الفصل التاسع

الحياة الاجتماعية القديمة

مهما يكن من شيء فإن حركة الآريين في الهند كان من أثرها تكوين أمة من خمسة أقوام تقسم إلى عدد من القبائل، كل قبيلة أساسها رب أسرة وأسرة لها استقلالها عن غيرها.

كانت حياة الآريين قبل غزوهم الجنوب الشرقي لامبالا في الهند الشمالية، بدائية وبسيطة، ذلك أنهم غزوا البلاد مقتحمين أبوابها مجتازين غاباتها مؤلفين المستعمرات القروية. ويبدو أن القرية كانت حول موقع محصن، وكانت يومئذ تتألف من مجموعات من المساكن والزرائب المبنية من الخشب والغاب الهندي والخيزران، وبها النار المنزلية المقدسة تشتعل من كل مكان موقد.

وكانت الأسر تستخدم في حرث الأرض ستة أو ثمانية أو اثني عشر ثورًا لإنتاج ما يشبه الشعير في الحقول المسمدة والمروية، وكانت الماشية ترعى في الغابة المجاورة للحقل، وكانوا يحلبون الأبقار، ويصنعون الكعك من الدقيق والزبدة، وكان طعامهم كما هو الآن؛ الخضر والفاكهة، وكانت الزبدة تستعمل كما هي الآن. وكانوا يذبحون الثيران والأغنام والماعز ويأكلون لحومها أو يقدمونها قربانًا وتضحيات للآلهة. ويبدو أن لحم الجواد لم يكن يُؤكل في غير موسم الضحايا المخصصة له من أجل تأكيد السلطة الملكية، كما كان يُؤكل من أجل اكتساب قوة الحيوان وسرعته. وكانت «السورا» هي البيرة الشعبية مشتقة من الحبوب وشديدة الإسكار.

وكان الهنود الفيديون يرتدون ثوبين أو ثلاثة أثواب من الصوف وأحيانًا من الجلود، وكانوا يمشِّطون ويزينون شعورهم، وكان النساء يَجْدِلْنَهُ، أما الرجال فيَطْوُونه ويُكَوِّرونه؛ أي يلفُّونه لفات كالكرة أحيانًا، وكان الآريون الأقدمون يعرفون الذهب ويستخرجونه من أعماق الأنهار ويستخدمونه حليًا للرقبة والصدر، ومن أجل هذا سُمِّي نهر الهندوس «النهر الذهبي»، كذلك كان الآريون صيادين للوحوش كما يبدو من «الريجفيدا» أحد كتب «الفيدا» المقدسة، غير أنهم لم يكونوا صيادي سمك.

وكان ينهض بعبء الأعمال الاعتيادية رجالُ القرية الأحرار، وكان للرجل الذي يحترف النجارة وصنع العجلات مكان الشرف، يتلوه الطارق في المعادن لصنع أدوات نحاسية. أما النساء فيَخِطْن الثياب، وينسِجْن القماش، ويَجْدِلْن الحصير من الحشائش.

عقيدة تناسخ الأرواح

عند الهندوس منذ «البراهمانا» إلى البوذية أن الأرواح تتناسخ؛ أي أن الأرواح لا تموت ولا تفنى؛ أي أنها تنتقل من بدن إلى بدن كما أنها تنمو صعدًا نحو الإنسان منذ الطفولة إلى الشيخوخة، ذلك أن النَّفْس تتطلب الكمال في حين أن الفرد قصير العمر.

صنوف اللهو عند الهنود

ومما نذكره هنا أن الرقص في الهواء الطلق كان يمارسه الرجال والنساء معًا، إذ كان من أسباب اللهو، ومثله الغناء والموسيقى التي كانت أدواتها مؤلفة من العود والناي أو (المزمار) والطبلة. وكان عندهم سباق العربات يتبعه المقامرة التي كانوا يؤدونها باستعمال مقدار من البندق البني اللون.

الزواج

في الكتب الأولى للفيدا لم يكن محرَّمًا على الرجل أن يقترن بأية امرأة من ذوي قُرباه عدا الأخت، كذلك كان على الأطفال أن يتزوجوا، وكان على الأرملة أن تقترن بعد وفاة زوجها بأخيه أو أحد أقاربه متى لم تكن عقبت بمولود، كذلك يبدو أنه كان لها أن تقترن بآخر متى غاب زوجها غيابًا منقطعًا.

ولئن كان زواج امرأة بأكثر من رجل غير معروف، غير أنه كان للرجل العادي يومئذ أن يقترن بأكثر من واحدة. أما الرجل المفكر فكان عنده أن الزواج بواحدة المثل الأعلى للأخلاق الفاضلة. «راجع كتاب الريجفيدا المقدس، الفصلين السادس والعاشر».

