الفصل السادس

ولكن يا قمر السماء، ويا مثال النية البيضاء، بل يا شبيه كلمة الرضى المبتسمة على شفتي الحسناء، هل تغضب الطبيعة على قوم من أهلها وهي كالطفل الضاحك أبدًا؟ وهل تعرف من الناس مؤمنين وملحدين وهي بجملتها شريعة الإيمان؟

أتعرف الحسناء الفاتنة من عسى أن يكون لها مبغضًا، وإن عرفته فهل تُراها مستيقنة معنى البغض كما يتحققه ذلك الخبيث من نفسه، وهي هي التي يُلقي عليها الحب صلاته وسلامه، ويتخذ الحسنُ من ألحاظها إشارته وكلامه، ولا يقابلها الغرامُ أينما التفتت في الناس إلا بدمعة أو ابتسامة؟

يقول الملحدون: إن الطبيعة الجميلة تغضب وتحنق؛ لأنهم لا يريدونها إلا خادمة فلا ينظرون إلى جمالها، بل إلى فعالها، ويقول المؤمنون الذين يرون في كل شيء مظهرًا للإيمان: إن غضب الجميل نوع من جماله، فلتغضب الطبيعة ولتتورد الوجنات وليتطاير السحر من اللحظات ولينبعث الصوت الصارخ الرهيب من الروح بدون أن يصفه القلب، ليكن ذلك وما أشبه ذلك من روعة الغضب، فإننا نريد أن نبصر الحسن كيف يتحول في غضبه جليلًا بديعًا، كما رأيناه في الرضى لينًا وديعًا، وكيف تظهر فيه الروح قلقة لا تطمئن، كما ظهر فيه القلب يتأوه أو يئن، ونريد أن نرى ولو مرة واحدة انطباق صفتين جميلتين لم يفارقهما الابتسام، فإن ذلك منهما ولا غرو ابتسام جديد.

كل ما في الطبيعة جميل، غير أن الإنسان لم يتسع بعد في درس علم الجمال بمقدار ما يسع هذا العلم الجميل، فإن الأولين تهيبوا الطبيعة فعبدوها ولم يَمسوها ولا بالفكر، ولم يقرءوا من أجزاء علم الجمال على كثرتها إلا جزءًا واحدًا أصابوه في أصل الخلقة وهو المرأة، وجاء المتأخرون فابتذلوا الطبيعة حتى ملُّوها، وكأنما أخذوها عن أوليَّتهم كما يأخذ القصاب بقرة البرهمي من المعبد إلى المذبح فلم يبقَ في أيديهم من أجزاء علم الجمال إلا الجزء الذي أصابوه في أصل الخلقة وهو المرأة.

بَيد أنهم تفطنوا لمعانٍ في هذا الجزء لم يتنبه لها آباؤهم الأولون فقليلًا ما يكشفون عن حقائقها الطبيعية في أجزاء الجمال مما اشتملت عليه السماء والأرض تبيينًا لما يلفتهم إليه الحب من المعاني المستغلقة في المرأة.

وكما أن العصفور الصغير في ريشه اللين يكاد لخفته يكون روحَ الهواء الذي يحيط بالأرض، كذلك تكاد المرأة الجميلة في وَشْيِها الناعم تكون روحَ العالم الذي تحيط به الأرض؛ وكل شيء في الطبيعة يجعله الناس من المسائل النظرية التي يختلفون فيها؛ لأنها موضع الرأي، إلا جمال المرأة الرائعة الجمال، فهو وحده قاعدة التسليم في القلب الإنساني على الإطلاق، ويكاد الوجه الجميل يكون في بعض معانيه وجهًا حسنًا للتوفيق بين الإيمان والإلحاد.

