الفصل الخامس

يا لها لحظة جمدت على قلبها أيها القمر حتى كدت أحسب الزمن لا يجري، بل كدت أحسبني استحلتُ إلى قطعة ثابتة من الأبدية التي لا يدخلها شيء من الدنيا إلا ميتًا حتى الزمن نفسه.

ولكن «ثغرها البسام» لم يَدَعني أموت في شعاعه الذي يتدفق بحياة حلوة لذيذة وبموتٍ أحلى منها وألذ غير أنه لا يُميت؛ لأن الحسن يبخل على الحب بمثل هذا الموت الهنيء.

ولو كانت روح كل محب لا تُنتزَع إلا بقُبلة ولا تفيض إلا مع الابتسام ولا تجد قفل باب السماء إلا هذا الفم الوردي الرقيق، لتغير نظام القلب الإنساني، ولصارت كل نبضة من نبضاته كأنها خطوة واسعة في قطع المسافة بين الدنيا والآخرة؛ إذ يكون للحياة وقتئذ ما عهدناه من بغض الموت. ويكون للموت ما نعرفه من حب الحياة.

فلا يزال الحسن بخيلًا؛ لأن الآخرة لا تزال بعيدة، ولا يبرح الحب عذابًا؛ لأن الجمال لم يبرح في نظام الله مادة حب الحياة؛ ولو لم تكن في الأرض هذه الوجوه الجميلة لما صلُحت الأرض للحياة العاقلة ولا نشأ فيها عقل واحد يستطيع أن يجد دليلًا على وجود الله، فإن تلك الوجوه الفتانة — بما تحوي من المعاني التي تشبه في إقناعها للنفس من النظرة الأولى ما تحويه أقوى البراهين المنطقية — إنما هي في الحقيقة الصفحات الأولى من كتاب المنطق الإلهي؛ واعتبر ذلك بهؤلاء الملاحدة الذين ينكرون الخالق فإن أخبثهم إلحادًا لا يكون إلا أشد الناس بغضًا لطهارة الجمال.

لم يدعني ثغرها البسام أصعد إلى السماء في شعاعه؛ بل ألقى عليَّ ابتسامة في نظرة ضاحكة تشابه الابتسام كأن إحداهما أخت الثانية؛ فما أحاطت بقلبي حتى رأيته يذوب فيها كما يذوب السحاب الغَدِق الأسحم فيصفو عن غمامة رقيقة بيضاء.

وكأن تلك المليحة أغارتك أيها القمر، فأنت الآن تبتسم. لله منكما يا صورتَي الجمال في الأرض والسماء! وهل جعل الله لرجل من قلبين في جوفه؟

ولله ما ألطف هذا الشعاع الذي يسيل الآن على الجو رقيقًا خضِرًا كأنما تغتسل به نسمة من النسمات العطرة بعد أن استيقظت في هذا الليل ونهضت من فراشها على أغصان الورد!

ولله ما أنداه على كبدي الحري التي تغيب الشمس ويبقى فيها مع ذلك لفحة من حرِّها ومن حر أنفاس الذين تشرق عليهم، فإن هذه الكبد أمسكت في جنبي كأنها «معمل كيماوي» لتحليل تلك الأنفاس وتقدير ما فيها من الخير والشر، وما الحكمة كلها إلا ما أسفر عنه هذا التحليل.

فمن لم يدرس طبائع القلوب المتوهجة في أنفاس أهلها لا يعلم قلبه شيئًا وإن كان رأسه مكتبة من العلوم، ومتى كان القلب جاهلًا بقي الإنسان بعلومه كأنه قطعة في أداة هذه الطبيعة: كل شأنها أن تحرك بعضها وتتحرك ببعضها، وفَقَدَ السلطان الحقيقي على الطبيعة نفسها؛ لأن هذا السلطان لا يكون بالقوة التي هي غاية العلم، فالطبيعة على كل حالة أقوى، ولا يكون بالتسخير الذي هو غاية العمل، فالطبيعة حرة لا تذل، أبيَّة لا تخضع، وإن ظهرت عليها الذلة والمسكنة فذلك في نظر الإنسان واعتداده ليس غير.

