الفصل السابع عشر

الهند المغولية

حين غزا المغول الهند كانت منقسمة ممالك ودويلات متدابرة، فقد سقطت الإمبراطورية الخالجية في عهد محمد تقلق وانقسمت دويلات، وكانت سلطنة الأفغان في دلهي تكاد تكون محصورة في أسوار المدينة، وكان الملك الهندوسي فيجاياناجار سيدًا عند نهر الكستنا ومهددًا جيرانه في الدكن؛ أي أن كل شيء كان مهيئًا تقريبًا لدخول غازجور كبابور، وكانت الديانة الهندوسية لا تزال تتسع لقبول آلهة جديدة، ومتأهبة لتلقي أشكال جديدة في العبادة والطقوس تبعًا لتغير الظروف، ومن ذلك عقيدة البهاكتي التي ظهرت في الهندوسية قبل أن يظهر بابور بقرن واحد (راجع سيرس. رادها كريشنان الأستاذ في جامعة كالكاتا في محاضرات أينون، طبعة أكسفورد ١٩٢٦، والنظرة الهندوسية في الحياة ص٤٦ طبعة لندن، وص٢ من كتاب حكم ماجهال في الهند، تأليف إدواردس وجاريت).

فقد وُصِفَت الهندوسية في هذه المراجع بأنها حركة؛ أي أنها ليست بالمركز الثابت، وأنها شيء يعمل، وليست نتيجة، وإن لبثت آراؤها الأساسية غير متبدلة منذ عهد الفيدا فقد كان من أثر الاحتكاك بالدرافيديين المتحضرين في الجنوب ما جعل الفيدا ديانة متعددة الآلهة، كذلك كان الإسلام وكان اتصال الهندوس بالمسيحية والآراء الأوربية العصرية من بواعث صبغ الديانة الهندوسية بصبغات وأشكال جديدة، وضحت في القرون الأخيرة إلى القرن العشرين.

بابور

ولد ظاهر الدين محمد الملقب ببابور (النمر) في ١٤ فبراير ١٤٨٣ في فيرجهانا في دار إمارة والده في وادي جاكسارتس المعروف الآن باسم «خوقند» وهو يمثل العنصرين التركي والمغولي من شعوب التتر، وبين أسلافه فاتحان عظيمان؛ أحدهما «تيمور» من ناحية والده، وثانيهما «جنكيزخان» في أسرة والدته.

وحين كان بابور في الثانية عشرة، خلف والده وطُرد من فيرجهانا مخفقًا في العودة إليها. وفي ١٥٠٤ حين بلغ الواحدة والعشرين استولى على كابل مناديًا بنفسه ملكًا عليها، وبعد أن مضى على هذا خمس عشرة سنة ظهر في الهند إلى أن وصل إلى نهر جهيلوم، معاملًا سكانها وهم رعاياه معاملة جَدِّه تيمور لها، مفترقًا عنه في تحريم سوء المعاملة ومنع الجنود من السلب. ويؤخذ من الجزء الثاني «من مذكرات بابور» التي كان يُدوِّنها بنفسه يوميًّا في ١٥١٩ بالتركية التي ترجمها إلى الإنجليزية ليدين وأرسكين،. أن بابور يذهب إلى أن سكان الهند وخاصة الأفغان حمقى، فاقدي الشعور، قليلي التفكير، قصيري النظر، ليس في مكنتهم أن يثابروا على القتال، ولا أن يدوم الإخاء والصداقة بينهم.

وفي ١٧ نوفمبر ١٥٢٥، زحف بابور على طريق جلال اباد إلى الهند حين هزم السلطان اللودي ملك دلهي دولت خان، حاكمه الخائن في لاهور، وهو الذي أبدى الخضوع إلى بابور، الذي واصل الزحف إلى سهل بانيبات، التي دارت فيها معركة واجه خلالها جيش بابور البالغ عشرة آلاف، مائة ألف جندي أفغاني و١٠٠ فيل، غير أن قوة جيش المغول في المدفعية سدت نقص عددهم، وقد ورد في الجزء الثاني من ترجمة مذكرات بابور ص١٨١–١٨٨ عن هذه المعركة أن السلطان إبراهيم كان صغير السن قليل التجربة، متراخيًا في جميع حركاته، فكان يسير في غير نظام، ينسحب أو يقف من غير خطة مرسومة، ماضيًا في المعركة في قصر نظر. أما بابور فكان يمضي في القتال وفقًا لأساليب العثمانيين الأتراك الذين كانوا يومئذ أقدر قوة عسكرية تقوم على إعداد الخطة قبل القتال بوقت كافٍ، والثبات في المواقف مع مرونة التحركات. وقد بدأت المعركة في فجر ٢١ أبريل بهجوم شنَّه السلطان إبراهيم الذي قُوبل بطلقات البنادق ونيران المدفعية وتصويب السهام، وعند الظهر كان جيش إبراهيم قد هُزم هزيمة تامة فتعقبت فرسان بابور فُلُولَه، واستولى بابور على دلهي وأجرا التي اتخذها عاصمته الجديدة قامعًا فتنة بدت في جيشه الذي أراد أفراده العودة إلى وطنهم، مقنعًا الحكام الأفغانيين بالخضوع له وديًّا.

وفي ١٦ مارس ١٥٢٧ هزم الجيش العظيم الذي ألَّفه اتحاد راجات شمالي الهند بقيادة رانا سانجراما سنج ملك ميوار مستوليًا على قلعة شانداري، ومن ثم استطاع بابور أن يؤسس إمبراطورية امتدت من الأكسوس إلى حدود البنغال، ومن سفح الهيمالايا إلى جوليور، ثم مات في ٢٤ ديسمبر ١٩٣٠ قبل أن يتم السابعة والأربعين ودُفن في حديقته في كابول. وقد امتاز بالشجاعة والقيادة اليقظة وبقوة الشخصية وبمرحه في ساعات الخطر وامتلاكه زمام أعصابه وجيشه حيال الكوارث، كان جيشه صغيرًا ولكنه كان يغلب ما يفوقه عشرة أمثال. وكان بابور إلى هذا يقرض الشعر الرفيع بالفارسية، مالكًا ناصية لغته التركية، موسيقيًّا بارعًا يسعه أن يضم تحت كل ذراع من ذراعيه رجلًا ثم يتسلق حاجزًا من حد إلى آخر، وكان صيادًا وماهرًا في استعمال السيف والرمح، لم يكن قاسيًا بالنسبة إلى عهده. وكان مستمسكًا بتعاليم الدين الإسلامي حريصًا على تأدية فريضة الصلاة وعلى انتشار الإسلام وخذلان الهندوسية، يعفو عن المسيئين والخائنين المرة بعد المرة، وكان شكله جذابًا لطيف المحيا مفتر الثغر طبيعيًّا لا تكلف فيه مهذبًا حلو الحديث، وكانت علاقات بابور وخلفائه ودية مع الأسر المالكة الإسلامية في إيران وتركيا، وحكمهم لمصلحة الهند كلها مسلميها وهندوسيها مطبوعًا بطابع السلطة الزمنية.