وكانت الأبقار تُذبح عند منزل الزوجة لكي تكون طعامًا للمدعوِّين وحفلة الزفاف، التي كان يبدو فيها الزوج ممسكًا بيد زوجته وماضيًا بها حول موقد نار أسرتها قبل أن تغادرها إلى منزل الزوجية. هذا ويُؤخذ من مطالعة الفصل العاشر من «الريجفيدا» أنه كان للزواج من الحرمة وجلال المنزلة، ما يدل على أنه كان اتحادًا غير قابل للانفصال، كذلك كان للزوجة في دار زوجها مكانة محترمة، وكانت تشاركه في تأدية الواجبات الدينية.

أما عادة «الساتي»؛ أي إحراق الزوجة على إثر وفاة زوجها، فقد كانت قديمة جدًّا غير أنها وقفت بعدئذ كما يبدو من مطالعة «الآثار فافيدا — الفصل الثامن عشر».

إحراق جثث الموتى

وكانوا يدفنون جثث موتاهم ورمادها المتخلّف عن إحراقها. هذا ويبدو من «الريجفيدا» أن القوم كانوا لا يعرفون يومئذ غير معاني غامضة عن الحياة الثانية، وحسبنا أنْ نذكر أنَّ عندهم أن لأرواح الآدميين مساكن مع الآلهة في عالم «الباما»، أو أن الروح كانت ترحل إلى الماء أو الزرع، أما فكرة العقاب بعد الموت فلا يبدو لها ظل في «الريجفيدا».

الحرب

كان الملك يقود الجيش، وكان الكشاتريون؛ أي النبلاء، يلبسون الخوذات والزرد والدروع اللينة ويقاتلون وهم في مركباتهم. أما العامة فكانوا يقاتلون وهم على أقدامهم، وكان القوس سلاحهم الأساسي، ولا يبدو أنهم عرفوا شيئًا عن فنِّ الحركات والحيل الحربية «التاكتيك» وكان الجيش يتقدم في غير نظام تصحبه أعلامه وتناديه صيحته العسكرية الصاخبة والضرب على الطبل.

الحكومة

كان لكل قبيلة من قبائل الهند وآريين ملكٌ، كما أنها كانت مؤلفة — كما قدمنا — من طبقات ثلاث: (١) البراهما. و(٢) الكشاتريا. و(٣) الفيز «فيزيا» هذا ولئن كان الملك في الأصل وراثيًّا، غير أنه كان أحيانًا يُنتخب من طبقة الكشتاريين.

وكان الملك غير آمن على سلطته؛ وكان رجاله يعقدون اجتماعات، ولئن كان القسيس الهندي على عهد شاندراجوبتا لم يعد يتدخل في شئون الدولة التي أصبحت واسعة يقوم بأمرها موظفون عديدون — إلا أن آزوكا أشاع في حكومته روح البوذية، فقد ألغى الصيد الملكي، وأبدل من المواكب الملكية المرحة مواكب دينية، وفي العام الرابع عشر من حكمه أمر الموظفين الإداريين بأن يقوموا، إلى جانب أعمالهم الاعتيادية، بتعليم الناس الدين والأخلاق، وبعد عام آخر، عين من كبار الموظفين أناسًا مهمتهم مقصورة على تعليم قواعد الدين والتقوى للرعايا من الجنسَين مهما تكن معتقداتهم سواء أكانوا من العاملين في القصر الملكي أم غيرهم، وعلى هؤلاء الموظفين أيضًا أن يعاقبوا على الذنوب وأن ينظموا الهبات الخيرية.

كانت البوذية منذ ثلاثمائة سنة إلى يومئذ تسير سيرًا عاديًّا في هدوء حتى إذا نهض بها آزوكا لبست ثوبًا رسميًّا وأصبحت أوامر الإمبراطور تختصها بالعناية والإدارة، وتذهب إلى إيفاد البعثات التبشيرية إلى الخارج، خاصة منذ عقد المجلس البوذي الثالث في باتاليبوترا حول ٥٢٣ق.م. مدة تسعة أشهر، ويقال إن آزوكا قد أوفد ابنه الراهب ماهندرا وابنته الراهبة سانجها ميترا، إلى سيلان فأصبحت البوذية دين سكانها. وقد كانت أمنية آزوكا وشعاره أن ينعم الناس بالأمان والسلام العقلي والسعادة وضبط النفس، وقد دُوِّنت مبادئ تفانيه الديني على الصخور الجرانيتية والأعمدة الحجرية من مملكة يوسافزاي في الشمال قبل إقرار أعماله؛ وكان بمثابة الحامي لشعبه، وكان يصدر العدالة والقضاء، وكان له على رعاياه حق الطاعة وواجب تمويل ملكه مقابل ما يؤديه لهم من الخدمة، ولم يكن المالك المطلق للأرض، وكان ما يؤدونه له من المال، في بداية الأمر، على سبيل التبرع والتطوع. وكان الملك يعمد إلى استشارة قسيسه «يوروهيتا» في إدارة شئون المملكة. ولم تكن معدودة يومئذ وحدة قانونية، وليس معروفًا هل كان منصب رئيس القرية وراثيًّا وإن كان له الإشراف على شئون سكانها الحربية والمدنية. وكان العقاب على الجريمة كالسرقة من حق المجني عليه، وليس هناك ذِكر لعقوبة الإعدام في الريفيدا.

