الفصل الثامن عشر

عصر الشركات التجارية الأجنبية

بعد أن استقرَّ البرتغاليون في بعض ثغور الهند ناهضين بأعباء تجارتها البحرية الخارجية، جاء إلى الهند الهولنديون والإنجليز في مستهل القرن السابع عشر، حين كان تجار الجملة من الهندوس والمسلمين، وكانت هناك أسواق وحلقات وجماعات تجارية معترف بها تحت رقابة الحكومة، كما أنه قد ظهرت أداة الإقراض والتأمين وتحديد الأسعار، وقام مبدأ إشهار إفلاس العاجزين من التجار المدنيين، وكانت الروبية الفضية هي أساس النقد في إمبراطورية المغول. أما في الجنوب فكانت «الباجوداه» الذهبية هي العملة الرئيسية وكانت تساوي من روبية أكبر، وتقرب قيمتها من قيمة الروبية الحالية. أما الحاصلات فكانت تشمل القمح والشعير والأرز والذرة العويجة والحمص والفول والحبوب الزيتية كالسمسم ثم قصب السكر والقطن والعنب والنيلة والخشخاش والتانبول والفلفل والبهار.

وقد أُهمل استخراج الذهب والفضة، وعُني باستخراج النحاس شمالًا وتصديره جنوبًا. وكان حديد الهند الذي يصهر كأتون مشتعل بالخشب المتقد يكفي حاجتها، وفي الدكن حقول الماس.

أما الملح فقد كان ولا يزال يُستخرج من بحيرة سامبهار ومناجم البنجاب وماء البحر، وكان هناك الصياغ والجوهريون والغزَّالون والنسَّاجون اليدويون والصوَّافون وطحَّانو الحبوب ومخمِّرو المشروبات المسكرة وصانعو السجاد.

أما الواردات فكانت في القرن السادس عشر قليلة، وكان أهمها الذهب والفضة لاستخدامها في سك النقود وصُنع الحلي، ثم الجياد والجواهر الفضية والقطيفة والأقمشة الحريرية والمشجرة والمطرزة والمشروبات المسكرة الأوربية. وكان هناك مواني بومباي وكالكاتا وكراتشي بل كانت سوارت وبروش وكامباي أهم الثغور. ومن سوارت كان الحجاج يذهبون إلى الحجاز. أما البرتغاليون فكانوا مسيطرين على التجارة في الخليج منذ أن استولوا على ديو، ومستعمرة دامان وجوادكوشين. وكانت جولكوندة تتَّجر مع بيجو ومالاقا، كما كانت هناك سريبور بعد وفاة «أكبر» بقليل، وكانت الطرق قليلة وشاقة تسير فيها الإبل والثيران وعربات تجرها الثيران إلى الثغور لنقل البضائع الواردة من الخارج، وكانت السفن هدفًا للقرصان ولمطالب الموظفين المرهقة.

أما أهم الطرق البرية فهي الطريق من لاهور إلى كابل، وطريق القوافل بين غرب الصين وأوربا، أما الطريق التي بين المرتفعات فكانت تستخدم في بعض الفترات، وكانت الضرائب الداخلية البرية هي أهم إيرادات الدولة.

وقد أمر الإمبراطور جاهنجير بوضع حد لتحصيل الضرائب على الطرق والأنهار. أما التجار الأجانب فلم يكونوا يستطيعون التجوال في البلاد، إلا إذا عقدوا مع الحكومة اتفاقًا، يرخص لهم بالتجول والاتِّجار، وكانوا يؤلفون جاليات تستمتع بالامتيازات، وتخضع لحكام منهم. (راجع الفصل الثامن من كتاب «مِن أكبر إلى أورانجزيب» تأليف و.ﻫ. تيورلان).

وبينما كان التجار الإنجليز والهولنديون يجرون على هذا كان البرتغاليون وهم ممثلو ملك البرتغال — وليسوا تجارًا — جاءوا إلى الهند قبلهم، قلما يعمدون إلى الاتفاق مع الحكومة أو سلطاتها المحلية، ففي كالكاتا كان الزاموريون يرحبون بهم، إذ كانت الجاليات العربية والمصرية تعرقل نشاطهم في تجارة الواردات، ثم كانوا — إلى هذا — يعمدون إلى القوة والأسطول في أخذ الامتيازات واحتلال الثغور.