والفكر نفسه يكون في كثير من الأشياء الجميلة أجمل منها لأنه روحها ولأنه غير محدود في نفسه بالنظر ولا بالصفة الجميلة التي يحدُّها النظر، إلا الفكر في الحبيبة الحسناء، فإنها دائمًا أجمل منه؛ لأنها روحه ولأن هذا الفكر مهما اتسع لا يجد نفسه إلا محدودًا بجمالها.

فيا سيداتي الجميلات، يا قصائد ديوان الغزل الإنساني، يا معاني شعر الجمال الإلهي، يا ورقات الورد التي نُقلت من الجنة إلى الأرض لتنفح برائحتها، ما غلبتن الطبيعة التي لا تُغلب، وإنما ظهرتُن على الإنسان الضعيف الذي طغى على الطبيعة وتوهم نفسه أشد منها قوة فرحمته من قوتها السماوية وتسلطت عليه منكن بأضعف منه، بل بالتنهد والدمعة والابتسامة من المرأة الجميلة التي ضعفُها إنساني ولكنه على ذلك من قوة الطبيعة، وإن ما رأيت كثلاثة أشياء لا تضبط إذا اندفقت ولا ترَدُّ إذا اندفعت: موجة البحر المضطرب، ودمعة الحزين اليائس، وإرادة الحبيبة الجميلة!

وهذه الإرادة هي المعنى الذي ينتظم الثلاثة فهو على انفراده بالثلاثة جميعًا؛ لأن علم العدد في عُرف الطبيعة يناقض أحيانًا العلم الذي نعرفه مما تتكرر فيه الوحدة كلما تكرر العدد، فلا يمكن في (حسابنا) أن يكون الاثنان واحدًا؛ لأنهما اثنان ولكن الطبيعة في حساب الحب مثلًا تعدُّ الحبيبين واحدًا، ولا تعدهما كذلك إلا لأنهما اثنان!

الطبيعة جميلة، بل هي فوق أن تكون جميلة؛ لأن هذه اللفظة (الجمال) واحدة من الاصطلاحات المبهمة التي تمثل تصور الإنسان اللغوي، فقد تعاون أفراد هذا الإنسان الضعيف على أن يخلقوا الطبيعة خلقة معنوية فصوروها باللغة وضبطوها على عِظمها كما يضبط تاجر اللؤلؤ حساب ما في حقيبته الصغيرة لا حساب ما في البحار وجرَوا في أكثر المعاني السامية هذا المجرى. فربَّ معنى تجده ملء السموات والأرض وما تجد له من صفة تحَدُّ إلا وهي حد لصفة أخرى، ومع ذلك تراهم يدمِجونه في لفظة واحدة مُقتَضبة لا ليعرف بها معرفة صحيحة تَصفه كما هو! ولكن ليؤثر التأثير الذي يقوم في الإنسان مقام المعرفة الصحيحة، فإن الناس يعيشون بهذا التأثير في معظم أمورهم ويعتدُّونه علمًا وإحاطة.

وهذه اللغة الناقصة التي تصوِّر الطبيعة وتحدها، هي في ذلك كالعين التي ترى الطبيعة لتصفها باللغة — وما اللغة في الحقيقة إلا نظر عقلي بل هي ألفاظ النظر — وما العين من الطبيعة إلا كالمرآة التي تقابلك بالشيء كما هو لتفهمه أنت كما تريد.

فلفظ «الجمال» مما يؤثر في النفوس، وقد يصحُّ أن يكون وصفًا تامًّا لشيء معين كجمال الحسناء، فإن العين تعرِّفها بديًا بأوصافها ثم يعرِّفها القلب بمعانيها، ثم يعرِّفها اللسان فيقول إنها جميلة، فتلبسها اللفظة لا تضيق عنها ولا تقصُر؛ لأنها فيها مرونة النظر والإحساس معًا، ولكن ذلك اللفظ بعينه لا يلبس الطبيعة ولا يصف للنفس جمالها بل يكون منه كقطرة الماء في البحر: تجري فيه ويجري بها وليست من صفته ولا تكوينه في شيء إلا في القياس المنطقي، وأهون بالإنسان ومنطقه في حقائق الطبيعة.