بعد بابور

خلف بابور أربعة أولاد أكبرهم كاماران حاكم بابل وقندهار، أما ثانيهم همايون فقد أوصى والده بأن يكون إمبراطورًا للفتوح المغولية في الهند العليا وسهول الجنج، وقد واجه همايون متاعب كثيرة منها اضطراره إلى النزول لأخيه الأكبر عن البنجاب يتولى حكمها، فخسرت الإمبراطورية بهذا رجالًا وأموالًا. ولم تكن البنجال قد فتحت. وكان بهادار شاه الأفغاني ملك جوجيرات وملوا معاديًا لهمايون وكذلك إخوته والبرتغاليون أصحاب السيادة في الساحل الغربي، غير أنه مع هذا كله كان همايون موفقًا في بداية عهده، فقد طرد محمد لودي من جونيور، وانتهى عهد أسرة اللودي كأسرة حاكمة، وهزم بهادار شاه في موقعة ماندسور في ١٥٣٥ واحتل همايون ماندو عاصمة ملوا، وكذلك تمم الاستيلاء على حصن شامبانار العظيم بتسلقه، فضُمَّت جوجيرات إلى الإمبراطورية المغولية.

غير أن أحداثًا عظيمة أضعفت همايون جيشًا وإمبراطورية؛ من هذا ثورة أصغر إخوته «عسكري» عليه وتجمع قوة بهادار، وهجوم جيش مشير خان سار الحاكم الأفغاني في بيهار، وبعد أن استطاع همايون غزو البنغال في ١٥٣٨ واسترداد إقليم جور من شيرخان، واجه فتنة أثارها ميزار هيندال أحد إخوة همايون مناديًا بنفسه إمبراطورًا.

وقد قمع كامران حركته. وقد اضطر همايون أن يعقد الصلح مع شيرخان على أن يكون لشير البنغال وبيهار مقابل دفعه الجزية إلى همايون الذي هوجم في يونيه ١٥٣٩ في شوزا فهرب إلى أجرا، وهنا نادى شيرخان بنفسه إمبراطورًا متحالفًا مع جوجيرات وملوا. وقد هُزم همايون في محاولته الأخيرة لاسترداد ما فقد في مايو ١٥٤٠ على مقربة من كانوج، وقد لبث همايون ١٥ سنة بعدئذ ثم هرب من السند إلى ميروار ومن هذه إلى إيران إلى أن استقرَّ في أفغانستان. وقد دامت إمبراطورية شيرشاه من ١٥٤٥ إلى ١٥٥٤ مخضعًا البنجاب مسيطرًا على البنغال معينًا الغازي فازيلات حاكمًا عليها بدلًا من خسرخان الذي فشل في إعلان استقلاله. وغزا شير ملوا في ١٥٤٢ وقد مات في ١٢ مايو عام ١٥٤٣. وقد كان جنديًّا قديرًا وسياسيًّا مصلحًا ومدبرًا منظمًا، وجعل المملكة ٤٧ وحدة وبدأ مسح جميع الأرض وتنظيم الطرق على طول ألفي ميل من البنغال إلى الأندوس مقيمًا استراحة عند كل ميل ونصف، حافرًا آبارًا للشرب متتابعة ومنظمًا خطوطًا من أشجار الفاكهة ومحاطًا للبريد الحكومي المنقول على ظهور الجياد ولخدمة التجار وغيرهم، وكذلك الحال في الطريق بين أجزاء العاصمة وماندا. كذلك بنى شير شاه عددًا من المساجد ونظم العملة جاعلًا الروبية ١٧٨ حبة، وقد بقيت على هذا بعد عهده إلى أن أصبحت ١٨٠ حبة في العهد البريطاني ضابطًا الأمن مصلحًا نظام القضاء. (راجع الجزء الأول ص٣٩٩ من كتاب «أكبر نامه» تأليف أبي الفضل، وص١٠٣ من كتاب صنع الهند، وفريشنا ص١٢٥ الجزء الثاني»).

هذا وبينما ينعي أبو الفضل المؤرخ المعاصر لشير شاه عليه لؤم الطمع والطغيان، فإن المؤرخ فريشنا يقول: إن والد شير كَانَ رجلًا عاديًّا دمث الخلق، ترك ابنه فريد الذي صار اسمه شير شاه بعدئذ، يُربِّي نفسه متثقفًا في التاريخ والشعر حافظًا شعر سعدى محبًّا للفقراء، وكان حكيمًا وحاكمًا عادلًا صافحًا عن أعدائه عاطفًا عليهم.

وقد خلفه ابنه الثاني أسلوم «أو سليم» شاه، الذي كان ضعيفًا لا يوثق به، ولما مات في ١٥٩٠ خلفه ابنه فيروز وكان صغيرًا قتله ابن عمه «مبارز خان» بعد ثلاثة أيام من ولايته العرش، ثم خلفه عليه بِاسْم «محمد عادل شاه» وكان أميًّا مِتلافًا شأن أشراف أفغانستان اتَّخذ الهندوسي هيمو وزيرًا له. ولما فسدت أداة الحكم عمَّت الفوضى، مما كان من أثره أن فرَّ عادل ووزيره إلى شونار، وخلفه سكندر شاه حفيد شير شاه بعد حرب داخلية، وهنا استطاع همايون أن يسترد إمبراطوريته الضائعة بمساعدة بيرم خان «التركماني». فجاء همايون من منفاه عند الراجا أو ماركوت. وفي فبراير ١٥٤٢ ولدت زوجة همايون الملكة حميدة يانو ابنها أكبر، وفي ١٥٤٤ قدم شاه إيران إلى الإمبراطور المنفي جيشًا لغزو أفغانستان التي كان على عرشها قمران الخائن المغتصب، فاحتل همايون قندهار وكابل التي التقى فيها بزوجته حميدة وابنه الذي كان أخذه أخوه قمرون، وقد نفى همايون أخويه قمرون وعسكري إلى مكة بعد أن فقأ عيني الأول.

