الفصل الثاني

النصف الآخر من الأرض

ورثت عن أبي كراهية لحاكم مصر والإنجليز، ولم أكن أنجذب إلا لرجل مثل أبي، وفي كلية الطب كان أول حب لرجل قرر أن يطرد الإنجليز من مصر. لكنه لم يطرد الإنجليز، وطاردته الحكومة حتى مات في السجن.

وأصبح للسجن في ذهني علاقة بالحب، وكلما أسمع عن رجل مسجون أو دخل السجن يومًا أحس الخفقات تحت ضلوعي.

حين عدت من السفر وجدت التراب فوق مكتبي، ومن فوق الجدار صورة الحاكم الضخمة داخل إطار ذهبي كبير، وأصبح قلبي ثقيلًا، ولا أدخل مكتبي إلا وأشعر بالغربة.

وفي ربيع عام ١٩٦٤ التقينا، أنا وهو وحدنا، وسألته من أين جاء. قال من السجن. وضحكنا وملأنا صدورنا بهواء المقطم وذرات الغبار، وتزوجنا دون أن أشتري ملابس جديدة، واشترينا ثوبًا جديدًا لطفلتي ارتدته في يوم العيد، وعُدنا إلى البيت نحمل كعكة كبيرة.

وفي سكون الليل وضعت رأسي على صدره وأنهيت غربتي، لكن الصفارات في الشارع ظلت تنطلق من عربات البوليس، ورجال بالهراوات يطاردون التلاميذ، وعساكر واقفون على كل شبر من الشارع كالأعمدة الخشبية، ظهورهم للناس ووجوههم للحائط.

كنا نسير في الشارع متعانقين، والعيون ترمقنا بكراهية، علامات الحب بين الناس مكروهة، ولا ينامون إلا في بحر من الشك، وفي ليلة مقمرة أوقفنا السيارة بجوار النيل، وجلسنا نرقب ضوء القمر وذراعه تحوطني، وفجأة رأينا الرجل البوليسي يقتحم السيارة، وقلنا له إننا زوجان، ولم يصدقنا، علامات الحب بين الزوجين غير معروفة، ولا بد أن يعيش الزوجان في بحر من الكراهية، ولم يطمئن الرجل البوليسي حتى رأى قسيمة الزواج بتوقيع المأذون والشهود.

•••

كان صامتًا، ثلاثة عشر عامًا في السجن، بشرته ملوحة بشمس الواحات في الصحراء الغربية، وجهه نحيل وعيناه مرفوعتان بكبرياء طبيعي، سوداوان واسعتان، تتسعان لحزن العالم وإصرار التحدي وعدم اليأس، الرجال من حوله يثرثرون وهو صامت، يتناثر رذاذ لعابهم في الجو مع كلماتهم الثورية، يلوِّحون بقبضة اليد في الهواء ويضربون بها على المنصة وهو صامت، يرمقونه بطرف عين في وجل، صمته يؤلمهم كوخز الإبر، وجوده على ظهر الدنيا يضايقهم، يكشف عن زيفهم.

حاولوا إزالته من الوجود. لكنه نوع من البشر يظل موجودًا رغم كل شيء، كالظواهر الطبيعية.

وأنا أحب الطبيعة وظواهرها، بيني وبين المصنوع عداء، نشأت بين الخضرة والزرع يكبر تحت الشمس، والماء يتدفق في النهر، وأتطلع نحو الطيور في السماء، وأتمنى أن ينمو لي جناحان طبيعيان.

•••

الجناحان أمام عيني، مصنوعان من الفولاذ وليسا طبيعيين، وأنا أحلِّق في السماء، قلبي ثقيل. لم يعد للسفر البهجة القديمة، تركت في الوطن ابنتي وزوجي وأخذت معي ابني الذي لم يولد بعدُ.

من تحت حزام المقعد أحس حركته، يدق بيده الصغيرة جدار بطني، وألفُّ الغطاء الصوفي من حولي لأدفئه.

من تحت الصحراء الشاسعة الصفراء يتوسطها نهر النيل، والشاطئان الرفيعان كالشريطين الأسودين بامتداد الفرعين، وبينهما الأرض على شكل مثلث أسود.

أسندت رأسي إلى ظهر المقعد وأغمضت عيني، الوجهان يطلان من وراء الزجاج، يلوحان لي من الشرفة البعيدة ثم يذوبان في الجو كأنما اختطفتهما يد خرافية غير مرئية، السحب ملبَّدة وأنا بين السماء والأرض داخل صندوق حديدي مغلق، ينطلق نحو عالم مجهول.

أطرافي باردة مثلجة، كمن ألقت بنفسها في مياه المحيط دون أن تعرف السباحة، مرت مضيفة الطائرة بالشاي والقهوة، نكهة الشاي أنعشت صدري، والسخونة بدأت تسري في أطرافي، وخيالي بدأ يصحو كالمارد النائم، وأمريكا الشمالية تبدو لي مغامرة جديدة، كالأرض البكر وكأنما لم يكتشفها إنسان من قبلي، ولا حتى كريستوفر كولومبس.

•••

الساعة في يدي تشير إلى العاشرة صباحًا، الشمس تلمع في الأفق ومن تحتها بساط أبيض متعرج من السحب، أشبه بالتلال الصغيرة من القطن المندوف الأبيض.

اجتازت الطائرة الساحل، وأصبحنا فوق البحر، أغمضت عيني ونمت، وبالأمس نمت نومًا متقطعًا. كنت أصحو فجأة وأنظر في الساعة وقد تصورت أن الطائرة أقلعت بدوني، وزوجي إلى جواري نائم، أتأمل ملامحه وهو مغمض العينين، أنفاسه هادئة بلا شخير، وبلا شارب أسود فوق الشفة العليا، يفتح عينيه ويبتسم: لا زال الوقت مبكرًا.

وأقول: أخشى أن تفوتني الطائرة.

ويحوطني بذراعيه هامسًا: وإذا فاتتك لن يحدث شيء، هناك طائرات أخرى.

لكني أتصور أنه لو فاتتني هذه الطائرة فلن تكون هناك طائرات أخرى.

في الغرفة المجاورة ابنتي، فتحت عينها وابتسمت ثم نامت مرة أخرى.

حملقت في السماء والسحب، عيناي شاردتان وخلايا عقلي عاجزة عن إدراك الحقيقة، الطائرة تجتاز الأرض وراء الأرض والبحر وراء البحر وأنا لا أحس شيئًا، الأرض تدور ولا أحس دورانها، أو أنني أدور حول الأرض، والأرض لا تحس بي.

منذ وُلِدت وأنا أحاول أن تكون حركتي فوق الأرض محسوسة. لا يمكن أن أعيش وأموت ولا يدري بي أحد، لكني اكتشفت أن ملايين مثلي يتحركون فوق الأرض والأرض لا تبالي، والسماء أيضًا لا تبالي.

جناح الطائرة من خلال الزجاج فولاذي ضخم، يشق السحاب كسكين، في نهايته لمبة حمراء تومض كنجم يظهر ويختفي ثم يظهر، كياني داخل الطائرة هزيل، خطأ صغير في ذلك الجناح قادر على هلاكي، كيف اكتُشفت الطائرة؟ لاح لي وجه أبي يحكي قصة رجل عربي؛ عباس بن فرناس الذي أراد أن يقلد الطيور، فصنع لنفسه جناحين من الريش، واستطاع أن يطير. لكنه سرعان ما سقط على الأرض، واكتشف أنه نسي أن يصنع لنفسه ذيلًا من الريش.

حسدت الطيور وأنا طفلة؛ لأنها تحلِّق في السماء. أما أنا فما إن أقفز في الجو حتى تشدني الأرض.

مياه المحيط لا تزال تحت السحب، الساعة في يدي تشير إلى الثامنة، الشمس غربت منذ أكثر من ساعة في الوطن ولا بد أن الدنيا أصبحت ليلًا.

لكني أرى قرص الشمس في وسط السماء، الصوت يعلن أننا سنهبط في مطار نيويورك بعد دقائق وأن الساعة الواحدة بعد الظهر.

التفَّت أصابعي حول مسمار الساعة لأحرك العقارب إلى الوراء سبع ساعات، هل درت حول الأرض وأصبحت الآن فوق النصف الآخر من الكرة الأرضية؟

•••

في كل رحلة جديدة يشتغل خيالي، وتتأرجح رغبة الاكتشاف، ولكن حين أطأ بقدمي على الأرض الجديدة تنطفئ الجذوة وتتبدد النشوة، هل كنت أتوقع أرضًا غير الأرض؟ أو ناسًا غير الناس؟

قدماي تدبَّان على الأرض، وأختبر بكعب حذائي صلابتها، ملمسها تحت قدمي كالنصف الأول من الكرة الأرضية، والهواء ساخن رطب يشبه هواء مصر في الصيف.

عيناي تدوران حولي، تفتشان بين وجوه الناس عن وجه غريب لونه أحمر وعلى رأسه الريش، أكنت أبحث عن الهنود الحمر!

مطار نيويورك ضخم، يشبه مطار باريس وأكثر ضخامة، زحام وناس من مختلف الأشكال والألوان، بيض وسود وسمر ومن ذوي الملامح اليابانية والصينية، امرأة سوداء سمينة الردفين ترتدي قبعة عليها ريشة حمراء، وحذاء أحمر لامع تطرقع على الأرض بخطوات بطيئة، إلى جوارها فتاة بيضاء نحيفة بلا ردفين داخل بنطلون ضيق أخضر وحذاء كاوتش تجري وشعرها الأصفر يتطاير، رجل أبيض جالس على مقعد يشرب من علبة كوكولا حمراء، شعره أصفر منكوش، يرتدي قميصًا رُسِمَت عليه قطط زرقاء وصفراء، ياقة القميص مثبتة بزراير صغيرة من الأمام، رجلان قصيران سمينان ملامحهما يابانية يجريان وكل منهما يمسك في يده حقيبة جلدية سوداء، طفلة سوداء تجري وترفع ذراعها إلى أعلى وفي يدها كوب كرتون مليء بالآيس كريم، رجل صيني يهرش في رأسه وسرواله طويل يلامس الأرض. جريت مع الناس إلى باب طائرة الهليكوبتر، دارت محركات الطائرة بسرعة وارتفعت في الجو دون أن يُغْلَقَ الباب، عمارات نيويورك الشاهقة تلامس السحاب، وبينها عدد من البحيرات والأنهار، الطائرة تسير بين قمم العمارات، وفي كل اهتزازة أمسك في المقعد أمامي، الركاب الآخرون جالسون في مقاعدهم يقرءون الصحف وكأنهم في الأتوبيس.

