الفصل السابع

رحلة الهند

رحلتي إلى الهند لم تكن كأية رحلة إلى أي بلد. كانت أشبه ما تكون برحلة الحياة كلها منذ الولادة حتى الموت، كالدائرة تبدأ وتنتهي إلى النقطة ذاتها. لكنها ليست النقطة ذاتها؛ لأن الولادة ليست هي الموت والبداية ليست هي النهاية.

قد يدهش الكثيرون ممن يهوون السفر والرحلات لماذا شعرت نحو الهند بالذات مثل هذا الشعور، والعالم فيه من البلاد والأمكنة التي ينبهر لها السياح؟ لكن السياحة في رأيي ليست ركوب طائرات وزيارة متاحف والنوم والأكل في الفنادق الفاخرة، السياحة عندي هي التجول على الأقدام في الشوارع والحواري المتربة، واكتشاف الإنسان في أي مكان، وبالذات تلك الأمكنة التي يهرب منها السياح، أو يضعون مناديلهم فوق أنوفهم حين يمرون عليها بالصدفة.

رحلتي إلى الهند كانت طويلة ومرهقة، ولكنها كانت ممتعة، أشبه ما تكون برحلة إلى النفس في قسوتها وفي حلاوتها، ربما هي أصعب رحلة قمت بها في حياتي رغم أنني زرت معظم بلاد العالم ومشيت في أوعر الطرق. لكن صعوبة اكتشاف الهند تشبه إلى حدٍّ كبير صعوبة اكتشاف النفس، رغم أن النفس ملتصقة بالإنسان منا، لكن كم من زمن وجهد حتى يعرف الواحد منا نفسه. وهذه هي الهند أيضًا، بقدر ما تعرف نفسك تعرفها، وبقدر ما عندك في نفسك بقدر ما تعطيك الهند من نفسها، ولعل هذا هو السبب في أن بعض الناس لا يرون في الهند إلا التراب والفقر، والبعض الآخر يستطيع أن يخترق السطح ويصل إلى قلب الإنسان الهندي.

قبل أن تهبط الطائرة في مطار نيودلهي أعلنت المضيفة أن الساعة السابعة صباحًا، نظرت في ساعتي فأدركت أن الناس في القاهرة لا زالوا نائمين (الشمس تشرق في الهند قبل مصر بثلاث ساعات ونصف)، كنا في شهر يناير، وكنت أرتدي معطفًا صوفيًّا، لكني خلعت المعطف بمجرد هبوطي على أرض الهند، وأحسست شمس الشتاء في الهند دافئة حنون بعثت في جسدي نوعًا من اللذة والتفاؤل.

انتظرت وصول الحقائب وسط جمع كبير من السياح والمسافرين، معظمهم من الأجانب ذوي الوجوه البيضاء المشربة بالحمرة، ملابسهم عالية أنيقة، حقائبهم كبيرة ثمينة، بعضهم يعلِّق الكاميرا في كتفه (سياح)، والبعض الآخر يمسك حقيبة يد «سمسونايت» (خبراء بالطبع)، في كل مطار ألتقي بهؤلاء الرجال، أعرف شكل حركاتهم، وأعرف نظرة عيونهم الزرقاء ترقب في استعلاء الوجوه السمراء مثل وجهي أو وجه الهنود، وتتأفف من منظر الحقائب القديمة والملابس البالية، كأنما السفر بالطائرات ليس إلا حق هؤلاء الرجال مندوبي الشركات الاستعمارية أو السياح الأثرياء العاطلين في أوروبا وأمريكا، وكأنما الأموال التي يشترون بها ملابسهم الأنيقة وحقائبهم الكبيرة الثمينة ليست هي في الأصل أموال هذه الوجوه السمراء والكادحة أصحاب الأرض وأصحاب البلد.

الوجوه الهندية من حولي تذكِّرني بالوجوه في بلدي، وتلك الابتسامة المتواضعة التي تشبه أحيانًا ابتسامة من يشعرون بالضعف أو الحرج أو الذل، أحد مخلفات الاستعمار هي تلك الابتسامة، وكم أفضِّل عليها تكشيرة الغضب. أحد الهنود يفسح مكانه في تواضع لذلك الرجل الإنجليزي المتعالي، يتقدم الرجل الإنجليزي ويأخذ حقائبه دون أن يشكر الهندي أو حتى يبتسم له، أكتم الغضب في نفسي وأرمق الرجل الإنجليزي بنظرة ازدراء وكراهية يقشعر لها بدنه ويكاد يهرب من أمام عيني جريًا، أبتسم لنفسي في سخرية، هؤلاء الإنجليز يغلِّفون أنفسهم من الخارج بكبرياء يشبه الثقة والشجاعة، ولكنهم في حقيقة أمرهم لا يستطيعون مواجهة عينين سوداوين مفتوحتين تنظران إليهم دون أن ترمشان.

حملت حقيبتي بنفسي، حوَّطني عددٌ من الحمالين يحاول كل واحد منهم أن يحمل عني الحقيبة، تذكَّرت مطار القاهرة وشعرت بالحزن، مثل هذا المنظر لا أراه في مطارات أوروبا وأمريكا، ولكن الفقر في الهند أو في مصر أو في أي بلد من بلاد آسيا وأفريقيا ليس إلا أحد مخلفات هؤلاء المستعمرين في أوروبا وأمريكا، وينسى السياح هذه الحقيقة ويتأففون من منظر الحمالين وهم يتنافسون على حمل الحقيبة، أو يصدمهم منظر الشحاذين، وكم يشكو السياح في الهند من كثرة الشحاذين.

•••

وجدت — بحكم خبرتي — في السفر والرحلات أن الانطباعات الأولى للعين الغربية من أهم الانطباعات وأصدقها. وقد تعوَّدت أن أسجِّل انطباعاتي الأولى عن أي بلد جديد أسافر إليه، قبل أن تألف عيني البلد، وقبل أن تُضعف هذه الألفة حساسية العين للأشياء الجديدة، ويصبح الجديد شيئًا عاديًّا لا تراه العين.

لا أقصد هنا العين أو الرؤية فقط ولكني أقصد الإحساس أيضًا، فقد أدركت منذ هبطت على أرض الهند أن إحساسًا عميقًا بالراحة والسلام والطمأنينة غمرني. لم أعرف سبب ذلك، هل هي ابتسامة الناس المستسلمة الوديعة، هل هي السماء الزرقاء الصافية والشمس، هل هو ذلك الرجل العجوز الجالس فوق الرصيف ينظر إلى الناس والحياة بإشفاق وزهد يشبه إشفاق وزهد غاندي؟ أم هي تلك العصافير التي تشدو في كل مكان وتهبط في أي مكان تلتقط طعامها من وسط الناس؟ أم هذه الأبقار التي ترعى في الشوارع إلى جوار السيارات والموتوسيكلات والعجلات تأكل من أي مكان دون أن يتعرض لها أحد؟

قلت لنفسي إذا كانت العصافير والأبقار آمنة في الهند فهذا هو سبب شعوري بالأمان والسلام، ولكني عرفت بعد ذلك أن الهنود يحترمون الحياة في أي شكل من أشكالها، وأن الفلسفة الهندية قائمة على تقديس الحياة وعدم قتل أي كائن حي وإن كان بعوضة، بل إن إحدى الديانات الهندية واسمها الديانة «الجينية» تفرض على الناسك منها أن يرتدي فوق أنفه قناعًا، وأن يمشي على الأرض حافيًا وبخطوات خفيفة، والهدف من ذلك هو حماية النمل والحشرات البريئة من أن تدوسها قدم الناسك. أما القناع فهو لحماية الباعوض أو الهاموش الصغير البريء من أن يدخل مع الهواء إلى أنف الناسك ويموت في صدره.

كنت قد أُعجبت كثيرًا بموقف الهنود من الحياة واحترامهم لها، لكني لم أستطع أن أمنع نفسي من الضحك على هؤلاء الرجال الحفاة ذوي الأقنعة الذين كنت ألتقي بهم في الشارع أحيانًا، وكنت أندهش لمنظرهم وأظن من ملابسهم البيضاء والقناع الأبيض أنهم أطباء خرجوا لتوِّهم من حجرة العلميات بحثًا عن مريض هارب، أو أنهم مصابون بمرض في الأنف، أو أنهم مصابون بمرض الوسوسة ويغطون أنوفهم خوفًا من الجراثيم في الجو، أو أنهم نزلاء أحد المستشفيات العقلية، وحينما عرفت أنهم الناسكون في الديانة الجينية، وأنهم يغطون أنوفهم ليس حمايةً لأنفسهم من الجراثيم وإنما حماية للجراثيم منهم قلت لنفسي: كم ينقلب المبدأ العظيم أحيانًا إلى نوع من الهلوسة والجنون! وكم تنطوي الأديان أحيانًا على تناقضات ومبالغات وخزعبلات!

من الصعب أن تعرف البلد من عاصمته؛ فعواصم البلاد في معظم الأحيان ليست إلا مدنًا كبيرة متشابهة، تسكنها السفارات ودواوين الحكومة، شوارعها فسيحة نظيفة، تزداد مساحة ونظافة باقترابك من بيوت الحكام أو مكاتبهم أو حيث ينشط مندوبوهم أو ممثلوهم أو ما شابه ذلك. والعاصمة نيودلهي لا تختلف عن أية عاصمة في ذلك. وكم تندهش لبعض البيوت الفاخرة ذات الطراز الحديث المحوطة بالحدائق اليانعة، وتلك الشوارع الفسيحة الجميلة التي تقودك إلى الأحياء الراقية حيث يعيش أثرياء الهنود والأجانب والسياح.

ولكن سرعان ما تدخل إلى «دلهي» القديمة كما يسمونها، وتضيق الشوارع وتزدحم بالأجسام والأنفاس، ولا تكاد تعرف الرصيف من الشارع، ولا تكاد تفصل بين تلك المركبات التي تجري فوق الأرض، مركبات تعرف أنها سيارة أو موتوسيكل أو عجلة، ومركبات لا تعرف ما إذا كانت سيارة أو موتوسيكلًا أو عجلة أو مزيجًا من كل هذا، في الهند تستطيع أن ترى بعينيك جميع أنواع المركبات منذ اكتشاف العجلة وابتداءً من الفيل أو الجمل أو البقرة أو الخنزير. كل أنواع الحيوانات هنا تجر أية عربة في أية شارع، وكل أنواع العجل منذ تطور من عجلة تحركها قدما الإنسان، إلى عجلة يحركها موتور، إلى موتوسيكل، ثم إلى سيارة، كل ذلك تراه في الشارع الواحد يجري ويتسابق، ويمكنك أن تميز الطبقات وأنت سائر في الشارع؛ الذين يركبون السيارات هم طبقة الحكام والأثرياء من الهنود والأجانب وذوي المهن المربحة العالية. الذين يركبون الموتوسيكلات هم طبقة صغار التجار وصغار الموظفين. الذين يركبون العجلات هم أبناء الطبقة الفقيرة والطبقة العاملة. أما أدنى طبقة في الهند فهم الذين لا يركبون شيئًا وإنما هم الذين يجرُّون العجلات (كما يجرها البقر أو الحمير). ومن المناظر المألوفة في الهند هي أن ترى ذلك الرجل النحيف الهزيل الذي يلهث ويتصبب العرق من وجهه وجسده وهو يجر على عجلته ثلاثة أو أربعة من الأشخاص. هذه العجلة التي يجرها الإنسان اسمها «الريكشا» وهي منتشرة في الهند، وكم ترى أحيانًا ذلك السائح الأبيض السمين وإلى جواره زوجته السمينة يجلسان في سعادة يتفرجان، بينما راح الرجل الهزيل الأسمر يجرهما فوق عجلته وهو يلهث.

على أن هذا الرجل النحيل اللاهث أحسن حالًا من غيره؛ لأنه لا زال يملك القوة التي يجرُّ بها شيئًا، وهناك مَنْ فقد تلك القوة، ولم يعد يملك إلا الرقاد على الرصيف في انتظار الأجل المحتوم. وعلى الأرصفة في أي مكان في الهند ترى هؤلاء الرجال والنساء والأطفال الذين لا مأوى لهم إلا قطعة الرصيف التي يرقدون فوقها.

بعض السياح في الهند ينظرون إلى هذا الفقر نظرة رومانتيكية، بعضهم يقف مذهولًا يتألم دون أن يدرك السبب الحقيقي لهذا الفقر، بعضهم يتهم الفقراء بالكسل أو الغباء، بعضهم يقول: إن هذه هي إرادة الله، والله هو الذي يوزع الرزق على من يشاء ويحرم من يشاء. بعضهم يظن أن الفقر فلسفة هندية ونوع إرادي من العزوف عن متع الحياة. كل شيء ممكن أن يفكر فيه السياح إلا السبب الحقيقي؛ ذلك أن المال الذي ينفقه السائح الواحد منهم في اليوم يكفي لإعالة أسرة هندية لمدة شهر، وذلك أن ثروات الهند الطائلة لم تكن تذهب إلى أصحاب البلد وإنما إلى جيوب الغزاة الأجانب، بل إن جزءًا منها حتى الآن لا تزال تنهبه الشركات الإنجليزية والأجنبية.

•••

لا أدري لماذا تذكرت طفولتي وأنا في الهند، ليس تذكرًا عاديًّا بأن أتذكَّر حوادث ما، ولكنه إحساس قوي طاغٍ يستولى عليَّ حين أنظر في وجوه الأطفال الهنود فإذا بي أحس كأنما هذا الطفل الواقف أمامي هو أنا حينما كنت طفلة، وأن تلك النظرة في عينيه هي بالضبط نظرة عيني وأنا طفلة، وأن الطريقة التي ينبهر بها أو يجري أو يلعب بها، أو يحمل بها أخاه الأصغر هي نفسها طريقتي وأنا طفلة.

من المناظر المألوفة في الهند أن ترى الأطفال يلعبون وقد حمل الواحد منهم أخاه أو أخته الأصغر بطريقة معينة؛ ذلك أن يركب الطفل الأصغر فوق خصر الطفل الأكبر وتتدلى ساقاه، هؤلاء هم الأطفال المحظوظون الذين خرجوا من بيوتهم ليلعبوا في الشوارع أو الحدائق، أما معظم الأطفال فإنهم لا يعرفون شيئًا اسمه اللعب وإنما يشتغلون ويكدُّون سعيًا وراء الرزق سواء في الحقول أو المصانع أو الدكاكين الصغيرة، وهناك أيضًا الأطفال الذين يعترضون طريقك في أي شارع باسطين أيديهم النحيلة وهم يقولون باللغة الإنجليزية: أعطني بقشيشًا. لكن المنظر الذي لا يمكن أن تنساه هو هؤلاء الأطفال الذين لا يعترضون طريقك، ولا يقولون شيئًا وإنما ينظرون إليك بعينين صامتتين ليس فيهما إلا معنًى واحد مُلحٌّ وصارخ يهتف بغير صوت: نحن جوعى!

•••

إحساس غريب أصبح يلازمني في الهند كلما رأيت طفلًا أو دخلت بيتًا أو معبدًا أو مكتبًا أو مدرسة أو مستشفى أو مصنعًا، إحساس غريب كأنما أنا لست في الهند وإنما في مصر، رغم الاختلاف الظاهري هناك نوع من التشابه الغريب، كأنما الجذور واحدة، وأصبحت وأنا أكتشف الهند كأنما أكتشف مصر، وبدأت أتفهَّم تاريخ مصر من تاريخ الهند، وأرى حقائق عن مصر لم أرها وأنا في مصر. ليس ذلك فقط لأن الإنسان لا يعرف بلده إلا وهو خارجه أو لا يرى الشيء إلا من مسافة، وإنما لأن الملامح العامة في الهند تشبه الملامح العامة في مصر، بل إن رائحة الهواء ورائحة التراب تكاد تشبه هواء وتراب مصر.

في كل مكان أذهب إليه يسألونني: هل رأيتِ التاج محل؟ وحينما أقول: لا. تتسع العيون دهشة وأسمعهم يقولون: إذن أنتِ لم تري الهند، وتذكرت «الهرم» في مصر، وكيف يتصور الكثيرون أن أهم ما في مصر هو هرم خوفو، كما يتصور الكثيرون أن أهم ما في الهند هو التاج محل. وليست هذه هي الحقيقة في رأيي، ولست من هؤلاء الذين يعبدون الآثار والأبنية، ودائمًا يرادوني هذا السؤال حينما أرى أثرًا ضخمًا أو بناءً هائلًا: مَن الذي بناه؟ ولماذا؟ مهما بلغ البناء من جمال لا أرى جماله إلا بعد أن أعرف القصة وراءه. وكم من قصص أليمة وراء أجمل الآثار والأبنية، وكم من أهرامات وأشباه الأهرامات بُنيت بدماء وعرق آلاف العبيد الجوعى.

إن أعظم أثر تاريخي هو الهرم الأكبر في مصر، الذي بُني بعرق ودم آلاف العبيد من المصريين الفقراء، وإن أجمل أباجورات في العالم عُمِلَت من جلود الرجال والنساء الذين قتلهم هتلر في سجون النازية، وإن التاج محل أجمل بناء في العالم بُني بسواعد آلاف الهنود الجوعى لمدة عشرين عامًا. ويقولون إن الإمبراطور المغولي قطع ذراعَي المهندس الذي بناه حتى لا يبني واحدًا مثله لأي إمبراطور آخر. ومع ذلك فقد أصبح التاج محل يرمز في التاريخ إلى الحب، وفي الليالي القمرية ترى أفواجًا من العشاق والسياح يتطلعون إلى هذا المبنى الرخامي الأبيض، ويذكرون بإعجاب ذلك الإمبراطور المغولي الذي بناه لزوجته المحبوبة بعد وفاتها. إن التاج محل ليس إلا مقبرة لإحدى زوجات الحكام المغول. لكنه بُني بالرخام الثمين، تعلوه قباب رخامية رائعة المنظر، وعلى جدرانه من الداخل والخارج نقوش بديعة متعددة الألوان.

وقد رأيت التاج محل في مدينة أجرا. وكما نصحني الناس رأيته في ضوء الشمس، ورأيته في ضوء القمر، ولمست بأصابعي جدرانه الرخامية الناعمة تشبه في نعومتها بشرة زوجات الأباطرة والملوك، وهبطت السلالم داخله لأرى التابوت الذي دُفنت تحته الزوجة والذي رُصِّعَ بالمرمر والأحجار الكريمة، وقيل لي: إن الأموال التي بذلت في بناء التاج محل كانت تكفي لبناء الهند وجعلها أكثر البلاد تقدمًا.

وعلى العشاء في بيت الشاعرة أمرتنا برتيام دار الحوار حول هذا السؤال: أيهما كان أكثر فائدة: بناء تاج محل، أم بناء الهند؟ وانقسمت الآراء، بعض الهنود قالوا: إن بناء تاج محل كان أكثر فائدة؛ لأن السياح من جميع أنحاء العالم يأتون إلى الهند لرؤيته، ولأنه يعتبر من الناحية المعمارية والناحية الجمالية أجمل بناء في العالم، لكن البعض الآخر عارض هذا الرأي وتساءل قائلًا: ما هو الجمال؟ إن الجمال الذي يقوم على استغلال آلاف الجوعى لا يمكن أن يكون جمالًا. وقد كنت مع الرأي الأخير. لكن بعض عشاق التاريخ والآثار قالوا: بهذا المنطق كان من الممكن ألا يكون هناك آثار تُرَى الآن، ولا تاريخ عريق للهند أو مصر يجسده الهرم الأكبر ويجسده التاج محل، لكني تساءلت: ما هو التاريخ؟ هل تاريخ الهند هو كيف أحب الإمبراطور المغولي زوجته إلى حد أنها حين ماتت بنى لها هذه المقبرة الثمينة الرائعة؟ هل التاريخ هو قصص غرام الأباطرة والملوك بزوجاتهم أو بأنفسهم وتلك المقابر التي بنوها لأنفسهم أو أسرهم على شكل أهرامات أو على أي شكل آخر؟

لا شك أننا في حاجة إلى إعادة فهم التاريخ؛ فالتاريخ ليس فقط حياة الملوك والحكام أو موتهم، والتاريخ ليس مجرد أبنية وقلاع وأهرامات، لكن التاريخ أكبر من هذا، التاريخ هو قصة ملايين الناس في كل شعب وكفاحهم المستمر من أجل البقاء، التاريخ هو صمود هؤلاء الملايين في وجه الأباطرة والملوك والحكام. إن الحاكم الذي يستحق أن نذكره في التاريخ هو ذلك الذي يسعى لتوفير حياة كريمة لملايين الناس في بلده، وليس هو الذي سخَّر الملايين واستعبدهم من أجل أن يبني مقبرة من الرخام الثمين لجسد زوجة لم تفعل في حياتها شيئًا سوى الأكل والنوم.

إن التاج محل في رأيي ليس رمزًا للحب الذي حدث في التاريخ، ولكنه رمز للحب الذي فُقِدَ في التاريخ، ودُفن تحت مقبرة من الرخام الأبيض!

•••

في نيودلهي — عاصمة الهند — نزلت ضيفة على زوجي الذي يعمل في الهند منذ عامين، في شقته الصغيرة البسيطة في حي «ديڨنس كولوني»، أدركت لأول مرة أن أفضل وضع للزوجة هو أن تكون ضيفة في بيت زوجها؛ إنها تشعر دائمًا أنها سعيدة؛ ذلك لأن بقاءها ليس دائمًا وإنما بقاء مؤقت. عرفت أيضًا أن البعد يجدِّد الحب والشوق. كنت أعرف هذه الحقيقة دائمًا وأقول: إن الزوجين السعيدين هما اللذان يعيشان في حجرتين منفصلتين لتظل بينهما مسافة، وحينما تطوَّر تفكيري كنت أقول: إن الزوجين السعيدين هما اللذان يعيشان في شقتين منفصلتين، ولكني الآن وبعد أن نضج تفكيري أقول: إن الزوجين السعيدين هما اللذان يعيشان في بلدين منفصلين. إن البعد يضعف العلاقات الزوجية الهشَّة لكنه يقوِّي العلاقات المتينة القائمة على أساس من الحب الحقيقي والفهم والتقدير.

«نارايان» هو اسم الشاب الهندي الذي يطبخ لزوجي طعامه. إنه شاب أسمر قصير نحيف يمشي على الأرض بخفة غريبة، كأنما هو يشفق على الأرض من أن يدوس عليها بقوة. وقد لاحظت أن كثيرًا من الهنود لهم هذه المشية، وعرفت من بعدُ أنها نوع من التواضع الذي يتميز به الهنود، وأيضًا نوع من الرقة والحرص على احترام الكائنات الحية وإن كانت حشرات صغيرة تسعى فوق الأرض.

وعرفت من نارايان أن عمله في الحياة هو الطبخ فقط. إنه مثلًا لا يغسل العربة ولا يكنس البيت مهما أخذ من أجر إضافي؛ وليس ذلك لأنه لا يحتاج إلى هذا الأجر، ولكن لأن مثل هذه الأشغال الدنيا لها طبقة معينة. أما هو من طبقة أعلى. وهو لا يغسل إلا ملابس الرجل. كان يمكنه أن يغسل ملابس زوجي. أما ملابسي أنا فهو يترفَّع عن غسلها؛ لأني امرأة.

إن المجتمع الهندي لا زال حتى الآن يفرق بشدة بين الطبقات، أعلى طبقة هي طبقة البراهميين، وأدنى طبقة هي طبقة الخدم ويسمونهم «طبقة الذين لا يُلْمَسون» أو طبقة المنبوذين، وهم هؤلاء الناس الذين يستنكر الناس لمسهم أو مصافحتهم؛ لأنهم فقراء وملوثون. حاول بعض الرواد وزعماء الهند من أمثال غاندي ونهرو أن يحاربوا هذه التفرقة الشديدة بين الطبقات. وقد خفَّت حدة هذه التفرقة لكنها لم تختفِ تمامًا.

كان يُفرض على أعضاء طبقة المنبوذين ألا يقتربوا من أعضاء الطبقات الأخرى، وأن يتحدثوا معهم من على بُعد معين حتى لا تصل أنفاسهم إلى أنوف الآخرين، وقيل لي: إن بعض الأثرياء من البراهميين كانوا يستحمون إذا ما وقع عليهم ظل رجل من المنبوذين.

•••

في الصباح الباكر أصحو كل يوم على صوت صفارة مفزعة تشبه صفارة الإنذار، وعرفت أنها فعلًا صفارة إنذار، ولكنها تُستخدم في أوقات السلم كجرس عام يعلن للناس بدء اليوم، فكرة لا بأس بها للذين يعملون، ولكنها مزعجة أحيانًا لمن لم يَعْتَدْها، أو لمن سهر الليل مثلي ويرغب في الراحة لوقت متأخر من النهار.