وإن الهواء لا يعجب من منطاد يعلو فيه — وإن كان غاية ما انتهى إليه إختراع الإنسان — إلا إذا عجب من كل ذبابة تطير والبحر تتمخَّر فيه الجواري المنشآت كالأعلام وتثبت عليه كالمدن وتمثِّل فيه الأرض المائية التي خلقت في أذهان الإنجليز. وإن صغرى أسماكه لتكون أصلب منها على مجالدته، وأقوى على مجاهدته، فما للإنسان يلوك بين ماضغيه هذه الألفاظ التي يحاول أن يشبع منها مَعِدة الخلود في وهمه ولا تراه الطبيعة إلا من غذاء النسيان؟

السلطان الحقيقي على الطبيعة سلطان الروح؛ لأنها من الله وهذه الطبيعة أداة في يد الله، فليجعل الإنسان شفتيه مخزنًا لغويًّا مملوءًا بألفاظ العلوم؛ فإن الطبيعة لا تبالي بمدلول الحروف مهما حملها على ذلك باصطلاحه: ولكن ليجعل في قلبه علم الخير وإحالة الشر إلى الخير: فإن الطبيعة حينئذ لا يسعها إلا أن تخضع بإحساسها خضوع الإجلال لأستاذ تلامذتها وترفع إلى الله على يده تعازي المساكين كأنه الأمين على آمال القلوب، وتجعل الطبيعة هذه اليد نفسها كأنه شكر منها لله تعالى إذ أنجبت رجلًا من رجالها في الأرض.

كم من عالم لا ترى الطبيعة اندفاع الكلام العلمي من شفتيه إلا كما يرى أحدنا اندفاع أسراب الخفافيش العمياء من جانبي المغارة وقد أبرزها على إشراق الضحى صبي من الصبيان! وسيكون أكثر هذه العلوم في معاملة الله كالثروة التي يمتلكها الفقير في حلم من أحلامه (الذهبية) فيستعبد بها من شاء من مخلوقات النوم … ويمتلك ما شاء من زخارف الليل، حتى إذا جلا النور عينيه لم يستطع أن ينال بكل ذلك الغنى العريض كسرةً من الخبز يتبلَّغ بها وقد بات طاويًا؛ فإن الله لا يعامل إلا بالنية ولا يُثبت في سجل الحسنات إلا الأرقام القلبية؛ فدع هذه المدينة وهذه العلوم تنزع ما في قلوب أهل الخير من الخير فإنك لن ترى على الأرض يومئذٍ من الناس إلا حيوانات عالمة تأكل حيوانات جاهلة: وهل تحسب قوة الحيوان المفترس بإزاء ضعف ما يفترسه إلا علمًا أو معنى كالعلم بإزاء جهل أو معنى كالجهل؟

ويومئذٍ لا تبصر الطبيعة بعينها الإلهية شيئًا من الفرق بين أنفس الوحوش وأنيابها ومخالبها، وبين كتب العلماء وأيديهم وأقلامهم، تلك جميعها إنما تكون في الجهتين صماء لحرفة أدوات حيوانية هي حرفة العيش.

وأنت ترى الصورة الصغرى لهذا العالَم الحيواني في جماعة الملحدين، فإن تلك الفلسفة وذلك العلم اللذين يزعمونهما ويتنبَّلون بهما في الناس إنما يدلان على أشياء كثيرة يتداخل بعضها في بعض كالمترادفات اللغوية، ثم تراها كلها قد صارت إلى معنى واحد يدل على الحقيقة التي هي أم هذا الباب — كما يقول النحاة — وهذا المعنى الذي لا ريب فيه هو انتزاع الخير من قلوبهم المتهكمة بالله.

ولست أصدِّق أن ملحدًا يعمل لخير الناس ابتغاء الخير نفسه، فإن حدثوك بخبر من ذلك فاعلم إنما يريد به الرجل برهانًا على صحة إلحاده الإنساني … يخدع به من يقدم له الخير أو من يراه وهو يقدمه؛ فإنه لسخافته يكفر بالله ويريد أن يعمل بعض عمل الله!