ومن البلية — ولا بلية مثلها — أن الإنسان لا ينفك يحمل في رأسه فكرًا ماديًّا هو حقيقة عيشه في هذه الدنيا، فإذا عَرَض له شيء من جمال الطبيعة أسرع هذا الفكر المبتذل فملأ العين وأطل منها فلا تنفذ صفة من صفات الجمال الطبيعي إلا بسلطان منه، فيرى هذا الإنسان الشيء الجميل وكأنه يحدِّث عنه نفسه الخرساء بأصابع الأعمى الذي يتعرف الأشياء بلمسها، وعلى مقدار ما في الإنسان من هذا الفكر القبيح يكون مقدار قبح الطبيعة الجميلة في عينيه.

وكأي من رجل يمر بين الرياض والبساتين التي هي غزَل الأرض ولا يقدر ما فيها من الجمال إلا بمقادير أثمانها … وآخر يرتقي الجبل الوَعر الأشم الذي هو حكمة الشعر الطبيعي ولا يعيبه إلا بأوعاره وأحجاره التي لا تلائم دَعته ورفاهته وإن كانت هي في نفسها محاسن الجبل، وثالث يرى البحر الذي هو فكر الطبيعة السيال فيفرَقُ حتى كأنه يرى الموت يتدحرج في أمواجه ليختطفه من الساحل؛ وهكذا ترى الفكر المادي يلبس كل شيء بذلة من بذل المصانع والحوانيت أو كفنًا من أكفان القبور أو ثوبًا من أثواب الحداد! وأحسب أن التاجر المفلِس إذا تأمل في أوراق الوردة الناضرة التي تشبه أن تكون تاريخ ساعة خجل في خد العذراء فإنه لا يرى فيها إلا أرقام دفاتره التي هي تاريخ النكبات والخراب!

فمن أين يجتلي الإنسان جمال الطبيعة وأنى له ذلك وقد مسخها هذا المسخ كله ولم يأخذها من يد الله كما وضعها، ولكن تناولها من فكره كما صنعها، فجاءه بها من ناحية همومه كأنها همٌّ جديد أو ذكرى همٍّ قديم؟

إذا أردت أيها الإنسان أن ترى جمال شيء من الطبيعة فأجعل عينك أقرب إليه من فكرك، بل انزع فكرك هذا، إلا الخفيف منه كما تنضو ثيابك إذا طلبت السباحة في البحر، وإلا الطاهر منه كما تخلع نعليك إذا أردت الصلاة في المسجد، وإلا الصافي منه كما تطرح شغل قلبك إذا وقفت بين يدي الله، فإن أنت سبحت بثيابك فإنما تمثل الغرق؛ وإن دخلت المسجد بنعليك النجستين فإنما تمثل الإلحاد، وإن واجهت ربك وأنت مشغول بنفسك عنه فإنما تمثل نفاق الشيطان؛ وإن نظرت إلى الطبيعة من فكرك المادي فإنما تمثل العمى الطبيعي …

أين الإنسان الذي يرى في كل شيء من الطبيعة أشعة تبتسم كأنها تحييه فيبتسم لها كأنه يرد التحية، فلا يزال دهره مضيئًا كذلك بأشعة ابتسامة وإن غمرته ظلمات الدنيا، كما لا تزال الحباحِبُ مشتعلة بنارها الإلهية وهي حَلَك الظلام؟

أين عاشق الطبيعة بين هؤلاء الناس؟ أين ينبوع الضياء الحي الذي تراه لسعة نفسه وترامي ابتسامه متلألئًا في طرفي السماء والأرض كأنه منفجر منهما جميعًا، يأخذ من الله فيبتسم، ويأخذ من الناس فيبتسم، ويتناول كل شيء فيستشعر منه تَزَنُّح الطرب كأن فيه بعض الرَّجفات (الاهتزازات) الكهربائية التي تحدثها نارُ الفجر الشمالي الجميلة على ما يصفها الطبيعيون؟