هذا ولم يكن التجار الهولنديون والإنجليز يرمون إلى استعمار البلاد، بل كان همهم الاتِّجار معها. غير أن الحوادث قد أرغمتهم على إقامة الوكالات والمصانع ثم إقامة الحصون التي أصبح لبعضها سلطة الحكومة. ومما كانت الشركات التجارية الأجنبية تعمد إليه، أن تتقرب إلى الأمراء والحكام بل إلى الإمبراطور القائم، بالهدايا ومنها اللعب والنظارات المكبرة والثياب الأنيقة والكلاب والحلي، وكان في مقدمة السلع التي باشرت شركة الهند الشرقية الإنجليزية الاتِّجار فيها البفتة المصنوعة في الهند، وصناعة الكتان في إنجلترا في دائرة ضيقة.

أما في هولندا فقد كانت من الصناعات الكبيرة. وفي سنة ١٦٧٦ أنشئت مصانع للبفتة على مقربة من لندن. وفي ١٦٩٦ و١٦٩٧ ثار العمال الإنجليز في سبيل منع ما تصنعه الهند وتورده من البفتة والأقمشة الحريرية والصوفية، وفي ١٧٠٠ صدر في إنجلترا قانون بمنع ارتداء ما يرد من آسيا من الحراير والبفتة المطبوعة والمصنوعة، على أن يستمر اتجار إنجلترا فيها لكي تصدرها ثانية في البلاد الأخرى. ومنذ ١٧٢٠ إلى ١٧٧٤ استجاب البرلمان الإنجليزي إلى ما طلبه أرباب مصانع الأقمشة الصوفية من منع استعمال البفتة الإنجليزية إلا قليلًا، وعند س. هملتون في ص٨٦، ٨٩، ١٠٨ من كتاب «العلاقات التجارية بين إنجلترا والهند، طبعة كالكاتا في ١٩١٩» أن سياسة التجارة الإنجليزية والأوربية في الهند كانت في القرن الثامن عشر تقوم على: (١) الاحتكار، و(٢) حماية المصنوعات المحلية مع كفالة ما تحتاج إليه من المواد الخام، و(٣) مجيء الميزان التجاري للدولة بثروة أكبر من التي تخرج منها، كذلك كان من أثر الحروب التي خاضتها الحكومات الإنجليزية في عهد الملكة «آن» أن فرضت منذ ١٧٠٣ ضرائب على البضائع التي كانت ترد من الهند إلى إنجلترا.

هذا ولم تكن العلاقات بين الشركات الأجنبية في الهند تتأثر من الحالة السياسية في أوربا، فقد هاجم برتغاليو الهند باخرتين في جوا في ١٦١١. وفي ١٦١٤ أمر ملك أسبانيا الحاكم البرتغالي بأن يطرد الإنجليز من الهند. وفي ١٦١٨ تقاتلت السفن الإنجليزية والهولندية، مع أنه لم يكن هناك بين إنجلترا والحكومات الأوربية يومئذ حرب ما.

وحين اتَّحدت أسبانيا والبرتغال منذ ١٥٨٠ في دولة واحدة، أصبحت التجارة بين هولندا والبرتغال مهددة بالزوال، خاصة حين أصبح لهولندا حكومة قوية وأسطول كبير، مما كان من أثره أنه بعد أن مضى ١٥ شهرًا على تأليف شركة الهند الشرقية اللندنية، تألفت في مارس ١٦٠٢ الشركة المتحدة الهولندية برأس مال كبير وبمجلس إدارة مؤلف من ١٧ عضوًا على أن تكون دائرة نشاطها الاحتكاري جميع البلاد التي بين الرجاء الصالح ومضيق ماجلان، وأن يكون للشركة أن تشهر الحرب وأن تعقد الصلح والمعاهدات وأن تضم الأراضي، وكانت الأساطيل الهولندية القوية تهاجم البرتغاليين في موزمبيق ومالقا وجوا على غير جدوى إلا في جزائر التوابل فقد رسخت أقدام الهولنديين في البحار الشرقية، ثم إن الهولنديين قد عمدوا إلى إنشاء المصانع منذ ١٦٠٥ في الهند خاصة في ماسولي باتام ونظام باتام في جولكاندة، وفي ١٦٠٦ في سانت تومي وبيجاباتام، وإلى فرض الضرائب كثيرة على الصادرات والواردات. أما محاولة البرتغاليين في ١٦١٢ طرد الهولنديين من ساحل الكورومانديل فقد لقيت المقاومة.