وما من شيء خبيث نعتدُّه شرًّا إلا وفيه وجهة تخرج منه الخير، وهذه الجهة في الإلحاد هي الغرور والوهم، فلو أصبت إلحادًا لا غرور فيه ولا وهم فاعلم أنك أصبت عقلًا في مجنون أو جنونًا في عاقل، وليس ذلك بدعًا فإن في كل دائرة نقطة تعدها الغاية التي يرتقي إليها طرفا المحيط إذا نظرت إليهما صاعدين نحوها فإن نظرت إليهما منحدرين عنها كانت هذه النقطة عينها مبدأ السقوط ولم يكن ثمة فرق بين القوسين المنحدرين إلا في الجهة يمنةً ويسرةً، كما لا فرق بين عقل المجنون وجنون العاقل إلا في الجهة؛ لأن كليهما وبال على صاحبه، وأحمق ما يكون المجنون إذا رأيته يتعاقل!

يريد الملحد أن لا يقر بشيء يسمى فلسفة النفس أو يسمى دينًا؛ لأن الحرفين مترادفان، ثم أنت تراه يخرج لك من رأيه ما يريد أن يجعله حقيقة لهذه الفلسفة التي أنكرها … فهو يكفر بإيمانك ليجعلك تؤمن بكفره، وكأنه يقول لك إنما نحن على الأرض فانظر في الأرض واكسر هذا اللولب الذي تتحرك به عيناك إلى جهة السماء حتى يبقى علم رأسك فيما تحت قدميك، وإن سالت عليك السماء بعنصر الحياة (الماء) فلا تقل هذا من واهب الحياة ولا من رب السماء ومهلا قليلًا، فإن الأرض ستجمعه في أنهارها وتُنبطه من عيونها فتنبع لك الحياة من الأرض كما تنشق المادة من المادة. ثم يذوب هذا الكلام الرقيق في حلقه فيبلعه مع ريقه ويسكت … وكأن بصره الزائغ يقول لك: أما الهواء فإن لم تستطع أن تتنفسه من الأرض ولم تستطع الأرض أن ترفعه لك من تحت قدميك فلا ندحة لك في هذا من أن تترك منخريك يُعدان في المؤمنين برب السماء … ويكونان فيك كما تكون الأعضاء الأثرية ولو حكمًا واعتبارًا، وإن كان لك ضمير شريف طاهر كأنه مرآة إلهية وُضعت في الأصل بين جنبي آدم لتمثل لروحه السماء وجمالها متى أخرج من الجنة، فاعتده رأس ما ورثت من داء عن آبائك الأولين؛ لأنه لا برهان عندهم على فساد الإيمان أقوى من هذا الضعف الرحيم في نزعة القلب. ولعمري إنه لبرهان سديد في الغاية ولا أبدع منه في علم المنطق لأن فيه قوة الانعكاس من نفسه، فلا يرسلونه حتى يرد عليهم كأنه جواب أنفسهم على اعتراض ألسنتهم؛ وأي برهان أقوى على فساد الإلحاد من إرادته أن يكون في الملحد عقل إنسان وقلب وحش؟

ثم كأنه يقول لك: إن العلم أثبت ونَفَى، وإن الدين نفَى وأثبت فلا تُمايل بينهما مترددًا وخُذ ودع ولكن من العلم وحده، فإن شيئًا تفهمه خير من شيء لا تفهمه، وكل ما أبى العلم فلا ترضه لئلا تُرمى بالجهل الاصطلاحي … وإذا كنت فقيرًا لا تملك الملايين وكنت اشتراكيًّا فلا تصدق أن أحدًا يملكها، لأن الاشتراكية تأبى ذلك، وكن دائمًا تنظر ولا تصدق … وإذا رأيت الإنسان لا يزال عاجزًا إلى اليوم عن تعليل أشياء كثيرة من البسائط التي تمتحن بها الطبيعة أطفالها ممن نسميهم العلماء، فاعلم أن هذا الإنسان لا يزال ناقصًا في رأي العلم وسيتم يومًا ما، فحسبك أن تكفر الآن كفرًا ناقصًا … وإياك من الغرور وأن تحسب أن نقص الكفر جاء من كون الإيمان كاملًا بطبيعته؛ لأنه شيء أزلي في النفس، بل هو جاء من نقص العلم أو من نقص الإنسان العالم، فمتى تم هذا يتم ذلك لا محالة فيكون أكبر عالم في الأرض أكبر كافر في الأرض … ونحن لا نعرف من أمر المستقبل شيئًا ولكننا نعرف أن العلم سيبلغ تمامه في المستقبل …