لكن الناس في دلهي لا يسهرون مثل الناس في القاهرة، معظمهم ينامون قبل العاشرة مساءً، وهم يستيقظون مبكرًا جدًّا، إذا سرت في الشارع الساعة السادسة صباحًا تجد الزحام والعجلات والموتوسيكلات، وتسمع الراديو يشدو بالأغاني الهندية في الدكاكين والبيوت.

لكنك لا ترى السيارات في الشوارع إلا بعد التاسعة؛ فالعمل في المكاتب الحكومية يبدأ في العاشرة صباحًا وينتهي السادسة مساءً. وهذا نظام إنجليزي لا زال قائمًا في الهند. كان الإنجليز يستيقظون مبكرًا ويذهبون إلى النادي لممارسة لعبة الجولف قبل أن تشتد حرارة الشمس، ثم يأخذون دشًّا، وحين يذهبون إلى مكاتبهم تكون الساعة قد أصبحت العاشرة، معظم الهنود الموظفين في الحكومة لا يذهبون إلى النادي صباحًا ولا يلعبون الجولف، ولكنهم يستيقظون الساعة السادسة صباحًا ويجلسون في بيوتهم يشربون الشاي ويتحدثون حتى تقترب الساعة من العاشرة. قال لي بعضهم: إن هذا النظام الإنجليزي لا يتناسب مع جو الهند الحار، والأفضل أن يبدأ العمل السادسة صباحًا قبل أن يبدأ الحر وللاستفادة من ساعات الصباح الضائعة.

•••

الهنود يدخلون عليك بيتك في أي وقت، قد تكون مسترخيًا في سريرك مثلًا وتفاجأ بجارك الهندي وقد دخل حجرة نومك، وهم أيضًا يتركون أبواب بيوتهم مفتوحة دائمًا لتدخل إليهم في أي وقت. إنهم يذكرونني بأهل قريتي كفر طلحة، وكم أحب مثل هذه العادات البدائية التي تحطِّم الحواجز المصنوعة بين الناس. لكنها تبعث في النفس بعض الضيق خاصة في تلك الأوقات التي يريد فيها الإنسان أن يكون وحده أو في عزلة كاملة عن الآخرين. لكن الهنود عامة لا يعرفون العزلة عن بعضهم البعض، اللهم إلا إذا كان الواحد منهم من عشاق اليوجا، أو من النُّساك البوذيين أو الهندوس الذين يقضون حياتهم في عزلة كاملة غارقين في تأمل النفس الكلية الخالدة، والوصول إلى تلك الحالة المسماة «النزفانا» حيث يتوحد الإنسان مع نفسه ويدرك السعادة النهائية.

إحدى صفات الهند المميزة هي التناقض؛ فالهند مليئة بالتناقضات شأنها شأن أي مجتمع ينمو من التخلف إلى التقدم، ويلتقط القيم الجديدة على حين تظل القيم القديمة موجودة وسائدة، إن بعض الناس في الهند لا زالوا يقدسون التقاليد الإقطاعية القائمة على التفرقة بين الطبقات وسيادة الرجل على المرأة داخل البيت وخارجه، البعض الآخر لا زال مجتمعًا أمويًّا تسود فيه النساء وترث البنات الأرض ولا يرث الأولاد الذكور، البعض الآخر وبالذات في نيودلهي ومدن الشمال قد تأثر إلى حدٍّ كبير بالثقافة الغربية الإنجليزية، فترى البنات قد خلعن الساري وارتدين الميني جيب أو البنطلون الضيق، والصبيان قد أطالوا شعورهم، والرجال قد رشقوا البايب في زاوية الفم ومزجوا اللغة الهندية باللغة الإنجليزية. وفي ظل هذه الثقافات المتباينة تجد قيمًا أخلاقية متباينة تبدأ من أقصى التزمت وفرض الحجاب على النساء والعذرية على البنات إلى أقصى التحرر وسيادة المرأة وحريتها في اختيار زوجها بل أزواجها، حيث تتزوج المرأة بعدد من الرجال، وتنسب إليها أطفالها.

وأيضًا تجد هذه الاختلافات الشاسعة بين الأديان والعقائد في الهند، بعضهم يؤمن بإله واحد مكانه السماء، وبعضهم يؤمن بعدد لا حصر له من الآلهة ويقولون إن الله داخل كل إنسان، وبعدد الملايين من البشر توجد الملايين من الآلهة، بعضهم ينكر وجود الإله لا في السماء ولا في الأرض ويقولون إن الدين هو الحياة وهو الاستمتاع بالحياة.

وتنعكس هذه الفلسفات المتباينة على المعابد الهندية، بعض المعابد تشبه البيوت، يدخلها الرجال والنساء والأطفال ويأكلون ويشربون ويلعبون داخل المعبد. ويقولون إن المعبد وُجِدَ للحياة، وإن العبادة هي هذه الحياة.

وبعض المعابد تحرِّم دخول النساء والأطفال ولا يدخلها إلا الذكور؛ لأن الذكور هم الجنس المفضل الطاهر المقرَّب إلى الآلهة. أما النساء فهن الجنس الملوث غير الطاهر. والتماثيل والنقوش على جدران المعابد تختلف أيضًا اختلافًا شديدًا، بعض التماثيل تصوِّر الآلهة على أنهم بشر يأكلون ويشربون ويرقصون ويمارسون الجنس بكل أوضاعه وأنواعه، وبعض التماثيل تصوِّر الآلهة على أنهم كائنات غير بشرية بغير جنس وبغير أعضاء، وإنما هي قوى غريبة الشكل تبعث على الدمار أو الفزع أو الموت.

بعض الآلهة لها ملامح إنسانية باسمة محبة للحياة والخير، وبعض الآلهة لها ملامح شيطانية يتصاعد الشرر والنار من عيونها البشعة.

فتحت هذه التناقضات عقلي على حقائق كثيرة عن طبيعة هذا المخلوق الذي اسمه الإنسان، أحسست وأنا في الهند أزور المعابد وأشهد بعيني تطور البشرية منذ العصور البدائية حتى اليوم كأنما عالم جديد ينفتح أمام ذهني، وبدأ ضوء جديد يضيء أركانًا كانت مظلمة في رأسي.

مهما قرأنا عن التاريخ ومهما درسنا نظريًّا عن تطور الأديان وتطور الحياة البشرية والإنسانية، فلا يمكن أن يدرك الإنسان الحقائق كما يدركها حين يزور الهند وينتقل بين أجزائها المختلفة المتباينة، ويعايش قبائلها البدائية فوق الجبال، وأسرها الحديثة في المدن الكبيرة مثل بومباي ودلهي وكالكاتا. إن جذور الإنسان واحدة وجذور الأديان واحدة، كم تتشابه حياة البشر حين يصل المرء إلى أعماقها وجذورها، وكم يشتد الاختلاف بخروجنا إلى السطح والمشاهدات السطحية.

•••

كنت في سريري أقرأ رواية هندية. كانت الساعة الواحدة صباحًا حينما سمعت صوتًا غريبًا مزعجًا يدق أرض الشارع، فتحت الشرفة ورأيت رجلًا هنديًّا يسير بخطوات بطيئة في يده عصًا غليظة، وفي كل خطوة يدق الشارع بعصاه، وظننت أنه «المسحراتي» الذي يطوف ببعض الشوارع في مصر أثناء رمضان ليوقظ الناس ليتناولوا طعام السحور، وسألت زوجي: هل هذا مسحراتي؟ وهل يصوم الهنود رمضان أيضًا؟

وضحك زوجي لهذا السؤال وقال: ليس هذا مسحراتيًّا. إنه الخفير الذي يشرف على الأمن في هذه المنطقة.

وسألت: ولماذا يدق الأرض بذلك الصوت العالي؟

وقال زوجي: ليعرف سكان البيوت أنه يقظ وأنه ساهر لحمايتهم.

قلت: ولكنه بهذا الصوت يعلن للصوص عن الشارع الذي يحرسه فيسرعون إلى شارع آخر حيث يسرقون الناس وهم مطمئنون إلى عدم وجود الحارس.

وضحك زوجي قائلًا: هذا بالضبط ما يحدث؛ إن عصا هؤلاء الحراس لا تفعل شيئًا سوى إزعاج النائمين أو تنبيه اللصوص إلى مكان الحارس.

وفي أول الشهر جاء هذا الحارس إلى شقتنا وطلب أجره الشهري، وعرفت سببًا آخر لتلك العصا التي تدق ليلًا. إنها تقول للناس: أنا أقوم بواجبي كل ليلة وأستحق الأجر الذي تدفعون.

الفقر في الهند يدفع الكثير من الناس إلى ابتكار مهن غريبة للحصول على أجر، أي أجر. من المناظر المألوفة في مدينة نيودلهي أن ترى هؤلاء المكوجية الذين يجر الواحد منهم عربة يد خشبية يوقفها أمام أي بيت، ويهبط الخادم بصُرة ملابس ويبدأ المكوجي عمله بنشاط حتى ينتهي من ملابس هذا البيت، فيجر عربته وينتقل إلى بيت آخر … وهكذا. حين تسير في أي شارع في الصباح تجد هؤلاء المكوجية المتنقلين أمام أبواب البيوت يكوون الملابس فوق عرباتهم الخشبية الصغيرة.

في أي وقت من النهار قد يدق جرس بيتك، وتجد ذلك الرجل الهندي الذي جاء يعرض عليك خدماته دون أن تطلبها. إنه قد يقول لك إنه مستعد لأن يشتري أثاثًا جديدًا لبيتك إذا كنت من سكان الحي القدامى. أما إذا كنت ساكنًا جديدًا فإنه يأتي إليك ليؤثث لك شقتك، وأحيانًا يعرض عليك أن يبحث لك عن شقة أخرى مع أنك لم تقل له إنك تريد الانتقال من شقتك. وهكذا يتفنن بعض الهنود في الوسائل التي يقدمون بها خدماتهم من أجل الحصول على أجر أو ربح ما، وكم من مرة يدق جرس الباب (وبالذات في يوم إجازتك) ويظهر أحد هؤلاء الرجال ليعرض عليك خدمة لم تطلبها ولم تفكر فيها.

في مرة من المرات دق الجرس رجل سمكري، واكتشفت أثناء وجوده أن إحدى الحنفيات تحتاج إلى جلدة حتى لا يتسرب منها قطرات الماء، وأخرج الرجل أدواته العديدة (تشبه أدوات الطبيب الجراح)، وأخذ يفحص الحنفية طويلًا ثم قال في النهاية إنها لم تعد تصلح ولا بد من تركيب واحدة جديدة. وتذكرت الرجل السمكري في مصر الذي كلما أطلبه ليضع جلدة في الحنفية يقول لي إنه لا بد من تركيب حنفية جديدة، وبالطبع يطلب ثمنًا باهظًا، تذكرت ذلك وقلت للسمكري الهندي: لا، هذه الطريقة أنا أعرفها من مصر. وضحك الرجل الهندي؛ لأنني اكتشفت حيلته ووضع الجلدة في الحنفية نظير أجر بسيط.

•••

أحب التجول في الأحياء الشعبية، وأعشق السير في حواريها والتفرج على الدكاكين الصغيرة وزحام الناس والأصوات والروائح القوية المنبعثة من كل مكان. ولكني حين أسكن أُفضل في حي هادئ بعيد عن الأصوات والزحام. وقد شاركت زوجي شقته الصغيرة في ذلك الحي الهادئ «ديفينس كولوني»، لكن الهدوء هنا لا يعني الهدوء الكامل؛ إذ ما إن تشرق الشمس في الصباح الباكر حتى تهب العصافير من أوكارها فوق الشجر وتبدأ تشدو بأصوات حادة عالية يشترك فيها عدد هائل من العصافير. في مصر حينما كنت أسمع عصفورًا يشدو يطرب قلبي من الصوت الرقيق العذب، ولكن حينما يصبح هذا الصوت الرقيق العذب مضاعفًا مئات المرات فإنه يفقد رقته وعذوبته ويصبح كصراخ النسور. إن أعذب الأصوات تصبح مزعجة إذا زادت عن الحد. العصافير هنا في الهند كثيرة وجريئة، وأحيانًا تبلغ جرأتها أن تطير فوق رأسي وتخطف الخبز من يدي، إن جرأتها لا تقل عن جرأة البقر الذي يرعى في الشوارع ويسير بين العربات السريعة بغير وجل ولا خوف؛ وسبب ذلك هو أن الهنود يحترمون كل الكائنات الحية ولا يتعرضون لأي نوع منها بأي أذًى.

حينما تكفُّ العصافير قليلًا عن الصياح يبدأ صياح الباعة الجائلين الذين يطوفون بالبيت حاملين فوق رءوسهم وعرباتهم مختلف أنواع الخضروات أو الفاكهة أو أية سلعة أخرى، وأيضًا يطوف رجل الروبابيكيا مناديًا: كبادي وله! («وله» باللغة الهندية تعني «ولد» أو «رجل»)، وحينما يكفُّ الباعة قليلًا عن صياحهم يأتي ذلك الرجل ومعه القرد أو الثعبان ويطوف بالبيوت مغنيًا الأغاني الهندية أو نافخًا في المزمار، ويرقص القرد على النغمات ويقوم الثعبان بألعاب بهلوانية، وتطل النساء من شرفات البيوت ويقذفن له بعض النقود، وأحيانًا لا يكون المغني رجلًا واحدًا وإنما فرقة بأكملها من المغنين بالمزامير ودقات الطبول وحركات القردة والثعابين وقد يصاحبهم في جولاتهم فيل يركبه رئيسهم، أو ذلك الحاوي الذي ينام فوق المسامير ويأكل النار ويطير في الهواء فوق ملاءة كالبساط السحري.

لقد وجدت أنني لست في حاجة دائمًا إلى أن أخرج من بيتي لأتعرَّف على الهند؛ لأن الهند تأتي إليك بنفسها حتى باب بيتك، لكن ليس هذا إلا وجهًا واحدًا من وجوه الهند، وكم تحتوي الهند على وجوه متعددة متباينة!

•••

كنا في شهر يناير، والجو في نيودلهي كالربيع في مصر؛ الشمس دافئة حنون، ونسمة الهواء منعشة لا هي حارَّة ولا هي باردة. لا تكاد تحس ملمسها على جسمك، كأنما هي من درجة حرارة الجسم، كنا ننتظر في مطار «دلهي» الطائرة التي ستقلُّنا إلى جنوب الهند حيث منطقة مزارع الشاي، زوجي يقرأ جريدة التايمز الهندية وأنا أرقب حركة الناس من المطار. المطارات بصفة عامة كالعواصم، أمكنة عالمية تختلط فيها كل الأجناس وكل الألوان وكل اللغات. بمعنًى آخر: هي أمكنة بغير جنس وبغير لون وبغير لغة؛ ولهذا السبب تبدو جذابة وقبيحة في نفس الوقت، جذابة لأنها تحطم كل الفوارق بين الأجناس والألوان واللغات والطبقات، وقبيحة لأنها بغير شخصية تذوب فيها (بما في ذلك وجهي أنا) في وجه واحد ليس له ملامح معينة.

على أن مطار «دلهي» له شخصية مميزة. لا أدري لماذا، ربما بسبب النساء الهنديات ذوات «الساري» والنقطة الحمراء في منتصف الجبهة، وأيضًا أبواب المطار الزجاجية عليها نقطة حمراء في منتصف كل باب. لم أكن أعرف سر تلك النقطة الحمراء، لكني عرفت من بعد أنها بقايا عادة هندية دينية، ثم أصبحت من الزينة للنساء أو الرجال في بعض مناطق الهند.

حلقت بنا الطائرة الهندية في السماء الشاسعة الممتدة فوق أرض الهند المترامية الأطراف، حجم الهند يساوي حجم مصر ٣٦ مرة، وتطير بك الطائرة بالساعات لتصل من بلد إلى بلد داخل الهند.

هبطت الطائرة في مدينة «مدراس» جنوب الهند، وعرفت أنني أصبحت على خط الاستواء وتحت قرص الشمس مباشرة؛ بسبب تلك الحرارة الشديدة والرطوبة التي تميز جو المناطق الاستوائية، تخففت من بعض ملابسي وبدأ العرق يتساقط من وجهي، رأيت الوجوه في جنوب الهند شديدة السمرة تشبه وجوه الناس في أفريقيا الاستوائية، لولا أن تقاطيع الوجه هنا دقيقة: الأنف مرتفع دقيق ومدبب، والشفتان رقيقتان، والشعر أسود ناعم وليس مجعدًا، والعينان تلمعان في الوجه الأسمر الجذاب.

سرنا على شاطئ بحر مدراس وهو جزء من المحيط الهندي، ولم ينجح هواء البحر في تخفيف حدة الحر إلا قليلًا، لست ممن تعوَّدوا الحرارة الشديدة مع الرطوبة الشديدة؛ ولهذا أشعر بنوع من الاختناق في المناطق الاستوائية، وتبدو لي الأرض كأنما تحوَّلت إلى قطعة من جهنم بغير نقطة هواء.

أسرعت ناحية السيارة التي ستقلُّنا إلى مناطق مزارع الشاي فوق الجبل، هدأت أنفاسي قليلًا وجفَّ العرق حين بدأت السيارة تصعد فوق الجبل، أصبح الهواء منعشًا محملًا برائحة الأشجار والزهور الاستوائية من كل نوع ولون، السيارة الهندية الصغيرة تتبع الطريق الجبلي اللولبي، وعند كل ثنية في الطريق يدوس السائق الهندي الأسمر على البوق؛ فالمساحة ضيقة ومن السهل أن تصطدم العربة بأي من هذه اللوريات التي تهبط الجبل محملة بالشاي.

لاحظت أن معظم هذه اللوريات تحمل اسم «تاتا»، وسألت: مَنْ هو «تاتا»؟ فعرفته أنه مليونير هندي يملك اللوريات والفنادق وعددًا من الشركات والمشروعات التجارية والصناعية في الهند. في كل مكان في الهند لا بد أن ترى اسم «تاتا» فوق أي شيء. لا زالت ثروات الهند الطائلة تذهب إلى جيوب حفنة قليلة من الناس بعضهم هنود وبعضهم إنجليز. رغم استقلال الهند إلا أنها لا تزال جزءًا من «الكومنولث»، ولا زال أصحاب الأرض وأصحاب الرأسمال يدعمون النظم الإقطاعية والرأسمالية ويحاربون بكل قوة أي اتجاه اشتراكي.

والأحزاب في الهند متعددة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ولكل حزب صحفه ومنابره وأشخاصه ووسائله.

الهواء يزداد جفافًا كلما صعدت بنا السيارة فوق الجبل. اختفت الأشجار الكثيفة التي كانت تكسو الجبل وبدأت أشجار الشاي القصير المستوية تظهر كالبساط الأخضر الممدود صاعدًا فوق الأفق، عرفت أن شجرة الشاي شجرة غريبة جدًّا، ولها مزاج خاص، ولها شروطها الخاصة لتنمو وتزدهر؛ إنها تحتاج إلى أرض معينة وارتفاع معين فوق سطح البحر لا يقل عن أربعة آلاف قدم، ودرجة حرارة معينة، ودرجة رطوبة معينة، وقدر من الشمس معين، وقدر من المطر معين، وقدر من الظل معين، أفضل أنواع الشاي تنمو فوق الجبل على ارتفاع ٧٠٠٠ قدم فوق سطح البحر.

وقد وصلت بنا السيارة إلى هذا الارتفاع عند المدينة المسماة «كونور»، ورأيت مساحات هائلة من الجبل وقد تحوَّلت كلها إلى بساط أخضر هو أشجار الشاي القصيرة التي قلَّمتها يد الفلاحات، لكن هناك شجرة طويلة لا تشبه شجرة الشاي قد نمت بنظام معين بين أشجار الشاي، ظننت أنها شجرة برية نمت وحدها، لكني عرفت أنها زُرِعَت بين أشجار الشاي؛ ليحمي ظلها أوراق الشاي من حرارة الشمس القوية.

شجرة الشاي قد تعيش مائة عام، تعطي خلالها قدرًا كبيرًا من أوراق الشاي، تأتي الفلاحات الهنديات السمراوات كل صباح وعلى ظهورهن تلك السلال الكبيرة، وبأصابعهن السريعة المدرَّبة يقطفن الأوراق الناعمة العلوية. إن زراعة الشاي وجمعه وصناعته في الهند عمل نسائي في معظمه، ومن يتتبَّع الشاي منذ أن يُزرع في الحقل إلى أن يصبح فنجانًا من الشاي نشربه يدرك أن وراء هذه المتعة من هذا الفنجان آلافًا من الناس (أغلبهم نساء) الذين يعملون ويكدُّون منذ شروق الشمس حتى غروبها نظير بضعة روبيات هندية لا تكفي إلا لسدِّ الرمق.

بدأت زراعة الشاي وصناعته على يد المستعمرين الذين حملوا إلى الجبال (ضمن ما حملوا) أعدادًا من فقراء الهند، جعلوهم أشبه بالعبيد. بعد استقلال الهند تحرر هؤلاء العبيد لكنهم لا زالوا يبيعون جهودهم نظير أجور ضئيلة، ولا زال أبناؤهم محرومين من التعليم وليس أمامهم من مستقبل إلا أن يرثوا المهنة عن أمهاتهم وآبائهم.

قبل أن تبلغ البنت العاشرة تذهب مع أمها إلى الحقل لتعمل في مزارع الشاي، أو إلى المصنع لتشارك في صناعة الشاي، في بعض القرى يعمل الأولاد والرجال أيضًا، ولكن هناك مناطق لا يعمل فيها إلا النساء والبنات. أما الرجال فهم الجنس الأسمى العاطل الذين يتزين ويرقص في الحفلات الدينية ويجلس طول النهار أمام البيوت يدخن ويشرب ويلعب الطاولة أو النرد.

•••

في الصباح الباكر ركبت السيارة الصغيرة إلى جوار المترجم الهندي. كنت قد طلبت أن أتحدَّث إلى هؤلاء الفلاحات اللائي يعملن ويَعُلْنَ أطفالهن وأزواجهن العاطلين، هؤلاء النساء يتكلمن اللغة الهندية المحلية، وكان لا بد أن آخذ معي مترجمًا من أبناء المنطقة ويعرف اللغة الإنجليزية.

كان الصباح مشرقًا، لكن سرعان ما تجمَّعت السحب الرمادية فوق قمم الجبال وبدأ المطر ينهمر، انهمار المطر في تلك المناطق الاستوائية الجبلية يجعل السماء كالمحيط الذي يفرغ ماءه فوق الجبل بغير هوادة ولا رفق.

سألت الشاب الهندي: ما اسمك؟

قال: اسمي بوجان.

سألت: واسم أبيك؟

قال: لا أحمل اسم أبي، أحمل اسم أمي، وأمي اسمها «برافاتي» على اسم الإلهة برافاتي زوجة الإله شيفا.

قلت: ولكن هل كل الناس هنا يحملون أسماء أمهاتهم؟

قال: لا، معظم الناس هنا لا يحملون لا اسم الأم ولا اسم الأب. إنهم يحملون اسمهم فقط، أما اسم الأب فلا يكون إلا حرفًا واحدًا، وتدخَّل سائق السيارة قائلًا: أنا اسمي م. نارايان. إن «م» هو أول حرف من اسم أبي. أما اسمي فهو «ناريان»، وهو اسمي الأساسي واسم أسرتي. وهذا عكس ما يفعله الإنجليز؛ إذ إن الاسم الأساسي عندهم وهو الاسم الأخير الذي هو اسم الأب أو الجد. أما اسم الشخص نفسه فلا يكون إلا الحروف الأولى.

سألته: وأيهما أفضل عندك؟

قال: طبعًا أن يكون اسمي الأساسي والأخير هو اسمي أنا وليس اسم أبي أو أمي أو جدي.

وضحكت وأنا أسأله: وهل تريد أن يحمل أولادك اسمك من بعدك؟

قال بحماس: لا، كل ولد من أبنائي أو بنت من بناتي يجب أن يحمل اسمه هو أساسًا.

وتدخَّل المترجم الشاب قائلًا: كثير من الرجال هنا لا يحرصون على مسألة النسب هذه كما هو الحال في شمال الهند مثلًا؛ لأن المرأة هنا في أحيان كثيرة تتزوج أكثر من رجل، وأحيانًا يتزوج خمسة أو ستة أو سبعة من الإخوة امرأة واحدة. إن نسب الأطفال إلى الأب هنا ليس شيئًا هامًّا ولا يفكر فيه الرجال كثيرًا.