المهن

كانت الزراعة المهنة الأصلية للمتوطِّنين وكانت أملاكًا صغيرة، وحول ٨٠٠–٦٠٠ق.م. أخذت الصناعة مكانها، فكانت الدُّور تُصنع من الخشب، وكان هناك صائغو الحلي والجواهر والنساجون. كذلك عُرِفَت مهنة الحلاق والمنجمين والدجالين والبهلوانيين وباعة السمك المجفف، وعُرفت الفضة واستعمالها. ولما كانت النقود غير معروفة يومئذ، كانت المبادلة تُجرى بين السلع وبين الماشية التي أَخذ العقد الذهبي والذهب الموزون يحل محلها في التعامل. وكان الهندوسي يتناول اللحم في طعامه قبل أن تتسع دائرة العمل بمبدأ الأهيزما «تحريم المساس بالحيوان»، ذلك التحريم المشار إليه في الفصل السادس من كتاب الآثارفافيدا الذي جعل هذا مع الشراب المسكِر في عداد الرذائل.

أما الطب فقد اقترن التقدم فيه بتقدم علم الفلك، وإن كان قد صاحبهما السحر.

الفلسفة وتطور فكرة الدين

هذا ومن أبرز ظواهر التقدم، تطور فكرة الدين والفلسفة، فقد لبث رئيس الأسرة ينهض بالطقوس المنزلية. أما تقديم القرابين الحيوانية والجسدية علانية فقد تطور إلى احتفال يشمل ١٦ أو ١٧ قسِّيسًا ممتدًّا في بعض الحالات إلى عام أو أكثر متطورًا إلى عقيدة تناسخ الأرواح، وذلك أن الإنسان يموت المرة بعد المرة في العالم الآخر.

الديانات الهندية وأثرها في الحكم

عاشت الديانات الثلاث: البرهمية، والجنيزية، والبوذية جنبًا إلى جنب، غير أنه بينما كانت البرهمية تمثل النظام الموطد، وكان الإلهان سيفا وفيشنو في شكل كريشتا، كانت البوذية تطارد البرهمية ذات الطقوس المعقدة الدقيقة، فلم يعد القسيس البرهمي يؤدي خدمة دينية لها صبغة رسمية، وإن كان قسيس المَلك معدودًا من موظفي الدولة، وأصبحت مهمة القسيس التعليم، وبات يسكن صومعته في الغابة. على أن شخصه كان معفًى من الضرائب والمصادرة والتعذيب — «راجع ص٢٧٠ الفصل الثامن من الكتاب الخامس أرثا سسترا»، وهو الكتاب الوحيد أو الأدب الوحيد الذي عرف أمره عن عهد الملك شاندراجويتا وابنه بيندوسارا، ويقال إن شاندراجويتا قد نزل عن الملك بعد أن استولى على البلاد الهندية كلها شمالي ناربادا، وصارجينا، وخلفه ابنه بيندوسارا الذي أرسل ابنه آزوكا لقمع الثورة في تاكسيلا. وقد مات بيندوسارا حول ٢٧٤ق.م. فانتقل المُلْك إلى أحد أولاده المائة، واسمه آزوكا، ومما حدث في عهده استيلاؤه على المملكة الدرافيدية في كالينجاس. ولما كان قد قتل ١٥٠ ألفًا، وكان أضعافهم قد ذُبحوا، فإن الرعب قد ملأ قلبه وبدَّل نظرته إلى الحياة، فانتقل من البرهمة إلى البوذية بُعيد ٢٦٢ق.م. سنة الحرب، وأعدَّ نفسه كتلميذ في الرهبنة ودخل السنجا وأقام وهو في زيه الديني، برجا جريئًا كما وصفه هو. وإن ما صنعه آزوكا أقرب شبهًا إلى ما فعله بعدئذ في القرن الثالث عشر الميلادي سانت لويس ملك فرنسا وسانت فرديناند ملك قشتالة وكاستيل محرر أسبانيا من سرقطة. ويقول الدكتور إن براسادا ص ٨ و٩ في كتابه «نظرية الحكومة في الهند القديمة»: إن في الحياة الاجتماعية في الهند تندمج السلطتان الروحية والزمنية؛ أي أن الكنيسة والدولة شيء واحد. سيداپورا جنوبًا، ومن كاثيوارا غربًا إلى كوثاك على ساحل أوريسا.