لله منكِ أيتها الفئة الباغية! العلم الذي لا يَخلق ذبابة ولا أحقر من ذبابة ولكنه يجدها فيتفلسف ويقول لنا: كيف خلقت؟ هو الذي يريدكم على أن تكذبوا بالخالق.

والعلم الذي ينتهي في كل شيء إلى حد من الجهل يريد أن يجعل جهلكم علمًا.

بل العلم الذي هو بجملته تفسير علمي لنظام الكون يريد أن يجعل القلب الذي هو سرُّ الإنسان بلا نظام.

كلا إن العلم لا يريد ذلك ولا العلماء أرادوه، ولكن قومًا أرادوا أن يشاركوا الله في أنفسهم فعملوا على أن يضعفوا قلوبهم لتقوى عقولهم، وحسبوا أنهم أفلحوا وما دروا أن القوة انصرفت عن القلب والعقل معًا وصارت قوة علمية كالقوة التي في كتب المنطق لا تقوم لأضعف ما في الباطل وهي أسطر وحروف ولا يقوم لها أقوى ما في الحق وهي أغراض وأهواء، فما يزال الباطل لها وعليها.

وقد زعموا أنهم أنشطوا الفكر من عِقاله فكان من ذلك ما انتهوا إليه، وكأنهم يقولون: الدين الفلسفي هو في الحقيقة الرجل الحر فما بالهم إذن ينسون أن هذه الكلمة عينها تخرج لهم لو عقلوا أن الحرية هي في الحقيقة فلسفة الدين؟

إن المتوحشين يُقِرُّون بإله ولكنهم يعملون على أن يكونوا آلهته كما أنه إلههم، ويحاولون في كل شيء أن يتعبدوه بما يُخيل لهم أنه من السحر؛ والملحدون لا يبتغون ذلك فحسب١ ولكنهم يريدون أن يمحوه بَتَّة؛ أفليس هذا منتهى التوحش في القياس؟
ليت القوم لم يكفروا بالنطق فيما لا يعرفون فقد كانوا يؤمنون بالصمت، وإن السكوت عن الخوض في أمر الغيب ليكاد يكون أفضل بحث فيه؛ على أننا نرى الكلام٢ أصل البلاء، فإن من أهل الأديان من هم شر عليها من الكافرين بها وسواء على الله أكان فاسد الفكر صاحب رأي في الدين أم صاحب رأي في الإلحاد.

ولو نظرتَ إلى فِرَق الجدليين المختلفة على كثرتها وتعدد مذاهبها لرأيت أن كل فرقة هي في الحقيقة عقل رجل ذكي — استهوى أصحاب فرقته — لا دين رجل عاقل؛ لأن الدين لا يتجزأ؛ إذ هو عبادة القلب — الذي لا يدل على وحدانية الله شيء مثله — لله الواحد الذي ليس كمثله شيء؛ ولكن العقل لا يترك هذا القلب لنفسه، بل يعده بما فيه من الحس والشعور كأنه رأس ماله في التجارة العلمية، وكثيرًا ما يكون أمرهما كالتاجر الذي يخسر ماله ثم يعمد إلى ضبط حسابه بعد خسارته فلا يرد عليه الحساب شيئًا إلا تفصيل ما خسره بما يشبه في التحسر واللهفة أن يكون خسارة ثانية!