وفي ١٥٥٤ دخل همايون الهند مستوليًا على سيرهند ولاهور والبنجاب هازمًا جيش أمير خان وتتر خان. وفي ١٨ يونيه ١٥٥٥ قضى على الجيش الأفغاني في ماكشيواري ودخل دلهي إمبراطورًا عليها وكان معينًا ابنه أكبر حاكمًا اسميًّا على البنجاب وبيرم مستشارًا له، ثم تابع القتال مع سكندر، على أن همايون مات في يناير عام ١٥٥٦ في الواحدة والخمسين على أثر سقوطه على درج سلم قصر شير مندل، ويقال إن نعيه قد أخفي بضعة أيام قبل إعلانه، ويبدو أن هذا الإخفاء قد حدث عند وفاة بابور.

الملك العظيم «أكبر»

نادى بيرم خان بأن أكبر الذي كان في الرابعة عشرة وثلاثة شهور في كالامور في الحملة ضد سكندر، إمبراطورًا في دلهي منذ ١٤ أو١٥ فبراير ١٥٥٦. وقد واجه الإمبراطور الجديد مشكلات ومتاعب جمة، فقد كان سكندر في البنجاب يتوثب لاسترداد عرشه، وكذلك كان محمد عادل شاه في شونار مع وزيره الهندوسي هيمو، كما كان نائب الإمبراطور في الأفغانستان أخوه الصغير حكيم ميرزا يتأهب للانقضاض عليه.

وقد وسع هيمو أن يستولي على أجرا ثم على دلهي التي كان تاردي بيك خان متراخيًا في الدفاع عنها، ولما اغتر هيمو بظفره طمح إلى الاستقلال بأن ينادى به كمهراجا فيكراماديتيا ومعه ٢٠٠ ألف جندي مقابل عشرين ألفًا مع أكبر. غير أنه في ٥ نوفمبر ١٥٥٦ انطلق سهم من المغوليين أصاب هيمو في عينيه فترنح ساقطًا فاقد الوعي بعض الوقت، وقُبض عليه ثم قُتل وتفرَّق جيشه هلعًا، ودخل أكبر دلهي واستولى على أسلاب العدو، ثم على مانكوت في البنجاب في يوليو ١٥٥٧ بعد حصارها ستة أشهر وفرَّ سكندر إلى البنجال ومات بعد سنتين، أما إبراهيم سور فقد لجأ إلى راجاجا جاناث، وأما عادل فقد قُتل في البنغال.

منح أكبر وصيه ووزيره الفارسي الشيعي وقائده ومستشاره الأول «بيرم خان»، لقب «خان الخانات»؛ أي شريف الأشراف، وهو لقب يجعل مرتبته تالية لمرتبة الأمراء الصميميين، ثم اقترن بابنة أخت الإمبراطور سليمة بنت سلطان بجام الذي كان أقوى رجل في المملكة وجعل القصر الملكي في أجرا. ولئن كان بيرم قد وُفِّق في مهمته الإدارية كمدير لشئون المملكة فإنه لم يُوفَّق في مهمته كمربٍّ للإمبراطور القاصر فزادت الإمبراطورية سعة بين عامي ١٥٥٨ و١٥٦٠ عدا الإخفاق في مكافحة راجبوتية رانثاميهور. أما احتلال جوليور فقد قوي مركز الإمبراطورية في الهند وكذلك تم الاستيلاء على أجمير وضم إقليم جونيور؛ أي أن إمبراطورية جابور قد تمت استعادتها. غير أن أكبر قد آثر الألعاب الرياضية وترويض الوحوش والرماية والبولو على التعليم وعلى تعلم الأحرف الهجائية. غير أنه كان يُحسن الاستماع إلى ما يُلقى عليه وتستوعبه ذاكرته، معني بالشعر والفن والميكانيكا خاصة شعر الصوفيين وحفظ كثيرًا من شعر حافظ وجلال الدين الرومي. هذا إلى وقوف على تاريخ الإسلام وآداب الهندوسية والجينزية والزواسترامانية وامتزاج بالروح الهندية. وقد بلغ من حرصه على دراسة الأديان أنه دعا بعثات جيزويتية تبشيرية لهذا الغرض، مما أثار سخط المسلمين وكاد يؤدي إلى اغتيال حياته.

وقد استعان بميرسيد علي وعبدوس صمد من كابل لإنشاء مدرسة للفنون الهندية الفارسية والموسيقى والطرب، فكان راعيًا للمطرب تانسين من جواليور وكان محتفظًا بسبعة أجهزة من الأوركسترا، وكان من هوايته ابتكار قذائف للمدفع تنطلق من ١٧ مدفعًا بطلقة واحدة وأطقم للفيلة وعربات للسفر.

وقد أفضى نفوذ الوزير بيرم خان الشيعي إلى حقد السنيين وهم كثرة مسلمي الهند خاصة حين قتل تاردي يح قائد حامية دلهي لتراخيه في الدفاع عنها. هذا إلى أنه حين بلغ أكبر الثمانية عشر أعلن أن وصاية بيرم قد انتهت وأن الإمبراطور سينهض بأعباء الحكم وأن على بيرم أن يذهب إلى مكة لتأدية فريضة الحج، فغضب وثار على إمبراطوره، غير أنه فشل وأُسِرَ، ثم عُفي عنه ومضى إلى جوجيرات فقتله أفغاني في پاتان، وهنا دخل عبد الرحيم القاصر بن بيرم في رعاية أكبر الذي تعهده إلى أن خلف والده في منصب خان الخانات. وفي أثناء هذا كان نفوذ حماة الإمبراطور «مهام أناجة» قد ازداد في القصر وحاشيته، فقدمت أدهم خان وبير محمد خان للنهوض بأعباء الإدارة والجندية وتوسيع الإمبراطورية لتضم مالوا في ١٥٦٠ واحتفظ القائد أدهم خان لنفسه فيها بحكمها وأسلابها سابيًا نساءها، غير أن أكبر أسرع إلى معسكر أدهم الذي سلم له كل شيء.

وكذلك أسرع إلى علي قالي خان أزبك حاكم جونيور، الذي أبدى خضوعه.

وكان بير محمد ظالمًا قاسيًا لصًّا، وقد لقي جزاءه حين كان يعبر ناربادا فغرق فيه.

