك «الغشيم» الذي يلقي نفسه
«ببنطلونه» وحذائه! ألا ترى هذا هو المعقول؟
فكري
:
معقول!
وكيل النيابة
:
أمام هذه الأدلة الدامغة ما قولك؟
فكري
:
أمري إلى الله!
وكيل النيابة
(يتنفس الصعداء)
:
وضح لنا إذن كيف نبتت في رأسك فكرة الانتحار؟!
فكري
:
الانتحار؟ إني لم أفكر في الانتحار!
وكيل النيابة
(يائسًا)
:
وبعدها معك يا أستاذ؟
فكري
:
أتريد أن أقرر شيئًا لم يحدث؟!
وكيل النيابة
:
وماذا يمكن أن نسمي هذا الذي حدث؟ بماذا نكيفه التكييف القانوني؟! بل بماذا نصفه باللغة
العادية؟ شخص يلقي نفسه في البحر بملابسه، لغرض مجهول، يخفيه وراء سبب ثبت بالدليل بطلانه،
ماذا نسمي تصرف هذا الشخص؟!
فكري
:
حقًّا، تصرف جنوني.
وكيل النيابة
:
شأن كل انتحار، ما الانتحار إلا تصرف جنوني.
فكري
:
ولكني لم أنتحر!
وكيل النيابة
(يتنهد إعياءً)
:
لماذا تتعبنا هكذا يا أستاذ؟! أيسرك أن تضعنا في هذه الحالة من التعب والحيرة بدون مقتضٍ؟!
فكري
:
متأسف، إني أريد راحتكم، ماذا تحب أن أصنع لأريحكم؟!
وكيل النيابة
:
أن تكف عن هذا الإنكار، الحادثة ظاهرة، والمسألة بسيطة، ولا توجد هناك أدنى عقوبة.
فكري
:
لا توجد عقوبة! ولماذا كل هذا التحقيق؟
وكيل النيابة
:
مجرد إجراء قانوني، يحفظ بعده المحضر! ولا يطلع على ما فيه أحد.
فكري
:
إذن ما الداعي إلى إطالة «السين والجيم»؟ فلننهِ الموضوع ولا حاجة إلى إضاعة وقتكم، أسيلحق
بي شيء إذا قلت إني انتحرت؟ انتحرت انتحرت، اكتب عندك أني انتحرت.
وكيل النيابة
(يملي كاتب التحقيق)
:
«اعترَف.»
فكري
:
انتهينا!
وكيل النيابة
:
سؤال واحد بسيط.
فكري
:
تفضل!
وكيل النيابة
:
ما هي أسباب انتحارك؟
فكري
(صائحًا)
:
سبحان الله! إذا قلت لم أنتحر، تقول لي أتعبتني، إذا أرحتك وقلت انتحرت، تقول لي ما هي
الأسباب؟ إذا قلت الأسباب، تقول لي غير معقولة! احترت يا ناس، واحتار فؤادي! لكن الذنب
ذنبي، أنا الذي أستحق! أنا الذي لم أسمع الكلام، وجيت أضع نفسي بقدمي وحذائي في هذه الورطة!
وكيل النيابة
:
هدئ أعصابك يا أستاذ، الحكاية في غاية البساطة، لقد ذكرت الآن في المحضر أنك انتحرت،
أليس المنطق يقضي أن تذكر أيضًا السبب؟
فكري
:
وما هو السبب؟ السبب المنطقي عندكم؟ السبب الذي ترونه أنتم معقولًا؟! ضيق ذات اليد؟ ولكن
جيبي فيه عدة مئات من الجنيهات ثمن القصة! سقوط الرواية؟ ولكن «الفيلم» لم يظهر بعد؟
حب بنت الجيران؟ أين هم الجيران؟ (يلتفت حوله) على ماذا تطل هذه النافذة من فضلك؟
وكيل النيابة
(ملتفتًا جهة النافذة)
:
من يدري؟ ربما على قاعة المشرحة!
فكري
:
أحب جثة؟! يرضيكم هذا؟!
وكيل النيابة
(باسمًا)
:
ألا يكون حب بين الجيران؟! الحب في كل مكان، ويكفينا منك في المحضر أن تقول إنك انتحرت
بسبب الحب، ولن نخوض بعدئذٍ مطلقًا في التفاصيل.
فكري
:
وننتهي؟!
وكيل النيابة
:
في الحال.
فكري
:
انتحرت بسبب الحب!
وكيل النيابة
:
متشكر!
فكري
:
العفو!
(وكيل النيابة ينهض، وينهض كاتب التحقيق ويقدم المحضر إلى «فكري» ليوقع على
أقواله.)
كاتب التحقيق
:
أزعجناك يا أستاذ، لكن لك الآن أن تستريح، ونرجو لك دوام الصحة، وألا تفكر أبدًا بعد
اليوم في الانتحار، لأي سبب، حتى ولو كان الحب.