الفرق بعيد بين أن تكون القوة آتية للقلب من العقل، وبين أن تكون آتية للعقل من القلب، فإن تسلُّط أحدهما على الآخر يُضعف أكثر خواصه، فالعقل موضع الخطأ والصواب؛ لأنه آلتهما جميعًا، وأظهر خواصه الشك؛ لأنه الخاصية التي يمكن في العقل أن توفق بين الخطأ والصواب قبل أن يتزايل إثناهما فيتباينا؛ وهذه الصناعة العقلية كثيرًا ما يُقتَضى لها إيجادُ المعضلات التي لا تحل كي تُلقي للعقل شغلًا طويلًا ثم يحكم عليها آخر الأمر حكمًا منطقيًّا أنها لا تحل … وكثيرًا ما تطلب البرهان على شيء ما فإذا أصابته (أي: البرهان) جعلته شيئًا آخر وطلبت عليه برهانًا … وهلم جرًّا حتى يُقْطَع بها فتصل إلى ما لا برهان عليه.

والخطيئة إنما تكون في العقل بديًّا، فتخلَق فكرًا، ثم تنحدر مع القوة إلى القلب كأنها قوة له، ثم تقع وتتمثل وفيها سخط القلب ورضى العقل غالبًا أو رضاهما معًا في القليل النادر؛ وهذا السخط القلبي هو الذي يترك في الرأس أثرًا من ذكراها، وهو الذي يسميه بعض الناس ندمًا، ويسميه بعضهم صوت الضمير.

ذلك أمر العقل، أما القلب فهو موضع الحقيقة السماوية التي تظهر بين الناس في هيئاتها فيسمونها المحبة، وبين الملائكة فيسمونها الإنسانية، وعند الله فيسميها الإيمان، وما كان في القلب غير ذلك فهو من تسلط العقل واستبداده.

وأنت لا ترى أسعد الناس وأهنأهم بسعادته إلا ذلك الذي يُجمع قلبه وعقله أن لا يَصدر أحدهما عن الآخر إلا راضيًا مرضيًّا فترى في آثار عقله طهارة القلب وإيمانه، وفي آثار قلبه إجادة العقل وإحسانه: ولو كُشف ذلك عن بواطن الأنبياء لتجلَّت لعينيك هذه الحقيقة ماثلة.

فمن تُرى هذا الملحد الذي يَحدس لك بعقله وكأنما يحرك يده بعينيك في شبر من الماء، ويحاول أن يوهمك أنه هزَّ السماء وأنت ترى خيال السماء؟ ليخلق الناس إن استطاع بلا قلوب، فإنه سيجدهم لا محالة بلا إيمان؛ وإلا فليتركهم فإن في العالم غير صناعة العقل أشياء كثيرة، واليوم الذي يكون فيه كل الناس عقلاء في الرأي يكون كل الناس مجانين في الحقيقة.

ليس الفرق النظري بين المؤمن والملحد إلا في تسمية جهل العقل بما وراء الطبيعة، وكل ما تشعب من ذلك فإنما هو براهين علمية. على صحة تسمية هذا الجهل …

أيها الملحدون: أنا لا أستطيع أن أتعزى بالعقل؛ لأنه هو الذي يجعل النازلة لا تقبل العزاء؛ بل المصيبة لا تكون مصيبة إلا حين تكون عقلية، فمتى وقعت مرت كأنها حادثة مألوفة تجيء بالنسيان أو يذهب بها النسيان.

وأنا لا أستطيع أن أعرف نفسي مركبة على هذا الوجه المعجز الدقيق ثم أتوهم أنها خارجة من عدم مطلق إلى عدم مطلق، فإن الذي يتصور الوجود الجاري على سنن ثابتة كأنه بين عدمين هو ذلك المجنون الذي يتوهم الشجرة مخلوقة في ظلها ويتصور ظلها قطعة باقية في النهار من ظلمة الليل الغابر.

وأنا لا أستطيع أن أقول عن نفسي: «أنا» لأحقق وجودها وهي بين ماضِغِي العدم يرددها حينًا ثم لا شيء منها إلا توُّهُم أنها غذاء ما لا يتغذى.