أما الإمبراطور أكبر فقد كان قد بلغ سن الرجولة وكان يتخفى ليلًا ليقف على شئون رعاياه، وفي ١٥٦٢ اقترن بابنة راجبوت جايبور وأصبح منذ يومئذ محبًّا لرعاياه الهندوس، وقد جعل راجابيهاري مال وولده من أشراف الحاشية الملكية وكان شيئًا جديدًا في تقاليد المسلمين في الهند مع إبقائه الراجات في امتيازاتهم وفتح الباب أمام الهندوس للمناصب العسكرية والمدنية. ثم عين محمد خان اتكا وزيرًا له على غير رأي أمه بالرضاعة ماهام أناجا، وفي مايو ١٥٦٢ فشل أدهم خان في استعادة نفوذ الأسرة في دفة الحكم، بعد أن اقتحم القصر الملكي وقتل الوزير اتكا حين كان يؤدي فريضة الصلاة، غير أن أكبر قد عاجل أدهم بضربة يده فسقط وماتت أناجا غمًّا وكمدًا بعدئذ وقد دفنهما أكبر في مقبرة فخمة على مقربة من قطب مينار.

ومن الإصلاحات التي أدخلها أكبر بعد سنتين من هذا الحادث إلغاء الضرائب المفروضة على الحجاج والجزية المفروضة على الهندوس وجعل خواجة مالك اعتماد خان مشرفًا على الإيرادات؛ أي وزيرًا للمالية ثم خلفه راجا تودار مال.

ويقول تقرير لجنة نظام الهند في الجزء الأول ص٣٣٨: إن النظام الذي وضعه اعتماد خان لإيرادات الأراضي طبقًا لسياسة شير شاه هو أساس الطرق العلمية الحديثة في هذا الشأن.

وكان أكبر يعمد إلى الحرب الهجومية تحقيقًا لفكرة توسيع الإمبراطورية، وكانت حروبه الدفاعية قليلة، وكان يجري في الشئون الداخلية على قاعدة العدل والمساواة والمرونة والتسامح.

وفي عام ١٥٦٣ استولى جيش أكبر بقيادة أصفر خان على جوندوانا كان يحكمها سان دور جافاتي الذي مات وأخذت عاصمته سورا جاره.

وقد ثار حزب من الأشراف بقيادة زمان علي كولي خان أزبك حاكم جونيور على أكبر لخلعه والمناداة بابن أخيه ميراز أبو القاسم ابن قمران إمبراطورًا، ولكن أكبر هزم الثوار في يونيه ١٦٥٧ في معركة مانيكبور وقتل على كولي خان وهزم الأشراف وثورة أزبك، كذلك وَسِعَ محمد حكيم ميرزا أخَا أكبر، أن يستعيد كابول التي كان سليمان حاكم بادكشان قد استولى عليها، ثم استولى أكبر على مملكة ميواز وشيتور بعد أن فرَّ رانا أودي سنج الراجبوت، وفي ١٥٦٧ حاصر حاميتها جيش بقيادة جمال، وسلمت بعد أن أبدى الفتح سنج من كيلوا وكان في السادسة عشرة شجاعة نادرة وبعد أن قتل القائد جمال، وقتل أكبر ٣٠ ألفًا من الحامية المدافعة عن شيتور، وبعد هذا في ١٥٦٩ سلم رانثامبور التي كان عليها الراو سوجان الهارا رئيس البوندي الوالي من قبل أراء ميوار ثم منطقة كالانجار، غير أن رانا بارتاب الذي خلف أوداي سنج لم يذعن لأكبر.

وفي ١٥٧٢ أخضع أكبر الجوجيرات في أحمد اباد التي كان يحكمها يومئذ مظفر شاه ثم هزم أكبر ابن عمه إبراهيم حسين ميرزا في سارنال في ديسمبر ١٥٧٢. وفي فبراير ١٥٧٣ سلمت سورات التي قاتل فيها أكبر للمرة الأولى أناسًا من الأوربيين، إذ كان البرتغاليون يؤلفون هناك قوة صغيرة كانت قد جاءت لمعاونة المدافعين عن ميناء سورات، غير أنها بدلًا من القتال سرعان ما عقدت مع الإمبراطور معاهدة تَعَهَّدَ فيها البرتغاليون أن ييسروا الحج إلى مكة. وفي ١٥٧٣ تمت هزيمة إبراهيم حسين.

أما جوجيرات فقد لبثت نحو قرنين خاضعة لسيادة المغول وكانت مع ثغر سورات من أسباب دعم الإمبراطورية المغولية. وفي يوليو عام ١٥٧٦ قُتل ملك البنغال داود بن سليمان، الذي كان مستقلًّا بالفعل تحت السيادة الرسمية للمغول، وكان من أثر قتله في حربه ضد المغول أن أصبحت البنغال جزءًا من إمبراطوريتهم، التي بلغت حدودها في غضون عشرين عامًا من كاتش إلى ساندرباندس.

أما كشمير فقد أصبحت إسلامية منذ استطاع رئيس الوزارة ميرزا شاه من سوات أن يؤسس في النصف الأول من القرن الرابع عشر أسرة مالكة إسلامية بعد انقراضها، شاعت في كشمير الفوضى إلى أن أخضعها أكبر في ١٥٩١.

وفي ١٥٩٠ ضُمَّت إلى الإمبراطورية المغولية أوريسا، وفي ١٥٩٢ السند، وفي ١٥٩٤ قندهار بعد أن تم ضم بلوخستان والميكران، وفي ١٥٩٦ سلمت بيرات بعد أن هاجم أحمد ناجار جيش ابن أكبر الأمير مراد الذي مات في مايو ١٥٩٩ وعبد الرحيم جان الخانان. وفي ١٦٠٠ استولى الإمبراطور على أحمد ناجار، وفي ١٦٠١ على أسيرجار، وفي أثناء هذا ثار سليم ابن الإمبراطور ونادى بنفسه إمبراطورًا في الله اباد ثم عفا عنه والده خاصة بعد وفاة الأمير دنيال ابن الإمبراطور في ١٦٠٤، وكان استيلاؤه على الجزء الشمالي من الدكن آخر حملاته العسكرية.