(يصافح المؤلف ويتحرك خارجًا.)
كاتب التحقيق
(لوكيل النيابة وهو خارج خلفه)
:
أذكر سعادتك بالقضية الأخرى في الجناح الآخر!
(يخرجان، ويتركان «فكري» في سريره، يرسل إلى الفضاء نظرات شاردة
حالمة.)
فكري
(يصيح فجأةً ثائرًا)
:
الحب! أنا؟ أنا أنتحر بسبب الحب؟! لكن حصل، وأمضيت ووقعت وختمت في أوراق رسمية، انتحرت
بسبب … الحب!
(تدخل عندئذٍ فجأةً امرأة شابة هيفاء رشيقة في نحو السادسة والعشرين، تحمل لفةً
بها أزهار، وتتجه إلى الزهرية، فتطرح عنها أزهارها القديمة، لتضع مكانها الأزهار الجديدة
التي
أتت بها، كل ذلك دون أن تلتفت إلى «فكري» وكأنه غير موجود في المكان.)
المرأة
(وكأنها تخاطب نفسها)
:
انتحار خفيف الروح!
فكري
(في دهشة من أمرها من ساعة دخولها)
:
خفيف الروح؟!
المرأة
:
الانتحار بسبب الحب.
فكري
:
من حضرتك؟
المرأة
(تلتفت إليه بكل هدوء)
:
ألا تعرفني؟
فكري
:
لم يحصل لي هذا الشرف!
المرأة
:
هذا الشرف حصل!
فكري
:
أين ذلك؟
المرأة
(بهدوء تام)
:
في قاع البحر.
فكري
:
في قاع البحر؟!
المرأة
:
ألا تذكر؟! كنت أنت في منتهى اللياقة والوقار، ترتدي ملابسك، حتى الحذاء، والكرافتة الحرير،
ولم يكن ينقصك غير الطربوش، أو العصا أو المنشة أو المسبحة، بالطبع كنت ذاهبًا إلى موعد
هام.
فكري
:
هام جدًّا، هكذا خيل لي!
المرأة
:
لست أدري لماذا لم تحمل معك أيضًا باقةً كبيرة من الأزهار؟!
فكري
:
لم يكن عندي الوقت!
المرأة
:
إن المرأة تحب دائمًا منظر الزهر، سواء أكانت في الدنيا أم في الآخرة، تلك التي ألقيت
نفسك في البحر من أجلها كانت ميتةً أو هي حية؟
فكري
:
لم تكن هذا ولا ذاك.
المرأة
:
كانت مشرفةً على الموت؟
فكري
:
هكذا خيل لي.
المرأة
:
وأردت أنت أن تذهب معها، أو تسبقها بلحظات إلى العالم الآخر؛ لتكون هناك في شرف استقبالها!
فكري
:
لم أفكر في شرف، ولا في استقبال، ولا في أن أذهب معها أو أسبقها، كل ما فكرت فيه وقتئذٍ
هو أن أمنعها من الذهاب.
المرأة
:
بهذه الطريقة كنت ستمنعها؟!
فكري
:
هكذا خيل لي.
المرأة
:
خيالك واسع جدًّا يا أستاذ!
فكري
:
هذه مصيبتي!
المرأة
:
بالعكس، هذا شيء بديع، لا أريد التدخل في شئونك وأسرارك، ولكني أريد أن تعرف شيئًا، لقد
انتظرت حتى تسترد صحتك لأخبرك به، عندما أنقذتك لم أكن أعرف من أنت، فلما عرفت شخصيتك،
وأيقنت أن مثلك لا يقدم على هذا الفعل إلا بدافع عاطفي شعري، منبعه الحب الرفيع الذي
يصوره دائمًا في تأليفه، تملكني الأسف والندم!
فكري
:
الأسف والندم على ماذا؟
المرأة
:
على تحطيمي هذا التدبير الرائع! هذه الموتة الشعرية التي كان يجب أن تكون خاتمة حياة
مثل حياتك!
فكري
:
ماذا تقولين؟!
المرأة
:
ثق بأني آسفة ونادمة على تدخلي!
فكري
:
نادمة على تدخلك؟! أوكنتِ تريدين أن تتركيني في قعر البحر ليأكلني السمك؟!
المرأة
:
لستَ إذن ساخطًا عليَّ ولا غاضبًا؟!
فكري
:
من هذه الجهة لا، قطعًا.
المرأة
:
وهي؟ … هي لا بد أن تكون غاضبة ساخطة، كان يسرها بالطبع أن يتم الأمر وأن تموت من أجلها؟!
فكري
:
يسرها أن أموت من أجلها؟!