سألت: وهل تحظى المرأة هنا بمكانة عالية؟

وقال: نعم، في بعض المناطق تعمل المرأة وتعول أطفالها وأزواجها. هذا إذا لم يسيطر عليها الرجل ويستولي على أجرها كما يحدث في بعض مناطق مزارع الشاي.

توقَّفت بنا السيارة أمام بيت صغير أنيق بُني على هضبة مرتفعة تحوطه من جميع الجهات حديقة جميلة مليئة بالزهور الاستوائية النفاذة العطر وأشجار المانجو والجوافة وفواكه أخرى خاصة بهذه المنطقة. رحَّب بنا رجل هندي هو المشرف الإداري على هذه المرزعة التي تملكها شركة هندية، مساحة المزرعة ٩٠٠ فدان ممتدة كالدرجات الخضراء من السفح إلى أعلى الجبل، يعمل فيها ٩١٠ عاملات وعمال معظمهم من العاملات، طلبت أن أذهب إلى العاملات لأحدثهن، لكن المدير قال لي: إن الصعود إليهن صعب؛ بسبب ارتفاع الجبل وتدرُّج الأرض.

وسألته قائلة: وكيف تصعد العاملات؟

قال: لقد تعوَّدن ذلك.

قلت: أنا امرأة رياضية وأستطيع أن أصعد.

صحبني المترجم الشاب وصعدنا إلى فوق بين صفوف أشجار الشاي، بعد بضع دقائق أصبحت ألهث، وابتسم الشاب الهندي وهو يقول: إن العاملة من هؤلاء الفلاحات تصعد وتهبط هذا الطريق الشاق عدة مرات في اليوم وفوق ظهرها سلة كبيرة تجمع فيها أوراق الشاي، وعند الغروب تهبط الطريق وتسير حاملة سلتها حتى باب المصنع حيث تُفْرِغ حمولتها وتنال أجرها حسب كمية ما جمعت.

وصلنا إلى أحد صفوف الفلاحات. وقد وقفن بنظام معين حسب صفوف أشجار الشاي، فوق ظهر الواحدة السلة الضخمة، وأصابعها تجمع وريقات الشاي العلوية بسرعة شديدة ودقة غريبة، نظرت إليَّ عيون الفلاحات في دهشة وأخذن يتأملن ملابسي ووجهي، ثم أخذن يضحكن ويتحدثن بلغة لا أفهمها اسمها «التامل».

واخترت واحدة منهن لها عينان تلمعان بذكاء وحيوية وسط وجهها الأسمر النحيف وسألتها: ما اسمك؟ قالت: اسمي ساروجا.

سألتها: كم عمرك؟

قالت: سبعة عشر عامًا.

قلت: متزوجة؟

قالت: نعم.

لاحظت أن بعض النساء يرتدين «ساريًا» كاملًا وبعضهن يرتدين نصف ساري فقط، وعرفت أن المرأة المتزوجة هي التي ترتدي الساري الكامل، وهن يتزوجن في سن مبكرة جدًّا، ويعملن طول النهار وحين يعُدْنَ إلى البيت آخر اليوم يطبخن الطعام وينظفن البيت ويغسلن.

وسألت ساروجا: هل ذهبت إلى المدرسة؟

قالت: نحن لا نذهب إلى المدارس.

وضحكت النسوة من سؤالي وقالت إحداهن: نحن نعمل فقط.

وسألت ساروجا: وماذا يفعل زوجك؟

قالت: يعمل معي في المزرعة.

قلت: هل لك أطفال؟

قالت: طفلان.

قلت: أنتِ لا تزالين صغيرة، يا ترى كم من الأطفال سيكون لديكِ حين تصبحين في الثلاثين؟

قالت ساروجا: لن أنجب غير هذين الطفلين؛ لأن زوجي ذهب إلى الطبيب وأجرى له عملية التعقيم.

وعلمت من مدير المزرعة أن المشرفين الصحيين على المزرعة ينصحون العمال والعاملات بتحديد النسل حتى لا يزيد عدد أطفال الأسرة الواحدة عن اثنين أو ثلاثة، وحتى لا تنشغل الأم بأطفالها عن أعمال المزرعة، وفي المزرعة دار حضانة للأطفال حتى يشبُّوا ويصلح الواحد منهم للعمل في الحقل أو المصنع. إنها مستعمرة كاملة من الرجال والنساء والأطفال نُظِّمَت حياتهم بدقة الساعة من أجل أن يخدموا شيئًا واحدًا هو إنتاج الشاي. أما الربح الذي يعود من هذا الشاي فلا يعود إليهم وإنما إلى هؤلاء أصحاب المزرعة وأصحاب المصنع.

مصنع الشاي لا يختلف عن المزرعة في ذلك النظام الدقيق المحكم الذي يعرف كيف يأخذ من العاملة أو العامل أقصى الجهد وأكبر الإنتاج نظير أقل أجر وأقل حقوق. وكما تحتاج شجرة الشاي لمزاج وشروط خاصة لتنمو وتزدهر، كذلك تحتاج الأوراق الخضراء داخل المصنع إلى شروط خاصة لتتحول إلى ذلك الشاي الذي نشربه، عملية طويلة تبدأ بتجفيف الأوراق الخضراء بتعريضها لتيار من الهواء الجاف. هذا التجفيف له درجة معينة بحيث تجف الأوراق وتظل محتفظة بمرونتها ولا تتكسر، ثم توضع أوراق الشاي الجافة في آلة معينة لتلف كل ورقة على حدة على شكل اللوزة، ثم تنتقل إلى آلة أخرى حيث تكسر الأوراق ليسيل منها سائلها، ثم تنتقل إلى آلة أخرى ليعاد السائل إليها مرة أخرى، ثم عملية التخمير التي يقوم بها رجل خبير يعتمد في عمله على أنفه الذي تدرب لسنوات طويلة على قياس الدرجة المثلى لتخمير الشاي.

من حين إلى حين يتشمم هذا الخبير رائحة الشاي المخمر، ثم يوقف عملية التخمير عند درجة معينة. سألت مدير المصنع: ألا توجد آلة قادرة على هذا العمل بدلًا من أنف الخبير؟ وقال المدير الهندي: بالطبع هناك آلات حديثة حلَّت محل أنف الإنسان، ولكنا هنا لا زلنا نفضل أنف هذا الخبير؛ لأنه عجوز ومدرب وأنفه أكثر دقة من الآلة.

ولا أدري كيف سُرِرْتُ من هذه الحقيقة؛ فقد أكد هذا الكلام إيماني بأن حواس الإنسان إذا دُرِّبَت تكون أكثر دقةً وكفاءةً من أية آلة؛ فالإنسان هو الذي اخترع الآلة، لكن كم تنسى المجتمعات الصناعية المتقدمة هذه الحقيقة ويضعون الآلة فوق الإنسان ويجعلون البشر عبيدًا لها.

بعد عملية التخمير يجفف الشاي ليتخلص من البلولة التي تفسده إذا حُفِظَ طويلًا، ثم يمر بعد ذلك بمراحل النخل وتنقية الشوائب، ثم يُعَبَّأ في الصناديق الخشبية ويُرْسَل إلى شركات التوزيع، حيث يُخْلَط بأنواع متعددة من الشاي، ويُعَبَّأ في العلب الصغيرة التي نشتريها من السوق.

دهشت وأنا أتتبع هذه الخطوات الطويلة الدقيقة، ورأيت هذه الوجوه السمراء النحيلة من وراء الآلات تعمل بغير توقُّف، ورأيت أجساد الأطفال النحيلة الشاحبة وهي تتطلع إلى الجبل تغطيه أشجار الشاي، يدركون أن مصيرهم كمصير آبائهم وأمهاتهم في الحقل أو المصنع. رأيت البنات الصغار بأقدامهن المشققة يصعدن الجبل وفوق ظهر كل واحدة حِمْل كبير ينثني تحته جسدها الهزيل. دخلت بيوت المزارعين والمزارعات ورأيت أنهم ينامون على الأرض أو على شيء أشبه بالبرش القديم. دخلت بيت المدير الأنيق وقدَّم لي فنجانًا من الشاي الفاخر فوق صينية من الفضة، كاد الشاي الفاخر أن يقف في حلقي. وحينما لاحظ المدير أنني أبتلع الشاي بصعوبة سألني قائلًا: ألا يعجبك الشاي؟ إنه شاي درجة أولى.

قلت: هل هناك شاي درجة أولى ودرجة ثانية؟

قال: نعم بالطبع، الشاي درجة أولى هو الذي يُنَقَّى من الشوائب جيدًا. وهذا لا يباع في السوق وإنما يُرسل بناءً على طلبات خاصة إلى الملوك والأباطرة ورؤساء البلاد.

سألت: والشاي درجة ثانية؟

قال: إنه الشاي الذي يُخْلَط بأنواع أخرى من الشاي وتظل به بعض الشوائب. أما الشاي الدرجة الثالثة فهو الذي لا يُنَقَّى.

قلت: وهل هناك درجة رابعة؟

قال: نعم، ويسمى تراب الشاي، وهو التراب الذي يبقى بعد أن يُنْخَلَ الشاي. وهذا هو الشاي الذي يباع في السوق المحلي بالهند.

قلت بأسًى: وهذا هو ما يشربه هؤلاء الذين يزرعون الشاي والذين يصنعونه؟ قال دون أن يدرك معنى سؤالي: نعم.

وهكذا علمت أن هؤلاء النساء والرجال الذين يعملون طول النهار في مزارع الشاي ومصانعه لا يتذوقون طعم الشاي الذي يزرعونه ويصنعونه بأيديهم وعرقهم ودمهم.

في الهند لم أشعر أنني غريبة في بلد غريب، أمشي في الشوارع وأنظر إلى الوجوه والسماء والأرض والمباني والآثار فأنسى أنني في الهند وأظن أنني في مصر، بل إنني رأيت مصر في الهند أكثر مما كنت أراها وأنا في مصر، عرفت عظمة تاريخ مصر الذي لم أعرفه جيدًا في مصر؛ اقترابنا من الشيء يجعلنا دائمًا عاجزين عن رؤيته جيدًا، ولا بد من مسافة بيننا وبين الأشياء لنراها ونعرفها.

رأيت في الهند جذوري، طفولتي «ماضيَّ وحاضري»، ولأول مرة تتلاشى غربتي مع نفسي، ويحدث نوع من الاتصال بين الحلقات المتقطعة في نفسي ووطني.

أعظم ما في الهند أنها توحي للإنسان بأفكار وأحاسيس جديدة. إنها تقوِّي الجزء العقلي والنفسي في الإنسان، تجعله أكثر اقترابًا من نفسه الحقيقية؛ لهذا شعرت في الهند بسعادة غريبة، كالذي يكتشف نفسه من جديد، ويعثر على خصوبة جديدة في عقله وأحاسيسه، ويكتسب تلك القوة النفسية المجهولة والمعلومة التي تجعله قادرًا على الخلق والابتكار.

هذه هي ميزة الهند التي لم أجدها في بلد آخر، وكم من بلاد زرتها فشعرت بالغربة مع نفسي والناس، بل كم شعرت بالغربة عن نفسي والناس في وطني أحيانًا.

أعطتني الشهور التي عشتها في الهند وقتًا كافيًا لأقرأ شيئًا من الأدب الهندي. كان في خطتي أن ألتقي بعدد من الأدباء والأديبات ذوي الإنتاج الجيد، ولم تكن هناك وسيلة لاختيار هؤلاء سوى أن أقرأ بعض الروايات والقصص، فإذا ما أعجبني شيء أكتب اسم المؤلف أو المؤلفة، كنت في رحلاتي السابقة أسأل أهل البلد عن أدبائهم وأديباتهم، ويذكرون لي بعض الأسماء المشهورة، وعلمتني التجارب أن هؤلاء لم يكونوا دائمًا أفضل الأدباء أو الأديبات؛ كأنما الشهرة تتناسب تناسبًا عكسيًّا مع جودة الإنتاج الأدبي.

لم أكن متحمسة للقاء الأدباء الرجال، ليس ذلك لكونهم رجالًا، ولكن لأنني وجدت بين إنتاج النساء ما استوقفني، وبمثل ما استوقفني كفاح المرأة الهندية في السياسة ونشاطها في الأحزاب استوقفني أدب المرأة الهندية، وبمثل ما أُعجبت بشجاعة أنديرا غاندي وقوتها في حسم الأمور أُعجبت بشجاعة المرأة الهندية التي تمسك القلم وتكتب.

والمرأة التي تكتب في الهند تتناول جميع القضايا في بلدها وفي الحياة تحليلًا ونقدًا بغير خوف ولا حرج. لا شيء أمامها اسمه موضوع حساس. لا في السياسة ولا في الدولة ولا في الحب وفي الجنس ولا في العمل، كل شيء في الهند وفي العالم أمام قلمها قابل للعرض والكشف.

إحدى الكاتبات واسمها «ساهجال» كتبت تنقد الحكومة وتنقد سياسة أنديرا غاندي، وبصرف النظر عن سلامة رأيها أو عدم سلامته فإنها استطاعت أن تعبِّر عن نفسها، ولم تستطع الحكومة أن تمنعها، بل والأهم من ذلك أن شيئًا لم يحدث لها وظلت صداقتها بأنديرا غاندي كما هي، وساهجال تكتب في السياسة، وتكتب أيضًا روايات وقصص، في روايتها الأخيرة بعنوان «هذا الظل» تكتشف حياة المرأة المطلقة في الهند، وتنقد كثيرًا من التقاليد التي تحيط بالمرأة الهندية.

شربت الشاي الهندي في بيت ساهجال في دلهي، وحدثتني عن حياتها، وعن علاقتها بالزعيم نهرو، وعرفت أنها ابنة شقيقة نهرو، وأنها تأثرت إلى حدٍّ كبير بشخصية نهرو؛ لأنها نشأت في أسرته.

إحدى الكاتبات في الهند اسمها «كاملاداس» تمسك القلم كأنه مشرط في يد جرَّاح، تشق اللحم وتكشف النخاع، تكتب عن حياتها بالشجاعة نفسها التي تكتب بها عن حياة الآخرين، آخر كتاباتها هي مذكرات حياتها. تقول عن نفسها إنها لا تملك إلا الصدق. وهذا الصدق دفعها إلى أن تترك بيتها وزوجها والمدينة الكبيرة بومباي وتذهب لتعيش في قريتها مع أهلها الأصليين «الناير»، حيث الثقافة الهندية الأصيلة وحيث تُحْتَرَم المرأة ولها السيادة داخل البيت وخارجه كالإلهات القديمات. أمها كانت تكتب الشعر وهي راقدة على بطنها في سرير من أربعة عمدان. أما هي فكانت تنام ناحية قدمي زوجها، تركت بيتها وأولادها لزوجها وذهبت إلى البحر والصيادين. كان لها أصدقاء يشاركونها رؤية الجاموس والطبيعة. أما زوجها فلم يكن لديه وقت لرؤية جسم جميل ورائحة طيبة في السرير، أحيانًا كانت تخلع «الساري» وتنزل في البحر ويضحك أصدقاؤها. كان النهر بغير ضفاف كأنهر الهند التي تفيض وتغرق القرى، عرفت الحب وظنت أن الحب إلى الأبد والشباب إلى الأبد، ولكنها عرفت بعد سنوات طويلة أن الوحدة هي التي إلى الأبد فقط.

النساء يملأن الفراغ داخلهن بالحب والأطفال. حين يملُّهن الحب وحين يكبر أطفالهن، ويذهبون إلى أذرع أخرى يتجهن إلى الله، واتجهت كاملاداس إلى آلهة الهند، اتجهت إلى شيفا وكريشنا وديرجا، لكن لم يستطع أي إله منهم أن ينفعها بشيء. كانت تكبر في السن وتزداد وحدتها، أصبح من الصعب — بل من المستحيل — أن يحبها أحد أو تحب هي أحدًا.

حاولت أن تحتفظ بصدقها وشجاعتها لتشق طريقها نحو الموت دون أن تندم على حياتها الماضية، حين كانت تقارن زوجها بالأزواج الآخرين تشعر بعدم الرضا، لكن زواجها نجح لسبب واحد هو أن زوجها كف أن ينظر إليه كزوج، وملكت هي حريتها، الفرق بين الإله والإنسان هي الحرية، الإله حر والإنسان عبد، كاملاداس فخورة بأصلها من «الناير» الذي كان مجتمعًا متعدد الأزواج في «كيرالا» حتى الربع الثاني من هذا القرن، مراسيم الزواج لم تكن تستغرق إلا دقيقة واحدة ثم يدخل الزوج إلى حجرة نوم زوجته. لم يكن ينفق عليها، ولا يعيش معها في بيتها، ولكنه يأتي إليها ليلًا في ضوء القمر وينادي عليها قائلًا «هو … هو …» حينما تسمح له زوجته بالدخول إلى حجرتها يدخل، وإلا فعليه أن ينتظر أو ينصرف إذا كان معها زوجها الآخر. كانت المرأة هي صاحبة النسب وتشعر بكرامتها.

تعرضت كاملاداس لبعض الهجوم لكنها تقول: إن معظم قرائها من الرجال والنساء سعداء بامرأة شجاعة تكتب أفكارها بصدق، طلبت منها إحدى الهيئات أن تقوم ببحث عن القيم الأخلاقية بين الأزواج في مدينة بومباي، وقامت كاملاداس بالبحث ونشرت نتائجه على الناس.

ولم تكن النتائج وحدها هي التي صدمت الناس في مدينة بومباي ولكن تحليل كاملاداس لها. كتبت هذه الأديبة والباحثة الهندية تقول إنها وجدت أن ٩٦٪ من الأزواج يخونون زوجاتهم سرًّا خلال ساعات العمل، وفي حجرات الفنادق، وفي رحلاتهم إلى بلاد أخرى، وفي الشهور الأخيرة من حمل زوجاتهم أو أثناء الدورة الشهرية، وحينما سألت بعض هؤلاء الأزواج وجدت أنهم يحبون زوجاتهم ولا يفكرون في تركهن، ولكن هناك نوعًا من البرود نشأ بسبب طول السنين، ورائحة العرق في الملابس، وتآكل الفكر. أما في حالة النساء فقد وجدت الكاتبة أن من كل مائة زوجة فإن ٧٣ زوجة مارست الجنس مع رجال آخرين غير زوجها، وبحثت كاملاداس عن أسباب إخلاص الزوجات الباقيات — وهن ٢٧٪ — فوجدت أنهن مخلصات ليس بسبب إيمانهن بالإخلاص الزوجي ولكن لأنهن قبيحات. إن القبح هو الذي أنقذ زواجهن أكثر من أي عامل آخر. وتقارن الكاتبة بين النوعين من الزوجات فتقول: يمكن التعرف على الزوجات غير المخلصات بسهولة؛ بسبب رشاقتهن، وحلاوة الابتسامة، والثقة في حركة العينين، وحركة الذراعين والساقين بخفة وسهولة، أما هؤلاء الزوجات المخلصات فلا رشاقة في حركاتهن، وشفاهن مدلاة في غباء وأسى، عصبيات، تؤنب الواحدة منهن زوجها أمام الناس لأي سبب تافه، على عكس الزوجات الخائنات اللائي يَفِضْنَ جاذبية ورقة وحبًّا لأزواجهن. وقد دهشت الكاتبة من ملاحظتها، وتساءلت في نهاية البحث عن ماهية الزواج. ولم يستطع أحد أن يهاجم كاملاداس بعد هذا البحث؛ لأنهم أدركوا أنها كشفت النقاب عن حقيقة حياتهم التي يخفونها عن الآخرين بل عن أنفسهم أيضًا.

ثالوث المحرمات في معظم المجتمعات في العالم هو الجنس والدين والحكومة. وقد استطاعت الكاتبة الهندية أن تمسك قلمها وتكتب في أي من هذه الموضوعات بغير رهبة ولا حرج. إن الروائية والشاعرة «أمريتا بريتام» إحدى هؤلاء اللائي نقدت بشعرها ونثرها كل ما هو مزيف في السياسة أو الحكم أو الدين أو الجنس. أكلت في بيت «أمريتا بريتام» عسلًا بالجبن والشطة، وأهدتني روايتها الأربعين بعنوان «ذلك الرجل»، وقضيت ليلة كاملة أقرأ الرواية الصغيرة التي تكشف كثيرًا من الزيف في موضوع الدين، تدور الرواية حول مأساة شاب أصبح يكره أمه ويحتقرها؛ لأنه علم أنه ليس ابن أبيه، وإنما هو ابن ذلك الكاهن الذي يُشرف على المعبد الهندي. كانت أمه عاقرًا لا تلد فذهبت إلى المعبد ووعدت الإله شيفا بأنه لو رزقها بولد فسوف تهبه لخدمة الإله، وحملت الأم بعد زيارتها للمعبد، وأنجبت ابنها الذي تركته وهو طفل ليخدم الإله في المعبد، وشبَّ هذا الطفل خادمًا في المعبد تحت إشراف الكاهن الذي عرف منه أنه هو أبوه الحقيقي؛ إذ تقمص دور الإله شيفا وقاد أمه من يدها إلى حجرة مظلمة في المعبد حيث مارس معها الجنس. وصدمت هذه الحقيقة الشاب المخلص للمعبد والآلهة، وأصبح معذَّبًا تؤرقه هذه الكذبة التي عاشتها أمه مع أبيه وخدعته مع ذلك الكاهن. في نهاية القصة ترقد الأم على فراش الموت تطلب رؤية ابنها قبل أن تموت، لكن الابن يرفض مغادرة المعبد ليزور أمه الزيارة الأخيرة، فيأتي إليه زوجها أو «أبوه» غير الحقيقي ويدور بينهما الحوار التالي:

الأب : لماذا تكره أمك هذه الكراهية؟
الابن : لأنها خدعتك، أنا لست ابنك، أنا ابن ذلك الكاهن.
الأب : إنها لم تخدعني. لقد ذهبت إلى الكاهن وأنا كنت أعرف ذلك، لكنك مخطئ حين تقول: إنك لست ابني، أنا أبوك وأنت ابني رغم كل شيء، اتحاد الأجساد لا يهم يا بني، ولكن المهم اتحاد العقول، حين أعطى الكاهن جسده لأمك كان عقله متحدًا بالإله شيفا، جسدي لن يصحبني بعد موتي ولكن عقلي سيصحبني، أنا الإله شيفا نفسه، والكاهن لم يكن إلا أداة لإرادتي، جسد الكاهن كان تحت إرادتي، أنت نتاج إرادتي وليس جسدي، ولكن الإنسان إرادة وعقل وليس جسدًا؛ لهذا أنت ابني وأنا أبوك.

وتساءل الابن في دهشة: أي إن أمي لم تخدعك؟

وقال الأب: لا، إنها امرأة مثالية. أنا الذي خدعتها في أول زواجنا، تركتها وهي عروس وسافرت للتجارة في بلد بعيد، وهناك عرفت بعض النساء وأُصِبْتُ بمرض السيلان وفقدت قدرتي الجنسية. لم يكن من الممكن بعد ذلك أن أنجب أطفالًا، لكني أردت أن يكون لي ابن من خلال جسد الكاهن وقد كان.

وقد نجحت رواية أمريتا ليس بسبب أحداث القصة، ولكن بسبب طريقتها العميقة الساخرة في عرض ونقد العقائد الدينية المنتشرة في بلدها، والمجتمع الهندي كأي مجتمع في العالم شديد الغضب حينما يمس أحد قدسية الآلهة. وقد هاجم بعض القائمين على الدين هذه الكاتبة واتهموها بالإلحاد والإساءة إلى صاحب الجلالة الإله شيفا.

وقالت لي أمريتا بريتام وهي تضحك بسخرية: معظم هؤلاء من أمثال ذلك الكاهن الذين يدَّعون صلتهم بالآلهة ليعالجوا النساء العاقرات، وكم تشتهر بعض المعابد في الهند بقدرتها على شفاء الزوجات اللائي لا يلدن، وبالطبع يكون داخل المعبد أحد الكهنة من ذوي الكفاءة الجنسية العالية.