أين الإنسان الذي لا تنحدر من أذاته دمعةُ عين، فيكون ابتسامًا في أفواه الناس كيفما طلع عليهم؛ لأن الطبيعة كلها ابتسام في فمه. ويراه المبتئس حليفُ الحزن الأحمق الذي لم يُفد من علم الحزن إلا فلسفة الحماقة — كأنه لإشراقه وانبساطه وترفعه ظلُّ مَلك يتنقل على الأرض بتنقل الملك في السماء، ويتوهمه لا يحزن ولا يبكي حتى كأن طينته التي خلق منها جُبلت من النور الممزوج بدموع الندى الخالد فلم تعد السماء تسبب لها من حوادث الدهر دمعة؛ لأن فيها دموعها السماوية، ولا يدري فيلسوف الحزن الأحمق أن ذلك الرجل الذي يحسبه ظل ملك إنما هو إنسان يحزن ويبكي كسائر الناس وربما انفجر باكيًا ولكن بكاءه مَعان من التسليم لله تقطر في بعض ابتساماته كما تنبثق دموع الفرح من غلبة السرور.

والمرء إذا استطاع أن يتحد بقضاء الله وقدره فلا يتسخط أحدهما ولا يتبرم بأمر الله فقد استطاع بذلك أن يبتسم الابتسام الإلهي الذي يكون علامة نبوته الإنسانية في هذه الطبيعة.

إن الرجل من علماء الفلك حين يجد في تعرف أسرار السماء واكتشاف آثار الله منها يرى نفسه كأنه يعيش في الأزل الذي لا فناء له، وكأنه في حياته بصيصًا من أضواء النجوم يصله بها وكأن مرصده فلك لكوكب نفسه؛ وكذلك يرى عالم الجمال الطبيعي الذي تَهبه الطبيعة حاسة سادسة من الابتسام أنه يعيش في ربيع دائم كأنما هو زهرة تغتذي بنور السماء فلا تبرح ناضرة ما بقيت في السماء لمعة نور، وهذا رجل قد بذل مقادته لله طائعًا وتوكل عليه راغبًا فترى تسليمه لله قد جعله الله فيه قوة لينة كطبيعة اللجة التي تصدم كل شيء ولا يكسرها شيء؛ لأنه ليس قوامها من الصلابة المادية التي تنكسر وإنما شدتها من اجتماعها واندفاعها كصلابة الثقة التي تكون من اندفاع العقل بالإرادة القوية؛ وآية ذلك أنه إذا رَفع إليك عينه رأيت فيها نظرة مستطيلة كأنها آتية من السماء، وترى لها عليك سلطانًا كأنها نفس قوية لا نظرة ضعيفة؛ إذ تنبعث من نفسه النقية إلى عينه الصافية فلا يعترضها إلا القلب المطمئن الضاحك الذي هو في جسم عالم الجمال كالطفل الجميل في بيت السعداء: تأتي به السعادة مرة ويأتي هو بها في كل مرة، وتلك النظرة إنما هي نبوغ في بعض العيون كما أن العقول نبوغًا بيد أن الطبيعة لا نظفر بها إلا في الندرة كما يظفر الزمن بجبابرة العقول الذين ينصبهم حدودًا للتاريخ الإنساني، فربما غَبَرت الأجيال المتطاولة مجنونة بهذا العارض الزمني حتى تصيب لها عقلًا من عقول التاريخ، وربما عبرت الطبيعة أجيالًا متطاولة وهي تشكو عمى الناس عن جمالها حتى تأنس في أحدهم عينًا من عيون الجمال.