المرأة
:
طبيعي، إني أضع نفسي في مكانها، وأتصور مقدار سعادتي لو مات من أجلي رجل، وأي رجل؟ رجل
ممتاز، متقد العاطفة، مرهف الإحساس!
فكري
:
يسرك موتي؟!
المرأة
:
يسر كل امرأة!
فكري
:
اللهم لطفك!
المرأة
(مستمرة)
:
لأنه دليل الحب، ذلك الحب الملتهب، العنيف، العميق، أكانت هذه المرأة تستحق منك كل هذه
التضحية؟!
فكري
:
من هي؟
المرأة
:
تلك التي ألقيت بنفسك في البحر من أجلها!
فكري
:
أكنت أعرف إذا كانت تستحق أو لا تستحق؟! أمن الواجب أيضًا أن نبحث ونتحرى في مثل هذه
المواقف عن مؤهلاتها؟!
المرأة
:
حقًّا، إنه قدر، ومسائل القلب لا تخضع لبحث أو فكر، إني على كل حال أغبطها، هذه المرأة،
كيف هي؟ صف لي شكلها.
فكري
:
انظري في المرآة وأنت ترينها!
المرأة
:
أهي تشبهني إلى هذا الحد؟!
فكري
(في نبرة تهكم)
:
أظن!
المرأة
(وهي تتأمل نفسها أمام مرآة في الحجرة)
:
يعجبك إذن هذا الشكل!
فكري
:
أعجبَ بعضهم، وقارَنَه بقوام ممثلة أمريكية.
المرأة
:
وأنت؟
فكري
:
أنا شخصيًّا، (يتأملها) لا أفهم كثيرًا في مسألة الشكل.
المرأة
:
تهمك الروح؟
فكري
(في تهكم خفي)
:
إذا وجدت!
المرأة
:
وما الذي كنت تحبه فيها إذن؟
فكري
:
فيمن؟
المرأة
:
في تلك التي ألقيتَ بنفسك في البحر من أجلها؟!
فكري
:
لم أحب فيها شيئًا!
المرأة
(بدهشة)
:
وتموت بسببها؟!
فكري
:
يا ناس! أهذا شيء عجيب إلى هذا الحد؟! ألا يحدث أن يموت الإنسان بسبب آنية زرعٍ سقطت
على رأسه من الطابق الخامس وهو سائر في الطريق؟! أمن الضروري أن يكون قد أحب الآنية،
أو عشق ما فيها من زرع أو طين أو رمل؟!
المرأة
:
لست أفهم!
فكري
:
لا أريد أن تفهمي أكثر من ذلك، لئلَّا يخيب ظنك!
المرأة
:
ألم تنتحر إذن من أجل الحب؟!
فكري
:
لم أنتحر، (يتذكر) بل انتحرت.
المرأة
:
انتحرت أو لم تنتحر؟!
فكري
:
لا أدري.
المرأة
:
لا تدري؟! أهذا أمر يمكن أن تجهله؟!
فكري
:
هناك قولان، قول حسب معلوماتي الشخصية، وقول حسب الثابت في الأوراق الرسمية!
المرأة
:
وما هو القول الأصح؟!
فكري
:
الله أعلم!
المرأة
:
أرى جيدًا بمثل هذه الأجوبة أنك لا تحب أن أكلمك في شأنك، الحق معك، أنت لا تعرفني، ولكني
أنا أعرفك، وأعرف طريقة حياتك التي تحتاج إلى عناية، ألا ترى أنك بخروجك من الماء قد
كتب لك عمر جديد؟ هذا العمر الجديد أود أنا أن أحرص عليه، وأتعهده؛ لأنك لم تستطع المحافظة
على عمرك القديم!
فكري
:
حقًّا، أضعته بحماقة، في لحظة طارئة، بدون مناسبة!
المرأة
:
أرأيت؟ إنك غير مؤتمن على حياتك! ولا يمكن أن نتركها بعد اليوم بين يدي شخص …
فكري
:
قاصر!
المرأة
:
لا، لا أريد أن أقول ذلك بالضبط.
فكري
:
غير رشيد!
المرأة
:
بل غير ملتفت إلى نفسه، شارد في خياله، سابح في ملكوت! لا بد لمثلك من وصي!
فكري
:
وهذا الوصي هو … حضرتك!
المرأة
:
أنا أولى من غيري!
فكري
:
مستنداتك!
المرأة
:
أولًا، أنا التي انتشلتك من قاع البحر، وبهذا أصبحتَ شيئًا يخصني!
فكري
:
هكذا بوضع اليد؟!
المرأة
:
حقي، افرض أن شركةً انتشلت سفينةً من قاع البحر، ألا تصبح هذه السفينة ملكها؟!
فكري
:
كلام معقول! (يتنبه للأمر فيصيح) يا للمصيبة! أصبح ملكك؟! يعملها القانون، ويحكم لك بملكيتي!
