الفصل الثالث

ولعمري أيها القمر إني لأشكو إليك بثي وحزني، وأناجيك بأحلام النفس الإنسانية، وإنك لتُجيبني الجواب الصامت البليغ فتطرح أشعتك في قلبي آخُذ من بعضها قولًا وأرجع إليك بعضها قولًا، كالعاشق يرى في ألحاظ حبيبته بالنظرة الواحدة ما في نفسه وما في نفسها.

ولقد أرى لك في جانب من قلبي شعاعًا غريبًا قد استبهَم عليَّ فلست أعلمه، وكأنه ينبعث من أبعد سَمْت في السماء إلى أعمق غَوْر في القلب، وإنما انحدر في أشعتك ليمتزج بشيء من الغزل يستأذن به على هذا القلب الذي فيه من الحب أكثر مما فيك من الجمال.

وما أدري ما أمر ذلك الشعاع؛ غير أني أحس أنه ينير في حلك الظلمة الخالدة التي فصلت بيني وبين أيام وُلدت فيها الدنيا معي، فأراه يقابل نفسي بمعانٍ رقيقة كأنها أرواح تلك الأيام الماضية، كأنه اتسق أسطرًا نورانية أقرأ بها فصلًا من تاريخ الطفولة الذي تضحك كلماته لأنه من لغة الضحك.

تلك اللغة الخاصة بالأطفال والتي يضحك منها الرجال أحيانًا إذا استمعوا لها لأن في أنفسهم بقية من أثرها.

تلك اللغة الموسيقية التي تفيض ألحانًا حتى في الحزن، والتي توقع أنغامها على كل شيء تصادفه كأن كل شيء ينقلب في يد الطفل أوتارًا مُرِنَّةً ولو كان العصا التي يُضرب بها …

بل تلك اللغة التي يوفَّق بعض القلوب السعيدة إلى الاحتفاظ بشيء منها على الكبر فتكون فيه ينبوعًا للفلسفة الحقيقة يشرب منه الحب الظمآن، وتستروح إليه الحياة المجهودة التي ما تكاد تتنفس، وتبترد عنده الأحزان الملتهبة، وتصغر لديه كل المصائب فتخرج عن طبيعتها إلى طبيعته حتى لا يستحيل بها دموعًا حارة؛ وهو في الإنسان بقية الري من ماء الجنة قبل أن يخرج منها ويوم كان لا يظمأ فيها ولا يَضحى.

ولَشَد ما اجتهد العلماء والفلاسفة في تعريف السعادة، ولكنهم عرفوها بتنكيرها، إذ ألبسوها ألفاظًا من لغة البؤس كانت لها كثياب الحداد التي هي أكفان الحي المتصل بالموت، أو الميت الذي لم يمت؛ فإذا أردت السعادة من تعريفاتهم وابتغيتها من أوصافهم فإنك تكون سعيدًا جدًّا بل أسعد الناس كافة؛ لأن كل واحد منهم يتوهمك سعيدًا متى لبستَ تعريفه، فتسعد بعشرين أو ثلاثين سعادة متباينة، ولا ضَيْرَ أن تبقى بإزاء كل هذا النعيم بائسًا في يقينك الذي لا دليل عليه إلا ما تحس به أنت، وما يقينك هذا أيها الأحمق بجانب ثلاثين ظنًّا من ظنون الفلاسفة!

إنهم لا يعتدُّونك شقيًّا البتة حتى تشقى بثلاثين نوعًا من البؤس كما سعدت بثلاثين نوعًا من السعادة …!

كلمتان هما تعريف السعادة التي ضل فيها ضلال الفلاسفة والعلماء، وهما من لغة السعادة نفسها؛ لأن لغتها سلسة قليلة المقاطع كلغة الأطفال التي ينطوي الحرف الواحد منها على شعور النفس كلها. أتدري ما هما؟ أفتدري ما السعادة طفولة القلب!