ولعل من أكبر ما واجهه أكبر من المتاعب التي كادت تُودي بعرشه ما أحاط بعقيدته الإسلامية من الريب؛ إذ كان يستمع للأديان الأخرى وكان يبني دار عبادة خانه التي دعا إليها علماء السنيين والشيعة والحنفية والشريفية خاصة بين عامي ١٥٧٥ و١٥٧٦؛ وحين دعا إليه بعثة الجيزويت التبشيرية ووصلت إلى فاثبور سكرى في آخر فبراير ١٥٨٠، وقبل هذا في ١٥٧٨ زاره الأب بيريرا؛ أي أن أكبر كان يُصغي إلى التعاليم المسيحية ويحمي مبشريها. ثم إن الشيخ مبارك رجل أكبر الديني، قد نادى في دار «عبادة خان» أن للملك سلطته الزمنية، السلطة الروحية على رعاياه، وخرج الإمبراطور من بحوثه إلى «الدين الإلهي».

وعند بعض المؤرخين أن أكبر لم يخرج عن أصول الإسلام بل اختلف مع أئمته على التفصيلات وفي سبيل الإصلاح الديني، وعند آخرين منهم البدويني أنه ارتدَّ عن الإسلام.

وقد لقَّب مفتي الإمبراطورية وخان بادخشان وممثلو المسلمين الأعلام أكبر بلقب «الإمام العادل» وأنه حيال اختلاف الأئمة والمذاهب والآراء الدينية، تكون كلمة الإمبراطور هي القول الفصل، كذلك كان يُبدي من ضروب التسامح نحو المبشرين المسيحيين ونحو رعاياه الهندوس ويأخذ بعاداتهم التي لا تتعارض مع مبادئ الإنسانية وذلك بتحريم عادة الساتي إذا اقترنت باستعمال الإرغام. (راجع ص٢٣–٢٦ من «الجيزويت والمغول الأكبر» للسير إ. ماكلاحابه، والبدويني جزء ٢ ص٢٦٣ و٢٧٩ و٢٨٠ و٢٨٤، ومقال الثقافة الإسلامية» للسيد أمير علي في مجلة الكوارتارلي ريفيو عدد أكتوبر ١٩٢٧، وفي المجلة نفسها مقال عن «شخصية أكبر» بقلم ب. ك. مينون الكاتب الهندوسي، عدد يوليو ١٩٢٧).

وممن ثاروا أو حاولوا الثورة على أكبر لنزعاته الدينية هذه، البنغال في ١٥٨٠، والملا محمد يازدي، غازي جونيور، ومحمد حكيم في كابول. وقد قمع أكبر هذه الفتن وقتل أكثر العصاة بعد مقاومة دامت سنوات مصطحبًا معه محمد قاسم خان مهندس حصن أجرا لإنشاء الطرق. وفي ١٥٨١ دخل كابل مرخصًا لحكيم بأن يكون حاكمًا في أفغانستان إلى أن مات في ١٥٨٥ وضمت إلى الإمبراطورية. وقتل أكبر وزير ماليته خواجه شاه منصور للخيانة العظمى. ويقول بعض المؤرخين: إنه كان ضحية تزوير ورقة عليه، وقد اتخذ أكبر الأوردية لغة لرعاياه المسلمين والهندوس.

وقد نادى أكبر بأنه خليفة الله أو ظله على الأرض، وأن الدعوة الإسلامية قد مضى عليها ألف سنة وانتهى أمرها، قائلًا في مذهبه أو دينه الجديد إنه يوجد إله واحد وإن الشمس أو النجوم أو النار تجوز عبادتها كممثلة للإله. وكان أبو الفضل أحد أنصار «الدين الإلهي» الذي انتقده صراحة وعلنًا القائد خان عزام ميرزا عزيز ابن مهام أناجا.

وفي ٢٧ أكتوبر سنة ١٦٠٥ مات الإمبراطور جلال الدين محمد أكبر بادشاه، وتم دفنه طبقًا لطقوس السنيين على أثر انحطاط صحته في سبتمبر ١٦٠٥ بداء الدسنطاريا في سن الرابعة والستين إلا أشهرًا بعد أن حكم الهند نحو خمسين سنة.

وقد وصفه مونسيرات «ص١٩٧ و١٩٩ من تعليقاته» قائلًا: من النظرة الأولى يُدرك من يلقاه أنه أمام ملك، كان عريض المنكبين، مقوس الساقين بما يتفق وركوب الجياد، ذا بشرة سمراء، رأسه ينحدر إلى منكبه الأيمن، أما جبهته فعريضة طلقة، عيناه لامعتان بريقمها يبدو كتألق البحر في ضوء الشمس، أما أهداب عينيه فهي طويلة، وأما حاجبها فليس واضح البروز، أنفه صغير ومستقيم ولكنه يسترعي النظر، أما منخراه فواسعان يبدوان كالساحر، وبين المنخر الأسفل والشفة العليا شامة، حليق الذقن ذو شارب، يعرج بساقه اليسرى وإن كان لم يُصب بداء، ليس بالبدين ولا بالنحيف، قوي شديد عنيد، إذا ضحك بدا وجهه كالمشوَّه، هادئ التعبير، صريح رصين في كرامة وتَرَفُّع، فإذا غضب أَلْفَيْتَه مهيبًا مخوفًا.

وكان عظيمًا أمام العظماء، متواضعًا أمام الضعفاء، وكان يتناول خمرًا تسمى پوست وهي خليط من الأفيون المخفف والتوابل، ولم يكن يدخن، وبينما منح السيخ في ١٥٧٧ أرضًا عند أمريتسار لإقامة معبدهم عليها فإنه بعد بسنين حرم إنشاء المساجد بل ترميمها، وهو من أقدر الزعماء وأقوى ملوك الأرض.

نظام الحكم المغولي

كان أكبر محور الحكومة المركزية وكان مرجع الأمور العسكرية والإدارية والأحكام القضائية، كان إمبراطورًا مطلقًا. وفي عهد المغول كانت شخصية الإمبراطور هي كل شيء، فإن كان قائدًا ماهرًا وإداريًّا قديرًا ومصلحًا نافعًا وعادلًا منصفًا؛ صلحت الرعية. أما إن كان على غير هذه الصفات؛ فسدت شئون الرعية وأداة الحكم وفشا الظلم والرشوة وقامت الفتن وعمت الفوضى كما كان الأمر في آخر عهد المغول. (راجع ص١٩٧ من التقرير الخامس للجنة المختارة في مجلس العموم كما أوردها سير جون شور «لورد تيجينموث» في ١٧٩٠ ونشرت في تاريخ الإيراد القديم في بنغال. لاسكولي).