لم أعد أستبعد شيئًا الآن!
المرأة
:
اطمئن، لن ألجأ إلى المحاكم.
فكري
:
نعم، أرجوك، أبعدينا عن المحاكم والنيابة والجهات الرسمية!
المرأة
:
لا حاجة بي إلى هذا، إني معتادة أن أحل دائمًا قضاياي بنفسي.
فكري
:
خيرًا فعلت!
المرأة
:
لقد نشأت هنا في الإسكندرية، قرب البحر، مشبعةً من صغري بالروح الرياضية، ولي نظرة في
الحياة، قد تصدم خيالك!
فكري
:
لماذا؟
المرأة
:
لأني أحب دائمًا أن أسير في خطٍّ مستقيم، إلى الأمام.
فكري
:
إلى آخر محطة، مفهوم، مسألة السير هذه، عندنا بها خبر.
المرأة
(غير فاهمة مرماه)
:
ماذا تقول؟
فكري
:
استمري.
المرأة
:
أحب المواجهة والإصرار، وأكره الالتواء والتردد، إذا أبغضتك قلت ذلك في وجهك، وإذا أحببتك
رأيت ذلك في وجهي، هدفي لا بد أن أبلغه ولو بعد جهد وكد، وما أريد لا بد أن أناله ولو
قسرًا وقهرًا، يكفي أن أقرر لأنال، ويكفي أن أخطو لأصل.
فكري
(في قلق)
:
لا شك عندنا في ذلك أبدًا.
المرأة
:
من ذلك تدرك مقدار نجاحي في كل ما يهمني من مسائل.
فكري
(بتردد)
:
وفي مسألتك هذه؟ خطوت؟
المرأة
:
بالطبع، خطوات.
فكري
(صائحًا في يأس)
:
انتهينا! «رحنا بلاش»!
(تسمع دقة على الباب، ثم يفتح ويظهر «جلال» مندفعًا.)
جلال
:
ما هذه الإشاعة التي تملأ البلد؟
فكري
:
أي إشاعة؟
جلال
(يرى المرأة فيهتف)
:
«إستر وليامز»!
فكري
(مبادرًا بتقديم جلال)
:
حضرته المخرج السينمائي المعروف، «الأستاذ جلال أنسي»، لا شك في أنك سمعت باسمه، وعرفت
نشاطه الفني في السينما والمسرح!
المرأة
(بلهجة مجاملة)
:
طبعًا!
فكري
:
حضرته رآك مرة على الكورنيش، ومن يومها وهو … (يريد أن يشير إلى قدمه.)
جلال
(يغمزه ليسكت)
:
شُفيت، شُفينا مما جرى لنا، كلنا ولله الحمد بخير الآن!
فكري
:
من يومها وهو يسميك «إستر وليامز»!
المرأة
(للمخرج)
:
لماذا؟ هل رأيتني وأنا أسبح؟
فكري
:
رآك أولًا وأنت تسيرين من «بولكلي» إلى «المكس»!
المرأة
:
تمريني اليومي في السير على الأقدام!
جلال
(فاغرًا فاه)
:
تمرين يومي، كل يوم تسيرين، هكذا، هذا «المشوار»؟
المرأة
:
منذ عشر سنوات، منذ أن كنت في السادسة عشرة.
جلال
:
بسم الله ما شاء الله!
المرأة
:
ومن قال إني ذهبت إلى «المكس»، إني أمس اتجهت قليلًا في شارعه لأشتري شيئًا، ثم عدت بالأتوبيس!
فكري
:
إنه لم يستطع أن يتبعك إلا إلى ميدان «محمد علي»، ثم خر مغشيًّا عليه.
المرأة
(في جد)
:
ولماذا يتبعني؟
جلال
(في ارتباك)
:
كان ذلك … بالمصادفة.
فكري
:
إنه يتمنى لو قبلتِ العمل في السينما!
المرأة
:
ليس عندي أي استعداد للفن، ولست من هواة ذلك على الإطلاق.
جلال
:
خسارة، خسارة كبيرة، (لفكري) أقنعها، اكتب لها دورًا، ضعها في الإطار الذي يروق لها،
دعها تعيش في الجو الذي يناسب مزاجها، اجعلها تسبح في البحر.
فكري
(في ارتياع)
:
البحر، ألم نتب بعدُ من البحر وما جرى لنا منه؟!
جلال
:
على ذكر البحر، الإشاعة قوية في البلد أنك انتحرت.
فكري
:
سمعت ممن هذا؟
جلال
:
من الناس، كل من قابلني يقول لي ألا تدري؟ الأستاذ فكري انتحر، ألقى بنفسه في البحر،
في «بلاج سيدي بشر»!
فكري
:
وأنت ماذا كان جوابك لهؤلاء؟
جلال
:
كنت أقول لهم انتظروا حتى أتحرى الحقيقة.