أما الآن فقد كان من ثمار غرس آزوكا لبذرة البوذية أن عمَّت سيلان وبورما وسيام وكامبوديا والصين وكوريا واليابان ومونغوليا والتيبت. على أن آزوكا، إلى تفانيه البوذي، كان متسامحًا حيال الأديان الأخرى.

كان النظام الملكي في الهند هو أساس الحكم فيها على الرغم مما قُيِّد به من ضرورة رضاء الجمعية الشعبية عنه كما ورد في الفيدا، وكانت أولى واجبات الملك أن يحمي رعاياه وأن يُقيم العدل بينهم. ومنذ أصبح آزوكا بوذيًّا وفي العام السادس والعشرين من حكمه، أمسى الطعام نباتيًّا، مُصْدِرًا سلسلة من الأوامر المقيِّدة لذبح الحيوان والطيور وتشويهها، مُحرِّمًا صيد السمك مدة ٥٦ يومًا في السنة. وكان هذا مقدمة لتقديس الحيوان عند الهندوس، وكان عطوفًا على المسنين والفقراء، مبدلًا لأحكام الإعدام وغيرها من العقوبات، مقررًا ثلاثة أيام للمحكوم عليهم بالموت لاستئناف الحكم أو لإعداد أنفسهم لهذه العقوبة.

وكان آزوكا يحكم بلاده الواسعة حكمًا مباشرًا مركزه العاصمة باتاليبوترا. وكان له ولاة يتولَّوْن الحكم في تاكسيلا وأوجاينيا وكالينجا، وكان آزوكا بمثابة الرئيس الأعلى لمجموع من الدول والأقاليم يرجع إليه قبل غيره أمر إدارتها. وكان يُسالم أفراد القبائل البدائية ويُؤثِّر في نفوسهم عن طريق ذكر آلهتهم البرهمية. أما فيما يتصل بالحدود، فقد كانت قبائلها في الجنوب والشمال الغربي للإمبراطورية المورية، وكان يظفر بثقتها بإبدائه الرفق بها، وكانت سياسته ترمي إلى عدم التدخل في شئونها، هذه السياسة التي وردت فيما أعلنته حكومة الهند البريطانية بعد يومئذ بألفي سنة ومائتين في الغازيتة الهندية قائلة: «إن سياسة حكومة الهند لا تسمح بإدخال أية قيود من شأنها تعديل ما جرت عليه عادة هذه القبائل في حياتها، وإنما الهدف هو اكتساب ثقتها بإبداء العطف عليها». راجع «آزوكا» تأليف بانداركار ص٣٦١–٣٦٦.

هذا ويبدو أن عهد آزوكا كان عهد سلام عميق عدا ما تخلَّله من حرب كالينجا، ومما يُذكر عن هذا العهد أن آزوكا قد أقام مزارات بوذية خاصة ذلك العمود في حديقة لومبيني، حين قصد هو وأحد زوجاته الملكات الحج في المكان المشهور الذي وُلِد فيه بوذا، ولقد مات آزوكا حول ٢٣٧ق.م. كما يؤخذ مما ورد في ص٥٠٣ الجزء الأول من تاريخ الهند — كامب. أما دكتور ف. و. توماس، وفنسنت سميث فيجعلان وفاته في ٢٣١ق.م.

قِدَم الكتابة والأدب في الهند

ولقد كتب أوبا جويتا «موجليبوتا» الكتاب الأخير عن البيتاكاس الثلاثة الكاثافاثو، وكان المجلس البوذي الكبير يُعقد في پاتا ليبوترا، وكان الإمبراطور آزوكا نفسه هو الذي دوَّن ترجمة حياته على الصخور الجرانيتية والصوانية البيضاء والأحجار الرملية في الإمبراطورية والمناطق البعيدة، وقد كُتبت باللغات غير التصويرية الثلاث القديمة جدًّا البراكربتية وأخصها المجادهية ولم تكن بالسانسكريتية. وبعد وفاة آزوكا بقرون لبثت المراسيم الرسمية والوثائق تَصدر بلهجة الهند الوسطى وإن كانت السانسكريتية لبثت لغة الثقافة.