وفي ١٩١٦ استطاع الهولندي بيتيرسون كوين منشئ باتافيا، أن يؤسس الإمبراطورية الهولندية الشرقية، ومنذ يومئذ أخذ الهولنديون يصدرون الأسرى ويشترونهم من البنغال وغيرها. ولئن كانت سياسة شركة الهند الشرقية الإنجليزية يومئذ تقوم على التعاون مع الهولنديين على اقتسام التجارة الشرقية على حساب البرتغاليين، إلا أن هذا التعاون قد انتهى أمره في ١٦٢٣، حين وقعت حادثة أمبويانا، التي كثيرًا ما وُصِفَت بأنها مذبحة، ذلك أن السلطات الهولندية قد عذَّبت في مصنع إنجليزي هناك خمسة عشر عضوًا ومعهم أحد البرتغاليين وتسعة من اليابانيين ثم قتلتهم بعد محاكمة غير قانونية، متهمة إياهم بارتكابهم مؤامرة كان الغرض منها الاستيلاء على هذا الثغر.

وبعد عام ١٦٢٤ قنعت شركة الهند الشرقية الإنجليزية بالاحتفاظ بمعمل واحد للبهار في جزيرة سومطرا، وقد دُفع لها تعويض قدره ٨٥ ألف جنيه طبقًا لما اشترطه كرومويل في معاهدة وستمنستر في ١٦٥٤، مع دفع التعويض المناسب إلى ورثة المقتولين.

وفي ١٦١٦ افتتح الهولنديون مراكز تجارية في سوارت وأحمد آباد. وفي ١٦١٨ افتتحوا مركزًا آخر في أجرا. وفي ١٦٥٣ نمت تجارتهم في هوجلي وباتنا. وفي ١٦٦٥ أكملوا الاستيلاء على سيلان من البرتغاليين. وفي ١٦٦٣ أنشئوا المستعمرات على ساحل مالابار، وبقي البرتغاليون الذين ضعفت قوتهم وتجارتهم في جوا ودامان وديو.

أما شركة الهند الشرقية فقد وثَّقت صلاتها الودية بأباطرة المغول والبرتغاليين، خاصة في منتصف القرن السابع عشر، وضمنت بقاء مصانعها، بينما أخذ مركز الهولنديين يضعف لكثرة النفقات، وأعباء أساطيلهم، وإن كانت تجارة هؤلاء قد بقيت في سيلان والبنغال وسوارت. وحين ودعت إنجلترا القرن الثامن عشر وهي سيدة البحار زاد موقف الهولنديين في الهند ضعفًا. وحسبنا أن نذكر أنهم في ١٨٢٤ تخلوا عن مراكزهم فيها مقابل استيلائهم على الأملاك الإنجليزية في جزيرة سومطرا. وبعد أن تمَّ تأليف شركة الهند الشرقية الدانيمركية في ١٦١٦، أنشأت على ساحل الهند الشرقي في ترانكيبار مستعمرة بيعت إلى شركة الهند الإنجليزية في ١٨٤٥.

الشركة الفرنسية ومراحل الشركة الإنجليزية

ولئن كان هنري الرابع ملك فرنسا قد حاول إنشاء شركة فرنسية للتجارة الهندية في ١٦٢٥ إلا أن هذا الغرض لم يتحقق إلا في ١٦٦٤، حين استطاع كولبير، المالي الكبير، في عهد لويس الرابع عشر، أن يؤسس شركة الهند الشرقية في ١٦٦٤ لكي يحتكر التجارة من رأس الرجاء الصالح إلى البحار الجنوبية، وتمنح مدغشقر بصفة دائمة. وفي ١٦٧٣ أخذت من شيرخان اللودي، بونديشيري. وفي ١٦٦٨ أقامت مصنعًا في سوارت. وفي ١٦٩٠ أنشأ ديلاند مستعمرة في شاندر ناجور، غير أن نشوب الحرب في أوربا في ١٧٠١ جاء كارثة للشركة. على أن دوبليه قد ناهض الشركة الإنجليزية في القرن الثامن عشر للظفر بالسيادة الفرنسية على الهند، ومحو النفوذ البريطاني منها. وكان من أسباب نهضة الشركة الإنجليزية أن الشركة الهولندية عمدت إلى رفع أسعار البهار في أوربا، ومن أجل مواجهة هذا الغلاء الفاحش قام تجار لندن بتأليف شركة بالاكتتاب برأس مال قدره ٧٢ ألف جنيه إنجليزي، يستخدم في اقتناء السفن والمتاجر، وفي إنشاء تجارة في التوابل وغيرها من السلع في الهند الشرقية.