فكري
:
تتحرى الحقيقة؟ ممن؟
جلال
:
منك طبعًا، ما هي الحكاية؟
فكري
:
أي حكاية؟
جلال
:
انتحارك؟ لماذا انتحرت؟
فكري
:
أنا انتحرت؟
جلال
:
والإشاعة؟
فكري
(صائحًا)
:
الإشاعة! أتصدق الإشاعة، وتكذب ما رأيته أنت بعينيك؟! ألم تكن معي ساعة الحادث الملعون؟!
ألسنا «دافنينه سوا»؟! ألست أنت الذي وجهت نظري إليها صائحًا: ابتلعها الماء! فصدقت أنا
وهرعت لإنقاذها؟ حصل كل هذا أمام نظرك أو لم يحصل؟
جلال
:
حصل طبعًا.
فكري
:
بعد ذلك تتحرى مني عمَّا إذا كنت انتحرت؟ وتسألني عن أصل الحكاية؟
جلال
:
كلام الناس، ماذا أصنع أمام كلام الناس؟ قالوا كلهم انتحر من أجل امرأة.
فكري
:
وتسمع هذا وتقبله؟ أنت شاهد الرؤية، أنت العالم ببواطن الأمور، أنت الأصل والفصل؟
جلال
:
أقول لك الحق، الإشاعة «لخبطت» عقلي.
فكري
(صائحًا)
:
وما قيمة الحقائق إذن في هذه الدنيا يا خلق الله! إذا كانت تنهار هكذا أمام الأكاذيب!
فلأتبع أنا أيضًا الأكذوبة، ولأسر معك خلف الإشاعة، انتحرت يا سيدي، انتحرت، من أجل امرأة!
فقط، ابحث لي عن هذه المرأة من فضلك!
جلال
:
أنا الذي سأبحث عنها؟
فكري
:
يجب أن تكون موجودة، ما دمنا انتحرنا من أجلها، أين هي؟
جلال
:
من هي؟
فكري
:
تلك التي ألقيت بنفسي في البحر من أجلها؟!
جلال
(بدون تفكير يشير إلى المرأة)
:
أليست حضرتها؟
المرأة
(في دهشة)
:
حضرتي!
جلال
:
طبعًا، ألا تعرفين؟
المرأة
:
أعرف ماذا؟
جلال
:
ما حصل، عندما وقفت فوق الصخرة، وألقيت بنفسك في الماء وغصت فيه، حسبنا نحن أنك تنتحرين،
فاندفع حضرته بكل شهامة إلى البحر لينقذك!
المرأة
(في دهشة)
:
ينقذني أنا؟!
جلال
:
ألم يخبرك بكل هذا؟
المرأة
:
لا! (تلتفت إلى فكري) لماذا لم تخبرني؟
فكري
:
أخبرك بهذا الشيء السخيف، رجل لا يحسن العوم يذهب لإنقاذ أمهر سباحة من الغرق! مثله مثل
ذلك الذي يذهب ليبيع الماء في حارة «السقايين»! الحق أن الأكذوبة أصدق منطقًا، والإشاعة
أجمل مظهرًا، ألقى بنفسه منتحرًا من أجل الحب، معقول! مقبول!
(يُفتح الباب فجأةً، وتظهر «ميمي كمال» داخلةً مندفعة، وقد وضعت ذراعها اليسرى
في الجبس وربطت برباط صحي.)
ميمي
(بلهفة)
:
لم أعلم إلا الآن يا أستاذ!
فكري
:
تعلمين بماذا؟
ميمي
:
خبر انتحارك.
فكري
(وهو يتنهد)
:
قسمتي!
ميمي
:
الحمد لله على سلامتك، الحقيقة أننا لم نفهمك، حسبناك جامد العواطف!
فكري
:
كما ترون، انتحرت من أجل الحب!
ميمي
:
لم تتحمل صدمته!
فكري
(يمثل الرقة والضعف تمثيلًا غير متقن)
:
أبدًا، انهار قلبي الرقيق وإحساسي المرهف أمام لمسة الحب، وتفتتت كبدي المقروحة كما يتفتت
كعك العيد الناعم عند لمسة الفم، وتبخرت عصارة روحي تحت أنفاس الحب الملتهبة، كما تتبخر
مياه البحر تحت أشعة الشمس المحرقة، الحب حطم حياتي وجعلها كالحصى الذي تفرش به الأرصفة،
الحب طحن حياتي وعجنها وخبزها كالدقيق الذي تصنع منه الأرغفة، آه، الحب، الحب، الحب …
ميمي
:
مسكين! ومن هي السعيدة التي … صدمت بك كل هذا؟!
فكري
(بدون تفكير ولا انتباه)
:
جاري البحث عنها!