ولقد يحسب الأجلاف من غلاظ الأكباد أن الطبيعة مبتذلة ويجدون لها غِلظة في أنفسهم كأنهم ينظرون إليها من أكبادهم، وكأن ضلالهم ليست كل شيء فيها فحيثما انكفأوا لا يرون إلا طيفًا من الموت تنْفِر في وجهه ظنون الفزع، وإذا لفتَّهم إلى الجمال الرائع لفَتوك منه إلى قبح يعرفونه ولا تعرفه، لأنك تعتبر شكل الصفة الجميلة وهم يعتبرون شكل المادة، كأنهم يريدون أن ينشقوا ريح الزهرة من طينها، وكأن الأشياء الجميلة عندهم ألفاظ من لغو الكلام تتألف من الحروف التي تدل بتركيبها على المعاني ولكن لا معنى لحروفها تلك؛ إذ هي مؤلفة على نسق غير الذي يعهدونه من نسق الصناعة المادية، فيا ويح هؤلاء وأولى لهم ثم أولى! أيريدون أن يستعين الله بقوم من أهل الحرف والصناعات على إصلاح ما خلق وتنبسق ما ابتدع ليجدوا فيه الجمال الذي يصلح لأوهامهم، ويكافئ بمعانيه مقادير أفهامهم؟

لتنطفئ الشمس إذن كلما رمدت عين إنسان ولينسدل الليل ثانية كلما أراد فاسق أن يتلصص في مشرق الضحى، ولينهمر الغيث كلما جفَّت لهاة من الظمأ في الصحراء، ولكن كل نهار على ما تشاؤه البلد الرعناء يطلع بالصباح عليها ربيعًا، وينقلب في الظهيرة شتاء، ويَحول في الأصيل خريفًا، ويرجع في العشية صيفًا، وإن انقرض الناس بهذه الحياة الذريعة كأنهم يوم يَرَوْنها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها! ويَحكم أيها القوم! ألا يمكن أن تكون أذواقكم سقيمة قبل أن يكون لكم هذا السقم في الطبيعة؟ وليت شعري ما أمركم والانحدار فإذا كنتم في الأسفل ثلجتم بذلك ورأيتم أنه لا أسفل منه؛ إذ ليس لكم بعده منحدر فجعلتموه في نفسه مرتقى، ولم ترفعوا أبصاركم إلى الأعلى لتستيقنوا أنكم في أسفل سافلين وأن سبيلكم الصعود لا ما أنتم فيه من أمركم!

ليس جمال الطبيعة إرادة ولا شهوة، وإن هذه الساعة الفلكية الكبرى (السماء) لا تُقدم الوقت ولا تُؤخره من أجلنا، فإنه لا ننتهي إليها من هذا العالم كله إلا الألحاظ؛ ولو اجتمع أهل الأرض في صعيدٍ واحدٍ وصوبوا ألحاظهم جميعًا إلى ذرة من الهباء ما تحركت الذرة ولا قدمها ذلك ولا أخرها.

ومصادفات الأقدار المضطربة التي لا تأخذ من الناس في ناحية معينة بل تتاح للسعداء والأشقياء جميعًا من عالم المجهول بسبب مجهول في وقت مجهول — إنما هي مصادفات في وهم ذلك الإنسان لا يريد أن يرتقب من الغيب حقيقة محزنة كما ينظر منه النعمة السابغة، وهي في ذاتها حقائق ثابتة تجري سواء على سَنن مُطرد؛ ولما كان الإنسان لا يرجوها إلا خائفًا ويخاف منها إلا رجيًّا فهو بطبيعته يصبغها صبغة من الحزن ما دامت في غيبها حتى تقع؛ فلا يجعل هذا الإنسان وهمه قاعدة للحقيقة، ولا يُرَيَن أن حقائق الجمال الطبيعي مما يكون طباقًا لأوهام كل نفس؛ فإن ذلك تغيير للنفس لا للطبيعة.