هذا ويبدو أن الكتابة في الهند ترجع إلى أصل قديم، وإن كان غير محقق العهد والتاريخ مع أنه لم يذكر شيء عن الكتابة أبعد من القرن الرابع ق.م. ولا بد أنها كانت معروفة في عهد آزوكا في الأعمال الرسمية على الأقل كالمحاكم ودفاتر الموظفين وسجلات المصالح. كذلك لا بد أن قد مضى وقت طويل منذ وضعت الألف باء الدرهمية التامة المؤلفة من ٤٦ حرفًا المأخوذة عن ٢٢ رمزًا ساميًا «راجع ص١٦ و١٧ في كتاب الأدب السانسكريتي تأليف ماكدونيل» وكانت الكتابة القديمة على صورتين: الخاروشية والبرهمية. ويبدو أن الرموز السامية التي أخذت عنها هاتان الصورتان كما اشتقَّت منها الألف باء الأوربية قد أدخلها تجار ما بين بابل ومواني غربي الهند إلى الهند منذ ٨٠٠–٧٠٠ق.م. وأن الخاروشية كانت تُكتب من اليمين إلى اليسار، ولم توجد الكتابة الخاروشية في الهند بعد القرن الخامس ب.م. وكانت البرهمية تكتب من اليمين إلى اليسار ثم من اليسار إلى اليمين، وكان يكتب على ورقة النخيل وعلى قشر شجر البتولا، وبالحبر وقلم الغاب أو قلم معدني.

الفن القديم

أما الفن الموري فيدل على مهارة مستقلة عن الفن الصيني والفارسي خاصة في الحلي وفي الحجر الصخري الكريستالي الموجود في بيبراهو ستوپا بالعاج المكتوب عليه منذ ٢٠٠ أو ١٥٠ق.م. هذا وما خلفه آزوكا قليل جدًّا في باب الآثار كالقلاع ذات الأعمدة.

وقد بدأ في عهد آزوكا استعمال الحجر في البناء، كما بدأ الحفر والزخرفة، ومن المحتمل أن يكون الفن الهندي قد تأثر منذ يومئذ بالفن الفارسي.

سقوط الإمبراطورية المورية

وفي الأدب البرهمي والبوذي ما يدل على أن الملوك الذين تعاقبوا على حكم الهند بعد آزوكا، كانت عهودهم مليئة بالانقسامات منذ الجيل الثالث بعده، فانقسمت مملكتين؛ مملكة شرقية وأخرى غربية. ولم تقوَ الهند على غزوات الفاتحين.

فاهين وشاندراجويتا الثاني

زار الراهب البوذي فاهين الهند بين ٣٩٩ و٤١٤م، قادمًا من وطنه الصين عن طريق آسيا عابرًا الهندوس على قنطرة معلقة إلى أن وصل إلى هوجلي، وكان يرمي من وراء رحلته هذه إلى الحصول في «باتاليبوترا» على القواعد النظامية للرهبان، وهو الجزء الثاني من تيبتيكا، وقد اتفق أن جاءت زيارته في الوقت الذي كسدت فيه سوق البوذية في الهند. (راجع ليجي في بيان فاهين عن الممالك البوذية).

وقد وصف هذا الراهب المؤرخ «المملكة الوسطى» ويعني بها وادي الجنج وسكانه الذين قال عنهم: إنهم سعداء وكثيرو العدة، لا يدونون ما عندهم ولا يذهبون إلى القضاة. وليس مفروضًا على أحد تأدية جزء من أرباحهم سوى الذين يزرعون الأرض الملكية، ولهم أن يذهبوا حيث يشاءون، وأن يلبسوا ما يشاءون، وليس بملكهم حاجة إلى فرض عقاب الموت أو غيره، بل إنه يقتنع بالغرامة، ويتناول وحاشيته المرتبات. وليس عندهم قتلة أو شاربو الخمر، وكذلك ليس عندهم خنازير ولا دجاج، ولا يبيعون الماشية، ولا يوجد حوانيت للقصَّابين «الشاند راس» في الأسواق، وإن كان هؤلاء هم أفجر الناس ويعيشون بمعزل عنهم. وقال عن مملكة ماجاده «إن رؤساء الأسر فيها لهم دور لتوزيع المبرات والدواء على الفقراء والمدقِعين والعجزة والأرامل واليتامى، هناك يجدون الأطباء والعناية والطعام، وليس هناك من خطر إلا من الوحوش الكاسرة كالسباع والنمور والذئاب.