ذكرتني رواية أمريتا بريتام بقصة سمعتها وأنا طفلة من إحدى قريباتي في قريتنا. قالت لي: إنها ظلت عشر سنوات لا تُنجب، وأخيرًا نصحتها بعض النسوة بأن تذهب إلى «شيخ» في القرية اشتهر بعلاج عقم النساء بواسطة حجاب من الأحجبة، وتذكرت أنها قالت لي إنها ذهبت إلى ذلك الشيخ الذي أدخلها إلى حجرة مظلمة وجعلها تخلع ملابسها ليعلق لها الحجاب في رقبتها، ودهشت حين سمعت ذلك وقلت لها بسذاجة — طفلة في العاشرة: ولكن ألم يكن من الممكن أن يعلق لك الحجاب في رقبتك دون أن تخلعي ملابسك ودون حاجة إلى الحجرة المظلمة؟ وقالت قريبتي الريفية وهي تتلعثم: لا، ليس ممكنًا؛ لقد قال لي: إن الأرواح الشريرة التي تسبب لي العقم لا تغادر جسدي إلا في الظلام وبعد أن يصبح جسدي نظيفًا عاريًا كما ولدتني أمي.

لم أتذكَّر هذه القصة التي وقعت في قريتي كفر طلحة منذ أكثر من ثلاثين عامًا إلا هذا اليوم وأنا في سريري في مدينة دلهي بالهند بعد أن قرأت رواية أمريتا بريتام. وهذا هو الأدب الجيد؛ إنه الأدب الذي يجعلنا نتذكر حوادث مضت عليها السنون والسنون، نتذكرها لأول مرة ونفهمها أيضًا لأول مرة. وهذا هو الفن الذي يضيء أركانًا مظلمة في عقولنا.

•••

شوارع المدن الكبيرة في الهند كدلهي وبومباي وكالكاتا تشبه بعضها البعض، في كل شارع تقريبًا ترى أعدادًا هائلة من راكبي الدراجات أو الموتوسيكل أو نصف الموتوسيكل ونصف الدراجة ونصف السيارة، الرجال والنساء هنا يركبون هذه الدراجات والموتوسيكلات، وأحيانًا تركب الأسرة كلها — الأب والأم والأطفال — فوق دراجة واحدة أو موتوسيكل واحد، طريقة مفيدة عملية للتغلب على مشكلة المواصلات. والمرأة كالرجل تركب الدراجة أو الموتوسيكل رغم الساري الطويل الذي يطيره الهواء أو يشبك طرفًا من أطرافه في جنزير الدراجة. تناقض غريب لا زال يحيط بالمرأة الهندية العاملة. لقد كسرت الحواجز وأقدمت على كل شيء سوى أن تخلع «الساري» الذي أجمعت نساء الهند على أنه زي غير عملي يعرقل خطواتها وتتعثر فيه وهي تركب الأتوبيس أو الدراجة بل وهي تسير فوق الأرض، بعض النساء يقولون إن «الساري» فيه أنوثة، وترد عليهن أخريات بأن تذهب الأنوثة إلى الجحيم وترتدي النساء زيًّا عمليًّا كالسروال مثلًا يساعدهن على الحركة السهلة السريعة، بعض النساء يقولون إن الساري يميز المرأة الهندية عن غيرها من النساء في العالم، وترد عليهن أخريات بأن ما يجب أن يميز المرأة الهندية عن غيرها هو طريقة تفكيرها وليس طريقة لبسها، ويحتدم النقاش ويتدخَّل بعض الرجال الهنود فيقولون إنهم يفضلون «الساري»، لكن بعض النساء يثرن ويقلن: إن المرأة يجب أن ترتدي الملابس التي تريحها وتسهل الحركة لها والعمل، وليست الملابس التي يفضلها الرجال.

لكن المرأة في الهند — بصفة عامة — لا تزال حريصة على إرضاء الرجل، معظم الأسر في الهند أبوية، الرجل هو الذي يسيطر، والأطفال الذكور يحظون برعاية أكثر وطعام أفضل وتعليم أكثر من الأطفال البنات!

والمرأة في الهند هي التي تدفع المهر لزوجها، ويزيد مهر العريس بارتفاع طبقته وبارتفاع منصبه وتعليمه. وهذا بقايا النظام الأموي الذي كان سائدًا في الهند، وكانت المرأة لها السيادة داخل البيت وخارجه. كانت هي التي تعمل وهي التي تملك وهي التي ترث وهي رئيسة الأسرة يُنْسَب إليها أطفالها، وبعد أن ثار الرجل على المرأة وانتشرت الأبوية وفقدت المرأة سيادتها لم يتغير نظام دفع المهر كثيرًا، وظلت المرأة هي التي تدفع المهر لزوجها.

قالت لي طبيبة هندية اسمها روماتالا (أي رحمة الله بالعربية): كان الناس يفرحون بالبنت حين كان للمرأة السيادة والنسب. أما الآن فيفرح الآباء والأمهات بالأطفال الذكور ولا يفرحون بالأطفال البنات، الابن كبيضة الذهب. أما البنت فهي التي تدفع المهر وتدفع عمرها من أجل الزوج والأطفال دون أن تأخذ شيئًا.

لكن هناك جيلًا جديدًا من البنات الهنديات اللائي يثرن على هذا النظام ويرفضن دفع المهر للعريس، بل يرفضن الزواج كليةً ما دامت عقلية الرجل الهندي أصبحت تنظر إلى الزوجة كمخلوق أقل من الرجل.

الغريب أن كثيرًا من الرجال الهنود يعتنقون مثل هذه الأفكار المتخلفة عن المرأة، وكأنما قد نسوا تاريخهم. وقد قال أحدهم وهو طبيب متعلم: لقد خُلِقَت المرأة للخدمة بالبيت، إن إمكانياتها الذهنية والفكرية لا تؤهلها إلا لهذا العمل.

وردت عليه إحدى النساء قائلة: ولكن أنديرا غاندي امرأة وقد ساعدتها إمكانياتها الذهنية والفكرية أن تحكمك أنت والرجال والنساء في الهند، فهل هي امرأة أم رجل؟ وسكت لحظة كأنما نسي أن امرأة هي التي تحكم الهند ثم قال: نعم هي امرأة، ولكن المرأة امرأة. وسألت: ماذا تعني أن المرأة امرأة؟ وحاول أن يتحدث مستخدمًا تلك الكلمات كالأنوثة والرجولة … إلخ، وأدركت أن الرجال حتى وإن حكمتهم امرأة يظل تفكيرهم ونظرتهم إلى المرأة — وبالذات الزوجة — كما هو؛ وهذا يدل على أن الزواج أو الأسرة الأبوية هي البؤرة الأساسية التي يتربى فيها الرجال بهذه الأفكار، وباستمرار نظام الزواج الأبوي فسوف تظل هذه الأفكار في عقول الرجال (والنساء أيضًا) سواء حكمهم رجل أو امرأة.

المرأة العاملة بأجر في الهند تمثل ١٩٪ من قوة العمل (ضِعْف الرقم في مصر) وهي تعمل في كل مكان، تعمل في الحقل وتعمل في المصنع وتعمل في المكتب، وفوق كل ذلك تعمل في البيت، تطبخ وتكنس وتخدم الصغار والكبار، فيما عدا القلة من نساء الطبقة المستريحة القادرات على استئجار الخدم والمربيات والطباخين.

النساء العاملات يمثلن ٤٥٪ من جملة عدد النساء في الهند، من هؤلاء ٧٧٪ يعملن بالزراعة فقط، والمرأة التي تعمل بالزراعة هي تلك المرأة الكادحة التي تشقى طول النهار في الحقل ثم تعود إلى بيتها تطبخ وتغسل وتنظف، وهكذا فإن معظم نساء الهند كمعظم النساء في العالم يدفعن كل شيء ولا يحصلن في النهاية إلا على ما يسد الرمق ومعاملة سيئة من الزوج المسيطر، وفي بعض مناطق بالهند لا تجلس الزوجة في حضور زوجها، وإنما تظل واقفة طول الوقت هي وبناتها. أما الزوج والأولاد الذكور فيجلسون، وفي بعض المناطق يحرم على البنات والنساء دخول المعابد التي لا يدخلها إلا الذكور، وتنتشر الكثير من الخزعبلات عن الأنوثة والرجولة والشرف.

ولا زال مفهوم الشرف في كثير من مناطق الهند قاصرًا على الحفاظ على الأعضاء الجنسية وبالذات عند البنات والنساء، ولكن هناك مناطق تفرض العذرية على الذكور أيضًا، ويحرم على الشاب أن يمارس الجنس قبل الزواج، وفي بعض المناطق يتزوَّج الرجل امرأة واحدة، أما المرأة فلها عدد من الأزواج.

وقد وجدت أن اختلاف أنظمة الزواج أبوية كانت أو أموية، تعدد زوجات أو تعدد أزواج، كل ذلك يرتبط بالنظام الاجتماعي والاقتصادي لهذه المنطقة أكثر مما يرتبط بالنظام الديني أو الأخلاقي. في بعض مناطق الجنوب وجدت أسرًا أموية ومسلمة في الوقت نفسه، ووجدت أن المسلمين والمسلمات في بعض المناطق الهندية يحرِّمون على الرجال تعدد الزوجات؛ لأنه يضر بالمنطقة اقتصاديًّا، وهكذا.

•••

قرأت اليوم في الجريدة الصباحية الهندية أن آلاف المسلمين الهنود في «مدراس» جنوب الهند صلَّوا مع الهنود الآخرين لإله المطر؛ ليشفق على الناس ويمنع عنهم ذلك الجفاف الشديد الذي حدث في المنطقة. وقالت الجريدة: إن الأمطار انهمرت من السماء بعد ٧٢ ساعة من الصلاة، واعتقد كثير من الناس أن إله المطر هو الذي أنزل المطر على حين ذكر علماء الأرصاد الجوية أن الأمطار هطلت بسبب تكاثف السحب في المنطقة وهبوط في درجة الحرارة بسبب رياح من المحيط.

تذكِّرني بعض العادات في الهند بالعصور الوسطى، حين كان الناس يفسرون الأمطار والعواصف والكوارث تفسيرًا دينيًّا، ولا زال بعض الناس في الهند (وفي أماكن كثيرة من العالم) يؤمنون بالخرافات والخزعبلات.

المرأة الأرملة في الهند تعامَل أحيانًا كالساحرة الشريرة في العصور الوسطى. كانت الزوجة الهندية إلى عهد غير بعيد تحرق نفسها بعد موت زوجها، أو كانت أسرتها تقيدها بالحبال وتلقيها في النار مع جثة زوجها (عادة الهنود حتى الآن هي حرق الموتى). وقد انقرضت هذه العادة تقريبًا في معظم مناطق الهند، لكن المرأة الأرملة ظلت مكروهة، وبعضهم يتصور أنها سبب الكوارث التي تحدث أحيانًا. بعض الأحزاب السياسية من ذوي الميول الرأسمالية والإقطاعية تستغل هذه العادة القديمة لتهاجم أنديرا غاندي (وهي امرأة أرملة). إنهم يروِّجون بين عامة الناس أن الكوارث التي تحدث في الهند من حين إلى حين مثل الفيضانات أو موت الآلاف من الجوع أو الأمراض، كل ذلك لأن التي تحكم الهند امرأة أرملة، ويحاول هؤلاء بطبيعة الحال أن يضللوا الناس عن فهم الأسباب الحقيقية للمشاكل وأهمها الاستغلال الاقتصادي للشعب الهندي، والاستعمار القديم والجديد الذي تحاول أنديرا غاندي أن تحاربه.

أُشْفِق على هؤلاء الملايين من الهنود الذين يركعون في معابدهم كل صباح أمام تمثال الإله شيفا ليمنع عنهم المرض أو الجفاف أو الجوع، غير مدركين أن الإله شيفا وغيره من الآلهة لا يمنعون الجوع، وإنما الذي يمنع الجوع هو عدالة توزيع ثروات الهند على أهلها وناسها بدلًا من أن تنهبها أقلية في الداخل ومستعمرون في الخارج.

•••

براهما، فيشنو، شيفا، هم الآلهة الثلاثة الرئيسية في الهند للقوة والخلق والدمار، وهم يقولون إن الإله القادر على الخلق هو الإله القادر على الدمار؛ ولهذا يرمز شيفا إلى الخلق والقتل معًا. تماثيل الإله شيفا متعددة الأشكال، أهمها ذلك التمثال الذي يرقص وله أربعة أذرع تقطر الدم من إحداها وتحت قدميه طفل مقتول. والقصة تقول: إن الإلهة برافاتي زوجة شيفا ولدت ولدًا، لكن شيفا ظن أن برافاتي زوجة خائنة وأن هذا الولد ليس ابنه، ومسك شيفا السيف وفصل رأس الطفل عن جسده.

وغضبت الإلهة برافاتي ووضعت رأس فيل لابنها وعاش، وأصبح الإله «جانيش» له رأس فيل وجسد إنسان، ويرمز إلى الحب والخير والحظ السعيد، ويركع أمامه الهنود ليتباركوا به ويشعروا نحوه بالحب والعطف. أما الإله شيفا فهم يرهبونه ويخافون شره وغدره؛ ولهذا يغدقون عليه الأموال والطعام درءًا لشره. لا يعرف هؤلاء أن هذه الأموال والطعام لا تذهب إلى شيفا وإنما إلى طبقة من الكهنة والنُّساك جعلوا المعبد مؤسسات تدرُّ عليهم الخير.

ظاهرة غريبة لاحظتها في معظم المعابد ودور العبادة؛ ذلك أن معظم زوارها الذين يدفعون الهبات هم من الفقراء، رأيت رجالًا ونساءً يهبُون طعام يومهم للمعبد ويصومون اليوم كله بغير طعام، لماذا؟ لأنهم يطلبون من الآلهة مطلبًا مثل أن يرزقهم بولد أو يشفي مريضهم أو يحميهم من اضطهاد صاحب الأرض … إلخ، وتتعدد الأسباب ويتكوم في المعبد الرزق الضئيل لآلاف الهنود الكادحين الأميين.

نسبة الأمية في الهند ٦٠٪ بين الرجال، ٨٠٪ بين النساء، تمر السنون وتظل مشكلة الأمية بغير علاج، كما هو الحال في بلاد كثيرة، ولكن كيف تعيش الأقلية المرفهة في المدن إذا فتح الفلاحون والكادحون عيونهم وأذهانهم؟ من أجل هذا تحافظ هذه الأقلية (التي لا تذهب إلى المعبد أبدًا) على المعابد والآلهة والأديان كمؤسسات للتجهيل والتعمية بل والقمع والتخويف أيضًا.

•••

قرأت اليوم في جريدة الصباح شيئًا طريفًا؛ إن حاكم ولاية ماهر شترا (عاصمتها بومباي) — واسمه علي يافار يونج، اعترف بالأمس في خطابه وهو يفتتح أحد المعارض الكبيرة، أنه حينما كان سفيرًا في فرنسا رغب في سرقة إحدى التحف الجميلة من متحف في باريس. لكنه قاوم هذه الرغبة ولم يسرق التحفة الجميلة، واستطرد هذا الحاكم الهندي يقول: لا بد أن أعترف أن هذا الإغراء بالسرقة كان أشد إغراءٍ تعرضت له في حياتي بالرغم من أنني أميل أحيانًا إلى سرقة بعض الأشياء التي تعجبني.

مثل هذا الكلام الصريح يتفق مع طبيعة الهنود البسيطة المباشرة. إنهم يعبِّرون عن أنفسهم أحيانًا بصدق شديد يدهش الغرباء عنهم، بعض الناس يظنون أن ذلك الصدق نوع من البلاهة أو الغباء أو السذاجة. في مصر حينما يريدون التهكم بشخص ساذج صريح يقولون عنه إنه هندي، لكن احترمت صدق الهنود وصراحتهم. لقد احترمت حاكم ماهر أشترا الذي اعترف بأنه يسرق أو يميل إلى السرقة أحيانًا. كثير من الحكام يسرقون دون أن يعترفوا بذلك.

والهنود أيضًا — بصفة عامة — لا يجيدون المجاملة؛ فالمجاملة نوع من الكذب الاجتماعي الذي انتشر في العالم وأصبح نوعًا من الرقي والتهذيب. كما أنهم لا يعرفون النفاق الوظيفي كما نعرفه في مصر، ويتعاملون مع وزرائهم وحكامهم ببساطة وبغير تلك الرعشة التي نراها دائمًا في اجتماعاتنا الرسمية، حضرت أحد الاجتماعات الكبيرة في دلهي ورأيت الوزير يدخل ويخرج كأنه شخص عادي ودون أن يلتف حوله أحد. وأثناء النقاش سمعت صغار الموظفين ينقدون الوزير بغير هوادة ولا رفق. وكان كل ذلك يبدو عاديًّا ومألوفًا، وعرفت من بعد أن الهنود (وإن كانوا موظفين) تعوَّدوا النقاش والنقد الصريح الذي لا يخشى أي رأس في الدولة. وهذا يرجع إلى تعدد الأحزاب في الهند، وإلى وجود أحزاب معارضة تنقد الحكومة وتشجع الناس على إبداء رأيها بغير خوف.

•••

في نيودلهي عاصمة الهند حديقة مشهورة جميلة اسمها «لودي»، سِرْتُ فوق أحد ممراتها الحجرية بين مساحات الخضرة وأحواض الزهور، انعكست صورتي فوق سطح البحيرة الصافية، وزهرة الليلى البنفسجية على سطح الماء بدأت تغلق أوراقها مع اقتراب الغروب، كطفل يلف ذراعيه حول جسمه وينام وحيدًا في العراء. شمس الغروب دافئة بحرارة الجسم تلوِّن السحب باللون الأحمر والبرتقالي، تسقط فوق جدران المباني المغولية وتنفذ من بين ثقوب الأبواب الصغيرة المقوسة على الطراز الإسلامي. أحد الشباب وقف تحت القبة المغولية وراح يغني، الصوت جميل فيه عذوبة وقوة يتردَّد بين الجدران العالية والقبة المقوسة المرتفعة. لم أفهم كلمات الأغنية لكن الصوت ووجه الشاب جعلني أقف وأستمع، تجمَّع بعض الشباب والأطفال ورجل عجوز توقَّف عن السير وأخذ يستمع، عيون الأطفال تلمع كفصوص العقيق، النني الأسود بارز قوي لامع، لكن بياض العين تشوبه صفرة. معظم العيون في الهند تشوبها صفرة غريبة كعيون المرضى بالصفراء أو داء الكبد المزمن.

أحد السياح الأمريكيين توقَّف يسمع الغناء، تجمَّع حوله الأطفال، ملامحهم فيها نداء وأذرعهم ممدودة تنظر، وانكسارة الفقر والحرمان رغم تلك النظرة اللامعة الذكية المتحدية للجوع والقادرة على الانتصار حتى على الموت.

الشاب لا زال يغني تحت القبة المغولية السوداء، الصوت حزين قوي يصرخ بنداء مجهول للسماء، قرص الشمس اختفى تمامًا ولم يبقَ إلا اللون الأحمر فوق السحب وقمم الأشجار، نسمة باردة هبَّت وسقطت ظلال قائمة فوق البناء القديم ذي الرأس السوداء كرأس الغول، تخيلتها وأنا طفلة أسمع قصص الخرافات، وكلمة المغول تذكِّرني بحصة التاريخ في المدرسة وأنا في العاشرة من عمري، المغول أغاروا على الهند وحكموها ثلاثة قرون من القرن الرابع عشر حتى السابع عشر.

لم تكن مدرِّسة التاريخ تعرف كيف تثير خيالاتنا، كنا نحفظ عن ظهر قلب بعض الغزوات وبعض الأسماء والتواريخ بغير ترابط وبغير فهم، بقايا أبنية لا تزال هنا قائمة، مهجورة، قبابها السوداء توحي أن داخلها كان يقبع غزاة غلاظ القلوب.

وجود الهنود فيها سلام وهدوء، وشيء من الذلة والانكسار، تشبه وجوه بعض الناس في مصر، ترك المغول والإنجليز بصماتهم على وجوه الناس في البلاد التي استعمروها. كانت بصماتهم هنا في الهند أشد، ستة قرون وهم يمتصون ثروات هذا البلد، أهم ما خلَّفوه من آثار هو الفقر.

الذي يسمع عن الفقر في الهند ليس كالذي يراه، الفقر هو أن يعيش الموت ملاصقًا للحياة، وتمتلئ المدن والشوارع بالأشباح المشوهة، الأمهات كالهياكل العظمية يحملن أطفالًا ليسوا إلا عيونًا وعظامًا، أجساد راقدة على الرصيف مغطاة بملايين الذباب كأنما كتل من القمامة، الأذرع المعروقة ممدودة، واليد متكورة منتظرة أحدًا يُلقي في كفِّها شيئًا تأكله. لوحة ثابتة تمثل صراع الإنسان الأخير من أجل البقاء، دائمًا الشحاذون في كل مكان، حتى في المطارات، الأطفال الجوعى، الشباب العميان، المصابون بالدرن الرئوي، معظم الوجوه مليئة بالحفر بسبب الجدري القديم، أعدادهم كثيرة إلى حدِّ أنك تعتبرهم جزءًا لا يتجزأ من الحياة، ولا بد أن تعترف بهم كعالم ضخم يتهدَّد عالمًا آخر من الناس يركبون السيارات ويتخمهم الأكل.

الجوع يكسح الحياة هنا كالفيضان. إنه لا يأتي. إنه دائمًا موجود كأحد الظواهر الثابتة في الحياة، والناس تحوَّلوا إلى عيون سوداء جاحظة. لا يعيشون ولا يموتون لكن قلوبهم تستمر وحدها في الدق بطريقة مجهولة لا يعرفها الأطباء.

•••

قراءة أساطير الأديان في الهند تكشف أمام العقل كثيرًا من الأركان المظلمة، إحدى الأساطير تقول: إن الملك برتيفي وُلد من الفخذ الأيمن لأبيه فاني. لكن بعض الهنود قالوا لي: إن طفلًا من لحم ودم لا يمكن أن يولد من فخذ رجل، وإنما لا بد أن يولد من رحم امرأة عاشرها رجل. وحقيقة القصة هي أن الإلهة أو الملكة بافتي حملت بغير زواج وولدت فاني، وكان الإله أو الملك برتيفي يحبها ويرغب في إرضائها لتقبله زوجًا فخرج إلى الناس وأعلن لهم أن فاني قد ولد من فخذه الأيمن. ولأن الناس يخشون تكذيب الآلهة أو الملوك فقد صدَّقه الكثيرون، وانتقلت هذه الأسطورة جيلًا بعد جيل وأصبحت إحدى قصص الهنود الدينية. قالوا لي إنها تشبه إلى حدٍّ كبير قصة آدم وحواء مع اختلاف في الولادة؛ فقد حدثت هذه المرة من ضلع الرجل وليس من فخذه، وقصة مريم وولادة عيسى أو «المسيح» من جسد العذراء التي لم يلمسها رجل وإنما هي «روح» الإله. هذه المرأة التي صَنَعَتْ في رحمها جنينًا من لحم ودم.

أسطورة هندية أخرى من براهما فاقرات بيورانا تقول: إن الإله فيشنو أراد أن يضاجع تولس زوجة كورالسانكي، فتنكَّر في ملابس زوجها ودخل إلى حجرة نومها وضاجعها، لكن تولسي عرفت بخدعته فلعنته آمرة بتحويله إلى حجر، واستطاع الإله فيشنو أن يرد لها اللعنة آمرًا بأن يتحول شعرها إلى نبات تولس ويتحول جسدها إلى نهر جانداك.

هذه الأسطورة يصدقها كثيرون من الهند، وحتى اليوم فإن أية زهرة في حوض نهر جانداك تمثل شاليجرام (عضو الذكر) وهي صورة الإله فيشنو. ويعبد الهنود حتى اليوم نبات تولس في الليلة المظلمة بغير قمر في شهر أغسطس من كل عام، ويحتفلون بازدهار نبات تولس بواسطة الشاليجرام (عضو الذكر) ويتباركون به، وهكذا تحولت اللعنة القديمة إلى بركة. وهذه هي حياة البشر، تعيش فيها اللعنات والبركات معًا، مثل الشمس وظلها يحدثان في اللحظة نفسها والمكان نفسه.

•••

وجدت الهند كالحياة مليئة بالتناقضات، في الوقت الذي يموت فيه آلاف الهنود من الجوع تضيع كميات هائلة من الطعام على شكل وهبات للمعابد الدينية، يعالج الإنسان هذه التناقضات بأن يفصلها الواحدة عن الأخرى ويتظاهر بأنه لا علاقة بين الواحدة والأخرى. بمعنًى آخر: إن الاعتقاد بفكرة دينية يمكن أن يعيش جنبًا إلى جنب مع التجربة العلمية؛ الاعتقاد بالفلك والتنجيم يعيش إلى جانب علم الفلك، الاستغراق في المتع الدنيوية والشرب واللذة الجنسية إلى جانب فلسفة روحية زاهدة في الأكل والشرب والجنس. يعالج الإنسان هذا التناقض بأن يفصل بين الدين والعلم، ويجعل الرأس مفصولًا عن القلب، والروح مفصولةً عن الجسد، والفكر مفصولًا عن الواقع الحي.