ذاك أيها القمر وإني لأحس كذلك أن قلبي يطرح على ساحل أشعتك بقايا ما فيه من الآمال المحطمة التي طال مثواها في لُجج الهم، كبقايا الغرقى في أعماق اليم؛ وليت شعري ما عسى أن تجدي هذه البقايا؟ إنها أثر من رجاء ماضٍ في زمن وقع وانقطع، أو كلمة طيبة قد مات أهلها، أو شعاع ابتسامة أخلدها الحب في قلبي؛ لأنها روح شبابي والأرواح خالدة، أو معنى حزين تُعشقه الدموع فلا تزال تنازع إليه، أو قطعة مُثلَّمة من الذكرى تمر الأحزان من صدوعها أو آمال في المستقبل البعيد كأنها أحلام يعِدُّ بها النائم نفسه قبل أن ينام … ويكسوها الهم البليغ ثوب الاستعارة فيتخيلها ابتسامات من السعادة كما يرى المدمن في عناقيد الكَرم سحابة من الخمر، أو بقية من حياة معذبة، يقول فلاسفة البؤس: إن القدر أبقى عليها؛ لأنها من حصة القضاء، ويقول حكماء الإيمان: إنها بقية معلومة لغاية مجهولة متى انتهينا في طريق العذاب إليها «أي الغاية» رأينا ثمة عناية الله!

فدعني أيها القمر أحمل بقايا عمري: إني كلما قطعت مرحلة في سبيل الحياة وضعت عندها أحمالي وعدت أدراجي لأجمع ما يكون قد تناثر مني، فأقطع كل مرحلة ثلاث مرات؛ أما إحداها فأكون فيها كالشيخ الفاني يَدلف مثقلًا بأيامه، وأما الثانية فأمضي فيها خفيفًا لا أحمل إلا النوم في أجفاني، وأما الأخرى فأعود منها بأثارة من الأحلام تخف على نفسي لولا ما يخالطها من ثقل الفكر في قطع مرحلة النهار الجديد.

ولو كنت من السعداء لسخر لي القدر من يحمل عني، بل لكان ظلي نفسه حمالًا … وإذا أردت أن ترى قومًا يرثون من لم يلدهم ولم يكن من ذوي قرباهم ولم يمت إليهم بسبب واصل فانظر إلى البائسين؛ فإن كل منهم يحمل أثقاله وأثقالًا مع أثقاله. وليس أخف من أحمال البؤس وحده؛ إذ هي لا تعدو الجوع الذي تكسر شِرَّته بكسرة من الخبز، والتعب الذي يذوب في غمضة العين ساعة النوم، وما عدا ذلك؛ مما يحمله البائسون فإنما هو من أثقال السعداء؛ لأنه لا بد من ظهور للحمل … فمن يحمل الأمراض التي لا قوام للعالم إلا بها مدة صحة السعداء؟ ومن يحمل الهموم مدة نعيمهم واغترارهم ومن يحمل الدموع مدة ضحكهم وافترارهم؟ ومَن ومَن ومَن إلا هذا البائس الذي تصيبه دائمًا واقفًا في طريق الأقدار لأنه برقة قلبه وسذاجة روحه يكون دائمًا أقرب الناس إلى السماء!

أما أولئك الذين يغيبون في ظلمات العالم كما يبتهج السمك كلما غاص في ظلمات الماء، فكثيرًا ما تتعاون الأقدار وتتظاهر لجرِّ واحد منهم حتى تكون عليه كخيوط الشبكة وهو مع ذلك يجاهدها ليفلِت، فترى شبكة هذا الحوت الذهبي وقد عَلقت بها الأيدي يقرض فيها الأصدقاء من جهة والأطباء من جهة، وغيرهم من جهة، وبالجملة فإن ماله يستحيل إلى مقاريض تأخذ شبكة الأقدار من كل جهاته.

فإن كانت القاضية فكثيرًا ما يموت هذا السعيد وهو يجذب الأقدار أو هي تجذبه، كأنه يريد أن يكون موتًا للموت، ويصدف وجهه مرة ويشيح به مرة كأن الأرض ذابت أو تخلخلت فأصبحت لا تقوى أن تحمله فضلًا عن أن تمسكه، وكأن الجهات الأربع انزوت عنه فلا يرى إلا جهة السماء، ثم يحتَضر والحياة أمر ما وجدها، وكل نفَس في فمه كأنه قُبلة مرة تقطر من فم الرذيلة الشوهاء، ويكشف عنه غطاؤه فيرى ماضيه بعين صافية تكاد نظراتها تكون عقولًا مفكرة، فلا تنفذ إحداها إلى أمر من أموره أو فعله من فعلاته إلا أبانت عن نفسها وكانت كأنها تشهد عليه، فمن حيثما التفت لا يرى إلا وجوه الأدلة، ومن حيثما أصغى لا يسمع إلا إقرارها، ويدركه الموت فيقول إني تبت الآن … كلا إنها كلمة هو قائلها، وإنها لا تغني عنه من الله من شيء، وإنه ليقبل بها على الله وهي في فمه كالفضيحة أو أشد خزيًا، ثم يموت وقد جهد بالموت وجهد الموت به، فيصعدان وكلاهما متباطئ والموت ما يكاد يحمله ويحمل نفسه، لا كما يموت الفقير خفيفًا هادئًا كأنه طائر بسط جناحه وطار، ولا كما يصعد خفيفًا هادئًا كأنه معنى جميل تذهب به رسالة معطرة.