هبطت الهليكوبتر بعد دقائق، وسمعت صوت فرامل عجلاتها، ثم توقفت فجأة واندفع الناس من الباب، اندفعت معهم، واتجهت نحو طائرة متجهة إلى الجنوب، أربع ساعات من التحليق ثم سمعت صوت المضيفة يعلن أننا سنهبط في «رالي»، الهواء راكد ساخن، أشد سخونة من هواء القاهرة في أغسطس، والرطوبة مرتفعة، العرق أحسُّه تحت ملابسي، وشعري التصق برأسي، كفاي مبللان والحقيبة تنزلق من يدي، أسرعت إلى أقرب تاكسي وقلت له: إلى المدينة الجامعية، السائق أبيض البشرة، يتكلم الإنجليزية بطريقة غريبة لا أفهمها، ينطق نصف الكلمات فقط، ويبتلع النصف الثاني. لا يفتح فمه وهو يتكلم، وكأن الحروف تخرج من أنفه.

وسألني: من أي بلد أنتِ؟

وقلت: من مصر.

وصاح بدهشة: أوهوه!

ثم سألني: وماذا تعملين؟

قلت: طبيبة.

صاح بدهشة: أوهوه! هل في مصر أطباء؟

وقلت: طبعًا مثل الأطباء عندكم.

وقال: الأطباء عندنا أغنياء جدًّا. لا بد أنكِ غنية.

ورأيته يرمقني بنظرات فاحصة في المرآة أمامه، عيناه زرقاوان ضيقتان، وعلى رأسه قبعة صغيرة من القماش، وله أنف طويل مدبب مخيف، وخُيِّل إليَّ أنه سيأخذني إلى مكان بعيد ويستولي على ما معي. لم يكن معي إلا حقيبة واحدة، وثلاثون دولارًا، وقلت: أنا طبيبة ولكني فقيرة.

وصاح بدهشة: كم تكسبين في العام؟

ولم أكن حسبت من قبل دخلي في العام. كنت قد أغلقت عيادتي من سنوات، وأتقاضى من الحكومة في ذلك الوقت أربعين جنيهًا في الشهر.

وقلت: أقل من خمسمائة جنيه مصري في السنة.

وصاح بدهشة: أوه! هذا قليل جدًّا، هنا يكسب الطبيب ثلاثون ألف دولار في السنة على الأقل.

ورددت بدهشة: ثلاثون ألفًا!

وقال: على الأقل. بعضهم يصل إلى ضعف هذا وأكثر.

وسألته: وأنت؟ كم هو دخلك في الشهر؟

ومصمص شفتيه: أنا؟ مهما اشتغلت ليل نهار لا أصل إلى خمسة آلاف أو ستة آلاف.

وقلت بدهشة: أوهوه! أنت غني جدًّا.

وقال: ستة آلاف في السنة لا شيء، وأنا من الفقراء هنا.

وقلت: فقراء؟ هل في أمريكا فقراء؟

وضحك واهتزت القبعة فوق رأسه، وبأصبع طويل يكسوه شعر كثيف أشار إلى البيوت والشوارع وقال: هذه المدينة كلها يملكها أربعة أشخاص من أصحاب الملايين، وفي البيوت نعيش نحن، وعندي أربعة أولاد وزوجة.

قلت: وزوجتك ألا تعمل؟

وقال: ماذا تعمل؟ ومن يرعى الأولاد؟ وعندي ولد مريض بالدرن الرئوي. إنه يرقد في مصحة جرافلي، في الطرف الآخر من «رالي».

وتذكرت مستشفى الصدر وطابور المرضى، وشددت الزجاج إلى تحت لأفتح نافذة السيارة. لا هواء، وصدري مختنق ببخار الماء، إلى جواري حقيبة ملابسي، يتدلى ورقة نصفها أخضر، عليها حروف بالإنجليزية، «رالي» ما هي «رالي» وهل أنا في أمريكا؟ وما الذي يمكن أن أصفه من غرائب الدنيا حين أعود إلى أهلي في الوطن؟

•••

غرفتي بالمدينة الجامعية شديدة الحرارة، والوقت يمر ببطء، أهبط إلى الدور الأسفل حيث التليفزيون، جونسون يتكلم عن السلام وعن فيتنام، طالبة أمريكية جالسة إلى جواري تبصق على الشاشة وتصيح: كاذب! تختفي صورة جونسون فجأة قبل أن يكمل كلامه وتظهر امرأة نصف عارية ترقص وتغمز بعينها وتشرب من زجاجة كازوزة اسمها «غمزة عين»، تتراقص وتمط شفتيها وتقبِّل فوهة الزجاج ثم تغنِّي «اشربوا غمزة عين»، وتختفي المرأة ويعود جونسون إلى الظهور يكمل حديثه عن السلام، مدت الطالبة قدميها في وجه جونسون وهتفت: تتحدث عن السلام ثم ترسل جنودك بالأسلحة إلى فيتنام؟

ونظرت إليَّ وقالت: من أي بلد؟

قلت: من مصر.

هتفت بدهشة: أوهوه!

اسمها ماري وترتدي شورت أبيض قصيرًا وحذاء كاوتش أزرق، طويلة ونحيفة، وشعرها أصفر وينسدل على كتفيها، عيناها خضراوان فيهما بريق، وفي نهاية الأسبوع أخذتني إلى أسرتها في «شابل هيل» على بُعْدِ خمسين ميلًا من «رالي»، قادت سيارتها الطويلة الضخمة بين الشوارع الملتوية داخل غابة كثيفة الخضرة عالية الأشجار، البيوت متناثرة في الخضرة، توقفنا أمام بيت صغير أبيض تحوطه حديقة واسعة، أمها تزرع الزهور، وأبوها فوق سقالة يدهن النوافذ بالطلاء، ارتدت «المايوه» وقالت: هيا بنا إلى حمام السباحة في النادي، قادت السيارة وهي ترتدي المايوه.

في دورة المياه في النادي بابان، كُتب على أحدهما: للبيض، وكُتب على الآخر: للملونين، وتوقفت أمام المرآة أدقق النظر في لون بشرتي، ولم أعرف أيهما أدخل، ثم دخلت من باب الملونين.

عادت ماري إليَّ دون أن تسبح وقالت بغضب: تصوَّري، حمام السباحة مغلق للتطهير؛ لأن اثنين من الزنوج نزلا فيه بالأمس. هذه الولاية عنصرية. وبصقت على الأرض.

وفي الليل دعتني هي وصديقها ديفيد للرقص، القاعة صغيرة مزدحمة بالشباب، والدخان ورائحة البيرة والموسيقى الراقصة، الرءوس كلها شعرها طويل، والأجسام داخل السراويل الضيقة نحيفة طويلة، والحركات منطلقة حرة، ولا أكاد أفرِّق بين الولد والبنت.

دعاني ديفيد للرقص ولكني فضَّلت الجلوس وشرب البيرة، ورقص ديفيد مع ماري، وعيناي تتابعان حركاتهما الراقصة، سرت إليَّ عدوى الرقص مع سريان البيرة في عروقي، ووجدتني أحرك ذراعي ورأسي وأنا جالسة، ثم نهضت ورقصت مع ديفيد وماري، وشباب آخرين انضموا إلينا، وبدأنا نغني معًا ونضرب الأرض بأقدامنا بقوة إيقاع اللحن.

منذ الطفولة وأنا أحب الرقص بحركات قوية، ترمقني العيون بنظرات استنكار، عضلات البنت لا بد أن تكون ضعيفة، وحركاتها في الرقص رقيقة وديعة، لكن رقص البنات لم يكن يحركني، حركات بطيئة وعضلات مرتخية ورجرجة الشحم فوق البطن والردفين، وذلك اللحن البطيء المليء بالنواح والبكاء.

تركت حلبة الرقص وجلست شاردة، إحساس مفاجئ بالحزن، وأقبلت نحوي ماري وجلست إلى جواري، وتساءلت بدهشة: ماذا يحدث؟

وقلت: الشباب عندنا وخاصة البنات ليس عندهن هذه الحرية.

وزمَّت شفتيها ثم قالت: ونحن أيضًا ليس عندنا حرية؛ فأنا أحب ديفيد، لكن أبي وأمي لا يحبانه؛ لأنه أسود.

وقلت: وماذا ستفعلين؟

قالت: سنتزوج ونسافر إلى بلد آخر، أريد لأطفالي أن يعيشوا في مجتمع أكثر حرية.

•••

المسئولة عن الإدارة في الجامعة امرأة عجوز، عيناها زرقاوان غائرتان تحت نظارة بيضاء، لها سلسلة ذهبية تعلقها في أذنيها، نظرتها من تحت العدستين البيضاوين فاحصة حادة، أحسها فوق وجهي كاللسعات، تدقِّق النظر إلى لون بشرتي السمراء كأنما تقيس درجة السمرة ودرجة ارتفاع الأنف والصدر والبطن.

وقلت لها: لون بشرتي ومقاييس جسمي مسألة شخصية.

وفغرت فاها واهتزت النظارة وسقطت فوق أنفها فأمسكتها بيديها، وصاحت بدهشة: ماذا قلتِ!

وتركتها تنظر إليَّ بملء عينيها، ثم وضعت الاستمارة تحت نظارتها وقلت: انظري. هذه هي خانة الاسم، واسم الأب، والجد، والعنوان، والجنسية، وتاريخ الميلاد، والحالة الاجتماعية، والديانة، ولون البشرة والعينين، والطول، والشهادات العلمية السابقة، وشهادة حسن السير والسلوك، وعدم وجود سوابق أو جرائم سياسية أو دخول السجن في أي مرحلة من العمر، وعدد الجوائز التي تم الحصول عليها، والخلو من العاهات.

كانت الاستمارة كاملة البيانات، وأمام كل خانة كتبت المعلومات المطلوبة بدقة وعناية، مثلًا أمام خانة الطول دوَّنت ١٧١٫٥ سنتيمترًا، بعد أن وقفت أمام الحائط، ووضعت علامة بالقلم عند قمة رأسي، ثم قست المسافة بين هذه العلامة والأرض وهي طول قامتي بالضبط، وأما خانة السوابق والجرائم كتبت لا شيء، ولم أكن دخلت السجن بعدُ، وأمام الديانة كتبت مثل ديانة أبي، وأمام لون العينين كتبت «سوداوان»، ثم أضفت كلمة «لامعتان» من أجل الدقة، ومن الدقة أيضًا كتبت أمام الخلو من العاهات، توجد حسنة سوداء في مؤخرة العنق.

ومع كل ذلك ظلت المسئولة عن إدارة الجامعة تنقل عينيها من رأسي إلى قدمي ثم قالت بصوت أخنف: ولكنكِ لم تدوِّني في الاستمارة أنكِ حامل.