•••

كانت إمبراطورية أكبر مقسمة ١٢ قسمًا أو «صوباح» ١٥ في بعض الأحيان، يحكمها حكام عسكريون باسم «صوبحادار» وكان كل إقليم مقسمًا إلى ساركار أو قسم، والقسم يقسم بارجانات «مراكز»، والمركز هو الوحدة الإدارية الأولية الصغيرة، والذي ينهض بأعباء المركز هو القومندان العسكري، ومحصل الضرائب. وكانت سلطة الأول تشابه حاكم الإقليم على أن ينهض إلى جانب تبعاته المدنية، برياسة المحكمة الجنائية، وكان للأقاليم الكبيرة إدارات يراقب بعضها البعض الآخر، فكانت سلطة الحاكم تَتَحَدَّدُ أحيانًا تحديدًا يمنع سيطرتها مباشرة على قضاة المحاكم المدنية، وكان لرئيس الخزانة «الديوان» استقلال في مهمته، من شأنه أن يكون مسئولًا أمام الخزانة الإمبراطورية «وزارة المالية» عن كل ما يتصل بالضرائب والإيرادت والرسوم الجمركية والمصروفات.

أما المواقع العسكرية المحصنة والثغور الإمبراطورية فقد كان ينهض بشئونها موظفون تتولى السلطة المركزية تعيينهم دون أن يكونوا خاضعين لأوامر حاكم الإقليم. وكان للإمبراطورية المغولية جيش خاضع لسلطة الإمبراطور وكافل الدفاع عن الحدود وقمع الثورات، غير أنه على أثر وفاة «أورا نجزيب» آخر أباطرة المغول العظام، طرد حكام الأقاليم الحاميات العسكرية وأصبحوا يستمتعون بسلطة غير محدودة لا يخشون شيئًا سوى مجيء جيش من دالهي لرد الأمور إلى نصابها، الأمر الذي ما كان يحدث. (راجع ص١٥ و١٦ من كتاب الإدارة الهندية في فجر الحكومة المسئولة، تأليف الپروفسير ب. ك ثاكور، طبعة بومباي).

وفي عهد أكبر كانت جميع المناصب مفتوحة للهندوس، غير أنه في الواقع كان للهندوس ٥١ منصبًا كبيرًا من ٤١٥ أكثرهم من الراجبوت، وفي خلال أربعين عامًا شغل براهميان منصبين كبيرين. كذلك كان عدد المناصب العسكرية والمدنية التي شغلها الهندوستانيون الذين دانوا للإسلام قليلًا. أما كثرة الوظائف فكان يشغلها الإيرانيون والأفغانيون، وكان التعيين والترقية والعزل لا يجري وفاقًا لقواعد مرسومة، بل كان أمرها تابعًا لمشيئة الإمبراطور ذاته.

وكانت قوة الإمبراطورية بريَّة، فلم يكن لها أسطول، وكانت الرشوة متفشية وكانت المرتبات لا تدفع بانتظام، وكان الإمبراطور يرث أملاك كبار الموظفين، ولم يكن هناك فصل بين السلطات ولا تخصيص للإدارات، بأن تكون هناك إدارة للزراعة وأخرى للتجارة وثالثة للتعليم.

ولعلنا في غنى عن القول بأن كثرة الشعب كانت فقيرة ومجهدة ومعرضة للمجاعات الناشئة من قلة الأمطار في بعض المواسم والأعوام، ولهذا كان يأكل الناس بعضهم بعضًا، وكذلك كان يموت مئات الألوف جوعًا ويُباع الطفل بروبية واحدة. وكانت القلة تجني ثمار الطبقات الفقيرة العاملة، وأما المرافق العامة التي تؤديها الدولة كالطرق المعبَّدة والكباري والمستشفيات والخدمة الطبية والتعليم العام أو الكثير الصالح والبِّر بالفقراء، فتكاد تكون معدومة أو قليلة جدًّا. أما ثمرة الإحسان فكانت مقصورة على فئات معينة وبطريقة غير مطردة وتبعًا للأهواء. أما الطبقة المتوسطة فكانت ضئيلة العدد والنفوذ، أما الطبقة العالية وهي تشمل طبقة الموظفين فكانت مستأثرة بالثروة والسيادة، مستمتعة بالملذات والدُّور والقصور، غير مترددة في اغتصاب عقارات صغار الملاك. وكانت الزراعة ولا تزال إلى اليوم المهنة الرئيسية التي تشغل ٧٠ في المائة من السكان يعيشون في نصف مليون قرية متناثرة لا تزال على حالها منذ عهد المغول إلى اليوم عدا ما طرأ من تغيير ضئيل شامل حماية الملكية اليوم، أما مدن الهند فقليلة ويسكنها ١١ في المائة من سكان الهند البالغ عددهم ٣٨٨ مليونًا، و٨٠٠ ألف طبقًا لإحصاء ١٩٤١.

هذا ويقول البروفسور ثاكور في كتابه عن «الإدارة الهندية إلى فجر الحكومة المسئولة»: إن أبناءَ القُروي يكادون يعيشون كماشيتِه في حظيرتِها وهو يَنظر إليهم كما يَنظر إليها، لا فرق بين الزرائب والعشش الطينية، وتختلف المزرعة الصغيرة بين الفدانين والنصف وبين الخمسة أفدنة حول القرية تقوم الأسرة على زراعتها وقلَّما تستأجر الآخرين لمساعدتها مستخدمة ثَورَيْن في فلاحتها على الطريقة العتيقة التي لم تُعدَّل إلا في المزارع الكبيرة وعلى أيدي المتعلمين. وكان الملك يُعيِّن رئيس القرية «العمدة» ثم أصبح يتوارث الرياسة أبناؤه، يساعده أتباعه كالحاسب «الصراف» ويقوم بجميع الشئون المالية، والخفير «الشوكيدار» ويقوم بجميع أعمال البوليس، أما مناصبهما فوراثية في الأغلب.

ثم رجل الدين. وفي بعض القرى يوجد نجَّارون ونسَّاجون وسقَّاءون وباعة البترول والزيت، هذا إلى تفشِّي الأمية وتفاهة النظرة إلى الحياة كما كانت من قبل، عدا الطبقات القليلة المستنيرة، وستظل الحياة القروية مقيدة بالطقوس الدينية والتقاليد والمواسم والحفلات المتوارثة والأمطار والمجاعات وأحوال الطقس القاسية والأسواق.