وفي ٣١ ديسمبر ١٦٠٠ منحت الملكة إليزابيث الشركة امتيازًا احتكاريًّا لمدة ١٥ سنة من رأس الرجاء الصالح إلى مضيق ماجيلان، وفي ١٦٠٩ جعل الملك جيمس الأول هذا الامتياز لأجل غير مسمى على أن يكون قابلًا للفسخ، متى أبلغ ذلك قبل ثلاث سنوات.

هذا وقد كان الأب س. ج. ستيفنز من وينشيستار ونيو كوليدج هو أول من ذهب إلى جوا في ١٥٧٩. وقد ساعد نيوبيري ورفاقه التاجر فيتش والجوهري ليذر والنقاش ستوري، الذين سجنهم البرتغاليون بتهمة التجسس. ومما يُذكر أن نيوبري قد حمل في ١٥٨٣ إلى زيلايديم ملك كامبيا رسالة ودية إليه من الملكة اليزابيث، التي أبدت أمنيتها في أن تقوم العلاقات التجارية بين الفريقين على أساس المودة. كذلك قابل جون ميلدينهول في ١٦٠٣ الإمبراطور «السلطان أكبر» الذي منحه امتيازات تجارية. أما سير توماس رو فقد كان أول سفير أوفده جيمس الأول إلى الإمبراطور المغولي الأعظم «أكبر». ولئن كان الملك جاهانجير قد رفض عقد معاهدة تجارية، إلا أن رو قد وسعه من عام ١٦١٥ إلى ١٦١٩ أن يرفع الكرامة الإنجليزية، وقد عمد إلى تحسين حالة المصانع والوكالات التجارية في سورات وأجرا وأحمد آباد وبروش. وفي ١٦١١ حين أُنشئ في مانزاليباتام مصنع ولكنه أُغلق في ١٦٤١ حين بُني حصن سانت جورج على مقربة من مدراس باتام على ساحل كرومانديل، وكان رئيس الحصن ماضيًا في النهوض بتجارة السلع الهندية الصغيرة في كارناتيك؛ أي أطلال فيجا ياناجار، حين استولى ميرجوملا، قائد جيش جولكوندا في ١٦٤٧ على المركز الذي يحيط بها. وقد دامت العلاقات الودية الإنجليزية مع هؤلاء الغزاة، لذلك توثَّقت الروابط الودية بين التجار الإنجليز والبرتغاليين منذ اتفاق جوا في ١٦٣٥، وفي ١٦٥٠ أنشئت مستعمرات إنجليزية في هوجلي على ساحل الهوجلي في كازحبازار وباتنا. وبعد عامين هبطت تجارة شركة الهند الشرقية بعد اشتغال موظفيها بالتجارة لحسابهم الخاص، وذلك لضآلة مرتباتهم وبسبب قيام الحرب الداخلية في إنجلترا ونشوب الحرب بين إنجلترا وهولندا صاحبة السيادة البحرية في البحار الشرقية يومئذ، مما كان من أثره أن أخلت الشركة بانتام، وأغلقت مصانعها في البنغال، ومستعمراتها على ساحل الكورمانديل عدا حصن سانت جورج وماساليباتام وجوا، ومحاطّ داخلية أخرى. ومما زاد الطين بلة أن تجارًا آخرين وصلوا إلى الهند منافسين الشركة، مما كان من عاقبته أنها أعلنت في فبراير ١٦٥٧ أنها سوف تنسحب من ميدان العمل التجاري؛ وأن كرومويل منحها في أكتوبر ١٦٥٧ امتيازًا جديدًا مماثلًا للامتيازَين الممنوحَين قبلًا من اليزابيث وجيمس الأول، وإن بلغ الاكتتاب في رأس مال الشركة ٧٤٠ ألف جنيه إنجليزي، وفي ١٦٦١ منح الملك شارلس الثاني الشركة امتيازًا جديدًا، خوّلت بمقتضاه سلطة التحقيق على الدخلاء والطفيليين والحق في إبعادهم، وإشهار الحرب وعقد الصلح مع الأمراء غير المسيحيين، وتعيين الحكام، الذين يخولون مع المجالس التي تنشأ، إلى جانبهم مباشرة السلطتين المدنية والجنائية في مستعمراتهم. ولئن كانت سورات قد استمتعت مدة عشرين عامًا بالمركز التجاري الرئيسي إلا أنه منذ أصبح جيرالد أو نجير حاكمًا في ١٦٦٩ زادت أهمية بومباي بما أنشأه فيها من العملة والمحاكم، هذا إلى تشجيعه التجار على الإقامة فيها.