وبحثت بعيني عن خانة خاصة بالحمل فلم أجد، وقلت لها: ولكن لا يوجد بالاستمارة … وقاطعتني قائلة: وهل يمكن لجامعة محترمة أن تخصص في استماراتها خانة لمثل هذه الأشياء؟ وقلت بغضب: مثل هذه الأشياء؟! ماذا تعنين بمثل الأشياء؟ هل الحمل عيب؟ ثم إنني حامل بطريقة شرعية!

وأخرجت من حقيبتي بسرعة قسيمة الزواج بتوقيع المأذون والشهود، واتسعت عيناها الغائرتان الزرقاوان بذهول وهي تحملق في الحروف العربية التي بدت كاللغة الهيروغليفية أو الصينية، وتوقيع المأذون على شكل شخبطة بالقلم.

وتساءلت بدهشة: أي لغة هذي؟

وقلت: اللغة العربية.

وصاحت بريبة: أنتِ مصرية أم عربية؟

وقلت: أصبح المصريون عربًا منذ الفتح العربي لمصر عام ٦٤٠م على يد عمرو بن العاص!

•••

وجدتني وحقيبتي داخل الأتوبيس الضخم المتجه شمالًا، تراجعت بيوت «رالي» وشوارعها إلى الوراء، وأصبحت ولاية نورث كارولينا وجامعتها خلف ظهري، فتحت زجاج النافذة وملأت صدري بالهواء المنعش القادم من ولايات الشمال، وأحسست كالسجين الذي يُطْلَق سراحه، أو المختنق الذي يخرج من بطن الأرض إلى سطح الدنيا.

ليلة الأمس قررت السفر إلى نيويورك، هل يمكن أن آتي إلى أمريكا، فلا أرى منها إلا تلك الولاية العصرية في الجنوب؟

لكني في الصباح سمعت من أحد الطلبة العرب أن مؤتمرًا هامًّا سيُعْقَد في جامعة إلينوي، ووجدتني داخل الأتوبيس المتجه إلى شيكاجو.

•••

وقفت وسط سبعمائة طالب وطالبة نُنشد بصوت واحد باللغة العربية:

نحن الشباب لنا الغد
ومجده المخلد
شعارنا على الزمن
عاش الوطن عاش الوطن
بعنا له يوم المحن
أرواحنا بلا ثمن.

على المنصة الرئيسية كان يجلس ممثلو البلاد العربية، وحاكم ولاية إلينوي، وعميد الجامعة، وممثلو الاتحادات الطلابية الأمريكية والعربية، وكان رئيس منظمة الطلبة العرب طالب مصري اسمه أسامة الباز، وعدد الطلبة العرب في الولايات المتحدة حينئذٍ كان سبعة آلاف طالب وطالبة، وكان الدكتور فايز الصايغ أحد المحاضرين في المؤتمر، هو فلسطيني درس في أمريكا الفلسفة، وتولى دائرة الأبحاث الفلسطينية في الولايات المتحدة في عام ١٩٥٥، ثم عُيِّن أستاذًا لشئون الشرق الأوسط بالجامعة الأمريكية في بيروت في عام ١٩٥٨، وكلفته منظمة التحرير الفلسطينية بتأسيس مركز للأبحاث الفلسطينية في بيروت، قرأت بعض مؤلفاته عن الاستعمار الصهيوني في فلسطين، والحياد وعدم الانحياز، وفلسفة الاشتراكية عند جمال عبد الناصر، وضباب البورقيبية، طُرد أكثر من مرة من الجامعات الأمريكية، الصهيونيون كانوا يحاربونه ويحاولون إقناع المسئولين بطرده بحجة أنه يستغل منبر التدريس للقضية الفلسطينية.

وفي إحدى القاعات كان الدكتور عزت طنوس يشرح لبعض الطلبة العرب مشكلة تحويل مجرى نهر الأردن، هو طبيب فلسطيني تخصص في طب الأطفال عام ١٩٢٠. بعد الاحتلال الصهيوني لفلسطين سافر إلى لندن وأنشأ المركز العربي في لندن، وغادر لندن في عام ١٩٤٠ إلى القدس، وعُيِّن أمينًا لبيت المال في الحركة الوطنية الفلسطينية بالقدس، وفي عام ١٩٦٥ أصبح مدير مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في نيويورك.

ومن الشخصيات العربية الأخرى في المؤتمر: سعادات حسن، والدكتور محمد المهدي الذي تحدَّث عن دور البترول في القضية العربية، والدكتور برهان حماد وتكلَّم عن الخليج العربي، والدكتور رشاد مراد وكان رئيسًا للوفد الدائم للجامعة العربية لدى الأمم المتحدة في نيويورك.

ومن الرجال الأمريكيين المهتمين بقضايا البلاد العربية: «هارولد ماينور» المشرف على جمعية أصدقاء الشرق الأوسط في أمريكا.

وقد عمل قنصلًا لأمريكا في القدس ثلاثين عامًا، وفي عام ١٩٥٣ أصبح سفيرًا لأمريكا في بيروت. لكنه استقال من منصبه وتفرَّغ لقضايا العرب في الجامعات الأمريكية.

وكان «هارولد ماينور» هو أول أمريكي أسمعه يتكلم ضد الصهيونية وضد سياسة جونسون، ورنَّت كلماته في أذني غريبة؛ فلم تكن أذناي قد تعودتا بعدُ مثل هذه العبارات المعارضة لأعلى سلطة في الدولة، ولم أكن سمعت في بلادنا رجلًا يخطب بصوت عالٍ ضد الحكم القائم.

ومددت ساقي في استرخاء وأنا جالسة في مقعدي، وإحساس بالحرية يسري دافئًا في كياني كحركة الدم، هل يمكن أن يكون في بلادنا شيء اسمه المعارضة!

وصعد على المنصة شاب أمريكي طويل نحيل اسمه «جاك شرير» ممثل اتحاد الطلبة الأمريكية، أمسك الميكرفون وأعلن بلغة غربية فصحى أن اتحاد طلاب أمريكا أصدر قرارًا يؤيد عودة الفلسطينيين إلى وطنهم وتعويضهم عن الخسارات التي لحقت بهم، وهاجم «جاك شرير» سياسة جونسون في الشرق الأوسط وفي فيتنام، ووصفها بأنها سياسة فاسدة.

وهبط من فوق المنصة وعيناي تتبعانه حتى جلس في مقعده، تصوَّرت أن رجال البوليس سوف يحوطونه ويقودونه إلى السجن.

وكان أحد الطلبة الأمريكيين يجلس إلى جواري، وسمعني وأنا أقول: لم يأخذه أحد إلى السجن.

وقال: لا يذهب إلى السجن هنا إلا مَنْ يمثل خطرًا على النظام. وهذه الخطب والمؤتمرات لا تمثل أي خطورة.

وقلت: عندكم مساجين سياسيين؟

وقال: كثيرون، وفي إبريل الماضي مات في السجن «ألبيزو كامبوز» المناضل البورتريكي، وقد قضى في السجن ثلاثين عامًا.

وتبدَّد الاسترخاء الطارئ، وعادت عضلات جسمي مشدودة، وغادرت قاعة الخطب إلى قاعة أخرى عُلِّقت على جدرانها لوحات الفنَّانَيْن الفلسطينيين: عيسى عبد المجيد وإسماعيل شموط؛ مأساة الشعب الفلسطيني تتجسد في الخطوط، أمٌّ تقف في العراء أمام خيمة سوداء تضم إلى صدرها طفلًا وليدًا، شيخ عجوز يتكور فوق الأرض وطفل وحيد يتأمل الطريق الخاوي بعينين خائفتين، شاب يحمل السلاح وعيونه نحو الوطن المسلوب.

انتهت أيام المؤتمر الستة بإعلان القرارات وانتخاب الأعضاء السبعة الجدد لمجلس إدارة منظمة الطلبة العرب ورئيسها الجديد.

وخلَف أسامة الباز في رئاسة المنظمة طالب مصري آخر اسمه سعد الدين إبراهيم، وفي نهاية المؤتمر وُزِّعت علينا ورقة مطبوعة عليها القرارات وضعتها في حقيبتي.

وبينما أنا أخرج من الباب رأيت صفوفًا من الرجال العجائز الأمريكيين يدخلون إلى القاعة ذاتها، يرتدون ملابس عسكرية تشبه ملابس الجنود في القرن التاسع عشر، وعلى رءوسهم قبعات سوداء محلَّاة بريش النعام الأبيض، وعلمت أنهم في طريقهم لحضور المؤتمر رقم ١٠٩ للمحاربين القدامى في ولاية إلينوي.

وفي مقعدي داخل الأتوبيس المتجه نحو الساحل الشرقي لأمريكا فتحت حقيبتي وبدأت أقرأ الورقة التي وُزِّعَت علينا: أصدر المؤتمر الرابع عشر لمنظمة الطلبة العرب في أمريكا عدة قرارات خاصة بمختلف القضايا العربية، أوصى فيها بدعم منظمة تحرير فلسطين ماليًّا وأدبيًّا ومساعدتها على بناء جيش التحرير الفلسطيني، ومساندة مقررات مؤتمرات القمة العربية، وتأييد اتفاقية جدة، ووضع خطة موحدة لاستخدام البترول العربي في خدمة القضايا العربية، وأعلن المؤتمر تأييده للنضال الثوري المسلح لتحرير الجنوب المحتل والمطالبة بتكوين جبهة موحدة من القوى التقدمية العربية لمواجهة المخططات الاستعمارية وتحرير الخليج العربي وعمان، ولتنمية هذه المنطقة اقتصاديًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا عن طريق صندوق التنمية العربي، ومطالبة حكومة الكويت بمنع تسلل غير العرب إلى هذه المنطقة. ووجَّه المؤتمر نداءً إلى حكومة السودان للوصول إلى حل لمشكلة الجنوب يصون وحدة السودان ويحبط المؤامرة الانفصالية الاستعمارية ضده، كما أوصى المؤتمر بزيادة النشاط الإعلامي للطلبة العرب في أمريكا وكندا، وخاصة في مواجهة تطورات السياسة الأمريكية نحو الشرق الأوسط.

لا زلت أحتفظ بهذه الورقة في مكتبي رغم مرور عشرين عامًا على صدور هذه القرارات. لكنها تبدو وكأنها صدرت بالأمس.

•••

في نيويورك قابلت عميد جامعة كولومبيا. كان اسمه الدكتور «تراسل»، قدمت له الاستمارة المملوءة بالبيانات، وأضفت من عندي خانة جديدة خاصة بالحمل، ودوَّنت أمامها: حامل في الشهر الرابع.