وأنا لا أستطيع أن أراني في وهمكم كأنني حلم عقلي تهجس به الفلسفة مع أن قلبي فيما أحِس يقظة حياة مجسمة.

وأنا لا أستطيع أن أصدق أن حياتي كلها بما فيها من خير وشر لي وعلي تكون في مَرَدِّ الأمر كالذي يرسل في الهواء صرخة مزعجة ليعرف بعدها أنه سكت وكان ساكتًا قبل ذلك!

وأنا أيها الملحدون لا أستطيع أن أسخر من نفسي فأرى أن لا نفس لي، ولا أريد أن أكون في حملها كالأعمى الذي يحمل الكتاب حتى يجد بصيرًا يقرأ له، ولا أجهل إلى الحد الذي يُقِرُّ فيه علمكم أن الحياة معناها الموت — لأنه غايتها المدرَكة — ثم يأبى أن يطَّرد هذا التعبير فلا يستحي أن يجزم قطعًا بأنه لا معنى للموت إلا الموت.

اذهبوا أيها الملحدون إلى أجهل الناس من العامة وأشباه العامة واقرءوا الإيمان الإلهي في كتاب قلبه بعد أن تجردوه من لغة اللسان التي شأنها المبالغة والتمثيل لما لا يُتصور بما يُتصور؛ فإنكم تُحِسون من جهله حين يلتقي بعلمكم ما تحسه الرئة الفاسدة من نفحات النسيم الذي يترامى في أحضان الزهر، وإنكم ستجدون في كلامه معاني سماوية كما تجدوا في الطبيعة نفسها؛ ولا جرم أنكم تصدقون حينئذ ولكن لتجدون من التصديق مادة عقلية للشك والإنكار، ثم لتصنعوا من كلامه اللدِّ وليمة جديدة للسخرية الجائعة التي لم تشبعها الكتب المقدسة كلها ولا آراء الحكماء ولا آمال الإنسانية، استحال ذلك فيها من السرف والضراوة إلى غذاء جعلها قوية وإلى قوة جعلتها أشد نهمًا إلى الغذاء.

وإذا مس أحدكم الضر لم يرَ بأسًا أن يفكر في الله وأن يرفع إلى السماء عينًا لا تثبت في محجريها من الزيغ والقلق كأنه يتكلم بها في ترددها وانقلابها فيقول نعم ولا، ولا ونعم؛ وكلما أراد أن يغمضها رأى في باطنه قوة تفتحها برغمه لتريه السماء السماء، بل لتريه برهان السماء؛ فلا يعود إلى إلحاده إلا وهو مؤمن بأنه ملحد وشاكٍ في أنه مؤمن بذلك؛ ولولا هذا الشك، بل ولولا صناعة العقل لكان في كل شر يصيب أحد الملحدين خير للإيمان كثير.

وليت شعري ماذا يراك الملحد أيها القمر؟ إنه لا موضع في قلبه للحب؛ لأن الحب مؤمن، ولا مظهر في نفسه للجمال؛ لأنها مُظلمة يسطع فيها جمال الشمس ولا يجاوز في عينه منظر جمرة تلتهب أو قرص من السرجين يشتعل؛٣ وهو في حالة لا تعرف هناء الفكر حتى يفكر في الهناء؛ بل هو كعالم التشريح: ينتظر كل يوم من القدر جثة هامدة ليخرج منها برهانًا على حقيقة في علمه أو حقيقة لبرهان، فما أنت أيها القمر في رأي عينه على ما أنت إلا حجر …

أيها القمر، كن لهم ما وصفوك، حتى إذا كفر بالله ملحد ألقمه الله منك (حجرًا) وكنت للطبيعة وجه الحقيقة والإيمان كما أنت وجه الحب والجمال.

١  أي فقط.
٢  يريد علم الكلام.
٣  السرجين: روث البهائم، وهي عند الفلاحين في مصر أخو الفحم الحجري عند الإنجليز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