وأكبر ظني أن بعض الأغنياء يموت في الأرض وينتهي إلى السماء ميتًا ولا يحيا هناك إلا بعلاج … يدفع ثمنه ببدنه الذي لا يملك في الآخرة غيره، كما يدفع السجين المفلس للحكومة أجرَ ما يأكله في سجنها من أعماله.

وما كتب الملائكة قط صحيفة هي أشام طائرًا في السماء من صحيفة غني حين يحتضر، وهذه الصحيفة التي تطير بمعانيها هي التي تنطبع فيها ظنون النفس الراحلة سطورًا كأنها «فنغراف» الموت، وأحسب أن السطر الأول من «الظنون الغنية» يكون جبنًا شديدًا، ويكون السطر الثاني خلاء لأنه موضع رعدة فلا تثبت فيه يد الملك، ويكون الثالث ندمًا، والرابع مجازفة، والخامس رجاءً مستحيلًا، والسادس أملًا مضحكًا، والسابع كلمات ركيكة من الإيمان الضئيل، والثامن حروف خيالات من الماضي الأثيم كأنها مقبلة بمخازيها؛ أما ما بقي مما يوفى على التتمة فإلى الله أمره وفي الثمانية ما إن قليله أهل لأن يستعظم فيستعاذ بالله منه: وما كل الأغنياء يلقون ربهم بمثل هذه الصحيفة السوداء، إن أريد إلا الغنى الذي يعيش فقيرًا ليموت غنيًّا، فترى أمواله أرقامًا لا عداد لها تملأ السفاتج «الحوالات» والدفاتر والدواوين وليس فيها رقم مؤمن تثبته الملائكة في صحيفة الحسنات ليخرج من حساب الناس إلى حساب الله!

وليت شعري ماذا يريد هذا الغني الاصطلاحي؟ أيريد أن يشتري الأرض أم أهلها؟ وهل يظن أنه يوم يشتري الأرض لا يشتري فيها قبره، ويوم يسترق الناس لا يشتري بماله من يلعنه؟ وإذا دفن تاريخ امرئ فإنما تفتح له لعنة بغيضة من لعنات الناس، ويهال عليه ألفاظ بغيضة من الاحتقار فيثوى من ذلك في قبر أبدي.

المال الكثير حاجات كثيرة، وحاجات هذا الإنسان الضعيف معدودة محدودة، ومهما حاول وزاول فإنه لن يعدو حده الطبيعي؛ إذ قد عرفت الطبيعة غروره وطماحه فجعلت له من المعدة قيدًا في باطنه ووُضعت عليه من القلب قفلًا صغيرًا، بيد أنه متين لا يقتحمه إلا الموت، فليفعل الأغنياء ما شاءوا فإنهم لا يزالون من الطبيعة حيث هم بجانب الفقراء والمساكين ههنا وههنا. والحقيقة محدودة دائمًا بذاتها، ولكن الوهم قبحه الله؛ هل رأيت رجلًا ينظر بعيني رأسه إلى شرف مرتفع فيلمح فيه رأس رجل قد أطل ثم يحسب ضلة أن هذا الرأس قد انخلع من مغرز العنق فارتفع حيث يلوح وترك جثته متخلفة على الأرض؟

إنك لا تجد هذا الرجل ولا بين المجانين، ولكنك تجد عالمًا بين الفقراء كله ذلك الرجل متى التبس الأمر قليلًا وصار الارتفاع في طبقات الغنى دون طبقات الهواء؛ لأن الفقير ينظر إلى الغنيِّ بإرادته لا بعينه، فإذا كانت إرادته في الغنيِّ لا حد لها فهو لا يرى حدًّا للغنيِّ بل قد يراه من الارتفاع والسمو في مكان لو قذفه منه بكلمة سخط لقتله …!