يعيش الأديب الهندي هذا التناقض ويعبِّر عن أزمته وتمزقه بلغة غير لغته الأصلية. وهذه أيضًا مشكلة أخرى، مشكلة اللغات المتعددة في الهند تعدد الأديان. أحد الأدباء الهنود وصف لي هذه المشكلة قائلًا: إن الهندي يولد له لغة، ويتعلم بلغة، ويفكر بلغة، ويحلم بلغة، ويكتب بلغة. ولم أفهم حقيقة هذه المشكلة إلا حينما قابلت إحدى الشاعرات الهنديات واسمها «أكيلا» وسألتها عن مشكلة اللغة فقالت لي: حين وُلِدت سمعت أمي تتكلَّم لغة البنجاب، حين دخلت المدرسة تعلَّمت اللغة الإنجليزية، حين كبرت قرأت الكتب الهندية. أكتب الشعر باللغة الإنجليزية؛ لأني لا أذكر لغتي الأصلية البنجابية كما أنني لا أتقن الهندية، لكن شعري باللغة الإنجليزية لا يعبِّر تمامًا عني؛ لأنني أحلم وأبكي بلغتي البنجابية وهي لغتي وأنا طفلة. لست راضية عن شعري لأنه بلغة أخرى غير لغتي. وهذه مشكلة عامة في الأدب الهندي، وأعتقد أنها من أهم الأسباب التي تحول دون ظهور أدب عظيم في الهند.

وقلت للشاعرة («أكيلا» هي كلمة «عقيلة» بالهندية): قد يكون كلامك صحيحًا، ولكن اللغة في رأيي ليست إلا الإناء الخارجي الذي يوضع فيه الشيء. كما أننا حين نحلم وحين نبكي لا نفعل ذلك بلغة معينة، أحلامنا وبكاؤنا له لغة واحدة هي عقل الإنسان، لكن هذا لا يعني أنك يمكن أن تكتبي شعرًا أو أدبًا جيدًا بلغة لا تتقنينها. إتقان اللغة ضروري لأي فنان كاتب، وحينما يتقن الإنسان لغة من اللغات فإنه قد يعبِّر بها عن نفسه من لغة أبيه أو أمه.

وتساءلت «أكيلا»: لماذا إذن لا يوجد في الأدب الهندي شيء عظيم؟ وقلت لها: لقد قرأت شيئًا من الأدب الهندي وأعترف أن فيه ما هو عظيم من بلاد كثيرة. قد تكون اللغة الإنجليزية أقل إتقانًا، ولكن المعاني تكون أحيانًا معاني عظيمة وتحملها الكلمات البسيطة بل الركيكة. لم أكن أجامل «أكيلا» كشاعرة هندية، لكني كنت قد قضيت عدة ليالٍ ممتعة مع بعض كتابات الأديبات والشاعرات الهنديات، بعضها كُتب مباشرةً بالإنجليزية وبعضها تُرْجِمَ إلى الإنجليزية، ولم أكن في حقيقة الأمر أجد فارقًا بين الاثنين. إن الأفكار الجيدة تظل جيدة بأية لغة وبأي شكل، والأفكار الركيكة تظل ركيكة بأية لغة وبأي شكل.

وقالت أكيلا: هذا صحيح، ولكن اللغة الإنجليزية تذكِّرنا بالاستعمار الإنجليزي.

قلت: نعم؛ ولهذا بدأتم في الهند بعد الاستقلال تهتمُّون باللغات الهندية المحلية، ولكن المشكلة عندكم أن اللغات الهندية تزيد على سبع عشرة لغة. ومن المهم توحيد اللغة حتى يمكن للهندي أن يتفاهم مع الهندي (في الشمال أو الجنوب أو الشرق أو الغرب أو الوسط) باللغة الهندية وليس باللغة الإنجليزية.

وقالت أكيلا: إحدى اللغات الهندية — وهي «الهندي» Hindi — أصبحت هي اللغة الرسمية، وسوف تصبح في المستقبل هي اللغة التي توحِّد بين اللغات الهندية المتعددة.

قلت لها: حينئذٍ تستطيع الشاعرات والأديبات والأدباء أن يكتبوا باللغة التي يبكون ويحلمون بها.

وضحكت أكيلا، وكنت في أعماقي أدرك مشكلتها كشاعرة هندية مع اللغة الإنجليزية؛ لقد درست اللغة الإنجليزية مثلما درستها «أكيلا» وكثير من قراءاتي الأدبية والعلمية بالإنجليزية، وقد أكتب في النواحي الطبية والعلمية بالإنجليزية، ولكني حين أكتب الأدب لا أكتب إلا باللغة العربية. وقلت لأكيلا: إن مشكلة اللغة في الهند غير موجودة في مصر؛ لأننا في مصر لنا لغة واحدة هي العربية، نولد بها ونحلم بها ونبكي بها ونتعلمها ونتكلم بها في جميع أنحاء مصر بل في جميع أنحاء البلاد العربية. كما أن الإنجليز لم يعيشوا في مصر كما عاشوا في الهند ثلاثة قرون. وقد لعبت اللغة العربية — لكونها لغة واحدة — دورًا في الصمود أمام اللغة الإنجليزية، ولم يستطع الإنجليز أن يفرضوها على المصريين كلغة رسمية كما فعلوا في الهند. لقد ظلت اللغة الإنجليزية في الهند هي اللغة الأولى في المدارس لسنوات طويلة، أما في مصر فقد كانت اللغة الإنجليزية هي اللغة الثانية فقط. أما اللغة الأولى فقد كانت دائمًا اللغة العربية.

وقالت أكيلا: إن مشكلتي كشاعرة (وهذه هي مشكلة جيل من الشعراء والأدباء في الهند) إنني لا أشعر أنني أملك زمام لغة واحدة، إنني أعرف أربع لغات (الإنجليزية، البنجابية، الهندية، الأردية) ولكني لا أسيطر سيطرة كاملة على أي منها، واللغة هي الأداة أو ريشة الشاعر أو الأديب، وإذا لم يسيطر الفنان على أداته سيطرة كاملة لا ينتج فنًّا جيدًا، وسوف تظل مشكلة تعدد اللغات في الهند قائمة حتى تصبح لنا لغة واحدة هي اللغة التي نولد بها والحروف الأولى التي تطرق آذاننا ونحن أطفال في الهند، نحلم بها ونبكي بها ونكتب بها أيضًا.

وأهدتني «أكيلا» ديوانها الأخير الذي كتبته بالإنجليزية، وقرأت أبياتها العميقة الرقيقة وهي تعبِّر عن مأساة قرية في البنجاب أغرق فيضان النهر بيوتها وحقولها. لم أقرأ في الشعر الإنجليزي الأوروبي أجمل من بعض أبياتها وهي تصف عيون الأطفال المشردين الجوعى، أو تلك الأبيات التي تصف بها النهر المقدس الذي كان يتطهَّر فيه الهنود من آثامهم الدنيوية ثم إذا به يُحْدِث الدمار للقرية. رغم بساطة اللغة والكلمات إلا أنها تحمل أخطر المعاني؛ فإن أكيلا تسخر بشعرها من بعض الخزعبلات والمقدسات في بلدها، وكتبت تقول: كان النهر المقدس لا يغسل آثام الناس ولكنه كان يغسل عرق الفلاحين وطمث النساء وبراز الأطفال المرضى بالإسهال صيفًا وشتاءً. تبدو هذه الكلمات فجة غير أدبية شاعرية، ولكن الفنان الحقيقي يستطيع أن يحوِّل قطع الصخر إلى أحجار كريمة وجواهر.

قالت لي أكيلا إنها بدأت تكتب الشعر بعد أن اشتغلت مُدَرِّسة بإحدى المدارس الابتدائية وحين كانت تنادي أسماء أطفال فصلها لتعرف من الغائب تكتشف كل صباح غياب اثنين أو ثلاثة أطفال. وتطوي قائمة الأسماء وهي مُطرقة ويظل الفصل صامتًا بعض الوقت. كان الجميع يعرفون لماذا غاب زملاؤهم أو زميلاتهم. الموت في الهند كان يحصد الأطفال حصدًا ابتداءً من أيامهم الأولى حتى سن السادسة أو السابعة أو الثامنة، وعدد وفيات الأطفال الإناث أكثر من الذكور؛ فالطفلة الأنثى في الهند (كغيرها من البلاد) تنال من الإهمال والتجويع أكثر مما يناله الطفل الذكر.

«أكيلا» لا تزال شابة في الأربعين، لكن ملامحها الدقيقة البريئة تشبه ملامح فتاة في الخامسة عشرة، وصوتها ناعم رقيق كصوت الأطفال. أما حين تنظر داخل عينيها تدهشك هذه النظرة العميقة الغائرة الموغلة في السن كنظرة رجل عجوز في السبعين من عمره، وكان ذلك سر جاذبيتها وقوتها. إن الألم هو الذي يصنع الإنسان، لكن الفنان الحقيقي هو الذي يحوِّل الألم إلى فن جيد، ويظل الفنان رغم السنين شابًّا قويًّا، بل يظل طفلًا بريئًا رقيقًا رغم تراكم الخبرات في قاع عينه.

وقالت أكيلا: ماتت أختي وهي في الخامسة من عمرها، قبل أن أشتري لها «الساري» الأحمر الذي وعدتها بشرائه، وماتت أمي قبل أن أستلم أول مرتب لي وأعوضها عن شقائها، أما حياتي أنا فهي صراع مستمر من أجل البقاء على ظهر الأرض، أنا لا أتزوج ولن أتزوج ولكني أعيش الحب.

شعرت صباح اليوم بقلق غريب نحو طفلي الصغير الذي تركته بالقاهرة مع ابنتي الكبرى، تذكرت أنني حلمت بالأمس حلمًا مزعجًا، نسيت تفاصيله في الصباح. لكنه تركني بذلك الشعور المقلق الذي دفعني إلى أن أمسك التليفون وأطلب بيتي في القاهرة.

لم أكن أعلم أنني سأضطر للانتظار أربعة عشر يومًا بلياليها، وكل يوم يدق الجرس ويأتيني صوت عاملة التليفون الهندية تقول: ستكون معك القاهرة بعد لحظات، ارفعي السماعة، وأظل رافعة السماعة طويلًا ثم يأتيني صوتها مرة أخرى تقول: معذرة، وجدنا خط لندن مشغول، وأتساءل في دهشة: لندن؟ وما شأني أنا بلندن، أنا أريد الاتصال بالقاهرة؟

وتقول العاملة الهندية: ولكن جميع الخطوط عن طريق لندن، وخط لندن مشغول طول الوقت. دهشت أول الأمر لكني تذكرت أن الإنجليز استعمروا الهند ومصر فترة من الزمن، ولكن بعد خروج الإنجليز من الهند ومن مصر لماذا لا يكون هناك خط مباشر بين دلهي والقاهرة؟

بالطبع ظل خط لندن مشغولًا، وبعد أربعة عشر يومًا جاءني صوت ابنتي من القاهرة، ولم أستطع أن أسمع الكلمات بوضوح وضاعت دقائق المكالمة هباءً دون أن أسمعها أو تسمعني.

•••

الأدب الهندي أيضًا لا يصل إلى القاهرة (كخطوط التليفون) إلا عن طريق لندن، نحن لا نقرأ من الأدب الهندي إلا ما يُتَرْجَم إلى الإنجليزية في لندن، والهنود أيضًا لا يعرفون من الأدب العربي إلا ما يُتَرْجَم إلى الإنجليزية في لندن، ولندن لا تترجم من الأدب الهندي أو الأدب العربي إلا ما يروقها، وما يتفق مع نظرتها إلى الهند أو العرب؛ ولهذا فإن معظم ما في الأدب الهندي أو العربي لم يترجم في لندن، وظل مغلقًا في السوق المحلية ولم يصل السوق العالمية، وبالطبع لم يحصل على جائزة نوبل؛ ولهذا أيضًا لم نسمع عن أديب عظيم في الهند كما نسمع عن هؤلاء الأدباء العالميين من أمثال: هيمنجواي وكافكا وشتاينبك وغيرهم، مع أن الذي يذهب إلى الهند ويقرأ بعض إنتاج الأدباء والأديبات في ولايات الهند المختلفة يكتشف أن في الأدب الهندي ما هو عظيم، وما هو أكثر خصوبة وتنوعًا من بعض إنتاج الأدباء العالميين الذين درجنا على أنهم هم العظماء وحدهم.

وكما حُرِمَت المستعمرات من خيراتها وثرواتها المادية فقد حُرِمَت أيضًا من ثرواتها الفكرية والأدبية والفلسفية. وكما حُرِمَت المستعمرات من كبريائها وكرامتها الوطنية حُرِمَت أيضًا من كبريائها وعظمتها في الأدب والفن أو العلم والفلسفة.

إن مَنْ يدرس الفلسفة الهندية القديمة يدرك أنها تحتوي على أفكار ومعانٍ أكثر عمقًا من بعض فلاسفة الغرب المشهورين، بل إن بعض هؤلاء الفلاسفة العالميين قد أخذوا الكثير من أفكارهم من الفلسفة الهندية القديمة.

•••

اعتكفت عدة أيام في البيت وقرأت كتاب «الجيتا» وهو أهم الكتب المقدسة للدين الهندوكي، ويحتوي على فلسفة هذا الدين العريق، وكان الهنود يقرءونه حينما كانت أوروبا غارقة في ظلام الجهل، ودهشت وأنا أقرأ «الجيتا»؛ فقد وجدت فيها كثيرًا من الأفكار الحديثة في علم النفس والفلسفة. في أحد فصولها عن النفس البشرية وتقسيماتها خُيِّل إليَّ أنني أقرأ أفكار «رونالد لينج» أحدث علماء النفس في إنجلترا اليوم.

تقسم «الجيتا» النفس إلى غير حقيقية وتسميها اللا نفس، والنفس الحقيقية وتطلق عليها اسم «النفس».

أما علماء النفس المحدَثون فيستخدمون كلمة النفس المزيفة والنفس الحقيقية، وهناك بالطبع اختلافات في التحليل والشرح، ولكن كم يأخذ هؤلاء العلماء الأوروبيون من الفلسفات القديمة! وكم يتجاهلون مصادرها الحقيقية!

وكما طمس الأوروبيون والمستعمرون الحضارات القديمة التي ازدهرت في الشرق مثل الحضارة المصرية القديمة، حضارة الهند، حضارة العرب وغيرهم، فقد طمسوا أيضًا أدبهم وثقافتهم الحاضرة.

وتدخل «الجيتا» بعمق في تحليل النفس البشرية وفي الأمور الفلسفية، وتنكر وجود قوى خارج الإنسان مجهولة له. تقول «الجيتا»: إن هذا الشيء الذي داخلنا هو الذي يرصد حركتنا، هو النفس الحقيقية، وهي ساكنة ثابتة؛ حيث لا يمكن لها مراقبة النفس الأخرى إلا من موقع ثابت ساكن. هذه النفس الساكنة الثابتة هي النفس الخالدة في رأي «الجيتا»؛ أي هي «الله»، بمعنًى آخر: أن «الله» داخل الإنسان وليس خارجه. وهذا المعنى هو أحد المعاني الحديثة التي عبَّر عنها بعض الفلاسفة المحدثين من أمثال: إريك فروم ورواد ما سُمِّيَ بالفلسفات الإنسانية. تقول «الجيتا»: إن أي إنسان يمكن أن يكون إلهًا إذا ما ابتعد عن نفسه غير الحقيقية واقترب من نفسه الحقيقية الخالدة. إن النفس غير الحقيقية هي النفس النهمة إلى الملذات العادية الدنيوية الزائلة. أما النفس الحقيقية فهي التي تنتصر على تلك الرغبات وتعلو عليها وتصل إلى اكتشاف جوهر السعادة الحقيقية التي لا تزول. وتدعو «الجيتا» الإنسان إلى أن يفكر طويلًا وأن يحاول أن يصل إلى نفسه الحقيقية عن طريق الزهد والعزلة والانفصال عن الحياة والتفكير العميق الطويل. لكنها تقول للإنسان في بعض أجزاء منها إنه لا بد أن يعمل في الحياة بغير كلل أو ملل. والسؤال هنا: أليس من حق الذي يعمل أن ينال عن عمله أجرًا يساعده على الاستمتاع بما في الحياة من ملذات؟ كيف إذن تدعوه «الجيتا» إلى العمل ثم تدعوه إلى الزهد والانعزال عن الدنيا وما فيها؟! هذا تناقض واضح تحاول «الجيتا» أن تفسره بأن تقول: إن الوصول إلى النفس الخالدة الكلية أمر بالغ الصعوبة، ولا يصل إليه إلا القلة من صفوة الناس.

وهناك عبارة في «الجيتا» تقول فيها للناس ما معناه أن اعملوا وانظروا إلى العمل ذاته ولا تطلعوا إلى ما سيعود عليكم من هذا العمل. وبرغم هذه الفلسفة العميقة الإنسانية القائمة على الفعل والتفكير والتأمل إلا أنني لا أتفق مع هذا الرأي الذي يدعو الناس إلى العمل دون أن يتطلعوا إلى نتائج العمل؛ لأن هذا الاتجاه يسهِّل لغيرهم أن يستغلهم ويربح من وراء جهودهم وعملهم. وقد وجدت في «الجيتا» رغم ارتفاع قيمتها الفلسفية والفكرية بعض التناقضات التي لا يخلو منها أي دين من الأديان. لكنها في رأيي من أكثر الكتب الدينية اعتمادًا على الفعل والتفكير المنطقي الفلسفي وليس على المعجزات والخرافات والأحكام القاطعة التي لا تقبل المناقشة. إن الإنسان هو المعجزة الوحيدة في «الجيتا»، وهي تحثه على أن يكتشف نفسه وقوته العظيمة الداخلية ولا يكون ضحية للظروف الخارجية. إنها تقول: إن الإنسان سيد نفسه وسيد الظروف الخارجية أيضًا، ويجب ألا يرضخ لها وأن يغيرها لصالح الناس جميعًا.

كنت أتساءل دائمًا: لماذا لا يخاف الإنسان الهندي الموت كما نخافه نحن؟ ووجدت الإجابة على هذا التساؤل في «الجيتا» إنها تقول إن الموت ليس موتًا، وإنما هو انتقال الروح من جسد إلى جسد آخر أفضل من الجسد الأول. كما نفرح نحن بانتهاء الطفولة وانتقالنا إلى مرحلة النضوج، يفرح الهندي بالموت ويرحب به كانتقال إلى حالة أفضل وأكثر نضوجًا.

تقول «الجيتا» أيضًا: إن التغير هو قانون الحياة الوحيد الذي لا يتغير، وإن الخلود هو الحالة التي يصل إليها عقل الإنسان حين يقبل أن كل لحظة وكل تجربة وكل عقل وكل جسم وكل شيء في الحياة ليس خالدًا. كل شيء في العالم يتغير: الحر والبرد، فلماذا يضايقني الحر أو البرد؟ كل موقف يتغير: الحزن أو الفرح، النجاح أو الفشل، فلماذا يضايقني الحزن أو يسعدني الفرح؟ الهندي الحكيم في «الجيتا» هو الذي لا يفرح ولا يحزن ولا يتألم من حر أو برد أو جوع أو عطش. يقول اللورد كريشنا في إحدى فقرات «الجيتا»: «هذا الإنسان الصلب الذي أصبح لديه الفرح والحزن سواء بسواء. إنه أهل لأن يفهم خلود الروح.»

من هذه الفلسفة ظهر في الهند هذا الاتجاه إلى الانتصار على الألم وتحمُّل كافة أنواع التعذيب، كالنوم فوق المسامير، ورفض الملذات ومنها الطعام والجنس، واستعذاب الحرمان والآلام. وقد أثرت هذه الفلسفة الهندية القديمة في غاندي وأصحابه وفي كثير من زعماء الهند، بل في كثير من أفراد الشعب الهندي العادي. لا أظن أن أحدًا في العالم يستطيع أن يتحمَّل الفقر والجوع كما يتحمله الإنسان الهندي. هذه الفلسفة لها ميزات ولها عيوب. من ميزاتها أنها تقوي الناحية النفسية والروحية في الإنسان. لكنها من ناحية أخرى تُضعف رغبته في محاربة أسباب الفقر والجوع، بل تجعله فريسة سهلة للمستغلِّين والمستعمرين.

وقد حاول الإنجليز طوال استعمارهم للهند أن يزيدوا من فلسفة الزهد هذه كما فعلوا بالأديان في المستعمرات الأخرى.

في بعض فصول «الجيتا» شرح علمي طويل للنفس الإنسانية ومراحل العمر المختلفة. تقول «الجيتا»: إن طفولتنا ليست إلا مرحلة تموت وتولد بعدها مرحلة الشباب، التي تموت بدورها وتولد الشيخوخة، ولكننا نذكر الطفولة والشباب والتجارب التي مرت في حياتنا وانتهت.

هذه الذاكرة التي ترصد حركتنا وتجاربنا التي تبدأ وتنتهي لا بد أن تكون هي ساكنة ثابتة. لا يمكن لنا أن نرصد حركة الشيء ونحن نتحرك داخله. لا نعرف حركة القطار ونحن داخله. وكذلك النفس الإنسانية، لكل إنسان منا نفسان: نفس تتحرك وتعيش التجارب، ونفس أخرى ساكنة لا تتحرك ترقب النفس الأخرى. تقول «الجيتا»: إن النفس الساكنة الثابتة هي النفس الخالدة غير المتغيرة، وهي الحقيقية، وهي الواعية. أما النفس المتحركة فهي غير حقيقية، وهي زائلة، وهي متغيرة، وهي غير واعية بما يحدث لها؛ لأنها عاجزة عن الرصد والمراقبة؛ وبالتالي عاجزة عن الوعي وإدراك حقيقة الأمور.

تحث «الجيتا» الإنسان على أن يكافح من أجل أن يصل إلى نفسه الحقيقية غير المتغيرة، وبهذا ينتصر على الموت ويظل حيًّا وإن مات جسده؛ فالجسد ليس إلا جزءًا من النفس غير الحقيقية الزائلة.

يقول اللورد كريشنا «لارجونا» في إحدى فقرات «الجيتا»: «حارِبْ لا تخشَ الموت وأنت تقاتل. حين يُقْتَل جسدك فسوف تظل نفسك الحقيقية خالدة، كما تخلع ملابسك تخلع النفس الجسد عند الموت وترتدي جسدًا آخر جديدًا أكثر تناسبًا لها». رسالة كريشنا للإنسان هي أن يبتسم؛ فالإنسان الحكيم هو الذي لا يحزن أبدًا. أما البكاء فليس إلا للبُلهاء. إن الحياة ليست إلا سلسلة متصلة لا نهائية من الولادة والموت والولادة والموت. والإنسان لا يموت أبدًا وإنما يتخذ جسده من كل موت أشكالًا مختلفة. وهذه الفكرة تشبه ما قاله الماديون من أن المادة لا تفنى وإنما تتحول إلى أشكال أخرى من المادة، جسد الإنسان يتحول عند الموت إلى كربون وغازات تدخل في تكوين كائنات أخرى حية وهكذا. وكما قال الفلاسفة: إن قانون الحياة الوحيد الثابت هو قانون التغيير، قالت الجيتا أيضًا هذه الحقيقة، لكن «الجيتا» فصلت بين الفلسفة وبين الحياة التي يعيشها الإنسان، وأوقعت الإنسان العادي في تناقض شديد مثلها مثل الأديان الأخرى التي فصلت بين الدين والدنيا. كما أنها أسست فلسفتها على وجود المطلق وهو النفس الخالدة غير المتغيرة، على حين أن الفلسفة المادية تقول: إن كل شيء في الحياة نسبي وليس هناك شيء مطلق.

وتدخل «الجيتا» أيضًا في شرح قانون السببية في الحياة وتقول: إن كل شيء له سبب. لكنها تقول إن هناك عالمين، عالم الأسباب، وهو غير مرئي، وعالم المسببات، وهو العالم المرئي، وإن الخروج من العالم اللا مرئي إلى العالم المرئي هو نوع من الخلق ويتبع قانون السببية.