ولئن لم تقم في بداية الأمر حرب بين الشركة وبين الهنود، إلا أنها كانت مرغمة على محاربة البرتغاليين والهولنديين. على أن اشتباك المغوليين والماراثيين في القتال حول بومباي وقيام الحكومة المغولية بفرض الضرائب على تجارة الشركة — قد أدى إلى تحصين بومباي ومدراس، وإلى تسليح بعض الأوربيين والهنود واتخاذهم حراسًا للمصانع التي كانت، إلى هذا، محصنة بالمدافع. وفي بومباي وضعت نواة الجيش الهندي تحت إشراف البريطانيين، فكانت مؤلفة من مدفعيين معهما خمسة ضباط و١٣٩ من رتب أخرى و٥٤ توباسيا، وهم خليط من جنود جوا. وفي ١٦٨٣ أضيف إليهم بلوكان من الراجبوت و٢٠٠ رجل مسلح، أما في البنغال فكان هناك ٣٠ جنديًّا أوروبيًّا تحت إمرة الحاكم الإنجليزي. وقد ثار الكابتن كيجوين قومندان بومباي على الشركة لسوء تصرفها في تحصيل الإيراد وإنقاص المصروف، وقد لبث يحكم بومباي باسم ملك الإنجليز عامًا، ثم سلمها إلى الشركة طبقًا للشروط التي تم الاتفاق عليها، وفي ١٦٨٧ عين الرئيس سيرجون شيلد كابتن جنرالًا وأميرالًا وقائدًا عامًّا ومديرًا للشئون التجارية كلها، وقد بدأ عهده بالاستيلاء على بعض سفن المغول، مما كان من عاقبته إشهار الملك أورنجزيب الحرب على الشركة، وسجن وكلائها في سورات، ومحاصرة بومباي، وقد وضعت الحرب أوزارها في ١٦٦٠ على أساس قيام الشركة بدفع تعويض إلى الإمبراطور. وقد مات شيلد في أثناء هذه المفاوضات. (راجع ص٢ و٦ من تاريخ الجيش في الهند وتطوره، المطبوع في مطبعة الحكومة في كالكاتا عام ١٩٢٤).

وبعد أن حَمَلَتْ تصرفات المغول الشركة على إغلاق مصانعها في البنغال، عاد وكيل الشركة جوب شارنوك إليها مؤسسًا مصنع وليام أوف أورانج في ١٦٩٨ في الموقع الذي أصبحت فيه الآن قرى سوتاناتي وكالكاتا وجوفقدبور. وفي ١٧٠٠ اتخذها سير شالس آير، أول رئيس وحاكم لحصن ويليام في البنغال، مركزًا رئيسيًّا. وقد واجهت الشركة المتاعب منذ أواخر القرن السابع عشر، وذلك لظهور القرصان الإنجليز في البحر العربي واستيلائهم على السفن المغولية وإنشاء شركة إنجليزية جديدة باسم «الشركة التجارية الإنجليزية لجزر الهند الشرقية» وحصولها من وليام الثالث في ١٦٩٨ على امتياز باحتكار التجارة، وتعيين ثلاثة من موظفي شركة الهند الشرقية وآخرين رؤساء لها. على أن الشركة الجديدة المنافسة لم تلبث أن قبلت الاندماج في الشركة الأصلية في ١٧٠٢ بصفة وقتية، انتهت إلى حالة دائمة في ١٧٠٩ بقانون من البرلمان.