وكذلك يلقى الغني عينيه حين ينظر إلى الفقير ولا يراه إلا بهواه ولذاته؛ فقل الآن في قصر كأنه من الدنيا صدَفة تنفتح عن لؤلؤتها، قد بالغ صاحبه في زُخرفة وأوسَعه من شهوات نفسه وأقامه على الأرض كأنه ليس منها ثم يدخله ظامئًا ظمأ الشباب وقد ملكته سورة العافية ويجول في أبهائه وحجراته متشاوسًا ما يُمسك عطفيه كبرًا وخيلاء، وينتهي إلى أجمل موضع منه فإذا هو لا يرى ثمة إلا ثوبًا أدكن مُغبرًا كأنه منسوج من أجنحة الذباب وقد بلي وتهتك واستوضحت في جوانبه رقع بادية من أضلاع فقير بائس قامت به رئتاه١ فما ينفك يصب فمه دمًا وصديدًا وهو مهزول يضطرب في ثوب أضيق من رئته وما يكاد يملؤه كأنه بقايا عظام الميت في كفنه القديم!

ولو عقل الفقير المسكين لعرف أنه مهما صغرت قطعة الزجاج الملونة فإنها تصبغ الفضاء الواسع كله بلونها في رأي العين، فالفقر هو الذي صبغ الغني بألوانه البهجة الرفافة لا الغني، ولو صح نظر الفقير لصحت قيمة الغني ولصار أمر هذا القياس إلى الحاجة التي لا بد منها لكليهما، وهما سواء فيها، يجدها الغني بلا كد فمتى تناولها أتعبته وملها، ويكدح لها الفقير فمتى تناولها أراحته ورضيها أكثرها وأقلها، وحين ينام كلاهما ويخرجان عما في أيديهما على قلته وكثرته وينطرحان على تراب الأبدية الذي يتساقط به الليل ويرتقبان جميعًا من رحمة الله نهارًا جديدًا، فحينئذ لا يراهما الناظر إلا جثتين على صوغ واحد لا يعلم أيهما التي يمسكها الله وأيهما التي يرسلها فتستيقظ! وكأنهما على تلك الحال إنما افترفا طويلًا بالفقر والغنى عن طاعة الله فتنافرا وتدابرا ثم التقيا لوجهه بغتة فخر كلاهما صعقًا.

ليهنأ الفقير أنه الأساس القائم من الأحجار الصلبة في بناء هذا المجتمع وأن الترميم لا يتناول إلا ما فوقه، ولا تكون الصلابة بلا شيء فإنما يشتري الإنسان بفقره نعمًا كثيرة من الله، ولكن اللؤم يسول له أن يساوم الناس عليها فلا يجد من يشتري منه إلا قوته وعمله؛ لأن الأيدي التي خُلقت لحمل الذهب لم تخلق لحمل العالم، فيبتئس هذا الفقير ويحسب أنه وحده البضاعة المزجاة التي لا تقوم في سوق الغنى بثمن إلا بضع رغفان من الخبز، فتجف أصول الدموع اللينة من عينيه ولا يبقى فيهما إلا اللحاظ الخشنة، وتصبحان في نظرهما إلى الفضائل كأنهما عينا بندقة الصائد يسددهما إلى الطيور الجميلة فلا تقذفان إلا بالموت، ويصبح هذا الفقير البائس وقد خلط فضائله الرثة من متاع بيته القذر، ولا يزال بنفسه يروضها ويسري عنها الخوف المطمئن الذي هو معنى الإيمان حتى تزول عنها كما يزول النهار فإذا هي حالكة عمياء، ويخرج التعس من الفقر كما خرج من الغنى!

ولا عجب أن يخرج بائس من الفقر؛ فإن وراء هذا الفقر منزلة أخرى لا ينحدر إليها إلا أتعس خلق الله وسبيلها من الفقر نفسه! تلك هي الجريمة!

ولا تحسبن الأغنياء المجرمين على غِنى؛ فإن كل شيء يسرق حتى الغنى، وحتى اللص يسرق نفسه من يد الشرطي بعد أن يكون قد جمعها عليه، والفقير الذي يطمح إلى الغني كالغني الذي يطمح إلى ما هو أغنى: كلاهما فقر وكلاهما طريق إلى الجريمة!