تقول «الجيتا»: إن الذي يخلق هو الإنسان حين يدرك عظمة نفسه. أما الإنسان الضال فهو الذي نسي عظمة نفسه. الله هو الإنسان حين يدرك عظمة نفسه. لورد كرشنا كان إنسانًا عرف عظمة نفسه؛ ولهذا استطاع أن يخلق الجيتا. الخلق يحدث مرة واحدة، ويعجز الإنسان عن إعادة ما خلقه مرة ثانية. لورد كريشنا نفسه عجز عن إعادة «الجيتا» حين طلب منه «أرجونا» أن يكتبها مرة أخرى. هذا الخلق العقلي والفني أو الإلهام ليس اتحاد الإنسان بنفسه. وهو يتطلب جهدًا وصبرًا وقدرة على التركيز على النفس من أجل اكتشافها.

وقد وجدت أن «الجيتا» كانت أكثر من العقل الغربي الحديث إدراكًا لماهية الإلهام الفني وضرورة الجهد الإنساني والعمل المتصل للوصول إليه. كثير من المفكرين في الغرب قالوا: إن الإلهام الفني عملية مجهولة وتأتي للإنسان بالصدفة. بعضهم قال: إن الإلهام يهبط من السماء. كان الدين الهندوكي لا يعترف إلا بالجهد الإنساني، وليس في هذا الدين إله سوى الإنسان، وليس فيه معجزات أمام الإنسان الخلاق الذي عرف نفسه واكتشفها.

وتشرح «الجيتا» فلسفة «اليوجا» وتقول: إن اليوجا هي وصول الإنسان إلى النقاء العقلي، أو إلى الارتفاع فوق «الأنا» وفوق العقل العادي والتحرر من الأضداد في الحياة؛ لأن الحياة تقوم على الأضداد، على الخير والشر، على الفرح والحزن، على الألم واللذة … وهكذا. اليوجا ارتفاع فوق كل هذا. معنى ذلك أن ينتصر الإنسان على الألم وعلى اللذة أيضًا ويصبح بغير ألم وبغير لذة.

اليوجا هي فن العمل بغير ألم، هي أن يصبح الإنسان منفصلًا عن رغبات «الأنا» جميعًا سواء كانت رغبات خير أم شر.

وتقول الجيتا: إن فن الحياة هو أن تعيش هذه اللحظة الحاضرة؛ لأنها اللحظة الحقيقية الوحيدة؛ فالماضي مات، والمستقبل لم يولد بعدُ. لا تندم ولا تحزن على شيء مضى، ولا تأمل ولا تخَف من أي شيء سيحدث في المستقبل. ذكَّرني هذا بأغنية زوربا اليوناني حين قال: لا أخشى شيئًا، لا آمل شيئًا، أنا حر. تقول «الجيتا»: عِشْ هذه اللحظة الحاضرة بكل ما عندك، انسَ نفسك أو أعط نفسك كليةً لهذه اللحظة. حينما تقوم بعمل ما أعطِ نفسك تمامًا لهذا الشيء الذي تعمله تكتشف أنك قد خلقت شيئًا عظيمًا.

أن تنسى نفسك في اللحظة الحاضرة معناه أن تنسى أحزان وأفراح الماضي، وأن تنسى آمال ومخاوف المستقبل.

بعبارة أخرى: أن تكون حرًّا، معناه أن تنسى «الأنا» وتعيش ملتصقًا «بالنفس» الخالدة فيك أو «الله» داخلك، أن تكون كالجبل أو البحر أو المحيط الذي لا يؤثر فيه شيء. هنا القوة والانتصار على كل شيء في الحياة، والوصول إلى حالة من السمو فوق الخير والشر معًا.

بهذا كله لا ينشغل عقلك في القلق أو الخوف أو الترقب أو الندم أو الأمل أو غير ذلك من هذه المشاعر والرغبات، يتفرغ العقل تمامًا لما هو يعمله في هذه اللحظة.

تقول الجيتا: إن هذا التفرغ الكامل هو سر العبقرية وسر قدرة الإنسان على الخلق، وسر النجاح في العمل والفن وأي شيء آخر.

لكن نسيان النفس أو إغراق النفس في اللحظة يحتاج إلى جهد وتركيز شديدين. إنها حالة إدراك نفسية عالية جدًّا وعظيمة القوة. هذه القوة التي لا توصف (تسميها الجيتا المايا) مثل قوة الكهرباء التي لا تُرى.

هذه القوة لا تُرَى إلا فيما تُحْدِثه من آثار الكهرباء، لا تُرَى إلا من خلال تحريكها للآلات الضخمة.

وهذه القوة النفسية العالية مثل الكهرباء. لا تُرَى ولكنها تجعل الإنسان قادرًا على القيام بأعظم الأعمال وتحريك الصعب.

حين يصبح العقل نقيًّا من خلال الإغراق الكامل في اللحظة الحاضرة والتفاني في الشيء الذي يعمله فإنه يصبح قادرًا على أن يخترق «حجاب الجهل» الذي يفصله عن عظمة نفسه الكلية. هذا الحجاب من الجهل تصفه «الجيتا» على أنه يشبه النسيج الرقيق الشفاف من الشك، وتردد الإنسان في فهم نفسه أو ممارسة قوتها، وهذا ما يسمى بالقوة الحاجبة أو المضللة.

ولكن قبل أن يصبح العقل نقيًّا تمامًا، وقبل أن يصبح قادرًا على الرؤية من خلال ذلك الحجاب، وقبل أن يصل إلى تلك العظمة التي تشع حرارةً وضوءًا كالشمس، فإنه لا بد أن يعرف العالم الخارجي ولذائذه كنوع من التسخين الصناعي (يشبه مدفأة صغيرة كهربية أو من نار الفحم). ولكن حين يكتشف الشمس فسرعان ما يهجر تلك النار الصغيرة ويخرج إلى الخلاء والرحابة والشمس، ويحصل الإنسان على الحكمة والمعرفة، ويستطيع أن يفرق بين «النفس» و«اللا نفس» أو بين الحقيقي وغير الحقيقي، ويصبح كل شيء في العالم أمامه سواء؛ لا يفرح ولا يحزن ولا يغضب، ولا يأمل ولا يخاف ولا يقلق، يصل عقله إلى حالة الاستقرار الكاملة حيث لا يهزه شيء ولا يغيره شيء. هذا الإنسان تقول عنه «الجيتا» إنه قد حصل على الحكمة أو «الجيتا» أو قيمة الوعي.

مثل هذا الإنسان يصبح أهلًا للزعامة أو النبوة أو لقيادة غيره من الناس للوصول إلى الحكمة والمعرفة. ولكنه قد يكون مكروهًا بسبب قوته العظيمة؛ فالناس يخشون الشخص الذي لا ينفعل مثلهم ولا يتأثر ولا يغضب ولا يفرح ولا يؤثر فيه شيء. إنهم قد يطاردونه وقد يقتلونه كما فعلوا مع بعض الزعماء والأنبياء وأصحاب الرسالات.

ذكَّرني هذا التحليل في «الجيتا» برواية «فولكنز» بعنوان «ضوء في أغسطس». كان بطل هذه الرواية (كريسماس) لا يغضب ولا يفرح، وكان الناس يندهشون له ولا يرونه إلا مستغرقًا في عمله أو مستغرقًا في تدخين سيجارة مثلًا، وانتهى به الأمر إلى أن قتلوه لأسباب متعددة، أما صديقه الآخر «براون» فكان على عكسه؛ كان كتلة من الانفعالات، يضحك ويغضب في اللحظة الواحدة عدة مرات، وكان الناس يحبونه لكنهم في أعماقهم يحتقرونه. أما «كريسماس» فكان مكروهًا، لكنهم في أعماقهم كانوا يحترمونه ويُعجبون بقوته ويتمنون أن تكون لهم مثل هذه القوة.

تقول «الجيتا» إنه بالوصول إلى الحكمة وهذه الدرجة العليا من الوعي فإن الإنسان يصل أيضًا إلى السعادة. هذه السعادة لا يصل إليها الإنسان إلا بعد أن يجتاز ثلاث مراحل:
  • (١)

    معرفة لذائذ ورغبات جسمه وعقله عن طريق التجربة.

  • (٢)

    التخلص من هذه اللذائذ والآلام معًا والوصول إلى حالة عدم الرغبة في شيء.

  • (٣)

    الوصول إلى لذة جديدة هي لذة الوصول إلى «النفس».

إذا توقَّف الإنسان عند أية مرحلة من هذه المراحل يصبح إنسانًا شقيًّا أو مريضًا. لا بد أن يكمل الطريق كله ليصل إلى السعادة الإيجابية الحقيقية. إن المرحلة الأولى — وهي معرفة لذائذ الحياة — ليست إلا سعادة مؤقتة سلبية. أما المرحلة الثانية فهي مرحلة شقاء وتعاسة ومرض نفسي إذا لم يكملها الإنسان بالمرحلة الثالثة ويكتشف اللذة الجديدة.

ويشبه هذا التحليل ما كتبه «إريك فروم» عن الحرية السلبية الإيجابية، وهي تكاد تكون موازية للسعادة السلبية والسعادة الإيجابية. ويقول إريك فروم: إن الحرية السلبية وحدها تسبب القلق والتعاسة والوحدة وغربة الإنسان عن نفسه، أما السعادة الإيجابية فهي تعيد صلة الإنسان بنفسه الحقيقية والعالم من حوله فلا يشعر بالوحدة ولا الشقاء.

ويشبه أيضًا «رونالد لينج» حين كتب «عصفور الجنة». وقد وصف «لينج» رجلًا تناول عقارًا (من عقارات الهلوسة الحديثة وتسمى عقارات سيكوبليك) وأنه استطاع أن يخترق حجاب الجهل (مع الفارق في التشبيه) وأن يصل إلى درجة أعلى من الوعي إلى حد أنه أحس أنه الله. ووصف «لينج» حالة الخوف التي تصاحب التجربة بأنها حالة أشبه بالجنون وفقدان العقل، لكن ما إن يجتازها الإنسان بشجاعة وقوة حتى يصل إلى تلك الدرجة العالية من الوعي ويكتشف نفسه وقوته.

من خبرتي مع بعض حالات الإدمان بعقارات مختلفة ومنها ل. س. د وصف لي المدمنون حالتهم حين يجتازون بواسطة العقار حاجز الخوف، ويصلون إلى تلك الحالة المدهشة من الرؤية الجديدة التي توحي إليهم بأفكار فنية عالية.

لم تتكلم «الجيتا» بالطبع عن تلك العقارات؛ لأنها لم تكن تعرفها، لكن بعض علماء النفس قارنوا بين الوصول إلى تلك الرؤية الجديدة عن طريق العقارات (أي صناعيًّا)، وبين الوصول إليها عن طريق اليوجا، وهو الطريق الطبيعي الشاق الطويل. قالوا إن الذي يصل إليها عن طريق العقار كالذي يسرق بسرعة شيئًا وقد ينجو وقد يقع وينتهي تمامًا، أما الذي يصل عن طريق مراحل اليوجا المتدرجة الطويلة فإنه في مأمن من الجنون أو الشقاء إلا إذا توقَّف في منتصف الطريق؛ ولهذا ينصح هؤلاء العلماء الناس بألا يقدِموا على مثل هذه العقارات أو مثل هذه اليوجا إلا إذا كانوا واثقين من قدرتهم على الاستمرار والصمود والتغلب على الصعاب التي تقابلهم أثناء الطريق الوعر الخطر.

إن خطورة هذه التجارب هي أننا البشر قد تعوَّدنا على أن الحقيقة هي ما نراه وما نسمعه وما تعرفه حواسنا. لكن الإنسان الذي يصل إلى درجة أعلى من الوعي يكتشف حقيقة أخرى تسمى «الحقيقة غير العادية»، ويرى أشياء لا يراها الآخرون. هذه الأشياء التي يراها بقوة إبصاره الجديدة هي أشياء حقيقية. لكنها في نظر الآخرين غير حقيقية؛ لأنهم لا يرونها مثله؛ ولهذا يصبح هذا الشخص مجنونًا في نظر الناس. وقد يصبح مجنونًا أيضًا في نظر نفسه وهنا الخطر؛ لأن الإنسان إذا ما فقد الثقة في نفسه وعقله انهار تمامًا وأصبح مجنونًا بالفعل. لكنه إذا حافظ على ثقته بنفسه وفعله فسوف يمر بالتجربة دون خوف ويجتاز حاجز الخوف ويصل إلى المرحلة النهائية من السعادة أو الحرية أو الحكمة أو القوة.

وتختلف قدرات الناس حسب ثقتهم بأنفسهم؛ الإنسان القوي هو الواثق في نفسه الذي يفعل ما يراه صائبًا وليس ما يراه الناس صائبًا. أما الشخص الفاقد الثقة بنفسه يفعل ما يراه الناس صائبًا بصرف النظر عما يراه هو. وبين هذين الاثنين يتدرَّج الناس أنواعًا مختلفة حسب درجات ثقتهم بأنفسهم.

قضيت عدة أيام وليالي أقرأ «الجيتا» وأفكر وأتذكَّر كثيرًا مما قرأته حديثًا وقديمًا، بل أتذكَّر حوادث في طفولتي نسيتها. كانت «الجيتا» أشبه بعمل فني عظيم يثير أحاسيسي وأفكاري، بل أشبه بعمل علمي عظيم يشرح النفس ويذكرني بقراءاتي في علم النفس والفلسفة والأديان التي قرأتها للديانات المختلفة. وقد فكرت في أن أعمل دراسة عميقة نوعًا ما، أقارن فيها بين «الجيتا» وبين الكتب المقدسة الأخرى السماوية منها وغير السماوية. وقد أفعل ذلك يومًا.

وقد وجدت في «الجيتا» من أفكار فلسفية عميقة وعلم نفس ومنطق منظم يعتمد على الفكر والعقل أكثر من كثير من الكتب الدينية الأخرى التي تورد بعض الأحكام والمعجزات بغير تحليل وبغير منطق علمي أو فلسفي، وإنما تعتمد فقط على نوع من الإيمان الأعمى بحقائق ثابتة.

•••

قالوا لي في دهشة: ألم تذهبي إلى جايبور؟ قلت: ماذا في جايبور؟ قالوا: جميع السياح يذهبون إلى جايبور. قلت: ولكني أذهب إلى حيث لا يذهب السياح؛ فأنا أريد أن أعرف الهند الحقيقية. قالوا: لا بد إذن أن تذهبي إلى جايبور.

أعطتني المضيفة الهندية جريدة الصباح (اليوم ٢١ فبراير ١٩٧٥)، قرأت في الصفحة الأولى خبرًا يقول إن البوليس ضبط كميات كبيرة من الذهب والمجوهرات ومائة مليون روبية في إحدى الحجرات السرية داخل أحد قصور المهراجا في مدينة جايبور بولاية راجاستان. قام البوليس بحملة تفتيش كبيرة في قصور جايبور، وأُغْلِقَت هذه القصور لمدة ستة أيام متصلة ولم تفتح أبوابها مرة أخرى للسياح إلا منذ ثلاثة أيام.

قلت لمضيفة الطائرة: إذن لو حضرت إلى جايبور منذ ثلاثة أيام لما استطعت أن أزور هذه القصور. وابتسمت المضيفة السمراء الجذابة وقالت: نعم، أنتِ محظوظة.

وسألتها: ما هذه القصور المشهورة في جايبور؟

قالت: هذه القصور كان يملكها حكام راجاستان. لم تكن ولاية واحدة كما هي الآن، ولكنها كانت مقسمة إلى عشرين ولاية، ولكل ولاية منها مهراجا، ولكل مهراجا عدد من القصور الضخمة. وقد عثر البوليس على هذه الأموال والمجوهرات في حجر نوم سرية داخل القصور.

وسألتها: ومَنْ يعيش الآن داخل هذه القصور؟

قالت: بعضها أصبح متاحف يقصدها السياح، وبعضها تحوَّل إلى فنادق درجة أولى، وبعضها لا يزال يسكنه أولاد المهراجات وزوجاتهم.

هبطت الطائرة الصغيرة في مطار جايبور، انطلق نحونا رجل هندي (يقوم بدور المرشد للسياح) وأخذ يعرض علينا خدماته، وأخذنا إلى العربة الهندية الصغيرة وركب إلى جوار السائق بعد أن قال له بالهندية بضع كلمات.

في الطريق إلى المدينة رأيت قصرًا قائمًا فوق ربوة عالية، وقال المرشد الهندي: هذا أحد القصور الخاصة التي لا يدخلها السياح.

قلت: ومَنْ يعيش في هذا القصر الضخم؟

قال: ابن المهراجا الذي كان حاكمًا لهذه الولاية قبل الاستقلال.

سألت: هل فتشوا قصره ضمن القصور التي فتشها البوليس في الأيام السابقة؟

قال: نعم، وقد وجدوا جواهر وملايين الروبيات.

قلت: وماذا فعل ابن المهراجا؟

قال: لا شيء، ترك القصر مؤقتًا وذهب ليعيش في قصر آخر ثم عاد إلى قصره بعد انتهاء التفتيش. إنه بغير قوة وبغير سلطة الآن ولكنه يملك أموالًا طائلة.

قلت: هل هو الابن الوحيد للمهراجا؟

قال: لا، إن أبناء هؤلاء المهراجات كثيرون، وهم ينفقون ببذخ، ويعيشون في القصور ويُخفون الأموال في حجرات سرية حتى لا يدفعوا عليها أية ضرائب.

قلت: هذا على حين يجوع الملايين في الهند.

قال بأسًى: نعم، لكن الحكومة الآن تفتش قصورهم.

قلت: مَنْ هو أشهر مهراجا سابق حكم هنا؟

قال: إنهم كثيرون، ومن أشهرهم: المهراجا مادوسبنج، وسوف ترون قصره الآن.

وانطلقت بنا السيارة في شوارع جايبور، تشبه الشوارع في أي مكان بالهند، وحركة الشارع متشابهة والوجوه متشابهة.

وجايبور يحوطها سور ضخم قديم بناه الحكام السابقون يشبه سور مدينة مصر القديمة لكنه أكثر ضخامة، لهذا السور ثماني بوابات ضخمة، إحداها بوابة ملكية لا يدخل منها السياح ولكنها مخصصة حتى الآن لأبناء وبنات المهراجا السابق، هي مغلقة طول العام، ولا تُفتح إلا حين يرغب أحدهم في زيارة المتاحف الداخلية.

دارت السيارة حول السور لتصل إلى البوابة الخاصة بدخول السياح، لاحظت أن وجوه الناس في الشوارع والدكاكين أقل إعياءً وأكثر صحةً من المدن الأخرى، وعرفت أن جايبور من أغنى المدن في الهند (ترتيبها في الثراء رابع مدينة)؛ وذلك بسبب توافر الأحجار الكريمة بها. يعمل في جايبور وحدها أكثر من ٥٠٠٠٠ عامل في قطع الأحجار الكريمة. لكن معظم الوجوه تعلوها الحفر والبقع؛ مما يدل على أن مرض الجدري كان منتشرًا هنا منذ سنوات. الشوارع تعلوها البقع الحمراء، ومن حين إلى حين ألمح رجلًا يبصق ذلك البصاق الأحمر بعد مضغ ورقة «البيقل». في الأيام الأولى لزيارتي للهند كنت ألاحظ أن أفواه معظم الرجال حمراء، حين يفتح الواحد منهم فمه ليتكلم أو يتثاءب يظهر فمه من الداخل ملونًا باللون الأحمر، وفي بعض الأحيان تكون الشفاه أيضًا من الداخل ومن الخارج حمراء كأنها صُبغت بصبغة حمراء أو أنها تنزف على الدوام دمًا أحمر.

ومن أهم الأشياء التي تلفت النظر في الهند تلك العادة الغريبة التي يمارسها الرجال (وبعض النساء) في جميع أنحاء الهند، مهما اتجهت شمالًا أو جنوبًا أو شرقًا أو غربًا تدرك أن هذه العادة منتشرة بين معظم الرجال وبين عدد غير قليل من النساء.

ترى الرجل منهم قد جلس، وأخذ يمضغ في فمه شيئًا، وبعد قليل ترى لعابًا أحمر يسيل عند زاويتَي فمه، وبعد مدة قد تطول وقد تقصر تراه يبصق على الأرض لعابًا أحمر بلون الدم.

كنت أندهش حين أرى شفاه الرجال حمراء من الداخل أو حين أرى تلك البقع الحمراء المنتشرة فوق شوارع أية مدينة في الهند، وأدركت من بعد أن هذا يرجع إلى تلك العادة، عادة مضغ ذلك الشيء.

ذكرتني هذه العادة برحلتي إلى اليمن، حين رأيت الرجال والنساء في عدن يجلسون ويمضغون القات ويسيل لعابهم من زاويتَي الفم، لكن ذلك الشيء الذي يُمْضَغ في الهند ليس هو القات، وإنما هو ورقة شجرة اسمها «البيتل» يُلَفُّ داخلها قطع صغيرة صلبة من ثمرة تشبه جوزة الهند وقد خُلِطَت بمسحوق أحمر من الجير الحجري على شكل عجينة. يقولون إن هذه التركيبة حين تُمْضَغ على مهل تصيب الإنسان بحالة أشبه بالشبع، وهو شبع مزيف يقاوم به فقراء الهنود الجوع وقلة الطعام، لكنه أصبح من بعدُ عادة معظم الناس؛ لأنه يحتوي على مادة مخدرة تسبب ذلك الشعور بالشبع، وتسبب أيضًا نوعًا من الإدمان. وقد مضغت هذا الشيء مرة واحدة كما مضغت القات في اليمن مرة واحدة ولم أشعر بأية لذة. وهذا طبيعي؛ لأن مثل هذه تحتاج إلى تكرار لتنشأ العادة. إن الذي يذوق الخمر لأول مرة يبصق بسبب مرارتها، ولكن بعد التعود يدمنها ويحبها. ولكل شعب مواده الخاصة وإدمانه الخاص حسب مشاكله وحسب المواد التي ينتجها أيضًا. لقد اكتشف الشعب في جزيرة سيلان مادة مخدرة في عصير شجرة جوز الهند فأصبح يستخرجها بطرقه وأدمن عليها. وفي الهند يصنعون «العرقي» وهو مسكر مثل النبيذ وقد يكون أشد.

•••

دخلنا من البوابة الضخمة إلى قصر يشبه قصور الشاه في شيراز بإيران، أو قصور القيصر في ليننجراد، أو القصور التي لا هي هنا ولا هناك وإنما نراها فقط في الأحلام والخيال، لم أكن أتخيل أن الأباطرة المسلمين الذين حكموا الهند قد عاشوا هذه الحكاية، لعلهم أرادوا أن يصنعوا الجنة فوق الأرض بعد أن تأكدوا — من سوء أفعالهم وظلمهم للشعب الهندي الفقير — أنهم ذاهبون إلى جهنم الحمراء.

على أنهم استطاعوا أن يتغلبوا على جهنم فوق الأرض؛ فالصيف في الهند يلتهب فيه الجو كالنار، وداخل هذه القصور تجد حجرات كاملة بُنيت بالرخام الخالص. وهذا الرخام يظل باردًا كالثلج رغم حرارة الجو. كما أنهم عرفوا تكييف الهواء ولكن بطريقة أخرى. كانوا يضعون في الجدران أنابيب تجري فيها المياه المكشوفة التي تتبخر وترطب الجو، وداخل القصور تجد البحيرات، والحدائق ذات الزهور والأشجار، وهناك أجنحة كاملة بالرخام المزخرف بالنقوش الذهبية والفضية، وجدران كاملة مصنوعة بالمرايا وماء الذهب، وقصور للصيف وقصور للشتاء، على غرار قصور القيصر في روسيا، وقصور للحريم وقصور للرجال، وهناك قصر عجيب اسمه قصر «الهواء» وقد بُني خصيصًا لتجلس فيه زوجات وبنات المهراجا ويتفرجن على الاستعراضات العسكرية فوق الفيلة والخيول والجمال، فقد كان «الحريم» من النساء ممنوعات من الظهور أمام الناس؛ لأن ذلك ينافي تقاليد الحكام المسلمين، وبُني القصر بشرط أن يدخله الهواء من جميع الجوانب حتى لا تتعرض النساء المرفهات لحرارة الجو أثناء الفرجة على فوق الفيلة والخيول والجمال. كانت المرأة منهن بحجم الفيل (رأينا بعض الملابس الداخلية والخارجية للمهراجا ونسائه في متاحف الملابس بالقصور) وكانوا ينقلونها من قصرها إلى قصر الهواء على عربة ضخمة يجرها عدد من الرجال أو الفيلة؛ ولهذا كان العرق يتصبب بسرعة من جسدها الضخم، ولا بد من تيارات مستمرة من الهواء لترطب هذا اللحم الوفير.