ميمي
(لم تفهم قصده)
:
ماذا تقول؟
فكري
(يعود إلى تمثيله)
:
آه، لا تسأليني ولا تذكريني، لا تعذبوا روحي ولا تحركوا جراحي! دعوني أعش هذه اللحظات
في جو الحب، هذا الحب الذي بلا حبيب، ألا بد من وجود الحبيب أولًا حتى يوجد الحب؟! ما
الذي يوجد قبل الآخر؛ الحب أو المحبوب؟ البيضة أو الدجاجة؟ الكتكوت قبل البيضة، أو البيضة
قبل الكتكوت؟!
(ميمي تلتفت إلى «جلال» بنظرات متسائلة عن معنى ما تسمع؟!)
جلال
(لفكري)
:
لا تتكلم كثيرًا، مراعاةً لحالتك!
فكري
:
معك حق، (لميمي) أخبريني أنت، ما هذا الرباط الجبس حول ذراعك؟!
ميمي
:
اسكت يا أستاذ، هذه حكاية فظيعة، ألا تعرف أني نازلة هنا في المستشفى منذ أمس، في الجناح
الآخر؟
جلال
(بسرعة)
:
بلغني الموضوع يا «ميمي»، وكنت على وشك زيارتك.
فكري
:
ما الذي حدث؟
ميمي
:
الوحش، البهيم، الحيوان «أبو النجف»! ما شعرت أمس إلا وهو داخل عليَّ في حجرتي بالفندق
وفي يده خشبة.
(فكري لا يتمالك نفسه ويضحك.)
ميمي
:
تضحك؟!
فكري
(يملك نفسه)
:
احكي، ضربك؟
ميمي
:
وأي ضرب؟ كسر لي ذراعي، كما ترى والنيابة أخذت اليوم أقوالي، وفحصني الطبيب الشرعي وقال
من الجائز تتخلف لي عاهة مستديمة.
فكري
:
يا ساتر! وأين «أبو النجف»؟
ميمي
:
أظن وكيل النيابة قبض عليه!
فكري
:
حكاية جامدة!
جلال
:
جدًّا، تتخلف لك عاهة؟! والفيلم؟!
ميمي
(للمخرج)
:
أكل ما يهمك هو «الفيلم»؟!
جلال
(خجلًا)
:
قصدي …
ميمي
:
أي فيلم بعد الذي حصل؟ حتى وإن عادت ذراعي إلى حالتها الأولى، هل تظن في إمكاني أن أنظر
في هذا الجلف بعد اليوم؟ أو أعمل له في فيلم؟! ولو أعطاني ثقلي ذهبًا؟!
فكري
:
معقول!
جلال
:
معنى هذا أن العمل في الفيلم قد توقف نهائيًّا!
فكري
:
نكبة كبرى! أليس كذلك؟ سيتوقف معها دوران الكون! لأن دوران الكون عندك متصل بدوران «الكاميرا»!
ميمي
:
فليُدِر «الأستاذ جلال» وهذا الرجل الحيوان الكاميرا أو الكون، كما يحبان، ولكن بدوني!
جلال
(بلهجة شك)
:
بدونك؟!
ميمي
:
النجوم كثيرة، مثل التراب، في كل مكان تعثر قدمك بنجمة! (تنظر إلى المرأة من فوق لتحت،
فتشيح المرأة بوجهها عنها.)
(يطرق باب الحجرة طرقة واحدة شديدة، ويفتح الباب ويظهر «أبو النجف» وهو
يقول …)
أبو النجف
(وهو داخل)
:
سلامتك يا أستاذ، لم أعلم والله إلا الساعة.
ميمي
(تتحرك في الحال)
:
أورفوار يا أستاذ!
(تخرج بسرعة، قبل أن يتبين «أبو النجف» وجودها، وقبل أن يتمكن أحد من
استمهالها.)
أبو النجف
(يتنبه إليها وهي خارجة بسرعة)
:
ميمي … ميمي … الله يجازي الشيطان!
فكري
:
سمعنا أنهم قبضوا عليك!
أبو النجف
:
أفرجوا عني بكفالة!
فكري
:
نرجو أن تكون العاقبة سليمة!
جلال
:
لو أن الإصابة خدش بسيط، لكن مع الأسف!
أبو النجف
:
قل للأستاذ، أليست مشورته؟ أليس الذي حصل هو من تحت رأس نصيحته؟! ألم تكن أنت حاضرًا
وسامعًا وشاهدًا يا حضرة المخرج؟! قرش صاغ! ثمن مفتاح قلب المرأة المغلق، قرش صاغ واحد
ثمن عصًا، سمعنا الكلام، واستوعبنا الحكمة، وذهبنا إليها بالعصا، وإليكم النتيجة!
فكري
:
أقلت لك اكسر ذراعها، وسبب لها عاهةً مستديمة؟!