وابتسم الدكتور تراسل وقال: هذه كلها أمور شخصية، والجامعة لا تطلب هذه البيانات.

وقلت: ولكن جامعة نورث كارولينا …

وقال الدكتور تراسل: لا تظني أن كل الجامعات في أمريكا بهذه العقلية المتخلفة.

•••

عشت في «مانهاتن» في قلب نيويورك؛ مكاني المفضل دائمًا هو في قلب الأشياء، أحس نبض الحياة في تدفقها، وإذا كانت «مانهاتن» هي قلب أمريكا النابض فإن «رالي» كانت القدم أو قاع القدم، وذكراها عندي كالحلم البغيض، كالقرية المشوهة المتوارثة من قرى العصور الوسطى، رغم الأبنية الحديثة، والشوارع المرصوفة شبه المهجورة، وردهات الجامعة ذات الكآبة.

لكن هنا في «مانهاتن» كل شيء يتحرك بحيوية، والناس خطواتهم سريعة، وفي حي «جرينتش» يجلس الناس على المقاهي فوق الأرصفة كأنها باريس، يأكلون ويشربون ويتحدثون، والشباب يجلسون على العشب في ميدان واشنطن قرب جامعة نيويورك، مجموعة من الشباب تعزف على الجيتار وتغني وترقص، والناس يلتفُّون حولها ويغنون، وتحت الأشجار على الدكك الخشبية جلس بعض العجائز ومن حولهم أطفال يلعبون.

في الطرف الآخر من الميدان حلقة من الشباب يلتفون حول شاب وقف على شيء عالٍ وأخذ يخطب، إنه «كي مارتن». كان يلوِّح يديه في الهواء غاضبًا قائلًا: «مالكوم إكس قتلوه في قلب أمريكا كما قتلوا لومومبا في أفريقيا! لماذا لا نكف أيدينا عن آسيا وأفريقيا؟ ألا نوقف هذا الخداع؟ ألا نوقف هذه الأسلحة المتنكرة داخل علب الطعام والمعونات الأمريكية!»

واقترب مني شاب صغير، ناولني مجلة سوداء كُتب عليها بخط أبيض عريض: البارتزان، مجلة جمعية الشاب ضد الحرب والفاشست، وعلى صفحات المجلة صور لجنود صرعى في فيتنام، أشلاء ممزقة تختلط فيها أجساد الأمريكيين بالفيتناميين.

وفي جامعة كولومبيا تعرَّفت على زميلة لي اسمها مايون. كانت عضوًا في جامعة تنظم المظاهرات ضد الحرب في فيتنام، طويلة نحيفة وشعرها رمادي قصير، عيناها زرقاوان واسعتان لامعتان، وما إن تنتهي المحاضرات حتى تدور على الزملاء والزميلات توزِّع عليهم المنشورات والصور ضد حرب فيتنام.

وفي عطلة نهاية الأسبوع نذهب معًا إلى السينما، أو المسرح، أو نلعب التنس في النادي، وفي المظاهرات نرفع اللافتات معًا ونهتف مع الشباب: أَوْقِفوا الحرب في فيتنام.

في إحدى المظاهرات رأيت ثلاثة من رجال البوليس يحوطون شابًّا أسود طويلًا، ورأيت ماريون تندفع نحوهم وتحاول انتزاع الشاب منهم وهي تضربهم بقدمها بالشلوت، وتجمع الشباب حول رجال البوليس يضربونهم بالأقدام، وانطلقت الصفارات من كل مكان، وهجمت علينا السيارات المسلحة، ووجدت يد ماريون في يدي ونحن نجري لنهرب داخل أحد البيوت، وصوت الصفارات يدوِّي مع صوت الهتافات: يسقط جونسون!

ومن وراء الجدار حيث اختبأنا كان قلبي يدق بعنف وصدري يعلو ويهبط في أنفاس لاهثة متقطعة، وتعود إلى ذاكرتي صورتي منذ خمسة عشر عامًا، وصدري يلهث وقلبي يدق، وأنا مختبئة وراء الجدار وطلقات الرصاص تدوِّي مع هتافات الطلبة: يسقط الملك!

•••

وفي يوم آخر أخذتني ماريون إلى اجتماع كبير تحدَّث فيه الدكتور «ستوتن ليند» وهو أستاذ أمريكي بجامعة «بيل» سحبوا منه جواز سفره؛ لأنه ذهب إلى فيتنام في رحلة لتقصي الحقائق، وعاد ينظم المظاهرات ضد الحرب في فيتنام، قدمتني له ماريون قائلة: هي زميلة معي في جامعة كولومبيا وطبيبة مصرية، وأذكر أن ستوتن ليند قال لي يومها: إن مشكلة فلسطين لا تقل خطورة عن مشكلة فيتنام، لكن القوى الصهيونية في أمريكا تملك البنوك وأجهزة الإعلام، وقلت له: ولماذا لا تذهب في رحلة لتقصي الحقائق بالشرق الأوسط كما ذهبت إلى فيتنام؟ وضحك قائلًا: حين أسترد من الحكومة جواز سفري.

•••

طرف الخطاب يطل من وراء الزجاج داخل صندوق البريد، أجمل منظر في أمريكا، أجمل من تمثال الحرية في عرض المحيط، وأعظم من الأفينيو الخامس تطل عليه ناطحات السحاب، ومنتزه روكفلر الشهير في قلب نيويورك حيث النافورات ذات الألوان والزهور والناس من كل العالم، والموسيقى والرقصات العجيبة فوق قباقيب التزحلق.

طرف الخطاب تلمحه عيناي داخل الصندوق، وطابع البريد عليه صورة الهرم وكلمة مصر، وفوق المظروف اسمي بحروف كبيرة مستديرة، وحركة الأصابع النحيلة حول القلم، في غرفة مكتبنا المشتركة في الشقة الصغيرة في أول شارع الهرم.

في رسالة طويلة قال إنه اشترى لمبة مكتب جديدة، وقرأ بعض كتب لم يقرأها من قبل، وأن ابنتنا بصحة جيدة، وتذهب إلى المدرسة كل صباح، وقبل أن تنام يحكي لها قصة جميلة.

أضع الرسالة تحت وسادتي، وأفتح عيني بالليل وأعيد قراءتها، وفي الصباح أضعها في الحقيبة مع أوراقي وكتبي، وأثناء الغداء أمضغ الطعام ببطء وأقرأ الرسالة.

وفي الليل تحت ضوء اللمبة أجلس في سريري تحت الأغطية وأقرؤها، وعلى الجدار فوق مكتبي تتدلى نتيجة عام ١٩٦٦ بالأيام والشهور، وأشطب بالقلم قبل أن أنام على اليوم الذي انتهى، وأعد الأيام الباقية.

•••

ثم أطفئ النور وأضع رأسي على الوسادة، وأحس النبض تحت أذني كأنه قلبي، وحركة ناعمة تضرب جدران بطني كأذرع دقيقة من القطيفة، تُرى متى يرى النور؟

•••

على باب الكلية تقدَّم نحوي أحد الطلبة العرب اسمه «سعدون». كان يوزع بيانًا مطبوعًا، وقال لي: ستكون المظاهرة يوم الخميس القادم ولا بد أن تشتركي.

البيان بتوقيع الدكتور محمد المهدي، الأمين العام للجمعية العاملة لإصلاح العلاقات العربية الأمريكية، وجاء البيان هكذا بالحرف الواحد:

بمناسبة يوم وعد بلفور المشئوم قررت الجمعية العاملة لإصلاح العلاقات العربية الأمريكية القيام بمظاهرة سلمية يوم الخميس ٤ / ١١ / ١٩٦٥ من الساعة العاشرة صباحًا إلى الواحدة بعد الظهر.

يجتمع المتظاهرون في العاشرة صباحًا أمام بناية الأمم المتحدة، وبعدئذٍ تتحرَّك «مسيرة السلام» حيث يحمل المتظاهرون اللافتات التي تدعو إلى السلام في الشرق الأوسط عن طريق إعادة اليهود إلى أوطانهم الأولى أو فتح أبواب الهجرة لإدخال مليون يهودي إسرائيلي إلى أمريكا الشمالية.

والغاية من هذه المظاهرة في يوم وعد بلفور هي القول بأن ذلك الوعد المشئوم أدى إلى المآسي في الشرق الأوسط، ونحن نريد إزالة تلك المآسي وإحلال السلام إلى تلك الربوع وإلى البلاد المقدسة.

وستدفع الجمعية مبلغ دولارين في الساعة لكل مَنْ يشترك في المظاهرة، وهو مبلغ ضئيل للغاية من تقديمه التعويض عن جزء من الوقت الذي تصرفونه.

لأول مرة في حياتي أسمع عن مظاهرة مدفوعة الأجر.

في المظاهرات في بلادنا كنت أسمع طلقات الرصاص، وأجساد الطلبة تسقط، والدم يسيل في الشارع، وفوهات البنادق تطل من سيارات البوليس، وتلاميذ تختطفهم العربات المصفحة وتبتلعهم السجون.

وقلت لنفسي: كم دولارًا تساوي ثلاثة لترات من الدم يسال على الطريق؟

وكم دولارًا يمكن أن تُدفع من أجل تلميذ يصبح شهيدًا؟ وكم يمكن أن يكون ثمن حياتي إذا انطلقت رصاصة في جزء من الثانية؟

وجاء يوم الخميس ولم أذهب. لا أحد يمكن أن يدفع ثمن جزء من الثانية يساوي حياتي، وحياتي كلها أدفعها بطلقة رصاص واحدة نظير كرامتي وكرامة الوطن.

•••

في مستشفى «سلون» المجاور لجامعة كولومبيا ذهبت لمقابلة الدكتور «تود»، فحصني بدقة ثم قال: أتوقع أن تكون الولادة خلال أسبوع واحد، كنا في أوائل ديسمبر والثلوج البيضاء بدأت تلمع فوق النوافذ والشوارع، وابتسم قائلًا: أنتِ محظوظة؛ فموعد الولادة يجيء مع إجازة الكريسماس والعام الجديد.

واتفقت ماريون معي على أن نذهب معًا لشراء ملابس للطفل القادم من شارع برودواي، وصاحت الزميلات الأمريكيات في الجامعة: نحن لا نشتري ملابس الطفل إلا بعد أن يولد، ودهشت لماذا، وعرفت أن بعض الخرافات لا تزال تعيش في أمريكا: شراء ملابس الطفل قبل ولادته فأل سيئ قد يعرِّضه للموت قبل أن يولد أثناء الولادة، لكني رأيت أمي تشتري ملابس الطفل قبل أن يولد. وقد ولدت تسعة أولاد وبنات دون أن يموت أحدهم، وجدتي أيضًا لم تكن تؤمن بهذه الخرافة.