ورأيت جدار قصر الهواء رفيعًا جدًّا مليئًا بالنوافذ العديدة الصغيرة كالشقوق. وقال المرشد: إن سُمْك جدار هذا القصر ليس إلا ثماني بوصات فقط؛ وذلك من أجل التهوية أيضًا، وارتفاعه خمسة أدوار. أما النوافذ على شكل ثقوب فكانت لتنظر منها النساء على الناس دون أن يراهن أحد.

تحوَّل هذا القصر الآن إلى مكاتب حكومية، وامتلأت واجهته العريضة بالحوانيت التجارية الصغيرة، وأمامه رأيت بعض القرود تلعب وتقفز على نوافذه، في جايبو ترى القرود في كل مكان من المدينة، وقالوا: إن هناك غابات على بُعْدِ ٦ ميل فقط لا تزال تسكنها القرود، واقتربت من أحد القرود فمدَّ يده وسلَّم عليَّ وقال لي المرشد إنه من نوع القرود السوداء المنتشرة في هذه المنطقة.

تحوَّلت بعض القصور في جايبور إلى جامعات ومعاهد، وبعضها تحول إلى فنادق، والبعض بقي كآثار يتفرج عليها السياح.

•••

نزلنا في جايبور في أحد القصور التي تحوَّلت إلى فندق واسمه «رامباج»؛ «رام» معناها إله، «باج» معناها حديقة. هذا القصر عاش فيه المهراجا «مون سنج الثاني» الذي مات في إنجلترا منذ أعوام قليلة (٥ أعوام)، وكان من أحسن اللاعبين على الحصان، لكنه سقط من فوق جواده ومات.

جدران الفندق مزخرفة بالنقوش البديعة، تعلوها اللوحات الأثرية وصور المهراجا، حديقة الفندق أشبه بحديقة سحرية كأنما ينتقل فيها الإنسان إلى عالم خيالي من الألوان والعطور وأحواض الزهور، يطل من بين الشجيرات عدد من الطاووس الملون، يسير بخيلاء بين الزهور، ويبسط ذيله الملون بمئات الألوان المختلفة.

حجرة نومنا كانت أيضًا سحرية، والسقف مزخرف بالنقوش الذهبية والفضية. قلت لزوجي: من الصعب أن يأتيني النوم في مثل هذه الحجرة، وأصابني الأرق فذهبت آخذ حمامًا دافئًا لكني اكتشفت أن الحمام أيضًا سحري، يشبه حمام المهراجا الذي تفرجنا عليه أول النهار، وصنابير المياه فضية وألوان الجدران والسقف تصيب العين بالدوار. لم أستمتع كثيرًا بالحمام الدافئ بسبب عدم التعود على مثل هذه الحياة. كان يُخيَّل إليَّ أن الماء الذي يخرج من الصنابير قد تحوَّل إلى أسلاك فضية أو ذهبية تكهرب الجسم. حين خرجت من الحمام رأيت زوجي قد ارتدى «الشورت» وبدأ يجري في الحجرة، وضحك وهو يقول: لم أمارس رياضة الجري منذ أيام، وهذه الحجرة أكثر اتساعًا من الملعب. وارتديت مثله «الشورت» وبدأت أجري أنا الأخرى.

اكتشفت بعد قليل وجود السرير، ويكاد يشبه سرير المهراجا، واقتربت من السرير في وجل، وقال زوجي ضاحكًا: من المستحيل أن يأتيني النوم في سرير هكذا، وجلسنا بقية الليل نتفرج على معالج السرير والجدران والنقوش كأننا داخل متحف، ولم ننم إلا ونور الفجر يشقشق الصباح، حملنا حقيبتنا وغادرنا القصر بخطوات سريعة.

من أغرب ما رأيت في جايبور هي «البيجاما» أو المنامة التي كان يرتديها أحد المهراجات واسمه المهراجا «مدوسنج». كانت هذه المنامة ضمن المعروضات في متحف الملابس داخل أحد قصور جايبور. لم تدهشني الحلى الذهبية التي زينت المنامة (كل ملابس المهراجات وزوجاتهم محلاة بالجواهر والحلى الثمينة سواء كانت ملابس خارجية أو داخلية)، لكن الذي أدهشني هو حجم المنامة وقلت للمرشد في تعجب: ما هذا؟!

قال المرشد: منامة المهراجا مدوسنج.

قلت: ولكنها تتسع لعشرة أشخاص معًا أو لفيل ضخم.

وقال المرشد: هذا المهراجا كان طوله سبعة أمتار وعرضه متر ونصف. كان يأكل كثيرًا ويتحرك قليلًا، وحين ينتقل من مكان إلى مكان يحملونه فوق عربة.

وحين دخلت قصر المهراجا مدوسنج رأيت العربة التي كانت تحمله داخل القصر من حجرة إلى حجرة ومن دور إلى دور، وإلى جوار الدرجات العادية التي نصعد عليها من الأدوار السفلى إلى العليا كان هناك مزلقانات لتجري فوقها العربات من تحت إلى فوق حاملة المهراجا (أو زوجته الضخمة أيضًا)، وكان يجر هذه العربات خدم بالقصر مخصصون لهذا العمل. وقال المرشد: إن المهراجا (أو زوجته) كان ينتقل من حجرة النوم إلى الحمام على عربة، ومن حجرة الطعام إلى حجرة الاجتماعات على عربة، لم يكن يسير على قدميه إلا نادرًا، وإذا ما سار بضع خطوات أصابه الإرهاق وأخذ يلهث.

قصور المهراجات في جايبور كالقلاع الضخمة تحوطها الأسوار، وفوق الأسوار حجرات للحراسة وداخل القصر أيضًا مدينة بأكملها تعيش فيها حاشية المهراجا وخدمه وموظفوه، وهناك أيضًا درجات سفلية تقود إلى سجن مظلم له باب حديدي وقفل كبير. قال المرشد: هنا كان يسجن المهراجا الذين يتمردون عليه، ورأينا أيضًا شيئًا شبيهًا بالمقصلة، وهنا كانوا يُقتلون، واقشعر جسمي من رائحة الهواء الراكدة المنبعثة من الباب الحديدي خلف القفل.

إن مثل هذا الثراء الفاحش لا يمكن أن يعيش في أمان إلا بنوع من القمع الرهيب والإرهاب المستمر والتخلص من أي متمرد أولًا بأول.

تركنا جناح التعذيب بسرعة وانتقلنا إلى جناح الاجتماعات، وإنه قصر مستقل فيه المكاتب وفيه ساحة كبيرة لها منصة يجلس فوقها المهراجا ويخطب، تتوسطه بحيرة وحديقة ضخمة، وهناك صالة ضخمة تعلوها اللوحات والرسومات وبعض الصور، أشرت إلى صورة أحد القواد وسألت المرشد: مَنْ هذا؟

قال إنه مون سنج الأول، وقد عاش في القرن السادس عشر، وكان رئيسًا في عهد الحاكم المغولي «أكبر». وقد زوَّج شقيقته للحاكم «أكبر»، وكان هذا أول حدث في التاريخ أن تتزوج امرأة هندية من رجل مسلم. وقد أنجب «أكبر» منها ولدًا سماه «سليم». وهذا السليم أيضًا وقع في غرام مطربة هندية.

•••

أخذنا المرشد إلى قصور أخرى في طرف المدينة وسألته: مَنْ كان يعيش هنا؟

وقال: لا أحد. هذه القصور بُنيت ليُحْرَقَ داخلها أجسام المهراجا بعد الوفاة (وهي إحدى العادات الهندية المستمرة حتى اليوم). كان هناك قصر لحرق أجسام المهراجا الرجال، وقصر آخر لحرق أجسام زوجات المهراجا، وقصر آخر ثالث لحرق أجسام محظيات المهراجا، كأنما بعد الموت أيضًا لا بد من وضع فروق بين الذكور والإناث وبين الزوجات الشرعيات وغير الشرعيات.

ومررنا على بحيرة كبيرة يتوسطها قصر ضخم، وقال المرشد: هذه بحيرة صناعية أنشأها المهراجا ليمارس هواية صيد السمك. وهذا هو قصر خاص كان يأتي إليه المهراجا من أجل صيد السمك فقط ويسمى قصر الماء؛ لأن الماء يحوطه.

وسألت: ومَنْ يسكن في هذا القصر الآن؟

قال المرشد الهندي: الباعوض فقط إنه مهجور منذ سنوات كثيرة.

ركبنا الفيلة وصعدنا الربوة العالية التي بُني عليها قصر «عنبر» الشهير بالقصر البلَّوري، داخل القصر رأينا السقف والجدران بلَّورية تعكس الضوء كملايين النجوم والكواكب. لقد صنع «عنبر» داخل قصره سماء صناعية ليستمتع بضوء القمر والنجوم مع زوجاته ومحظياته دون حاجة إلى مغادرة القصر.

تجوَّلت في المدينة بعد ذلك ورأيت تلك الأعداد الهائلة من الرجال والنساء والأطفال الذين يعيشون في بيوت الخيش أو الصفيح يتكدسون فيها وعلى الأرصفة كالذباب أو كأكوام القمامة. كنت أتساءل: كيف يمكن لحاكم من الحكام مهما تبلَّد عقله وإحساسه كيف يمكنه أن يعيش في كل تلك القصور، وأن ينفق من أموال هؤلاء الفقراء هذا الإنفاق الجنوني؟! كيف يفعل هذا دون أن يرتعش له جفن؟! ولم يكن خافيًا عليَّ أن المهراجا لم يكن الحاكم الوحيد الذي فعل هذا. كنت أعلم أن الحكام في كل زمان ومكان يفعلون هذا، وجميعهم أيضًا لهم قصور وساحات كبيرة ومنصة عالية يقفون عليها ويخطبون ويتحدثون عن العدالة والمساواة والحق.

•••

مدينة «أحماد أباد» في ولاية جوجردا على الساحل الغربي للهند لا توجد في خريطة الهند السياحية، إذا كنت سائحًا وذاهبًا إلى غرب الهند يقولون لك: اذهب إلى أودايبور وكاجيورا وبومباي وماندومجوا وغيرها. لا أحد يذكر لك أحماد أباد.

أحماد أباد ليس بها قصور مهراجا، ولا قلاع حمراء، ولا قبور من الرخام، ولا حدائق شهيرة، ولا بحيرات ساحرة، ولا أي شيء من تلك المناظر الخلابة، هي مدينة فقيرة متربة، هواؤها الساخن (رغم أنني زرتها في فبراير) محمَّل بالرمل الذي يتطاير من قاع النهر الضخم الذي يجف تمامًا في فصل الشتاء، ويصبح منخفضًا رمليًّا واسعًا، تنتشر فوقه أكواخ الخيش والصفيح، يعيش فيها العمال الموسميون الذين يشتغلون هذا الموسم في نقل الرمال من قاع النهر إلى لوريات «تاتا» الضخمة.

لكن أحماد أباد هي مهد رسالة غاندي، بدأ منها كفاحه مع الفقراء، وعاش فقيرًا ومات فقيرًا. دخلت بيته البسيط في أحماد أباد والذي عاش فيه وبدأ منه مسيرته الطويلة ضد الفقر وضد الظلم. لم أرَ في بيت غاندي إلا حاجياته الشخصية، حيث تُرِكَت في البيت (الذي أصبح متحفًا) كما تركها غاندي قبل أن يُقْتَل. رأيت المنضدة على شكل طبلية التي كان يجلس أمامها على الأرض يكتب أو يقرأ، إلى جوارها نظارته، وكتابه لا زال مفتوحًا، وقلمه وعصاه وقبقاب خشب وصندل وصحن وملعقة وتمثال صغير جدًّا لثلاث قطط معًا. وهذا هو كل ما كان يملك غاندي في حياته وكل ما تركه من ممتلكات بعد وفاته.

وقفت لحظة أتأمل هذه الممتلكات الضئيلة لواحد من أكبر زعماء التاريخ، وأيقنت أن غاندي كان صادقًا في رسالته وكان يستحق الزعامة ويستحق أن يكون قائدًا لشعب الهند الكبير. أخذ عقلي يقارن بين ممتلكات غيره من الزعماء في البلاد الأخرى، الذين يدَّعون في حياتهم أنهم يناضلون من أجل الحق والمساواة والعدل فإذا بهم بعد الوفاة وقد امتلكوا الآلاف والملايين في البنوك داخل البلد وخارجه، وامتلك أبناؤهم وبناتهم وزوجاتهم بالمثل أو ما يزيد.

قلت لنفسي: إن الطريقة الوحيدة الممكنة للحكم على صدق نضال زعيم أو حاكم هو أن يعرف أملاكه وأمواله بعد وفاته، وأن نعرضها على الناس كما نعرض أملاك غاندي، وكنت أعرف بالطبع أن هذا أمر مستحيل وأنها ستكون فضيحة ما بعدها فضيحة.

اكتشفت وجود شيء آخر ضمن ممتلكات غاندي؛ إنه «النول» الصغير الذي كان يغزل عليه ملابسه وكان يصحبه معه في سفره خارج الهند، على الجدار صورة لغاندي وهو يغزل فوق باخرة كبيرة تحمله إلى إنجلترا. لم يكن غاندي يكترث بتلك العيون الزرقاء الأوروبية التي تنظر إليه في دهشة واستعلاء.

كان يسافر إلى بلد الإنجليز بلباسه الأبيض الذي غزله بيده وشاله الذي صنعه على «النول» في بيته، والصندل المفتوح في قدميه. بهذا المنظر وعصاه في يده كان يجلس غاندي وسط الإنجليز ببدلهم الصوفية وأحذيتهم الجلدية وربطات العنق الثمينة، يجلس معهم دون أن يكترث بمظاهرهم البراقة؛ فهو يعلم أن تحت هذه القشرة قُطَّاع طرق ولصوص يستنزفون خيرات بلده، وكان الإنجليز يتفاوضون معه كما يفعلون مع أي زعيم في أية مستعمرة لهم. ولم يكن من الممكن لأية مفاوضات أن تنجح؛ لأن غاندي لا يهتز لمال قارون ولا يطربه مجد ولا يخشى الموت ولا يريد من حياته سوى أن يحقق رسالته.

لم تكن رسالته في أول الأمر سوى أن يحارب الظلم والفقر بالحب والتفاني في العمل. كان وحده في البداية، ثم انضم إليه فقراء الهنود الذين ثاروا ضد ضريبة الملح واسمها «ساتايا جراها»، والتي أصبحت من بعد رمزًا لكل حركة ثورية. لم يكن الإنجليز يكتفون بسلب أموال الهند بل كانوا أيضًا يحمِّلون الشعب الهندي ضرائب باهظة على كل شيء وأي شيء حتى الملح، وأصبح على ملايين الفقراء أن يدفعوا ضريبة على الملح الذي كان يشكِّل طعامهم الرئيسي بل الوحيد، وحينما عجز هؤلاء الفقراء عن دفع ضريبة الملح وأصبحوا مهددين بالموت جوعًا فوق الرصيف تجمَّعوا على شكل حركة وسُمِّيَت حركة ضريبة الملح.

كان غاندي صادقًا في رسالته، وكان مناضلًا حقيقيًّا يسعى ضد الظلم، لكنه مات مقتولًا. وقال لي أحد شباب الهنود الذين تحدثت معه وأنا أتجول في بيت غاندي: كان غاندي صادقًا، لكن الصدق وحده لا ينفع في عالم تقوم فيه السيادة على الغش والكذب والخداع، وكان مبدأ غاندي الحب، ولكن سلاح الحب كسلاح الصدق لا يصلح ضد خصوم يحملون أسلحة مسممة. كان غاندي إنسانًا عظيمًا لكنه كان سياسيًّا فاشلًا، وانتهى به الأمر إلى أن وافق على تقسيم الهند، هذا القرار الخاطئ والذي كان سببًا في مقتله.

سألني هذا الشاب: هل زرت أشرم غاندي؟

قلت: ما هو أشرم غاندي؟

قال: هذه المباني الصغيرة المواجهة لبيت غاندي.

قلت: ومن يعيش فيها؟

قال: يعيش فيها حوالي ألف شخص من الرجال والنساء والأطفال، يعيشون على شكل «كوميون»، يتقاسمون كل شيء، ويطبقون جميع مبادئ غاندي في حياتهم داخل الأشرم. إنهم يعملون ويتعاونون معًا ويقرءون ويزهدون في الحياة ولا يمارسون الجنس.

قلت: ومن أين جاءت الأطفال داخل الأشرم؟

وقال الشاب: جاءت قبل التحاق الأب أو الأم بالأشرم، لكن بعد الانضمام إلى الأشرم فليس هناك أي اتصال جسدي بين الرجال والنساء حتى وإن كانوا أزواجًا قبل انضمامهم إلى الأشرم. إنهم مجموعة من الناس اختاروا أن يعيشوا معًا هذه الحياة الروحية والفكرية، واستطاعوا أن يتغلبوا على شهوات الجسد.

قلت: وما الهدف من هذا الكوميون؟

قال الشاب: أن يعيش الناس كما عاش غاندي، وأن تقوى فيهم القدرات الروحية والفكرية.

وسألت الشاب: هل أنت عضو في هذا الأشرم؟

قال: لا.

قلت: لماذا؟

قال: أنا لا أومن ببعض مبادئ غاندي، وأعتقد أن بعض أفكاره تعزل الإنسان عن الدنيا وتفصل بين الجسد والروح. وهذه فلسفة لا تساعد الإنسان على الكفاح ضد الظلم. لا بد للمكافح أن يكون متصلًا بالحياة لا منعزلًا عنها، ولا بد للمكافح أن يعيش بجسده وعقله؛ لأن الإنسان وحدة لا تتجزأ. إنني أحترم مقدرة غاندي وتلاميذه من أعضاء هذا الأشرم على كفاح شهوات الجسد الجنسية، ولكني أفضِّل أن يتجه كفاحهم إلى العالم الخارجي حيث يُسْتَغَل الملايين ويموتون جوعًا.

وقلت للشاب: أنا أوافقك على رأيك.

•••

في تلك الليلة دُعِيتُ إلى منزل أحد فلاسفة أحماد أباد ممن يؤمنون «بالجيتا» وفلسفة الزهد في الحياة والتصوف واليوجا، في حديقة بيته متحف من تماثيل آلهة الهند بجميع أنواعها، صنعها له أحد أصدقائه النحاتين. بعض التماثيل جمعها بنفسه من أطراف الهند أو المعابد المهجورة. أكلنا الطعام الهندي الحراق في الحديقة ومن حولنا الآلهة والإلهات، وبدأ النقاش بين عدد من المفكرين والأدباء والشاعرات. كنت صامتة أستمع وأتأمل ملامح الآلهة الحجرية، وكانت تجلس إلى جواري امرأة هندية صغيرة الجسم صافية العينين، على وجهها ابتسامة هادئة.

وسألتها: هل أنتِ شاعرة أيضًا؟

قالت: لا، أنا مدرِّسة روحية.

قلت: ماذا؟

قالت: مدرِّسة روحية.

سألت: يعني تدرسين علم الروح؟

قالت: نعم.

سألتها: وأين تدرسين علم الروح؟ في المدارس؟ ضحكت وقالت: لا، أنا مدرِّسة روحية في أشرم في جنوب الهند، وقد جئت في إجازة لأزور أسرتي في أحماد أباد.

سألتها: هل في جنوب الهند أشرم على غرار أشرم غاندي هنا؟

قالت: نعم، في كل مكان في الهند يوجد هذه الكوميونات حيث يعيش الناس معًا حياة روحية.

قلت: وماذا تدرسين في الأشرم؟

قالت: أعلِّم أعضاء الأشرم من الرجال والنساء كيف يفكرون، كيف يتأملون بعمق، كيف يخترقون حجاب الجهل في عقولهم ويصلون إلى الرؤية الواضحة والمعرفة، وأعلمهم أيضًا كيف يقاومون شهوات الجسد.

سألتها: هل في كل أشرم مدرِّسة روحية مثلك؟

قالت: نعم.

قلت: هل من الضروري أن تكون المدرِّسة الروحية امرأة؟

قالت: لا، أحيانًا تكون امرأة وأحيانًا يكون رجلًا، المهم القدرة على تدريس هذه المادة الصعبة؛ لأن الدراسة ليست نظرية فحسب ولكنها عملية أيضًا؛ هناك تمرينات اليوجا بجميع أنواعها، وهناك القدرة على التركيز والتأمل لساعات طويلة، وهناك القدرة على الزهد والتغلب على رغبات الجسد، وهناك القدرة على صفاء الذهن والوصول إلى الدرجات العليا من الوعي.

جلست أستمع إليها طويلًا، أتأمل كلامها وأتأمل ملامحها، ذكَّرتني بقراءتي «للجيتا» لكني كنت كلما نظرت في أعماق عينيها شعرت (بإحساس الطبيبة النفسية). إن في قاع هاتين العينين مأساة قديمة دُفنتْ منذ سنوات وأصبحت ذكرى بل ضاعت أيضًا من الذكرى.

•••

من يتأمل معتقدات الناس في بلاد العالم المختلفة يدرك أنها متشابهة وتكاد تكون واحدة من حيث معناها ودوافعها وأهدافها. بعض الناس الذين يؤمنون بإله واحد يظنون أن الذين يؤمنون بعدد من الآلهة ليسوا بشرًا مثلهم، أو أنهم بشر من نوع آخر، أو أنهم — على الأقل — جاهلون ومتخلفون، لكن الذي يزور الهند ويدخل معابدهم المختلفة ويتعرَّف على أديانهم المتعددة يدرك أن الفروق بين البشر قليلة جدًّا، وأنها فروق سطحية فحسب، أو فروق في الحركات الخارجية وطريقة العبادة أو طريقة الطقوس، ويبقى جوهر الإنسان واحدًا.

في مدينة بومباي دخلت في يوم واحد خمسة معابد مختلفة لأديان مختلفة، دخلت معبدًا «هندوكيًّا» ثم معبدًا «جينيًّا» ثم معبدًا «بوذيًّا» ثم كنيسة ثم مسجدًا. وقد دهشت حين وجدت تشابهًا كبيرًا بين الخمسة معابد في المعمار من الداخل والخارج من حيث وجود القبة أو القباب، وعمدان، ومكان مخصص للعبادة، ورجال داخل المعبد لهم زي معين، ولهم تحركات معينة، وطريقة معينة في التعامل مع الناس، أو تناول الهبات منهم. كما أن الناس الذين يزورون المعبد (يصلون للإله أو للآلهة) تبدو حركاتهم متشابهة بالرغم من أن بعضهم يصلي وهو واقف، وبعضهم يصلي وهو راكع على ركبتيه، والبعض يجثو منكفئًا على وجهه. وجميعهم يدفعون شيئًا للرجال القائمين على هذا المعبد أو الدين، شيئًا من مال أو طعام يُعْطَى مباشرة لرجل الدين أو يُعْطَى للفقراء الذين يحوطون المعبد في أكواخ الخيش أو يرقدون على الأرض من حوله أو فوق الدرجات المقدسة التي تصعد إليه والتي يجب أن نخلع أحذيتنا حين ندخله.

كنت قد قرأت شيئًا عن تاريخ الأديان في حياة الإنسان، كيف بدأت ولماذا وكيف تطورت من دين إلى دين. لكن الذي يقرأ ليس كالذي يرى. وقد وجدت أن من ميزات الهند أنها تحتوي في جوفها حتى اليوم على تاريخ الأديان من مختلف الأزمنة منذ أن عبد الإنسان الشمس والأفلاك والنار والهواء والحيوانات إلى أن رمز إلى القوى المجهولة من حوله برموز مختلفة، منها آلهة على شكل تماثيل حجرية يراها ويلمسها، ومنها آلهة غير منظورة وغير مرئية، إلى أن رمز إلى كل تلك القوى بإله واحد غير منظور وغير مرئي.

كنت قد قرأت عن حاجة الإنسان في كل الأزمنة إلى شيء يؤمن به، شيء يفسر له الظواهر المجهولة من حوله، شيء يعزو إليه القدرة على فعل أشياء يعجز عنها الإنسان، لكن الذي يتأمل منظر الناس وهم يتعبدون داخل المعابد يدرك أن هذه الحاجة تتغير بتغير طبقة الإنسان الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، من أهم ما لفت نظري أن معظم الذين يذهبون إلى المعابد من الفقراء الذين لم ينالوا شيئًا من التعليم. وقد لاحظت أن هؤلاء حين يصلُّون يغمضون أعينهم تمامًا وتتخذ ملامحهم وأجسادهم وضع الاستسلام الكامل ونوع من الرهبة والخوف والانكسار بل وشيء من المذلة أيضًا، وحين يقدِّمون هباتهم لرجال الدين فهم يطلبون شيئًا دائمًا؛ إما أن يشفي الإله مريضهم، أو يرفق بهم ويمنع عنهم كارثة معينة، أو يرزقهم بولد أو ينصر أحدهم على مكايد أعدائه.