وفي السند كان أكبر يأخذ جزءًا من المحصول مقابل الضريبة. أما في الجهات الأخرى فكانت هناك قواعد تنظم تقدير الضرائب وتحصيلها كأن تكون بقيمة ثلث متوسط المحصول في عشر سنوات، كذلك كانت هناك ضريبة كبيرة على الملح منذ عهد الموريين حين كانت الحكومة تحتكر الملح وتفرض عليه ضرائب ترانسيت وضريبة التوريد وكان احتكارًا ملكيًّا في عهد أسرة جويتا. وكذلك كانت هناك ضريبة الترانسيت في عهد المغول كبيرة في البنغال وكانت تُؤَجَّر مقابل مبلغ سنوي.

فكرة توحيد الهند

هذا وترجع فكرة توحيد الهند وإقامة دولة تحكمها كوحدة إلى عهد بعيد، وقد وُفِّق أكبر في تحقيق هذه الوحدة إلى حد كبير. «راجع ص٤٣٣ الجزء الثاني من كتاب الأعمال السياسية والحربية في الهند، تأليف برينسيب طبعة أدنبره ١٨٢٥، وص٤٩ و٥٠ من كتاب صنع الهند، تأليف يوسف علي».

وقد نشطت الحركة الأدبية والعلمية في الجزء الأول من عهد المغول خاصة في عهد أكبر، الذي ظهر فيه مثل الشاعر الشيخ أبو الفايز الفيظي الذي كان شعره عن أربعين سنة وكان جوادًا معطاءً؛ وكذلك رَاجَ الرسم والنقش الذي كان أكبر يقيم له المعارض الأسبوعية، ثم غلب على الفن الطابع الهندوسي منذ زاد عدد الفنيين الهندوس وفي مقدمتهم داسونث وبازاوان وكيسير وماسكين على الإيرانيين في القصر الإمبراطوري والنقوش محفوظة بخط اليد. (راجع من أجله كتاب «رسامي القصر عند المغولي الكبير أكبر» تأليف لورنس بنيون، طبعة جامعة أكسفورد ١٩٢١، وص٢٢٢ من الجزء الأول من عين الأكبر، وتاريخ الفن الرفيع في الهند وسيلان، تأليف ف.أ. سميث بمراجعة ك دي ب كوردينجتون، طبعة أكسفورد ١٩٣٠).

بعد أكبر

تولى المُلك سليم وهو آخر من بقي من أبناء أكبر، وكان في السادسة والثلاثين باسم نور الدين محمد جهنجير پاد شاه غازي في ١٧ أكتوبر ١٦٠٥؛ أي بعد مضي أسبوع على إقامة الحداد على وفاة أكبر. وقد استهلَّ جهنجير عهده بإلغاء ضرائب الترانسيت والجمارك وبقمع ثورة ابنه خسرو، وفي ١٦١١ تزوج جهنجير ميهير أنيسا أرملة أحد حكام الإقطاعيات في البنغال، وقد قُتل بعد أربعة أعوام لخيانته، وقد أطلق على الزوجة اسم نورجهان؛ أي نور الدنيا التي طغى نفوذها وإرادتها على شخصيته، وكانت في الرابعة والثلاثين يومئذ ممتازة بالكرم والثقافة والذكاء والذوق السليم، وكانت تصحب زوجها في صيده وركوبه، وكان اسمها يوضع إلى جانب اسمه على النقود وتوقيعها على الأوامر والقوانين إلى توقيعه.

وقد قمع جهنجير الثورات التي قامت في التبت والدكن وانتصر في ١٦١٣ على البرتغاليين، على أن المنافسة بين ورثة العرش — خاصة بين خسرو الذي كان الأشراف يؤيدونه وبين خورام الذي كان يؤيده حزب الملكة — هددت حياة الإمبراطور بالاغتيال والإمبراطورية بالقلاقل، فلما مات خسرو خلفه قاتله خورام باسم شاه جيهان منذ ١٦٢١ حين كان جهانجير على فراش المرض ولم تعلن وفاة خسرو إلا في أوائل ١٦٢٢. (راجع ٣١٨ تاريخ جهانجير وحكم المغول في الهند وتاريخ الهند، طبعة أكسفورد).

ثم استولى جهانجير على كانجرا الهندوسية بعد أن حاصرها ١٤ شهرًا.

شاه جيهان

ولما خلف جهانجير ابنه شاه جيهان لم يستطع الاستقرار على العرش إلا بعد أن صفَّى الكثير من المتاعب التي واجهته خاصة من الطامعين في وراثة العرش، منهم شاهريار أخوه الأصغر الذي اقترن بابنة نور جيهان من زوجها الأول وقد فقئت عينه، وآصف خان شقيق نور جيهان، ولكي يمهد شاه جيهان للعرش، قتل أكثر أعضاء الأسرة المالكة، وفي فبراير ١٦٢٨ وصل من الدكن وأعلن في أجرا نبأ اعتلائه العرش، وكان مخلصًا لزوجته «ممتاز مهل» المعروفة باسم تاج بيبي.

ولما توفيت في ١٦٣١ حزن عليها الإمبراطور حزنًا كان من أثره تخليده ذكرها بتمثال أقامه لها في أجرا، وعدم الاقتران بعدها إلى أن مات بعدها بخمس وثلاثين سنة أمضى منها حول الثلاثين سنة في العرش.

ولئن كانت الإمبراطورية قد اكتنفت حياتها في عهده القلاقل على الحدود والمنازعات الدينية، والأمراض المتفشية والمجاعات المتكررة غير أن الثروة التي خلفها أكبر تقدر بما لا يقل عن مائتي مليون جنيه وثروة اللآلئ والمجوهرات — قد زادها شاه جيهان من ذلك القصور والأضرحة والمنشآت والمساجد وتمثال الملكة وقد اشتغل فيه ٢٠ ألف عامل مدة ٢٣ سنة، وإقامة عرش الطاووس من الذهب الخالص المموَّه بالأحجار الكريمة. (راجع ص٩٩ و٣٦٠ و٣٦٣ من كتاب حكم المغول في الهند)، ومن المساجد: المسجد الجامع في دلهي، وضريح جهانجير في شاه دارا، ومسجد اللؤلؤة، ومن الثورات التي قمعها شاه جيهان، ثورة البوندخاند وراجبوت البنديلا وراهي جوجهار سنج بن محظية جهانجير وبيرسنج وخان جاهان اللودي الأفغاني.