سلطات شركة الهند الشرقية

قلنا: إن عقد الامتيازات الممنوح للشركة الشرقية قد خوَّلها إنشاء المحاكم المدنية والجنائية منذ ١٦٦١ طبقًا للقوانين الإنجليزية، ونضيف إلى هذا أنه في ١٦٧٣ قد أُنشئت في بومباي محكمة طُبِّق فيها القانون الإنجليزي للمرة الأولى على الرعايا الهنود، وكان القضاة من الأوروبيين. أما الهنود فيشغلون في المحكمة الجنائية والمدنية نصف عدد المحلفين، متى كان أحد الخصوم غير إنجليزي. ولم يُعيَّن من الهنود في المناصب القضائية أحد إلا منذ القرن التاسع عشر.

نقل حكم الهند من الشركة إلى التاج

في أول نوفمبر ١٨٥٨ وفي عهد الملكة فكتوريا تمَّ نقل حكم الهند من الشركة إلى التاج البريطاني، وتمَّ تعيين كانينج أول حاكم عام بالإعلان التالي:

من الملكة إلى الأمراء والزعماء والأمة الهندية

نحن، فيكتوريا حامية العقيدة، بفضل الله — ملكة المملكة المتحدة لبريطانيا وإيرلندا والمستعمرات وملحقاتها في أوربا وآسيا وإفريقيا وأمريكا وأستراليا.

نعلن بهذا ونصرح بأنه بناء على نصيحة المجلس وموافقته قد أخذنا على عواتقنا الحكومة المذكورة، وبهذا ندعو جميع رعايانا في داخل حدود هذه الأراضي أن يكونوا مخلصين موالين حق الموالاة لنا ولورثتنا وحلفائنا، وأن يقدموا خضوعهم إلى سلطة الذين سنقوم بتعيينهم بعد، من آن إلى آخر، حين تأنس فيهم الكفاية والإدارة حكومة أراضينا باسمنا ولمصلحتنا، ومن أجل هذا قد عيَّنا شارلس جون فيكونت كانينج أول والٍ وأول حاكم عام على أراضينا، ولكي يدير شئون حكومتنا باسمنا وليعمل باسمنا ولمصلحتنا وفقًا للأوامر والقواعد التي سيتلقاها من وقت إلى آخر منا عن طريق وزرائنا. ونحن نثبت جميع الموظفين العسكريين والمدنيين الذين في خدمة شركة الهند الموقرة، طبقًا للقوانين والقواعد التي سوف نَسِنُّها. ثم إننا نعلن الأمراء الوطنيين أننا قد وافقنا وأبقينا في الهند جميع المعاهدات والتعهدات المعقودة معهم تحت سلطة شركة الهند الشرقية الموقرة، كما أننا لسنا نريد مزيدًا في توسيع ممتلكاتنا الحالية، ولا نقبل أي اعتداء عليها أو على حقوقنا. وسنحترم ما للأمراء الوطنيين من الحقوق والمكانة أسوة بنا، ونرجو لهم ولرعايانا أن ينعموا بالرفاهة والتقدم الاجتماعي اللذين لا يكفلهما إلا السلم الدولي والحكومة العادلة.