وعندي أنه لا فرق بين الملحد الكفور الذي لا يحب حقيقة الموت إلا موت الحقيقة فيظل في قياس وهمه عائشًا ما عاش كأنه بدن ميت لا نفس فيه، وبين ذلك الجلف الذي لا يدرك أسرار الجمال الطبيعي فتظل هذه الطبيعة في قياس وهمه بالغة ما بلغت من الحسن كأنها دينار زائف جديد يُعجب من رونقه ويُعجب من كساده …

الخادم يفزع من غضب سيده إذا صاح به الصيحة فيستطار لها، ولكن المطمئن المفكر إذا دارت في مسمعه هذه الصيحة أصغى منها لنغمة موسيقية تلبس معنى نفسيًّا خاصًّا لا جمال له إلا في الغضب؛ فاطمئن أيها الإنسان قبل أن تستطلع جمال الطبيعة وتأملها بالعين التي لم تستحِل من فكرك المادي إلى ذاكرة فليس فيها إلا النظر البحت تصبه النفس من شعاعها؛ فإنك حينئذ تشهد الطبيعة كلها في نفسك على النحو الذي يريك هذه السماء كلها في النهر الصافي، وتحسُّ من السرور والابتهاج والعظمة كأن هذا الفكر الإلهي الكبير الذي نسميه الطبيعة قد شملك أو اشتملت عليه فيوحي إليك أنك مخلوق لغرض أسمى من تلويث الأرض بفضلات أمعائك. ومناوأة الناس فيما لا حقيقة له إلا إيجاد هذه الفضلات وإخراجها، وإن كانت هذه الحقيقة القذرة من كثرة ما يسترها الإنسان به من الأسباب المختلفة كالفضلات نفسها في جوف هذا الجسم الحي.

حينئذ وقد فاض الجمال على نفسك ترى أنك أنت أصبحت قطعة من هذا الجمال، وأنه لم يكن يحول بينك وبين الاتحاد به إلا نفسك التي غيرتها أوهامك حتى لم تعد نفسًا من صنعة الله بل من صنعتك وصنعة الحوادث، وحتى صارت كأنها كتلة شر تَفْضُل الحيوان الأعجم بالحيلة العاقلة ويفضلها بالحول الطائل فيما عدا ذلك مما هو من طبع النفس الحيوانية.

فلولا النفوس التي تدرك قيمة الجمال ما وجدت على الأرض نفوس تدرك قيمة الخير؛ وهل هذا الخير إلا بعض جمال النفس؟

لله أنت أيتها الطبيعة الجميلة، ولله جمالك الفتان الذي يترك من حسنة بقية في كل عين تُحدق إليه فتجعل كل شيء تصادفه جميلًا، كما يثبت المرء عينه في ساطع من النور هُنيهة ثم يلتفت يمنة ويسرة فإذا كل شيء فيه شعاع من ذلك النور.

ولله ابتسامك الذي ترتوي منه النفوس ويخلق منه الحب والخير، وأراه في كل زهرة تفوح، وفي كل نجم يلوح، وفي هذا القمر الذي يتصبى الروح كأنه طلعة حبيبة الروح؛ وأراه في غير ذلك من صفات الجمال التي تفيض عليها هذه النعمة السماوية لتنطق منها بأبلغ ما تفهمه النفوس من المعاني كما تنطق الحسناء حين تبتسم وهي لم تتكلم.

ولكن آه أيها القمر! إن لهذا الابتسام روحًا هي الخالص النقي منه، بل الذي لا يقال في غيره خالص أو نقي، فإذا أردت أن تشهد روح الابتسام يتلألأ في غرتك فانظر إلى تلك التي لم تلبس من حريرك الأبيض غانية أجمل منها في ليلة من ليالي الحب، وتأمل بربك أيها القمر كيف تتحرك بروح الابتسام في شفتيها الرقيقتين حياة الهوى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