غزو الهون

وقد جاء بعد شاندراجويتا بين ٤١١ و٤١٤م. ابنه كوماراجويتا الأول الذي خلفه ابنه شانداجويتا في ٤٥٤م. وقد واجه هذا الملك غزوًا من آسيا الصغرى من الهون الذين هددوا أوربا حين ساروا غربًا في الإمبراطورية الرومانية الشرقية عابرين الربن إلى الجول. أما الهون البيض فقد ساروا جنوبًا إلى الهند عن طريق الشمال الغربي، وفي ١٥٤ وقف الرومان والفيزيوحويثون زحف الهون، كذلك وسع شانداجويتا بعدئذ وقف زحفهم، وقد نعمت مملكته بالسلام في خلال خمسة عشر عامًا، وفي ٤٦٥ زحف الهون ثانية طاردين الكوشيين من كابول محتلِّين جندارا، وبعد خمس سنوات غزوُا الهند وقوضوا إمبراطوريتها. وكان من أثر هذا انقسام أملاك الجويتا ممالك صغيرة وكان آخر من جلسوا على عرش ماجاده في أوائل القرن الثامن الميلادي «طوراما» زعيم الهون في الهند، وقد وطَّد دعائم ملكه في الشمال والغرب. «راجع كتاب تاريخ الهند الأول» ومات حول ٥١٠م، فخلفه ابنه ميهيراجولا الطاغية متخذًا ساكالا (شاهكوت) عاصمة لملكه. ولما هزمه أمراء الهندوس المتحدون بقيادة «بالاديتياردر ناراسيمهاجويتا» ملك ماجاده وياسيدرهار مان أحد راجات الهند الوسطى، انتهى ملك الهون في ٥٢٨ عدا جزءًا في الشمال. كذلك زال ملك الهون البيض من آسيا الوسطى منذ قضى عليهم كسرى أنو شروان ملك الفرس تعاونه القبائل التركية ما بين ٥٧٠ و٦٥٠م.

نظام الحكم الداخلي

أما الباقي من القرن السادس فلم يعرف التاريخ عنه شيء إلى أن جاء عام ٦٠٦ حين أصبح هارشافاردانا حاكمًا على دولة ثانيزار وزادت أسلحته إلى أن صارت ٦٠٠٠ فيل و١٠٠ ألف فارس عدا المشاة، وقد استطاع بها أن يجعل سافاراسترا «البنجاب»، وكالياكوبجا؛ وجاندا «البنجال» وميثيليا «درابانجا» وأوريسا تَدين له بالولاء، وقد وسعه أن يستولي على السهول الشمالية من سوتييج إلى هوجلي وعلى الهند الوسطى إلى ضفاف نهري الشامبال والناربادا، أما مع الصين فقد كانت علاقاته بها ودية وقائمة على تبادل السفراء، وقد استطاع بعد غزواته الظافرة أن يحكم مملكته في سلام مدة ثلاثين عامًا، غير أنه قد هُزِم حين حارب مملكة الساكا والدكن في الجنوب إذ كان عليهما الملك بوليكيسيين الثاني أعظم ملوك شالوكيا على ضفاف نهر ناربادا.

هذا وقد كانت أسرة هارشا تدين بالعبادة للإلهين سيفا والشمس، كذلك أصبح بوذيًّا كسنة الأباطرة الموريين، مؤمنًا من البوذية بمذهب ماهايانا، وكان هارشا، إلى هذا، يُقسِّم وقته ثلاث مدد؛ اثنين للواجبات الدينية وواحدة لشئون المملكة، وقد حرَّم لحم الحيوان وأكْله وقتْل النفس وأقام دُورًا لراحة المسافرين وطعامهم وشرابهم، وعيَّن الأطباء لمعالجة مرضى الفقراء، وأقام الأديرة البوذية، وكانت له حاشية من النساء مماثلًا في هذا شاندراجويتا. وقد كتب هارشا شاريتا شاعر قصر الملك تاريخًا عن ملكه روى فيه أن جلالته كان يبدو كحبل من الحلي حين يتحلى بالقلادة المرصعة باللآلئ والمجوهرات المدلَّاة على الجانبين. وكان له وزراء وكانت إيرادات الدولة تقوم على سدُس محصول أراضي التاج. هذا إلى موارد أخرى كعوائد طفيفة للدخولية ورسوم المعديات ونسبة مئوية عن البضائع المبيعة.

وكانت الضرائب طفيفة، وكانت مرتبات الموظفين تُؤدَّى إليهم أرضًا لا نقودًا، وكانت الأجور تُدفع إلى العمال المقترعين، وكانت خيانة الوطن معاقبًا عليها بالسجن المؤبد التي كانت أحيانًا تُفسَّر بأنها الموت جوعًا. أما الجرائم الأقل جسامة فكان معاقبًا عليها ببتر بعض أعضاء الجسم أو النفي، أما الغرامة فكانت عقابًا للجرائم الطفيفة الصغيرة.