ويحك لِمَ تبتئس أيها الفقير؟ الغني يريد أن يجعل حظوظ الناس جميعًا حظًّا واحدًا ليخص نفسه بهذا الحظ … وأنت تريد أن تختص بحظ الغني … فماذا تركتما لله يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء؟

إن الله قد ائتمنك على أثمن الفضائل وأعزها من الصبر والقناعة وشرف الضمير، وأشرف بك على مصارع الأغنياء فرأيت كيف يخفق قلب أحدهم وهو يحسبه كرة الأرض زلزلت زلزالها، وكيف تطرف عينه وهو يتوهمها اللجة التي تبتلع كل ما في رأسه من الأحلام، وكيف يموت وهو يرى كل ما كان في يده كالظل على الماء لا يذوب ماء ولا يبقى ظلًّا، ويرى أنه كان يشتري المال الذي لا حد له بالعمر المحدود، فلما أفلس من هذا خسر الاثنين جميعًا.

أفتحزن أيها الفقير على أنك تشتري بعمرك هناء القلب وعافية الجسم ومحبة الناس وثواب الله وابتسامة الموت؟

لا تتعجل القدر ولا تختط لله خطة المستقبل ولا تغذ النسيان بأفكارك حين تفكر في البعيد، فإنك في حاجة إليها؛ واعلم أن الآلة التي تدير هذا العالم إنما تدار من فوق حيث لا تصل إليها اليد التي تحاول أن توقفها أو تبطئ من حركتها أو تزيد فيها، يد المجنون الذي يصيد النجوم بالشبكة حين تنبعث أخيلتها في الماء الصافي … وكن إنسانًا لا أكثر، فإنك تحاول أن تصير إلهًا فتصير شيطانًا، وأجعل من فقرك ومصائبك وأحزانك سمادًا لهذه الزهرة الناضرة، زهرة الروح الحية، فإنها تغتذي بكل ذلك وتحيله إلى نضرة وجمال وعطر يتأرج؛ وأضيء نفسك، فإن حولك ضياء يغمرك من لدن تفتح عينيك إلى أن تنام؛ ولا تكن كالسفعة في وجه الشمس، ولا كالغبار في النسمات، ولا كالريح الخبيثة في أريج الأزهار، وإن عرض لك شر أو طمع أو شيطان فاجعل السماء بينك وبينه فإن في باطنك قطعة منها، وترفق بصبرك لا تجهده، وبدمعك لا تفنه، فإنهما الزاد والماء لمن يقطع هذه المفازة المهلكة من الدنيا سالمًا ولا يريد أن يأكل من جيفها أو يكون فيها جيفة تؤكل، ولا تُراءِ الناس في شيء فإنك تفقد نفسك بينهم ولا تحصل عليهم إلا ظلالًا وخيالات؛ ولعمري ماذا ينفعك أن تمشي وراء الملك لتقيس خطواته؟

إني لأرى قومًا يعفون لحاهم ليجعلوا سبالها الطويلة حبالًا تتعلق بها النفوس الساقطة إلى السماء، وآخرين يقيسون ما بين حيطان المساجد بجباههم فلا تجد موضع شبر إلا وقد سجدوا عليه لتصير هذه الجبهة الضيقة «ذراعًا معماريًّا» … في قسمة الجنة التي عرضها السموات والأرض … اجترءوا على الله ليراهم الناس أقوياء فلا يجترئ عليهم أحد، ولا يبالون بأن الله «سيأخذهم» بذنوبهم ما دام ذلك لا يكون إلا بعد أن يأخذوا من الناس وهذه السين — سين التسويف — طويلة العمر جدًّا عند هذه الفئة وأمثالهم من الغافلين؛ فإن عمرها يبلغ ما بين الوهم والحقيقة، وما بين نعيم الدنيا وعقاب الآخرة.

فلا يَهُولنْكَ أيها الفقير المسكين من أمر الأغنياء ولا تنزل نفسك بالمهانة دونهم وأنت أعظم أجرًا؛ فإنك تفرض الله من نفسك وإن أفضلهم من أقرض ربه من دراهمه؛ وكن في الحياة السافلة ابن الموت، وإذا كنت شجاعًا فلا تبالِ آخرة الحرب ما تكون؛ واعلم أن الفقر الذي يلتوي عن طريقه كالسيف القاطع؛ إذا لم يضرب به إلا صفحًا فإنه ينكسر لا محالة ويكون حامله قد أهان أشرف ما فيه إذ نزل به دون (حده)، فلا تهن الفقر الشريف حتى ترد به على الله صالحًا نقيًّا يوضح منك بكل ضاحكة،٢ وتمتزج بطهارته ابتسامات الملائكة التي هي ثمن دموعك، ويكون لك في الخلد فجرًا أبديًّا كما يكون للمحبين نور القمر فجرًا في أول الليل.
١  كناية عن المرض بالسل.
٢  أي يجعلك مبتسمًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