أبو النجف
:
ساعة القدر يعمى البصر، وعند الضرب لا يدري الإنسان أين تقع الضربة؟!
فكري
:
المهم تطلع أنت براءة، أو يحكم عليك بغرامة.
جلال
:
والتعويض؟ انظر كم تقدر المحكمة ذراع النجمة؟
أبو النجف
:
ذراع النجمة أو ذيل النجمة! هذا الفيلم أراني نجوم الظهر والسلام!
جلال
:
وما ذنب الفيلم؟!
أبو النجف
:
وما ذنبي أنا؟! أدخل باب الفن، فإذا بي أجد نفسي أمام باب السجن، مع أني دخلت شغلة الخيش،
فلم أجد نفسي فيها إلا مرتديًا ثياب الأبهة والاعتبار!
جلال
:
ليس باب الفن الذي أوصلك إلى باب السجن، بل باب النسوان!
أبو النجف
:
البخت! المكتوب على الجبين تراه العيون ولو بعد حين! وأنا على كل حال داهيتي خفيفة، بالنسبة
إلى داهية الأستاذ.
فكري
(مأخوذًا)
:
داهية الأستاذ؟
أبو النجف
:
هذا والله ما عزاني، وهون عليَّ ما دهاني، عندما بلغني أنك انتحرت من أجل امرأة، قلت
في نفسي «يا سلام»! «الأستاذ فكري» كله بعقله وحصافته وفصاحته يرمي حياته كلها في البحر
في سبيل الحب! وأنا أستكثر رمي نفسي في الحبس شهرًا أو شهرين أو ثلاثة!
فكري
(ممثلًا)
:
آه، صحيح، الحب يا «أبو النجف بك»، الحب …
أبو النجف
:
لكن حياتك أغلى.
فكري
(ممثلًا)
:
عندي أنا؟! أبدًا، أبدًا، حياتي قطعة خيش، والحب جوهرة منورة، ما قيمة حياتي لو داستها
الجوهرة؟
أبو النجف
(مبهورًا)
:
شيء جميل! وهذه المرأة؟
فكري
(بغير انتباه)
:
أي امرأة؟
أبو النجف
(في لهجة جدية)
:
هذه الجوهرة المنورة التي مسحت أقدامها في خيشة حياتك!
فكري
:
منها لله!
أبو النجف
:
أين هي الآن؟
فكري
:
علمي علمك!
أبو النجف
:
يا لعواطفك السمحة يا أستاذ! تكون بهذه الإحساسات الرقيقة، ويكون الحب عندك بهذه المنزلة،
وتقول أمس إن المرأة لا يلين قلبها إلا إذا لان عظمها على لحمها، فما أكاد أذهب إليها
أنا بالعصا، حتى تذهب إليها أنت بروحك الطاهرة فترميها تحت قدميها، في البحر؟
فكري
:
الحب يا «أبو النجف بك»، الحب، انتحرت في سبيل الحب، أعيش في جو الحب، وأتنفس بأكسجين
الحب، قلبي سمكة والحب هو البحر!
أبو النجف
:
كلام حلو، حلو، حلو …
فكري
:
ألم تسمع هذا يقال عني الآن؟!
أبو النجف
:
الإشاعة ملء البلد.
فكري
:
انتحرت من أجل الحب، شيء جميل، أليس كذلك؟
أبو النجف
:
أجمل شيء!
فكري
:
لا تحسدني! أنت أيضًا ستسجن من أجل الحب!
أبو النجف
:
أبدًا يا أستاذ، بل من أجل العاهة المستديمة! ليتني احتملت حبي مع الصد والهجر، بدل إضاعة
كل شيء في الضرب والكسر! أمَا من أمل في إصلاح الحال، (يلتفت إلى المخرج) صديقي جلال،
ما رأيك؟
جلال
:
أنا مخرج مسرحي وسينمائي، ولست بمجبساتي ولا مجبراتي!
أبو النجف
:
لست أطلب رأيك في إصلاح الكسر، بل في إصلاح الحال بيني وبين «ميمي».
جلال
:
نحاول.
أبو النجف
:
هل عندك طريقة؟
جلال
:
أقصر طريق هو أن نذهب إليها أنا وأنت الآن، بدون تأخير، نزورها، وتعنى أنت بصحتها، وتأتي
لها بأعظم الأطباء، وتكون في خدمتها!
أبو النجف
:
وإذا طردتني؟
جلال
:
ننظر في طريقة أخرى!
أبو النجف
:
هيا بنا، اسمح لنا يا أستاذ.
جلال
(لفكري)
:
إلى الغد.
أبو النجف
(لفكري)
:
اقرأ لنا الفاتحة.
(يصافحان «فكري»، وينحنيان برأسيهما بالتحية أمام «المرأة» ويودعها المخرج
مسلمًا باليد، ثم ينصرفان تاركين «فكري» والمرأة.)