دور العلم والأدب والتمثيل

وكانت الجامعة الكبرى البوذية ذات الأديرة في طبقاتها الست تستقبل إلى الألوف من ضيوفها، طلبة العلم الذين يتلقَون العلم والطعام والفراش والدواء على نفقة الدولة ومن غير مقابل، غير أن البرهمية كانت ديانة الأكثرية، وكان العلماء يدرسون الفيدانتا في ملاجئ نُسَّاك الغابات، وكان أشهر الآلهة يومئذ: فيشنو وسيفا والشمس، وكان لهذه الآلهة الثلاث معابدُ لعبادتهم جميعًا في كانيا كوبجا، التي كانت يومئذ مركزًا للبوذية والبرهمية. أما بنارس فقد كانت كما هي الآن مركزًا لعبادة سيفا. ومنذ القرن الرابع نشرت الجاليات الهندية الحضارة الهندية والعقيدة البوذية في كامبوديا والملقا وجاوا. وفي عهد هارشا كانت سفن المحيط الكبيرة تستطيع أن تنقل مائتي شخص من تامرا ليبتي وسيلان وجاوا. كذلك ظهر الفن الهندوسي هناك. وقد ساد حكم الحوبناس والهارشا فأردانا البلاد من القرن الرابع إلى السابع.

وقد ظهر يومئذ قانون مانو وملحمة المهابهارات المتصلة بها. وفي آخر هذه المدة اتخذت الواجبات الدينية، بما اشتملت عليه من أعمال الآلهة والأبطال وسلسلة نسب ملوك الشمس والقمر، الشكل الحاضر.

هذا وقد تألق الأدب بما فيه من الدرامة والشعر في تلك الحقبة، ومضى من فكرة أدوار «الغناء والرقص» إلى الروايات الدينية التي تمثل تاريخ كريشنا وفيشنو. وفي عهد الجويتا كان المسرح ملهاة الأمراء والنبلاء في القصور وكان يحضر هذه الروايات رجال الأرستقراطية. ويجيد تمثيل الرواية فرقٌ لا تستخدم مناظر خاصة ويفتتح تمثيل الرواية بعزف الموسيقى المشتملة أدواتها على المزمار وأدوات الأوركسترا، ثم يقوم مدير الفرقة وسيدتها الأولى بشيء يشبه العرض كمقدمة، ثم تمضي الرواية بما يجري فيها من الأحاديث الممتزجة بالأغاني والتمثيل الصامت، وقد كُتبت أعظم الروايات الهندية بين بدء القرن الخامس ونهاية القرن الثامن الميلادي، وقد حفظ التاريخ من هذه الروايات فبكرامورقاسي والمالافيكا جنيمترا. ويعد من وضعوها من أعظم كُتَّاب الدرامة وهناك روايات أخرى مهمة.

وثمة كتب عن الفلك في القرن الرابع وقد نظمها تنظيمًا علميًّا أريهاتا في باتاليبوترا في ٤٧٦م. وقد ذهب إلى أن الأرض تدور حول محورها وفسَّر أسباب كسوف الشمس وخسوف القمر. وفي كتاب اللغة السنسكريتية أن علماء الفلك الهنود يفوقون زملاءهم اليونانيين.

أما الحفر فكان كبيرًا بدائيًّا. من ذلك المعابد الهندوسية، في بعضها تمثال بوذا وزخارف اللوتس مع نقش داخلها «تاريخ الفن الهندي الأندونسياتي تأليف أ. ك. كومارا، سوامر ص٧١ و٧٢».

وكانت مباني أديرة جامعة نالندا في جنوبي بيهار في ٤٧٠ تتألف من ست طبقات وارتفاع المعبد أكثر من ٣٠٠ قدم مع الأبراج والمنارات المزخرفة. ولم يكن أرجونا وزير هارشا ومغتصب عرشه كُفُؤًا؛ فقد قتل حرس السفارة الصينية؛ مما كان من أثره أن السفير الصيني وانج هيوين تسي قد هرب ثم عاد ومعه قوة من نيباليزي والتبتيين يعاونهم ملك أسام «كومارا» صديق الإمبراطور هارشا وملتزمه، وقد أخذ أرجونا أسيرًا إلى الصين، وأصبحت إمبراطورية هارشا منقسمة وفوضى، يتتابع عليها الملوك والمماليك، وبقيت الديانات البرهمية والبوذية والجينية والمعابد، واحتفظ ملوك الدكن بالحفر والفن والأدب، وعُرف الشطرنج في الهند منذ ٧٠٠م.