وقالت لي ماريون: هؤلاء النساء الأمريكيات لا زلن متخلفات.

وسألتها: وأنتِ؟ ألستِ أمريكية يا ماريون؟

قالت: نعم، ولكني حررت نفسي من الخزعبلات وأولها كراهية البشرة السوداء.

وقلت: وثانيها؟

قالت: تبييض الوجه بالمساحيق.

بسيطة وطبيعية تتدفق بالحيوية، تنتبه للمحاضرات العلمية بمثل ما تتحمس للمظاهرات السياسية، بشرتها صافية بلا مساحيق وشعرها حر تتركه للهواء والمطر ونجري معًا في الشارع كالأطفال.

لم أشعر معها بالغربة، وكأنما ولدنا في بلد واحد وعشنا طفولة واحدة، الزميلات الأمريكيات الأخريات تفصلني عنهن مسافة كبيرة، وأشعر بينهن بالغربة. لا يعرفن شيئًا عن العالم خارج أمريكا. لا فلسطين ولا فيتنام ولا أي بلد آخر في آسيا أو أفريقيا، وجوههن مدهونة بالمساحيق، فوق الجفون وعلى الرموش والخدود، ولون فضي غريب يلمع فوق الشفاه، وفوق الأظافر المدببة الطويلة كالدمى البيض الملونة، كالجواري في عهد هارون الرشيد رغم لَكْنتهنَّ الأمريكية وبشرتهن البيضاء وقامتهن الطويلة النحيلة، أسيرات المفهوم العبودي لمعنى الأنوثة والجمال، يكشفن عن الشق بين النهدين، ويرقصن داخل سراويل ضيقة وعيونهن على الرجل، ينشدن الزواج رغم كل شيء، وإذا تزوَّجن تبخَّرت طموحاتهن الأخرى، وانقطعن عن الدراسة أو العمل، وتفرَّغن لشئون البيت والأطفال إلى أن يكبر الأطفال، فتعود إليهن طموحاتهن القديمة ويصبحن تلميذات من جديد وهن في الخمسين أو الستين من العمر، وفي ساعة الغداء يجلسن معًا ويثرثرن في أمور الأزواج والأولاد.

•••

هذه الليلة أذكرها رغم مرور السنين. كانت السبت ٩ ديسمبر ١٩٦٥. وقد دعتني ماريون في الصباح إلى متحف جوجنهايم، ودعوتها في المساء لرؤية مسرحية: مشهد من الجسر، لآرثر ميلَّر.

سرنا على الأقدام حتى تقاطع شارع ٨٨ مع الأفينيو الخامس حيث متحف جوجنهايم، وهو متحف حديث، افتُتِحَ عام ١٩٥٩، صممه المهندس فرانك رايت على النمط الهندسي العضوي، ربما هو نمط جديد في المعمار. لا بد أنه دراسة للمكان في علاقته بالإنسان، وكيف يمكن استخدام المساحة لتبدو للإنسان أكثر اتساعًا وأكثر راحةً للعين.

الأدوار تمتد أمام عيني في خطوط دائرية، كل شيء دائري: الجدران والسلالم والطوابق والدائرة تبدو للعين أكثر امتدادًا كأنما بلا بداية أو نهاية، وهي توحي أيضًا بالحركة كالشيء الحي، والمكان يتحول إلى ما يشبه الجسم العضوي، يشع نوعًا غامضًا من الدفء والراحة.

وصعدنا من طابق إلى طابق، ثلاثة آلاف لوحة تصوِّر الفن التشكيلي الحديث في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وأسماء متعددة في عالم الفن الحديث: من بول سيزان إلى بابلو بيكاسو ومارك شاجال وموندريال، ثم جاكسون بولوك وكينزو أوكادا، وأخيرًا جان دوبوفيه وسيرج بولياكوف وغيرهم.

لوحة ضخمة تتصدَّر البهو الفسيح، لوحة بيضاء تمامًا، ليس بها إلا خط واحد متعرِّج بالقلم الفحم الأسود، وفي الركن بقعة على شكل دائرة سوداء غير منتظمة داخلها نقطتان حمراوان، تشبه خطوطي وأنا طفلة في كراسة الرسم. كانت ترمقها المدرِّسة بعينين ضيقتين ثم تمط شفتيها وتعطيني صفرًا.

رجل أمريكي إلى جواري، شعره طويل ينسدل فوق كتفيه، ولحيته طويلة غزيرة، يحملق في اللوحة ولا يتركها، ترى ماذا يرى في ذلك الخط المتعرج الأسود وتلك البقعة شبه العشوائية؟ هل يرى فيها تلقائية الفن الشجاع يكسر القوالب المألوفة؟ أم يرى العبث واللا عقل في نظام الكون؟

أحملق في الخط المتعرج الشبيه بخطي. كانت خطوطي فوق الورقة وأنا طفلة تبهرني. لكنها لم تكن تبهر أحدًا غيري، وكان مصيرها دائمًا صندوق القمامة، لكن هذا الخط يحتل المساحة الكبيرة في هذا المتحف والعيون ترمقه بانبهار.

أهو الفن العظيم؟ أم أن أي شيء داخل أي متحف يبدو مبهرًا؟ وهذه الحركة التلقائية فوق الورقة أهي قمة الثقة بالنفس؟ أم ذروة الفشل في إدراك العالم الخارجي؟

وظللت أحملق في اللوحة، يبدو لي الغموض واضحًا والخط تمامًا كخطي، وأكاد أرى نفسي ثم لا يلبث أن يغرق كل شيء في اللون الأسود فلا أعرف شيئًا، ولا حتى من أنا، وأين أكون؟

دوار في رأسي وألم في العمود الفقري وأنا لا أزال واقفة أمام اللوحة، أهي حالة من الإرهاق أدخل فيها بعد مجهود اليوم الطويل؟ أم أن الفن التشكيلي يدخل مرحلة جديدة؟ وما هذه المرحلة؟ رفض الكون القديم والوجود؟ اكتشاف جديد للذات والوعي؟ علاقة جديدة للوعي بالوجود؟ أنا أفكر إذن أنا موجود كما قال ديكارت، أم أنا موجود، إذن أنا أفكر كما حاول ماركس أن يقول.

لكن لماذا يُطرح السؤال بهذا الشكل، ولماذا لا نسأل سؤالًا آخر، فنقول مثلًا: لماذا لا يكون الوعي والوجود شيئًا واحدًا وليس شيئين منفصلين يسبق أحدهما الآخر؟

لماذا لا أقول: أنا موجود وأفكر في آن واحد، إذن أنا وجود فكري، أو أنا جسم مفكر؟

منذ الطفولة أدركت أنني أفكر بجسمي، ثم كبرت أكثر وبدأت أتساءل: إذا كان الفكر هو الجسم فلماذا يمتد فكري خارج حدود جسمي وخارج حدود الزمان والمكان؟ يمتد في الماضي آلاف السنوات، ويعبر البحار والسماوات والمحيطات لآلاف الملايين من الكيلومترات؟!

عيناي شاخصتان نحو الدائرة فوق اللوحة، بقعة اللون سوداء بلون الأرض وكروية ولها حركة خفية رغم السكون كحركة الأرض، والكون يبدو ضخمًا بلا نهاية، وعقلي يتسع للمساحة لكنه يبحث عن النهاية، أين ينتهي الكون وأين يبدأ؟ وكيف بدأت الحياة البشرية ومتى تنتهي؟ لا أذكر متى وُلِدت ولا أتصور أنني سأموت.

الامتداد اللا نهائي للزمان والمكان يبدو كالمستحيل أمام عقلي، فكيف يمكن ألا تكون هناك نهاية لأي شيء؟ الخط المستقيم له بداية ونهاية، لكن الدائرة ليس لها نقطة تبدأ بها، ولا تنتهي أيضًا عند نقطة، وأي نقطة فوق الدائرة يمكن أن تكون هي البداية أو النهاية. لا فرق، وإذا أصبحت البداية هي النهاية فلا وجود لكليهما، فلماذا لا أتعامل مع الكون على أنه دائري الشكل بلا بداية وبلا نهاية؟

وإذا كان الشكل دائريًّا فلماذا لا يكون المعنى أيضًا دائريًّا؟ بلا نقطة بداية أو نهاية، ويظل السؤال بلا جواب واحد محدد، ويصبح للحقيقة الواحدة أبعاد متعددة، وإذا تعددت الحقيقة فليس هناك حقيقة واحدة، وإذا تعدد الكون فليس هناك كون واحد.

ألكل إنسان حقيقة؟ ولكل إنسان الكون الذي يراه؟ وما يراه جاكسون بولوك ليس هو الكون الذي رآه بول سيزان؟ والكون في عينَي بول سيزان لم يكن هو الكون الذي رآه أساتذة الرسم في المدرسة العليا للفنون الجميلة في باريس. كانوا يتصورون أن الكون واحد، وكان الفن لا يزال محدودًا بالتصور القديم للكون الواحد كما ورد في الكتاب المقدس، والصراع بين المقدس والحقيقي كان واضحًا في خطوط بول سيزان، ونجح كل التلاميذ في امتحان القبول إلا هو، لم يدخل مدرسة، ولم يقتل المدرسون في فنه الصراع، أعطوه صفرًا في الامتحان، ونجت خطوطه من الموت في سجون الأكاديمية، وخلق كونًا جديدًا، ولم يعد الفن من بعده مقلدًا للطبيعة، أصبح ذا طبيعة جديدة.

وعلى إحدى اللوحات نقشت حروف جاكسون بولوك: اللوحة صراع.

وأفقت على صوت ماريون يقول: أتفهمين شيئًا من هذه الخطوط؟

وقلت: لا أظن، ولكني أحاول.

ومرت لحظة صمت ثم سألتها: وما هي مادة الصراع؟

وقالت ماريون: أي صراع؟

قلت: مادة الفن الحديث. إنها فلسفة جديدة، ليست خامات أو أدوات حديثة.

قالت: وما هي الفلسفة الجديدة في هذه الخطوط العشوائية بلا شكل وبلا معنى، أنا لا أفهم شيئًا من هذا العبث، وسكتنا لحظة نتأمل الخطوط.

ثم قالت ماريون: على أي حال الفن يُحَسُّ ولا يُفْهَم.

وتساءلت: وهل هناك فاصل بين الإحساس والفهم؟

وقالت: ماذا تعنين؟

قلت: الإحساس هو الفهم، وأنا أحس إذن أنا أفهم.

وضحكت: وأنا أفهم إذن أنا أحس.

وسألتها: وماذا تحسين؟

قالت: بالجوع.