فكري
(للمرأة وهو يتنفس الصعداء)
:
أف، لا مؤاخذة، انشغلنا عنك.
المرأة
(كالخارجة من حلم)
:
حسبتني أغرق فأردت إنقاذي؟!
فكري
(بدون انتباه)
:
أين هذا؟ (يفطن) آه حقًّا، هذا ما حصل بالضبط.
المرأة
:
من أجلي إذن ألقيت بنفسك في الماء؟!
فكري
:
من أجلك أو من أجل أي شخص آخر في مكانك!
المرأة
:
مفهوم، هزتك الأريحية والإنسانية.
فكري
:
ليس إلا!
المرأة
:
وأنا التي ظننت الأمر غير ذلك.
فكري
:
ألم أقل لك إن ظنك سيخيب؟!
المرأة
:
لم يكن في الأمر حب، كيف شاع عنك إذن بهذه السرعة أنك تحب؟
فكري
:
خيال الناس الخصب.
المرأة
:
يا لك من مسكين! حياتك إذن عارية مجردة عن الحب، أنت الرجل الخيالي لم تستطع أن تكسو
حياتك بالثوب الذي صنعه لك خيال الناس! كيف أمكنك أن تعيش هكذا بغير الحب؟! حتى الموت،
تموته أيضًا بغير حب؟!
فكري
(صائحًا ويداه حول رأسه)
:
يا ناس، يا ناس كفى تحطيم أعصاب. كفى حرب أعصاب، أنا في عرضكم! أعصابي تحطمت! لم تعد
أذني تسمع، ولا رأسي يسع غير الانتحار، الحب، الحب، الانتحار، في الأوراق الرسمية، والأخبار
المروية، وكل من دخل عليَّ، الحب، الانتحار، الانتحار، الحب، سأريحكم وأريح نفسي، وأقسم
لكم بشرفي، أقسم لكم سأنتحر وأحب، سأحب وأنتحر، في ظرف أربع وعشرين ساعة! قبل أربع وعشرين
ساعة، يذاع خبري!
المرأة
:
هدئ أعصابك!
فكري
:
أين هي أعصابي؟! لقد انتهى الأمر، خرجت حياتي من زمام عقلي وإرادتي! أنا الآن شخص لا
يصلح لشيء إلا للبحث عن الحب والانتحار، أين هو الحب؟ ابحثوا لي من فضلكم عن الحب!
المرأة
:
الحب لا يبحث عنه، ولكنه يهبط من تلقاء نفسه!
فكري
:
وإذا لم يهبط أنفلق أنا؟! يقع برج من دماغي؟
المرأة
:
إنه مثل وحيك، ماذا تفعل عندما يبطئ عليك الوحي في الهبوط؟
فكري
(يهدأ قليلًا ويهرش رأسه)
:
الحق أن الوحي لا يستعصي عليَّ عادةً إلا إذا كان الموضوع رديئًا والجو غير مناسب!
المرأة
:
الحب أيضًا يأتي مع الموضوع الجيد، والجو المناسب!
فكري
:
أما الجو فأنا غارق فيه لشوشتي! كما ترين، وأما الموضوع فهو طبعًا المرأة، أين المرأة
موضوع الحب؟ ابحثي لي.
المرأة
:
المرأة لا تبحث عن المرأة.
فكري
:
تقصدين من بالمرأة؟ أنتِ؟ عفوًا إني ما نظرت إليك حتى الآن باعتبارك امرأة.
المرأة
:
ماذا كنت تعتبرني إذن؟
فكري
:
منقذة، شركة، الشركة التي انتشلتني من قاع البحر!
المرأة
:
أما أنا فأعترف أني لم أعتبرك سفينة؟! بل إنسانًا.
فكري
:
فلأنظر إليك الآن إذن باعتبارك إنسانة، (يتأملها) اسمحي لي أن أعيد النظر!
المرأة
:
قلت إن الشكل لا يهمك!
فكري
:
ولا الروح، كل ما يهمني الآن هو العثور على موضوع لانتحاري.
المرأة
:
إني أرفض أن أكون موضوع انتحار.
فكري
:
فلتكوني إذن موضوع حب!
المرأة
:
ولكنك لا تحبني ولم تحبني!
فكري
:
كنت واهمًا!
المرأة
:
أمعقول هذا؟ تحب، أنت، أنت؟ بهذه العجلة، وبغير تفكير؟
فكري
:
وهل عندما ألقيت نفسي في البحر كنت تمهلت أو فكرت؟
المرأة
:
أقدرت نتيجة هذا الحب؟ أتعرف عاقبته؟
فكري
:
الزواج، وسنعلنه على الناس غدًا.
المرأة
(في صيحة)
:
هذا جنون!
فكري
:
شأن كل انتحار!
(ستار)