ملوك الدكن

وقد تعدَّدت ملوك الدكن منذ ٥٥٠ إلى ٧٥٠م فقد جلس على عرشها الشاليكاليون، الذين يبدو أنهم كانوا الهون الذين كانوا يقيمون في جوجيرات وأصبحوا راجبوتيين أهمهم بوليكيسين الثاني الذي وسع مملكة فاتابي على حساب جاره وكان أقوى حاكم في جنوب ناربادا، ووسعه أن يهزم جيوش هارشا وأن يجلي باللافا ملك كانشي من المملكة التي بين نهري الكبستنا والجودافاري. على أن بوليكيسين الثاني قد هُزم أخيرًا ومات في ٦٤٢ فانتهى حكم الشاكيليين مؤقتًا حول منتصف القرن الثامن، حين جاء الراشترا كيون من مملكة المهاراشترا وخلعوا عرش كيرتيفارمانا الثاني ومن ثم تولى الراشترا كوتيون زعامة الدكن أكثر من قرنين. على أن الشالوكاسيين عادوا إلى الملك ثانية في ٩٧٣. فقد خلع تايلابا الثاني مؤسس الأسرة الشالوكية الثانية، الراشتراكوتيين ولبث خلفاؤه يحكمون كالياني أكثر من مائتي سنة. وفي أثناء هذا الانقلاب ظهرت مملكة الشولاس في جنوبي كيستنا سائدة في جنوبي الدكن وغربه، وقد بدأ الملك شولاي الراجبوت الأعظم حروب الحدود مع جيرانه وغزا مملكة شالوكا حول ١٠٠٠م. وضم جزءًا من ولاية ميسور، كذلك انتصر في الجنوب ووصل ملكه إلى سيلان وكالنجا. على أن الملك فيكرا ماديتيا شالوكا استرد ميسور من الشولاس.

وقد استطاع الهويسلاس في دفاراقا بتسيورا والبادافاس في دالجير قبل منتصف القرن الثاني عشر سحق الشالوكيين.

أما المملكة التي كانت تقوم بين نهري الناربادا والجومنا، فقد حكمها ملوك الشاندل في جيجوتي حول ثلاثة قرون. وبين ٩٥٠ و١٠٥٠ أقاموا المعابد الهندوسية والجينية في عاصمة جاجوراهو، وبعد الغزو الإسلامي أصبح ملوك الشاندل ملتزمي أراضي الغزاة المسلمين، وفي شمالي كالوج حكم الراجبوات ميهيراپاريجا خمسين سنة ومات في ٨٩٠ وخلفه ملوك من أبنائه إلى الغزو الإسلامي، وبعد أن عمَّت الفوضى المملكة التي كانت فيما يعرف اليوم باسم البنغال، انتخب السكان حول ٧٥٠م ملكًا اتخذ لنفسه اسمًا بوذيًّا وهو «جويالا» وقد خلفه ابنه دهارمابالا وسعه أن يحكم كثيرًا من شمالي الهند وكان كفُؤًا وجنديًّا قديرًا. وقد لبثت هذه المملكة تواجه صنوفًا من المصائر إلى أن جاء الغزو الإسلامي إلى الهند قبل منتصف القرن الثالث عشر.

ومن أجل هذا كان من آثار الغزو الأجنبي المتتابع من مختلف الشعوب، أن صار السكان شمالي الهند خليطًا من الأصول على حين أن سكان الجنوب قد احتفظوا بالسلالات القديمة.

هذا وتمثل أفخاذ الراجبوت طبقة الكاشتريا في المجتمع الهندوآري الذي تبادل مع البراهمة أواصر المصاهرة، ولهذا جرت التقاليد على أن يزعم الراجبوتيون أنهم أبناء الشمس والنار المقدسة، وهم ذوو عصبية وفخار سريعو الغضب والقتال بعضهم مع بعض مما جعل من المستحيل عليهم إقامة إمبراطورية، وهم يُبدون نحو زوجاتهم احترامًا ليس مألوفًا في آسيا، كذلك يُبدون نحو أعدائهم شهامة لا نظير لها في التاريخ. على أن بعض الراجبوتيين لا يرجعون إلى الأصل الآري بل إن منهم من ينتمي إلى الطبقة العالية في أسر الغزاة المتأخرين كالجوجاراس والهون البيض الذين كانوا طِوَال القامة وأعلى طبقة من زملائهم الهون الذين حاولوا غزو أوربا. وكان الأجانب سرعان ما يندمجون في السكان الأصليين فصار الأجانب من الكشتاريين كما في راجبوتانا وكوجيرات، إذ إن من پاريهار الجوجاريين تسلسل الملوك الذين استولوا على كانوج حول ٨٤٠، ناقلين عاصمتهم من بهيلمال إلى هارشا المدينة الإمبراطورية، في حين أن أبناء الراجبوت جلسوا على عرش مالوا وبونديلخاند.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