وضحكنا وخرجنا من متحف جوجنهايم إلى مطعم صغير حيث أكلنا اللحم المشوي، وبعد الغذاء ذهبنا إلى المسرح في شارع برودواي حيث كانت تُعرض مسرحية: مشهد من الجسر لآرثر ميلَّر.

كان المسرح مزدحمًا، ولم نحصل إلا مقاعد خلفية. كنت أمد رأسي إلى الأمام لأسمع صوت الممثلين، لكني لم ألتقط إلا أنصاف الجمل، وبلكنة أمريكية سريعة، ونكات يضحك عليها الجمهور ولا أسمعها، وحين رأيت ماريون تشارك الجمهور الضحك، سألتها: أسمعتِ النكتة؟

وقالت: لا، ولكن الضحك يُعْدِي. وضحكنا وخرجنا من المسرحية قبل نهايتها.

سرنا نتمشى في الأفينو الخامس، أكبر شوارع نيويورك، برودة الجو منعشة، نوافذ المحلات الضخمة تتألق تحت الأضواء والشموع، الاستعداد لأعياد الكريسماس والعام الجديد، من وراء الزجاج نافورات ملونة، وتماثيل تتحرك وترقص تحت الأضواء، ومعروضات جديدة تدور مع دوران النوافذ المتحركة، معاطف فرو، قبعات، مجوهرات، أجهزة إلكترونية من كل نوع وصنف، وزحام من الناس من جميع بلاد العالم.

أمام إحدى النوافذ الزجاجية الضخمة رأينا جمعًا كبيرًا من الناس يتزاحمون ويتنافسون على الرؤية، الأطفال يصعدون على أكتاف آبائهم وأمهاتهم ليروا ماذا هناك.

وقلت لماريون: ربما هو حاوي وراء الزجاج!

وبدأنا نشق الطريق، ورأينا تحت الضوء الملون جهازًا كبيرًا كالفرن الكهربي، داخله بيض كبير كبيض البط، تتحرك البيضة وحدها ثم تنكسر فجأة، ويخرج منها كتكوت حيٌّ يجري على أرجل رفيعة.

الأطفال يضحكون ويصفِّقون بأيديهم، والشباب والشابات يتعانقون ويتراقصون، والعجائز يحملقون بدهشة، ورجل يهمس في أذن زوجته: هذا زمن عجيب، وكل شيء يُصْنَع بالآلات حتى الكتاكيت!

وقالت ماريون: بعد قليل سنصنع الأطفال في الأنابيب، وتتحرر النساء من الحمل والولادة. وضحك الجميع.

في الطريق إلى البيت أحسست بدوار خفيف. كانت ماريون تقود سيارتها، ورأتني صامتة فقالت: أتشعرين بتعب؟

وقلت: لا.

قالت: كان يومًا مرهقًا، لكن بديع.

عند باب بيتي تمنت لي ليلة طيبة ثم انطلقت بسيارتها إلى بيتها.

كانت الساعة الحادية عشرة والنصف حين خلعت ملابسي لأرتدي قميص النوم، وفجأة أحسست بالآلام، هل هي آلام الولادة؟!

كنت وحدي تمامًا، وتلفَّتُّ حولي في حيرة ثم جلست على طرف السرير، هدأت الآلام فترة ثم عادت بسرعة، وأدركت أنها الولادة، التليفون على المنضدة إلى جوار السرير، هل أطلب ماريون؟ لكننا قضينا يومًا طويلًا مرهقًا، وهي بحاجة إلى النوم، ونحن في منتصف الليل ولا يمكن أن أطلب أحدًا في مثل تلك الساعة وإن كانت أمي.

مستشفى «سلون» على بُعْدِ عشر دقائق من بيتي سيرًا على الأقدام، ارتديت المعطف الصوفي السميك ودسست ملابس الطفل الجديد في الحقيبة وخرجت إلى الشارع.

كان الهواء باردًا كالصقيع، والظلمة حالكة، والشارع خالٍ من البشر، سِرْتُ بخطوات سريعة ثم بدأت أجري، أطرافي مثلجة، ترتجف بالبرد والخوف معًا، شبح طويل أسود يتبعني، وكعب حذائه يدبُّ على الأرض، توقفت لحظة ثم استدرت خلفي. لم يكن هناك أحد، ثم أدركت أنه ليس إلا ظلي فوق الأرض، وقدماي تدبَّان على الأسفلت القدم وراء القدم، ثم توقَّف الدبيب لحظة، ألم حاد في العمود الفقري أوقفني عن السير، وجسمي يتراخى وينثني نحو الأرض، هل أجلس على الرصيف؟ وإذا جلست فهل يمكن أن يولد الطفل في الطريق؟

أنوار المستشفى تلوح لي من بعيد أبعد مما هي. وقد لا أصلها أبدًا.

وشددت عضلات ظهري بقوة وقلت لنفسي: سأكمل الطريق ولن أتوقف إلا بعد أن أدخل المستشفى، ولا أدري كيف عادت قدماي تدبَّان فوق الأرض، وكيف قطعت المسافة الباقية بتلك الخطوات المتعاقبة المنتظمة القوية، لكن إرادة عجيبة من نوع غريب كالعضو الجديد ينبت في الجسد فجأة، أو الجسد الجديد يحل بالجسد القديم، وساقان جديدان تحملان جسمي بسرعة وخفة، وإلى جواري أرى ظل جسمي يصاحبني بالحركة ذاتها، النشاط يبدِّد السكون الموحش ويؤنسني في الظلمة كالرفيق.

وما إن وصلت المستشفى حتى اختفت هذه الطاقة الطارئة أو الجسد الجديد. لا أدري كيف اختفى، لكني أحسست بجسدي القديم يظهر فجأة ثم يتهاوى ويسقط على أقرب مقعد، ولم أتحرك بعد ذلك إلا فوق نقالة، دفعتها الممرضة أمامها بكلتا يديها حتى غرفة الولادة، وملأتني رائحة اليود والأتير واللون الأبيض للجدران وملابس الممرضات بالراحة العميقة كالبهجة.

ورأيت وجه الدكتور «تود» أمامي. كان يبتسم ويقول لي: إنني سأضع طفلًا جميلًا، وحاول أن يضع قناع التخدير فوق وجهي، لكني رفضت وصممت على أن ألد طفلي وأنا في كامل الوعي، كنت أعرف أنهم يأخذون المولود بعد الوضع مباشرة، ويضعونه في الغرفة الزجاجية حيث عشرات المواليد الآخرين.

واستولى عليَّ شعور مفزع: أن طفلي اختلط بالآخرين.

لكن الآلام اشتدت، وخُيِّل إليَّ أنني سأموت من شدة الألم، فإذا بي أطلب التخدير، وقبل أن يضع الدكتور «تود» القناع فوق وجهي. قلت له: أعطني مخدرًا خفيفًا بحيث يمكنك أن تنبهني حين يولد الطفل لأراه قبل أن يأخذوه إلى غرفة المواليد.

وابتسم الدكتور تود قائلًا: أعدكِ بذلك، لكن هذا يتوقف عليك أيضًا وقدرتك على الإفاقة السريعة من المخدر.

وملأت أنفي وفمي رائحة الأتير، وسَرَتْ في جسدي برودة غريبة انتقلت بسرعة من رأسي إلى صدري ثم إلى ساقي وقدمي، وأحسست كأنما أسقط في بئر مظلم عميق بلا هواء، وأفتح فمي لأستغيث دون جدوى. لقد تحولت إلى جسد ميت لا يتحرك، وثقل غريب كثقل الكرة الأرضية فوق جفني.

ورأيت أمي أمامي فجأة. كانت ترتدي الثوب الأصفر الحريري والإيشارب الشفاف الأبيض حول عنقها، عيناها العسليتان في عيني وأنا ممدودة فوق السرير، وبِرْكة الدم من تحتي، وقلت بدهشة: كيف عرفتِ؟ وكيف جئتِ من البلد البعيد؟

كنت أخفي عنها كل آلامي، حتى آلام الولادة، وكل شيء مؤلم كنت أفعله وحدي بدون أمي وبدون أبي. أما الفرح فلم أكن أحسه وحدي، ولا بد أن تكون معي أمي أو أبي، وكنت أفاجائهما دائمًا بأفراحي، كل آلامي كانت تحسها أمي قبلي، ومهما ابتعدت وأخفيت تعرف مكاني وتأتي، وكنت وحدي بالبيت تلك الليلة في ربيع عام ١٩٥٦ حين فاجأتني الآلام. لم أعرف أنها الولادة، ونزفت دمًا غزيرًا. كان رأس ابنتي كبيرًا لا يريد أن يهبط، وعضلاتي صلبة لا تلين، وكان يمكن أن أنزف الدم حتى أموت، ثم دقَّ جرس الباب فجأة ورأيت أمي. لم أعرف كيف عرفت وكيف جاءت ومَنْ فتح لها الباب، وكل ما أذكره أنني كنت وحدي بالبيت، وأمي في بيت آخر بعيد، ولا أحد غيري يعرف أنني أنزف، بل أنا نفسي لم أكن أعرف.

وتلاشى الثقل من فوق جفني، وفتحت عيني بذهول، ورأيت وجه أمي غريبًا، ولأول مرة أراها ترتدي نظارة بيضاء، وعيناها زرقاوان وليستا عسليتين، وقلت لنفسي: ربما تغير وجهها لأنها ماتت منذ سنين، لكن سمعت صوت رجل يرن في أذني بلغة ليست عربية: انظري. إنه صبي جميل.

وانقشع الضباب ورأيت الضوء قويًّا أبيض، والجدران بيضاء ومعطف الدكتور أبيض ناصع البياض، وعيناه زرقاوان شديدتا الزرقة تلمعان من تحت النظارة البيضاء بابتسامة واسعة، أسنانه لامعة وصوته يرن في أذني كرنين الفضة المجلوة: انظري. إنه صبي جميل!

حملقت في الوجه الصغير بدهشة، بشرته حمراء بلون دمي، والشعر الأسود الغزير، والأنف الدقيق، والعينان مغلقتان، والفم مفتوح يلهث، ثم ما لبث أن أغلق فمه وفتح عينيه، وثبتت عيناي على المقلتين السوداوين اللامعتين، وانحفرت الصورة في ذهني، أصبحت جزءًا مني، وسمعت صوت الدكتور «تود» يقول ضاحكًا: هل حفظتِ ملامحه؟

وحملته الممرضة بين ذراعيها وهو يبكي ويرفس بذراعيه وساقيه، ثم وضعته على منضدة بيضاء، ولفَّت حول معصمه الصغير إسورة من النايلون تحمل رقم ٩٥٧٨، وممرضة أخرى أمسكت يدي، ولفَّت حول معصمي إسورة من النايلون الأبيض تحمل الرقم نفسه.