وقد وَسِعَ شاه جيهان أن يبسط سلطانه على قنديش وبيزار وسلينجانا ودولت اباد من بلاد الدكن، وأن يستولي على قندهار في ١٦٣٨ على أنه قد فقدها في فبراير ١٦٤٩، كما أنه قد حارب البرتغاليين في الهوجلي في ١٦٣٢ وانتصر عليهم وأسر ٤٠٠ من رجالهم، وهدم معابد الهندوس في بنارس، وقد استخدم للمرة الأولى مدافع الحصار وعيَّن أورابحزيب حاكمًا على الدكن ثم على جوجيرات، ثم قائدًا على جيشه إلى آسيا الوسطى فواليًا على الدكن في ١٦٥٢، وقد ساعده مرشد قولي خان من خراسان في تنظيم مالية ولايته وتشجيع زراعتها بالري والإقراض، ولما كان سلاطين الشيعة في الدكن مصدر القلق لولاية أورنجزيب، فقد هاجم بيجانور وجولكوندا، وكان حليفه محمد سعيد المعروف باسم ميرجوملا (راجع ص١٧٣ و٢١٦–٢٤٢ من الجزء الأول من كتاب تاريخ أورنجزيب).

أورنجزيب

كان تتويج أورنجزيب في ١٦٥٨ على عجَل. أما الحفلة الرسمية لاعتلائه العرش فقد أُقيمت بعد عام. ولما كانت المجاعة وضعف الرياح الموسمية قد أجدبت البلاد، فقد ألغى ٨ ضرائب وإن كان حكام الأقاليم قد استمروا في تحصيلها ذلك لأن كبار الموظفين كانوا ينفقون على قصورهم وزوجاتهم ومظاهر حياتهم وهداياهم إلى الإمبراطور وحاشيته الكثير من المال فأصبحوا مدينين يتقاضون المال غصبًا من الرعية. (راجع ص٢١٢ من «حكم المغول في الهند» و٢٧١ و٢٧٢ من كتاب «من أكبر إلى أورانجزيب») على أن أورانجزيب لم يفتأ يصدر التعليمات إلى الموظفين بتخفيبف الأعباء عن الأهلين.

دام حكم أورانجزيب ٤٧ سنة، أمضى الشطر الأول منها في حروب في شمال الهند، والشطر الثاني في الجنوب، وقد استقبل سفراء الدول الإسلامية في إيران ومكة وممثل هولندا من باتافيا، خاصة حين اجتذب إليه الدول بالهدايا والكرم. (راجع كتاب حكم المغول في الهند، ودراسات في الهند المغولية وص٣ و١١٥ و١١٦ الجزء الثالث من تاريخ أورانجزيب).

وكان معطاء وشجاعًا حازمًا متَّزنًا مالكًا زمام أعصابه في أشد الأوقات ضيقًا، وكان إلى القِصَر أقرب، ذا أنف طويل ولحية طويلة، نحيفًا يميل إلى التقوُّس عند الشيخوخة، يلبس العمامة ويرتدي الشاش الرفيع الموسلين الأبيض المحلى بالزمرد.

نادر شاه ملك إيران

استطاع الملك نادر شاه ملك إيران وهو الجندي الباسل أن يسحق الجيش المغولي في ١٧٣٩، وقد عاد جيش نادر شاه حاملًا الجواهر النفيسة التي أمضى المغول ثلاثة قرون في جمعها، كما ذبح الألوف جماعات جماعات. ثم إن الأفغانيين قد اقتحموا السهول وأوقع رئيسهم أحمد شاه الفوضى في صفوف رجال اتحاد الماراثيين في پانيبات في ١٧٦١، تلك المعركة التي أدت إلى نهاية الحكم المغولي في الهند، فأعقبه فوضى شاملة، وبعد ثلاث سنوات استقر رجال شركة الهند الشرقية في البنغال كحماة للمغول في دلهي طاردين الفرنسيين من جنوب الهند.

وقد زادت الشركة الفرنسية ضعفًا بعد دوبليه الذي كان يسعى جاهدًا لكي يصبح سيدًا على جنوب الهند، غير أن ظهور روبرت كلايف، وكان أحد كتبة الشركة الإنجليزية، وإلحاقه الهزيمة بجيش وطني في أركوت، أفضى إلى أن تأمر الشركة الفرنسية دوبليه بأن يعود من الهند. ثم إن السير أركوت قد هزم الحاكم الذي خلف دوبليه فلم يبق للفرنسيين غير مركزَين تجاريَّيْن أحدهما في سورات، والثاني في كاليكوت.

هذا إلى أن كلايف سافر من مدراس وسحق في بلاسي جيش نواب كالكاتا حين هاجم مركز الإنجليز بها وسجنهم في غرفة ضيقة، فمات أكثرهم اختناقًا، ومن ثمَّ أصبح الإنجليز سادة البنغال، فعينت الشركة الإنجليزية نوابًا آخر محله قتل ٢٠٠ أوربيًّا ثم هزمه هيكتور مونروه في بوكسار في ١٧٦٤، وقد وقع الذي تنبأ به كلايف حين كان يمضي إجازته في إنجلترا، من أن يكون هذا النصر مفتاحًا للسيادة الإنجليزية على الهند كلها، ذلك أن إمبراطور المغول قد منح الإنجليز حق الإشراف على إيرادات البنغال والبيهار وأوريسا، وقد جنى موظفو الشركة من إيراد البلاد وتجارتها ثروة شخصية طائلة بوسائل غير مشروعة، ومن هؤلاء كلايف نفسه.

وكان من حُكَّام البنغال في ١٧٧٢ وارين هيستينجس كان كاتبًا في الشركة، وفي ١٧٧٤ أصبح حاكمًا عامًّا لجميع أملاك الشركة.

وقد أنشأ نظامًا جديدًا للإدارة متوخيًا ما يمكن من النزاهة في أعمالها، دارسًا لغات الهند وعاداتهم وقوانينهم واللغتين الإيرانية والبنغالية، وكان سياسيًّا لا جنديًّا، على أن أعضاء مجلسه قد عارضوا سياسته متهمين إياه باستعمال القسوة والاغتصاب والظلم أمام مجلس اللوردة، وبعد أن ظلت المحاكمة سنوات قضى المجلس ببراءته، وقبل هذا تم إلغاء النظام الإداري الذي وضعه وكان سببًا في احتجاجهم عليه.

ومنذ ١٧٨٤ آثرت الحكومة الإنجليزية أن تشرف بنفسها على النشاط السياسي للشركة، معيِّنة حُكَّامًا عامِّين من غير موظفي الشركة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