ونحن مرتبطون لأبناء أراضينا الهندية بما علينا من الالتزامات نحو رعايانا وسنؤديها بفضل الله تعالى في أمانة ونزاهة ضمير. ونحن لا نعتزم أن نفرض عقيدتنا المسيحية على أحد من رعايانا، الذين سوف ينعمون بحماية القانون في غير فارق بين الأديان وفي غير محاباة، كذلك ندعو كل من يعملون تحت حكمنا أن يمتنعوا عن التدخل في العقيدة الدينية أو عبادة أحد رعايانا. كذلك نعلن أن إرادتنا قد اقتضت أن يتاح للجميع شغل الوظائف التي يؤهلهم لها تعليمهم وكفايتهم واستقامتهم، ونحن نعلم ونحترم شعور الرابطة التي تربط سكان الهند بالأرض التي ورثوها عن آبائهم ونرغب في حمايتهم في حقوقهم فيها طبقًا لطلبات الحكومة. وفي تطبيق القانون سوف نراعي الحقوق القديمة والعادات في الهند. ونحن نُبدي أسفنا الشديد لما نزل في الهند من أعمال الرجال الطامعين الذين خدعوا مواطنيهم بالأنباء الكاذبة وقادوهم إلى العصيان الذي قمعناه بقوتنا١ ونحن نبسط عفونا على هؤلاء، الذين يرغبون في العودة إلى واجباتهم العادية، ولكننا لن نعفو عمن ارتكبوا مباشرة قتل الرعايا البريطانيين. أما الذين قبلوا مختارين إيواء القتلة مع العلم بجنايتهم أو الذين كانوا في الثورة بمثابة زعمائها أو المحرضين عليها — فإننا نضمن بقاءهم أحياء، على أن يحاكموا، وأن تقدر العقوبات التي ستوقع عليهم بمراعاة جميع الظروف التي حملتهم على إطراح الولاء لنا. أما أولئك الذين يثبت أنهم قد ارتكبوا جرائمهم بسبب تصديقهم الأنباء الكاذبة التي كان ينشرها ذوو الأغراض فسيعاملون بقدر كبير من التسامح. أما بالنسبة لجميع الذين حملوا السلاح ضد الحكومة فإننا نعدهم بإعلاننا هذا بالعفو الشامل غير المقيد، والإغضاء وتناسي كل ما اقترفوا ضدنا، وضد تاجنا وكرامتنا، وبالعيش في سلام، وسيمتد هذا العفو إلى جميع من يؤدون هذه الشروط قبل أول يناير التالي. ثم إنه حين يأذن عفو الله بأن يعود السلام إلى الهند، فإننا نُشهد الله على أننا سنمضي بالبلاد الهندية في طريق التقدم والسلم والنهوض بالأعمال العامة وإدارة حكومتها لمصلحة جميع رعايانا المقيمين بها، غير مدخرين وسعًا ولا مجهودًا؛ لأن سعادتهم وسلامتهم سعادتنا وسلامنا، وفي عرفانهم بمجهودنا خير مكافأة لنا. واللهَ القويَّ القديرَ، نسأل أن يمدُّنا بعونه وأن يمدَّ من يعملون تحت سلطتنا بالقوة التي تحقق أمانينا في سبيل مصلحة الأمة.

الشئون الداخلية تحت الإدارة البريطانية

حين شغل اللورد ويليام بيتنك، سير شالي ميتكالف، منصب الحاكم العام للهند عامًا، اعتزل هذا المنصب بعدئذ، وفي أغسطس ١٨٣٥ ألغى لوائح الصحافة، مما كان من أثره أن أتاح للصحف الهندية حرية أوسع مما كان مخوَّلًا للصحف في إنجلترا، وإن فقد اللورد بيتنك تثبيت مجلس إدارة الشركة له في منصبه هذا.

وقد عيَّن السير روبرت بيل في ١٨٣٥ في خلال وزارته التي كانت قصيرة المدة، اللورد هاتيسبوري خلفًا للورد بينتنك، ولما خلف الأحرار وزارة بيل المحافظة ألغى التعيين رئيس الوزارة اللورد ميلبورن، وعين لحكم الهند اللورد أوكلند الذي أدى اليمين في دار الحكومة في كالكاتا في ٢٠ مارس ١٦٣٦.

أما ميتكالف فقد عُيِّن حاكمًا عامًّا لكندا، وأما هاتيسبوري فقد فُصِل، ومما يُذكر أن ميتكالف قد جاء إلى الهند صبيًّا في السادسة عشرة ملتحقًا بكلية فورت ويليام، وأمضى ٣٠ عامًا في الهند مشتركًا في الحركات السياسية التي ظهرت في قصور الأمراء من حيدر باد إلى لاهور، فلم يُتَحْ لغيره من الموظفين ما ظفر به من ثقة الوطنيين الأمراء واحترامهم. (يراجع الجزء ٣ من «تاريخ الهند» ص٨٨ و٨٩، تأليف مارشمان).

ثم إن جورج إيدن «أي: اللورد أوكلند» صار كوالده، وزيرًا في إنجلترا، ورئيسًا لمجلس التجارة، حين عاد حزب الأحرار إلى الحكم في ١٩٣٠، ثم أصبح اللورد الأول للأميرالية؛ أي «وزيرًا للبحرية» في وزارة ميلبورن لمدة أربع سنوات.

ومما ذكره مارشمان في كتابه «تاريخ الهند» ص١١٢، أن أوكلند كان كفؤًا منصرفًا لعمله، وقد استمتعت الهند في عهده بالسكينة والمالية، غير أنه كان قليل الثقة بنفسه، معتمدًا على مشورة الآخرين خاصة سكرتيره جون كولفين.

١  تعد الحكومة الإنجليزية هنا الوطنيين المدافعين عن بلادهم كاذبين وخادعين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