وأغمضت عيني ونمت وليس في ذاكرتي إلا المقلتين السوداوين، ورقم ٩٥٧٨ فوق المعصم.

•••

فتحت عيني في الصباح، ورأيت صينية إلى جواري عليها إبريق الشاي وبيضة مسلوقة وزبدة وخبز «توست»، أكلت بشهية ثم هبطت من السرير، وسرت في الممر الطويل حتى وصلت إلى الغرفة الزجاجية، وألصقت وجهي بالزجاج وعيناي تبحثان عن المقلتين السوداوين بين المواليد المتشابهة، والتقطتهما من بين العيون، دقات قلبي تتصاعد، ويدي ترتفع لألوِّح له من وراء الزجاج. لكنه كان راقدًا في سريره الصغير الأبيض، شاخصًا إلى السقف وأصبعه في فمه.

وأقبلت الممرضة نحوي تجري وتقول بدهشة: وضعت طفلك الساعة الواحدة صباحًا، والساعة الآن الثامنة صباحًا. لم يمضِ على الولادة إلا سبع ساعات وتسيرين هكذا في الممر؟! وقلت لها: الحركة بعد الولادة مفيدة، ثم إن طفلي جائع ولا بد أن أرضعه الآن.

وعدت إلى سريري، وبعد لحظات رأيتها مقبلة نحوي تجرُّ سريرًا زجاجيًّا صغيرًا داخله طفلي، وامتدت ذراعاي لتحوطه، ووضعته فوق صدري، ورأيت الفم الصغير يلهث، وحين دسست الحلمة السوداء بين شفتيه الصغيرتين قبض عليها بفكيه وأخذ يرضع اللبن بشهية وأصابعه الخمس الرقيقة تلتف بقوة حول أصبعي، وإحساس جارف بالأمومة يسري في كياني دافئًا كتدفُّق الدم في الشرايين.

•••

طلبت الخروج من المستشفى بعد ثلاثة أيام؛ لا أرى طفلي إلا في أوقات الرضاعة، وينام في غرفة بعيدة عني، وأريد أن أضمه بين ذراعي، وتضمَّني أنا وهو غرفة واحدة، ثم إن رائحة المستشفى فقدت بهجتها ولم يعد بقائي يعني إلا مزيدًا من النفقات.

قدمت لهم شيكًا بالمبلغ، وقدَّموا لي شهادة ميلاد ابني، ووجدت أنهم أعطوه لقب أبي، ودهشت، هل يسمى الطفل هنا باسم الأم؟ وتساءلت رئيسة الممرضات بدهشة وكان اسمها مسز سيلفرمان: ألا تحملين اسم زوجك؟

وقلت: لا، أنا أحمل اسم أبي، وتصورت مسز سليفرمان أنني أم غير متزوجة؛ لأن الأم المتزوجة تحمل اسم زوجها بالقانون الأمريكي، ولا تحتفظ باسم أبيها إلا الأم غير المتزوجة، والطفل في هذه الحالة يحمل اسم الأم، ويُنْظَر إليه كطفل شرعي تمامًا.

وقلت: أنا متزوجة ولكني أحمل اسم أبي. وهذا هو القانون في مصر، وشهقت مسز سيلفرمان بدهشة: هذا عجيب! ألا تحمل المرأة عندكم اسم زوجها؟!

وقلت: لا.

ورددت مسز سيلفرمان: هذا عجيب! ثم فكرت لحظة وقالت: الزوجة المصرية أكثر حظًّا من المرأة الأمريكية، فهي تحمل اسمًا واحدًا طول حياتها. أما المرأة هنا فهي تغير اسمها بعد الزواج. وقد تغير اسمها أكثر من مرة إذا تزوجت أكثر من مرة.

وحكت لي قصتها مع أسمائها الثلاثة. كان اسمها قبل الزواج مس سيلفرمان، وتزوجت من رجل اسمه براون فأصبح اسمها السيدة براون، وحصلت على شهادة التمريض بهذا الاسم، ثم طُلِّقَت من براون بعد عامين وتزوجت مورجان، وبعد الزواج حصلت على درجة الماجستير في التمريض باسم السيدة مورجان، ثم انفصلت عن زوجها مورجان بعد ثلاثة أعوام، وأصبح اسمها السيدة سيلفرمان وهو اسم أبيها، وحصلت على الدكتوراه في التمريض العام الماضي باسم مسز سيلفرمان.

وقالت في ختام قصتها بأسًى: وهكذا فأنا أحمل ثلاث شهادات من الجامعة وعلى كل شهادة اسم مختلف.

وقلت لنفسي: أي امتهان لشخصية المرأة!

لكن ذلك كان في نهاية عام ١٩٦٥، ولم تكن حركات تحرير المرأة قد سمع بها أحد في أمريكا بعدُ، ولم يخطر ببالي حينئذٍ أنه لن تمر سنوات قليلة حتى تخرج النساء الأمريكيات إلى الشوارع في مظاهرات ضد سيادة الرجل، وضد القوانين التي تجعل المرأة أقل من الرجل، ومنها القانون الذي يفرض على الزوجة أن تحمل اسم زوجها، وامتدت الثورة النسائية أيضًا لتشمل إلقاء مساحيق الوجه في صناديق القمامة، ومشدات الصدر وغيرها من أدوات الزينة رموز القهر الجنسي للمرأة.

•••

عدت إلى الكلية بعد أربعة أيام، وانتشر الخبر في الجامعة، وبدأ الأساتذة والزملاء والزميلات يفِدون إلى بيتي للتهنئة، وكلٌّ يحمل هدية للطفل، إحدى الهدايا كانت عربة صغيرة لها كبوت أحمر جميل، وفي الأيام الدافئة حين تسطع الشمس أخرج إلى المنتزه على شاطئ نهر هدسون، أدفع بالعربة أمامي، ومن تحت الكبوت الأحمر يطل وجهه الصغير، تتوسطه المقلتان السوداوان اللامعتان، تتسعان بالدهشة لأي صوت وحركة، وتنفرج الشفتان الصغيرتان عن ابتسامة سعيدة. وقد يضحك بصوتٍ عالٍ كزقزقة عصفور، وتتوقَّف النساء وهن سائرات ليحملقن في العينين السوداوين ذات البريق، وتنطلق الأصوات هاتفة: كيوت! كم هو طفل جميل!

وتتسع عيناه بالدهشة، وعيناي أيضًا تتسعان، النساء في بلادنا لا يتوقفن في الطريق، ولا يُظهرن إعجابهن بالطفل مهما كان جميلًا، بل تهتف الواحدة منهن قائلة: كم هو طفل قبيح! وتبتسم الأم في سعادة وقد اطمأنت إلى أن العين لم تحسده.

كان طفلًا وديعًا هادئًا، ينام طول النهار والليل، ولا يصحو إلا للرضاعة، وكنت أتركه بعد رضعة الصباح نائمًا وأذهب إلى الكلية المسافة بين البيت والكلية سبع دقائق سيرًا على الأقدام بالخطوة السريعة، وأعود إلى البيت جريًا كل ثلاث ساعات لأرضعه.

وفي أيام الإجازات تساعدني ماريون في تنظيف البيت وغسل ملابس الطفل وشراء لوازم البيت، وفي نهاية كل أسبوع تلتقط له صورة ملونة، أرسلها بالبريد إلى زوجي وابنتي.

وأصبح رفيقي يؤنسني بالنهار بضحكاته المرحة كالشهقات المتقطعة، وحركة يديه وهو يهز الكرات الملونة المثبتة أمام مقعده، وأصابعه الصغيرة حين تلامس أصبعي تلتف حوله بقوة لا تريد أن تتركه.

وفي ظلمة الليل الموحش بالغربة، وصفير الرياح من المحيط، وهدير المطر فوق زجاج ناطحات السحب، وصرير الأعمدة السوداء الضخمة فوق الكباري الحديدية، في ظلمة الليل في قلب تلك المدينة الأمريكية الضخمة على بعد آلاف الأميال عن الأهل والوطن، أفتح عيني في الظلام وأنا راقدة تحت الغطاء، أطرافي باردة بالغربة، وقلبي ثقيل بالوحدة والوحشة.

وأرفع رأسي من فوق الوسادة فأراه نائمًا في سريره الصغير، بشرته من لون بشرتي، وملامحه تشبه ملامحي، وأنفاسه ساخنة لها رائحة الأهل والوطن.

أحوطه بذراعي، وأغمض عيني لأحس الدفء يسري في أطرافي، والريح تكف عن الصفير، والليل لا يعود غريبًا ولا موحشًا، وأنام حتى أصحو على صوته في الصباح، عصفور يغرِّد، يحرك ذراعيه وقدميه في الهواء، يحاول أن يرفع رأسه ويطل عليَّ من بين أعمدة السرير الملونة.

كان ينمو بسرعة ويأكل بشهية، طعام الأطفال داخل علب زجاجية صغيرة، مطهي جاهز ولذيذ الطعم، على الرفوف في المحلات والأسواق تطل العلب بألوانها وأشكالها المتعددة: فواكه وخضر وأسماك وبيض وبقول من كل نوع، على علبة التفاح ترسم تفاحة حمراء، وعلى علبة السمك سمكة ملونة في يد طفل يلعب، وعلى علبة الأرز باللبن وعاء أبيض مملوء بالمهلبية.

كم من الوقت كانت تقف أمي أمام الموقد تقلِّب اللبن مع مسحوق الأرز لتصنع المهلبية؟ وكم من الوقت كنت أنفقه لأصنع لابنتي طعامها وهي طفلة؟ ولكني هنا أمد يدي وأسحب علب طعام الأطفال ما أشاء.

وتآلف مع حياتي الجديد، أصبحت أحب الكلية والمحاضرات وصداقات جديدة تربطني بالزميلات والزملاء، والأساتذة يندهشون حين يرون أنني أقدِّم البحوث في موعدها وأحصل في الامتحانات على أعلى الدرجات، ولم أتغيب طوال العام إلا أربعة أيام.

أحد الأبحاث التي قدمتها كان عن مستشفى «هارلم»، وهارلم هو حي الزنوج في نيويورك، زرت المستشفى عدة مرات مع ماريون، قاعة انتظار المرضى تذكِّرني بقاعات الانتظار في مستشفى قصر العيني، والطابور يشبه الطابور الذي كان يقف أمامي كل صباح، الوجوه الشاحبة الذابلة، عيون ضامرة حزينة، ينتظرون اللحظة التي تناديهم فيها الممرضة ليمثُلوا بين يدَي الطبيب أو الطبيبة، بعضهم ينزف، بعضهم في شبه غيبوبة أو إغماءة، مكدسون في القاعة منذ ساعات طويلة.

وتساءلت: لماذا ينتظرون كل هذه الساعات؟

قالت ماريون: نقص في عدد الأطباء، والطبيب الواحد يكشف على مائة مريض في اليوم.

في مفكرتي عام ١٩٥٦ حين كنت طبيبة امتياز بقصر العيني كنت أدوِّن عدد المرضى الذين أفحصهم في العيادة الخارجية في اليوم الواحد، بلغ الرقم في أحد الأيام مائة وثلاثة وعشرين مريضًا، وحين انتقلت للعمل بوزارة الصحة لم تعد هناك وسيلة لمعرفة عدد الطابور الممتد بامتداد البصر.

عنابر المرضى في مستشفى هارلم تشبه عنابر قصر العيني، لكن الطرقات في قصر العيني كانت خالية، وهنا أرى المرضى يرقدون على أسرَّة إضافية في الطرقات، والممرات الضيقة في المستشفى، والرائحة هي الرائحة التي كنت أشمها وأنا أمرُّ على المرضى، عفونة الدم والصديد والجروح المتقيحة، ودورات المياه تفوح منها رائحة نتنة كالمجاري الطافحة، وصراصير حمراء وسوداء كبيرة وصغيرة تجري حول البالوعات.

وضعت ماريون على أنفها منديلها الأبيض وهي تقول: يُلقون الفائض من علب الطعام في مياه المحيط وهؤلاء الناس يمرضون من الجوع.

وسألتها: ولماذا يحدث هذا؟ أمريكا بلد غني!

قالت ماريون: نعم، وعندنا مشكلة السمنة، وهي مشكلة ثراء، ٢٥٪ من الأمريكيين مصابون بتضخم الجسم من الزيادة في الأكل، لكن الاقتصاد الرأسمالي يقتضي وجود الفقراء؛ إنهم هم الذين يشترون من السوق، وإذا وُزِّع عليهم الفائض لم يذهبوا للشراء، وتنخفض بذلك القوة الشرائية، وتتكدس البضائع ويخسر أصحاب المصانع والشركات.

كنت أعرف أشياء جديدة كل يوم، وأختار لأبحاثي الموضوعات الشائكة الصعبة، علاقة الاقتصاد بالطب والصحة والمرض، أسباب الفقر في أمريكا، أحوال الزنوج في هارلم وأصحاب الملايين في مانهاتن، نسبة مرض الدرن في حي بروكلين، علاقة العدالة الاجتماعية بالصحة.

موضوعات أبحاث جديدة، وعلاقات جديدة بين السياسة والطب، وبين الفرد والمجتمع، وبين الجسد والنفس والعقل.

ولم تكن هناك محظورات في البحث، أختار ما أشاء من الموضوعات، وليس هناك مكتب أمن في الجامعة ولا حرس من رجال البوليس.

والأساتذة لا يعلِّمون فحسب، ولكنهم يتعلمون أيضًا، والمحاضرة لا تُلقى والطلبة يستمعون ويدوِّنون في الكشاكيل، ولكن الحوار يدور بين الأساتذة والطلبة والطالبات: حوار مفتوح ومناقشات، والأستاذ يعترف بأخطائه، ويعرف كل طالب وطالبة معرفة وثيقة، ونوع غريب من الإنسانية وروح الزمالة تشيع في الجامعة.

•••

أصبح للهواء في الصباح برودة منعشة تملؤني حماسًا ونشاطًا وأنا ذاهبة إلى الكلية أحرك قدمي فوق الأرض اللامعة بخطوات سهلة خفيفة، كأنني وُلِدت هنا وسأموت هنا ولم أعرف مكانًا آخر، صوت العجلات المسرعة فوق الكبري الحديدي أصبحت مألوفة، والبخار يتصاعد من ثقوب الأرض، وأصوات الهليكوبتر تمرق كالطيور بين ناطحات السحاب، ورائحة مياه المحيط وقراءة صحف الصباح وهدير المظاهرات والهتافات.

وأمطار الليل غسلت الأرض والهواء والبيوت، وكل شيء يلمع تحت الشمس.

وعينا ماريون الزرقاوان تلمعان وهي تستقبلني على الباب، اليوم مظاهرة!

منذ الطفولة وأنا أحب المظاهرات، عشق خفي لكل مظاهر التمرد على النظام، لهفة وانتظار غامض لوقوع خلل في الكون، أي خلل، وإن كان سقوط نجم من السماء أو ارتجاج الأرض بصوت الرعد والبرق.

أصوات الطلبة في المظاهرات كهدير الشلال، فوق جسدي تسري قشعريرة كاللذة الغامضة، هل يمكن حقًّا أن تسقط النظام؟

ماريون توزع علينا منشورات طويلة صفراء، صورة لطفلة في فيتنام احترق وجهها بالنابالم، وصورة أخرى لجندي أمريكي يرقد على الأرض بذراع واحدة والدم يسيل من رأسه، وجندي فيتنامي يحاول أن يحمله.

الشوارع امتلأت بالشباب والرجال والنساء، أمهات يدفعن بعربات الأطفال أمامهن ويحملن اللافتات ويهتفن: نريد السلام لا الحرية، مظاهرة من النساء والرجال العجائز يحملون لافتة كبيرة كُتب عليها: أعيدوا أبناءنا من فيتنام!

ميدان كولومبس الفسيح يرتج تحت أصوات الهتاف، شمس مارس تتألق في السماء مع بشائر الربيع الأولى، الحماس يسري في كياني كالدم الساخن، أصوات الهتاف ترنُّ في أذني مألوفة كهتافات الطلبة في الوطن، والوجوه تشبه وجوه الناس من أهلي: بيضاء وسوداء وسمراء، كلها متشابهة، متلاصقة في جسد بشري واحد، وأنا جزء من هذا الجسد، أنفاسهم من أنفاسي، وحرارتهم من حرارتي، والذوبان النهائي آخر قطرة من قطرات الغربة أو الوحشة في دمي.

•••

في اليوم الأخير من العام الدراسي وزَّعوا علينا الشهادات في حفل كبير، الدكتور «تراسل» يقف بملامح الأب وسط الأساتذة، يقدِّم لي شهادة التفوق مكتوبة على الورق المصقول، وشهادة أخرى غير مكتوبة على الورق، ترن في الجو بصوته الهادئ، وتنحفر الكلمات في ذهني، تصبح جزءًا مني، وتظل حية كخلايا المخ.

في قاع مكتبي رقدت الشهادات المكتوبة على الورق عشرين عامًا، أصبح الورق باليًا والحروف بليت وأكلها الزمن والعتَّة، لكن الشهادات غير المكتوبة ظلت حية في خلايا المخ، تعيش معي وتموت معي، ولا زلت أذكر عبارة قالتها لي مدرِّسة الطبيعة في المدرسة الابتدائية عام ١٩٤٢، أذكر الحروف حرفًا حرفًا، وحركة الشفتين وهي تنطق الكلمات، وحركة «النني» في العينين، وصوتها يلامس أذني ثم يسري في القنوات العميقة داخل الرأس، ويمشي في الخلايا دافئًا متدفقًا كشحنة من الدم الجديد.

•••

عينا ماريون الزرقاوان فيهما دموع، تلوِّح لي بيدها من وراء الزجاج، ثم تذوب في الجو، عيناي تتسعان بالدهشة، وزجاج النافذة تكسوه عتامة وقطرات ماء دقيقة كرذاذ المطر.

تسقط قطرة على ظهر يدي ساخنة، وأدرك أنها دموع، وأن قلبي ثقيل.

لكن الصوت ينبعث فجأة من سقف الطائرة معلنًا الإقلاع خلال دقائق إلى «القاهرة»، ترنُّ كلمة «القاهرة» فجأة، وتحدث من حول رأسي انتفاضة في الهواء كالمس الكهربي، ويلوح لي الوجهان تحت الضوء في بيتنا الصغير أول شارع الهرم، والشجرة الخضراء تطل من السور أمام البيت، وعم أحمد البواب جالس على الدكة، وكشك الصحف على ناصية الشارع، وبائع الفول يدس المغرفة الطويلة داخل الفوهة يتصاعد منها البخار، وبائع الروبابيكيا يدفع بالعربة أمامه ورأسه إلى أعلى مناديًا بصوت حاد: بيكيا!

يزحف الحنين على جسدي كقشعريرة برد، انتفاضة تشملني من رأسي لقدمي كرجفة بدايات الحمَّى، وعيناي تدوران من حولي تفتشان عن الملامح الأليفة، وأذناي تتشممان اللهجة والصوت، وحنين جارف كالمرض الكامن ينفجر فجأة، فإذا بي أشتاق لكل شيء وأي شيء، حتى ذرات الغبار السابحة في الهواء تحت شعاع الشمس، ورائحة المجاري تحملها نسمة الربيع في أول الصباح.

•••

عيناي تسبقان العجلات السريعة فوق الأرض، وخفقات قلبي تطغى على كل الأصوات، أخترق الزجاج لأُطِلَّ على الرءوس الكثيرة في شرفة المطار، وجوه كثيرة غريبة وعيناي تقفزان من وجه إلى وجه، تبحثان عن العلامات المميزة: الوجه النحيل والعينان السوداوان العميقتان، الوجه الصغير المستدير تتوسطه العينان العسليتان.

ورأيتهما فجأة كأنما تكثَّفت ذرات الهواء وتجمَّعت لتجسدهما أمام عيني، زوجي يرتدي قميصًا أبيض ويلوِّح لي بحركته الهادئة الواثقة، ابنتي تقفز إلى جواره وتتقدم نحوي غير عابئة بحزام الشرطة، الرجل الشرطي يدفعها إلى الوراء.

أرفع يدي في الهواء كأنما لأمسكها، لكن المسافة لا تزال بعيدة، وعلى اللوح الخشبي أمام موظف الجمرك تبعثرت ملابسي وملابس الطفل، وأصابع الموظف تعبث بأوراقي وكتبي، ولم يكن معي شيء، لعب أطفال وطائرة زرقاء لابنتي تحوطها أجنحة رقيقة بيضاء.

شد الموظف الطائرة من علبتها الكرتون المربوطة بشريط ملون، وهزَّها بقوة ليتأكد أن ليس داخلها شيء، فانزلقت من يده، وسقطت على الأرض، وتناثرت الأجنحة الرقيقة كالفراشة البيضاء فوق الأسفلت.

وفي العناق أغرق الفرح الأحزان الصغيرة، وخرجت من المطار والأذرع تحوطني: زوجي وابنتي وإخوتي والأصدقاء، وبين ذراعي أحمل ابني، عضو جديد في الأسرة الصغيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