وبعض هؤلاء يقضون الساعات في مثل هذه الصلوات. أما المتعلمون من الناس فهم أقلية قليلة داخل المعبد، وهم دائمًا على عجل، يصلُّون بسرعة وحركاتهم لا تنمُّ على الانكسار والمذلة بقدر ما تنم عن الرغبة في إنهاء الصلاة بأسرع ما يمكن والذهاب إلى أعمال أخرى هامة، وهم لا يغمضون عيونهم تماما أثناء الصلاة، بل تظل عين الواحد منهم مفتوحة أو نصف مفتوحة، وهم لا يدفعون شيئًا للفقراء حول المعبد، ولا يقدمون الهبات إلا ما كان منها واجبًا دينيًّا مفروضًا، وهم لا يطلبون من الإله علاج مريض؛ لأنهم عرفوا الأطباء والأدوية. لكنهم يطلبون من الإله مطالب أخرى مختلفة باختلاف مطالبهم في الحياة وباختلاف قدرتهم أو عجزهم عن تحقيق هذه المطالب.

وفي الهند قطاع من الناس لا يذهبون إلى المعابد، إنهم يصلُّون في منازلهم ويقولون إن الإله يوجد داخل المعبد وخارجه وليس له مكان محدد، وبعض الناس في الهند لا يصلُّون ويقولون إن العبادة هي الحياة، وإن الله هو الإنسان الذي يعمل لخير الناس والذي وصل إلى درجة عالية من الوعي والحكمة؛ لأنه أخضعها لإرادته القوية وكشف عن أسبابها بالعقل والمعرفة. وهذا الاتجاه الأخير ينتشر في الدين البوذي أكثر من الدين الهندوكي؛ لأن بوذا أعلن ثورته ضد الدين الهندوكي وضد الطبقات وضد التفرقة بين الناس. وفي الدين البوذي ليس هناك آلهة وبوذا ليس إلا إنسانًا وصل إلى تلك الدرجة العليا من الوعي والمعرفة، لكني رأيت الناس داخل المعبد البوذي يركعون لتمثال بوذا وينبطحون أرضًا أمامه داعين أن يحقِّق لهم مطلبًا من المطالب كغيرهم في المعابد الأخرى، وسألت أحد المفكرين البوذيين عن ذلك فقال: إن هؤلاء الناس لم يقرءوا الدين البوذي وهم جاهلون بتعاليم بوذا، وهم يقلدون غيرهم من الناس بغير وعي.

ولكن أغلبية البشر — وبالذات في الشرق حيث تنتشر الأديان — لا يقرءون لأنهم أميون، ومعنى ذلك أن أغلبية البشر لا يعرفون عن فلسفة دينهم الحقيقي وعن التعاليم الأصلية في ذلك الدين؛ ولهذا كم يُسْتَغَل الدين في تلك البلاد ويصبح سلاحًا خطيرًا في يد رجال الدين أو رجال الحكم أو رجال الاستعمار!

إن معرفة حقيقة دين من الأديان تحتاج إلى قراءة الإنسان لهذا الدين ويفهمه ليؤمن به إيمانًا صادقًا، ولكن أن يقلد الإنسان غيره تقليدًا أعمى فليس هذا من الدين في شيء.

وقال لي هذا المفكر البوذي: قبل أن أقرأ ما قاله بوذا كنت أذهب إلى المعبد وأركع لبوذا مثل هؤلاء الناس، لكني بعد أن قرأت وفهمت لم أعد أعبد أحدًا.

سألته: ولكنك تؤمن ببوذا؟

قال: لا، أنا أومن بنفسي، وأومن بأي إنسان يكتشف نفسه وقوته الداخلية، ويحاول بهذه القوة الداخلية أن يغير العالم الخارجي إلى الأفضل والأحسن لنفسه ولغيره من البشر.

هذه هي فلسفة بوذا، وهذه هي مبادئ الدين البوذي، لكن القليلين هم الذين يقرءون، وقليل القليل مَنْ يقرأ ويفهم.

•••

في الهند أيضًا مجموعات أخرى من الناس لهم أديان أخرى، منهم «السيخ»، وهم يجمعون بين بعض مبادئ الدين الهندوكي وبين مبادئ الدين الإسلامي؛ إنهم لا يعبدون التماثيل الحجرية ولكنهم يعبدون إلهًا واحدًا غير منظور. لكنهم لا يقصون شعورهم أو لحيتهم طوال حياتهم، ترى الرجل منهم قد لفَّ شعره الطويل تحت عمامة كبيرة ولفَّ شعر لحيته بطريقة معينة. وهناك مجموعة «الفارسيين» وهم الذين يعبدون النار، ويعلِّقون جثث موتاهم في شجرة لتأكلها طيور معينة، اسمها «قالتشرز».

في بومباي أخذنا أحد هؤلاء الفارسيين لنرى كيف تأكل الطيور الجثث. لم نرَ إلا الطيور الجائعة المفزعة تهبط فوق «برج الصمت». إنه برج عالٍ بُني خصيصًا في وسط المدينة لتوضع فوق قمته جثث الموتى وتُترك الطيور لتأكلها. داخل البرج بئر عميق تسقط فيه العظام بعد أن تتركها الطيور، وتذوب هذه العظام في حامض معين داخل البئر لتتلاشى تمامًا.

دعانا هذ الفارسي وزوجته إلى العشاء وجلسنا نأكل العدس باللحم (طبق خاص في الهند يُقَدَّم يوم الأربعاء فقط؛ لأن الأرز ممنوع في ذلك اليوم). وقال الزوج مداعبًا زوجته (الفارسية أيضًا): «سوف تأكلك القالتشرز أكلًا يا حبيبتي.» وضحكت الزوجة وهي تقول: هذه الطيور تأكل العينين أولًا ثم تأكل بقية الجسم. إنها تحب العينين أكثر من أي شيء، وكاد الأكل أن يقف في حلقي، وتوقفت قليلًا وسألت هذه الزوجة: إن هذه عادة بشعة.

وقالت الزوجة: بعد الموت لا نحس شيئًا. الهندوكيون يحرقون جثثهم، والحرق لا يختلف كثيرًا عما نفعل نحن الفارسيين، بل إننا أكثر إنسانية؛ لأننا نطعم هذه الطيور الجائعة بدلًا من حرق الجثث بغير فائدة. وهذه هي الحكمة من هذه العبادة.

وقال الزوج: لكنها فعلًا عادة بشعة، وبعض الناس الآن يثورون عليها ويطالبون بتغييرها. وقالت الزوجة: بعضهم يطلبون في وصيتهم ألا تأكلهم الطيور، ويُحْرَقون أو يُدفنون، لكن هؤلاء يتعرضون لغضب الآلهة وغضب رجال الدين الفارسي الذين يرفضون الصلاة على أجسادهم، وتُدفن بغير بركة رجال الدين.

وضحك الزوج قائلًا: رجال الدين يحافظون دائمًا على أية عادات دينية من أجل أن يعيشوا وتكون لهم وظيفة وأجر، أنا شخصيًّا أفضِّل أن تُدفن جثتي دون بركة هؤلاء الرجال.

•••

في بلدة صغيرة شمال بومباي واسمها «بارودا» ركبنا العربة «الجيب» لنزور بعض القبائل الهندية التي تعمل في ضرب الطوب أو تحويل الرمال من قاع الأنهار الجافة إلى اللوريات، رافقَنا في الرحلة شاب هندي اسمه سامانتا، عمره ٣٣ عامًا ودرس الكيمياء في بولندة ثم عاد إلى الهند واشتغل في أحد المصانع الكيماوية في بارودا.

سارت بنا العربة «الجيب» ساعات طويلة فوق شوارع رملية أو صخرية مليئة بالحفر والمطبات، كان الحر شديدًا، وكدت أطلب العودة من حيث أتيت، لولا أن حديثًا بدأ بين الشاب الهندي وبيني أنساني طول الطريق ووعورته.

لاحظت أن الشاب يرتدي حول عنقه شيئًا أشبه «بالدوبارة» فسألته عنها فقال: هذه «الدوبارة» يلبسها الرجل قبل الزواج ليصبح مقدسًا، قبل أن يلبس هذه الدوبارة يمكنه أن يفعل ما يشاء ويتصل بأية امرأة، ولكن بعد أن يلبسها يصبح مقدسًا ولا يقرب أية امرأة إلا زوجته، وهو لا يخلع هذه الدوبارة عن عنقه طوال حياته.

وسألته: وهل تلبس النساء مثل هذه الدوبارة أيضًا؟

وقال الشاب: لا، النساء لا يصبحن قديسات أبدًا.

وسألته: لماذا؟

قال: لأنهن نساء.

قلت: وما هي الميزات التي يحصل عليها الرجل ذو الدوبارة؟

قال: إنه يصبح مقدسًا.

سألت: ما معنى ذلك؟ هل في ذلك ميزة معينة؟

قال: نعم، الرجل المقدس له الحق في أن ينادي أرواح الموتى، أنا أستطيع الآن أن أنادي أرواح أجدادي لأبي وأجدادي لأمي، لكن الشخص الواحد لا يستطيع أن ينادي لأكثر من الجد السابع لكلٍّ من الأب والأم.

قلت: وماذا تفعل بعد أن تنادي أرواح أجدادك؟

قال: أكلمهم ويكلمونني ويعرفونني بأشياء كثيرة في حياتي.

قلت: المرأة إذن لا تنادي أرواح أجدادها.

قال بحماس: لا، إن زوجها يفعل ذلك نيابة عنها.

كتمت الضحكة وقلت: لو كنت زوجة هنا لناديت بنفسي أرواح أجدادي.

وقال الشباب: الأرواح لا ترد على النساء.

دهشت من منطق شاب مثل هذا درس وتعلَّم. لكني لم أندهش كثيرًا؛ فقد رأيت كثيرًا من المتعلمين يؤمنون بعقائد غريبة.

وسألت الشاب: ألم تسأل نفسك يومًا: لماذا ترد الأرواح على الرجال ولا ترد على النساء؟

قال: لا، هذه هي طبيعة الحياة.

قلت: مَنْ قال لك إنها طبيعة الحياة؟

قال: أهلي، أبي وأمي وكل الناس من حولي.

قلت: ولكن هل ترث معتقدات أهلك بغير أن تعيد تفكيرك فيها على ضوء دراساتك الجديدة؟

قال: أنا درست الكيمياء، وليس هناك علاقة بين الكيمياء وبين الدين أو العقائد، أليس كذلك؟

قلت: توجد علاقة، ولا بد أن تكون هناك علاقة بين أي شيء ندرسه وبين ما نرث من أفكار وعقائد. إن هذا الفصل بين ما نسميه العلم والعقيدة يوقعنا في الكثير من التناقض. والآن هل أنت متزوج؟

قال: نعم.

سألته: وهل أنت الذي اخترت زوجتك؟

قال: لا، إننا هنا لا نختار زوجاتنا. إن أهلنا هم الذين يزوجوننا.

قلت: وهل تعملون حفلًا للزواج؟

قال: نعم، وقد عملوا حفل زواجي الساعة الرابعة صباحًا.

قلت في دهشة: الرابعة صباحًا؟ لماذا؟

قال: موعد حفل الزواج يتحدد حسب نجم العريس وقد حُدِّدَ نجمي الساعة الرابعة صباحًا.

وهكذا كلما كنت أتحدث مع هذا الشاب الهندي أكتشف عادة هندية غريبة. وقد حكى حكايات غريبة عن مسألة تناسخ الأرواح التي يؤمن بها إيمانًا عميقًا مثل غيره من الهنود الذين يدينون بالدين الهندوكي، وفكرة التناسخ هي أن روح الإنسان بعد الوفاة تتجسَّد في جسد آخر قد يكون إنسانًا وقد يكون حيوانًا. وقد ظل هذا الشاب يحكي لي الحكايات الغريبة حتى وصلنا إلى قرية «قالود» حيث التقيت بإحدى القبائل الهندية.

ذكرتني هذه القبيلة بقراءاتي في التاريخ القديم للإنسان منذ العصر الحجري، رأيت تحت شجرة قطعة طوب يرقصون حولها، وعرفت أن قطعة الطوب هذه هي الإله، يرتدون قطعة قماش بيضاء حول نصفهم الأسفل ويحملون الحراب والأسهم وأحيانًا البنادق. إنهم لا يتبعون أي نظام ولا أي حاكم، ولا يؤمنون بالغد ولا الاستقرار ويقدِّسون شيئًا اسمه الحرية، كل واحد منهم يعتقد أنه الملك وليس لأحد سلطان عليه، إذا وثقوا فيك أكرموك وأعطوك كل ما عندهم، إذا لم يثقوا فالويل لك.

كان من حسن حظي أنهم حين نظروا في وجهي وثقوا فيَّ ورأيتهم يقدِّمون لي طعامهم (طعامًا نباتيًّا من الخضروات لأنهم لا يأكلون اللحوم)، وأكلت معهم، وشربت الماء من بئر يشربون منه، وغمس أحدهم أصبعه في سائل أحمر مقدس ورسم فوق جبهتي النقطة الحمراء، وهمس الشاب في أذني حتى لا يسمعه أحد من القبيلة: لو رأى المسلمون هذه النقطة الحمراء فوق جبهتك لغضبوا جدًّا؛ إنها ضد تقاليد المسلمين هنا.

أفراد هذه القبيلة من الرجال والنساء يعملون في قطع الأشجار، بيوتهم من طين وسقفها من فروع الشجر، يرتدون فوق رءوسهم عمامة ضخمة ليست إلا حبلًا طويلًا ملفوفًا فوق الرأس عدة مرات، يفكه الواحد منهم أمام البئر ليربط فيه الجردل ويدليه في البئر. تقاليدهم تختلف عن تقاليد الناس في المدن، الرجل والمرأة هنا متساويان في الحرية الجنسية قبل الزواج، والبنت تشجِّع الولد تمامًا لعمل علاقات قبل الزواج. ولكن بعد الزواج تتزوَّج المرأة رجلًا واحدًا ويتزوج الرجل امرأة واحدة. والرجال والنساء يتزينون بحلقات الحديد فوق جباههم وأنوفهم وآذانهم وأرجلهم، لهم دَقَّة مميزة على الطبول تنقلب إلى عالم آخر، كأنما مت وعاد التاريخ وبُعِثْت في أحد العصور البدائية. رغم فقرهم وجهلهم أحسست الشهامة والصدق والطبيعة في وجوههم المباشرة وعيونهم الصريحة، شعرت بينهم براحة رغم أنني كنت أجلس فوق قطعة من الطوب وأشرب الماء من بئر. إنها الراحة التي تشعر بها مع هؤلاء الناس النادرين الذين لا يزيفون ولا يكذبون.

•••

عربة الجيب تعود بنا إلى المدينة، الشمس تهبط في الغرب من وراء الأشجار، على جانبي الطريق أرى أشجار الموز وحقول المسطردة ذات الزهور الصفراء، وحقول قصب السكر، والقمح وزيت الخروع، في السماء تحلِّق الغربان والحمام والعصافير، بين الأشجار الكثيفة ألمح السحالي والثعالب الصغيرة والقرود بعضها يجري ويلعب والبعض جالس فوق الشجر يرمق الطريق بعيون شاردة متأملة كعيون البشر.

الأم القردة، من حولها أطفالها يلعبون وهي تسير بخطوات بطيئة كالرجل العجوز الوقور، القردة الصغار يضربون بعضهم البعض ويلعبون معًا تمامًا كأطفالنا، نظرت إلى القردة الأم واكتشفت أنها تراقبني، حركاتها إنسانية وصوتها أيضًا إنسانيٌّ، نشأ بيني وبينها ترابط، وأوقفت العربة، أردت أن أكلمها وهي جالسة تضع مرفقها فوق ركبتها، عيناها إنسانيتان لولا تلك النظرة المفاجئة الوحشية والمجنونة، كأنما لم تعد تثق فيَّ وتريد الانقضاض عليَّ بسرعة. حينما رأت أنني لن أسبِّب لها أذًى وأنني أقترب منها لمجرد الفرجة استرخى جسدها وتلاشت النظرة المتحفزة، ثم أعطتني ظهرها وسارت بخطواتها البطيئة نحو أطفالها.

أدركت أن الحيوان كالإنسان يحتاج إلى أن يثق فيك ويطمئن إليك، وإلا فالويل لك.

•••

تناولنا عشاءنا مع بعض الهنود المشرفين على المصنع الكيماوي، وأحد الخبراء الاقتصاديين الذي يعمل في الهند واسمه «فيشمان»، وهو أمريكي الجنسية.

كنت صامتة أستمع إلى الحوار الدائر بين فيشمان وأحد الرجال الهنود. بدأت المناقشة بينهما حول قضية ووترجيت ونيكسون ومشكلة التجسس، وسمعت فيشمان يقول للهندي: أنا لا أفهم في السياسة ولا أحاول فهمها، أنا رجل متخصص في الاقتصاد فقط.

وقال الهندي: هل يمكن أن تفصل بين السياسة والاقتصاد؟

قال فيشمان: لكل علم المتخصصون فيه.

قال الهندي: إن الذي يحرك السياسة هو الاقتصاد، ولا يمكن فصل هذا عن ذلك.

قال فيشمان: ولكني لا أستطيع أن أقرأ قضية ووترجيت ومشاكل التجسس ثم أقرأ في الاقتصاد. إن ساعات اليوم لا تكفي إلا لشيء واحد، ومن المهم أن أتقن الفرع الذي تخصَّصت فيه بدلًا من أن أشتت جهدي في فروع كثيرة، وعندنا مَثَل إنجليزي يقول: الذي يفهم في كل شيء لا يجيد شيئًا.

وردَّ الهندي قائلًا: ولهذا السبب أصبح السياسيون يسيطرون على العالم. إنهم من النوع الذي يفهم في كل شيء ولا يجيد شيئًا؛ ولهذا هم يحكمون ويسيطرون على الاقتصاد ويوجهونه كما يشاءون حسب مصالح طبقتهم الصغيرة المحدودة وضد مصالح الأغلبية من الناس.

وقال فيشمان: أنا أكره السياسيين وأتفادى الحديث في السياسة.

وقال الهندي بعناد وإصرار الهنود: ولكنك لا تستطيع أن تتفاداهم طالما أنت تعمل في مجال الاقتصاد؛ لأنك في الواقع تنفذ سياستهم في مجال الاقتصاد.

وقال فيشمان: أنا كالطبيب الذي يعالج المريض سواء كان صديقًا أو عدوًّا.

قال الهندي: لا، هناك فارق بين الطب والاقتصاد، الاقتصاد جزء لا ينفصل عن السياسة، بل هو الركيزة التي تقف عليها السياسة. أما الطب فهو علم منفصل عن السياسة، أليس كذلك يا دكتورة؟

ووجَّه الرجل الهندي سؤاله إليَّ، فقلت: بل إن الطب أيضًا لا ينفصل عن السياسة؛ هناك طب يعالج المريض دون أن يستغلَّه وهناك طب يعالج المريض ويستغله. لا يمكن فصل أي شيء عن السياسة حتى الحب.

وضحك فيشمان محولًا المناقشة إلى نوع من المرح والفكاهة، لكني قلت بجدية وحزم: نعم، هناك حب ينشأ على أساس من التساوي والتبادل، وهناك حب يقوم على عدم التساوي والاستغلال.

ولم يحاول فيشمان أن يقتنع، وذكَّرني بالشاب الهندي الذي درس الكيمياء في بولندة والذي يفصل بين دراسته العملية وبين حياته اليومية من حيث الزواج والدوبارة المقدسة التي يعلِّقها في عنقه، وإيمانه بأن أرواح الموتى تخاطب الذكور وترفض مخاطبة النساء.

إن الإنسان المثقف في نظري هو الذي استطاع أن يربط بين العلوم المختلفة، وينظر إلى الحياة والإنسان نظرة كلية شاملة، والإنسان الجاهل في رأيي هو الذي يُقَسِّم عقله إلى حجرات منفصلة، يضع في حجرة علم الكيمياء أو الاقتصاد أو الطب، ويضع في حجرة أخرى الدين أو المعتقدات والأفكار الموروثة، ويضع في حجرة أخرى الحب أو الجنس، ويضع في حجرة أخرى السياسة … وهكذا يفقد نظرته الشاملة للحياة والإنسان، ويعجز عن فهم مظاهر الاستغلال المحيطة به. إنه قد يكون أخصائيًّا ماهرًا في عمله. لكنه يصبح كالثور الذي يجرُّ الساقية دون أن يعرف إلى أين يذهب ماء الساقية، أيذهب إلى حقول الفلاحين الكادحين الذين يحتاجون إلى الماء لزراعة المحاصيل؟ أم يذهب إلى حوض السباحة في بيت الحاكم لتسبح فيه كل صباح زوجته السمينة العاطلة؟ وحينما تسأل الثور: هل تعرف إلى أين يذهب الماء الذي تخرجه من الساقية؟

يرد الثور قائلًا: لا أعرف، ليس هذا تخصصي. إن تخصصي الوحيد هو أن أجرَّ الساقية.

ويساعد كثير من الأديان (وبالذات الدين الهندوكي) على هذا الفصل بين العمل ونتيجة العمل.

حين تدخل المعابد الهندوكية تقرأ هذه اللوحة معلَّقة على الجدران: «اعمل بكل طاقتك ولا تفكر في نتيجة العمل». وقد أخذت هذه العبارة من كتاب الهندوكيين المقدس وهو «الجيتا»، وكان غاندي أيضًا يتبع هذه الفلسفة ويفصل بين العمل ونتيجته؛ ولهذا فشلت حركته سياسيًّا وانتهت بتقسيم الهند.

لو أن كل إنسان عرف لماذا يعمل وإلى أين تذهب نتيجة عمله لما استطاع أن يستغل جهد أحد (أو علم أحد)، ولانقرض الاستعمار والاستغلال من الهند ومن البلاد الأخرى.

عرفت أن العاملة أو العامل الهندي في مزارع الشاي يعمل تسع ساعات في اليوم نظير «٤ أو ٥» روبيات، ويُنتج في اليوم الواحد كمية من الشاي تعادل «خمسين» روبية؛ أي عشرة أضعاف الأجر الذي يحصل عليه، معنى ذلك أنه يُنتج في الساعة الواحدة ما يعادل أجره ويعمل بقية الساعات الأخرى الثماني بغير أجر، بعبارة أخرى إنه ينتج في الساعة الواحدة كمية من الشاي ثمنها ٥ روبيات تقريبًا؛ أي تعادل أجره اليومي كله؛ لأنه يتقاضى ٥ روبيات فقط عن عمل متواصل لمدة ٩ ساعات، إلى أين يذهب جهد هذه العاملة أو هذا العامل؟ إنه يذهب إلى أصحاب الشركات التي تصنع الشاي وتوزعه؛ أي إنه يذهب إلى جيوب حفنة من الأثرياء يستغلُّون جهد ملايين العمال والعاملات.

إن الربح الضخم الذي يحصل عليه هؤلاء والذي ينفقونه ببذخ على كماليات زوجاتهم وأولادهم يتبخَّر في الهواء لو أن العاملة أو العامل الهندي فكَّر لحظة في نتيجة عمله اليومي طوال تسع ساعات متصلة تحت قرص الشمس الملتهب، ولكنهم لا يفكرون، وأسباب ذلك:
  • (١)

    استنفاد جهدهم طوال اليوم في العمل، فلا يجدون متسعًا من الوقت والجهد للتفكير.

  • (٢)

    عدم إلمامهم بالقراءة والكتابة والحساب؛ ولذلك لا يعرفون العملية الحسابية البسيطة السابقة التي تشرح لهم أنهم يعملون ٨ ساعات بغير أجر.

  • (٣)

    ترويج السياسيين والاقتصاديين للفلسفة الهندوكية القائمة على الزهد والفصل بين العمل ونتيجة العمل.

  • (٤)

    وقوع بعض المصلحين من أمثال غاندي في هذا الخطأ، والاستغراق في المسائل الروحية والفصل بين الروح والجسد، وترك ماديات الحياة للآخرين ينهبونها على حين يجوع الملايين من الشعب الهندي.

ركبنا الطيارة إلى كاجيورا. إنها إحدى المدن الصغيرة في ولاية ماديابراديش في وسط الهند، ولكنها أحد الأماكن الشهيرة في الهند. قالوا: إن بها اثنين وعشرين معبدًا، وآثارًا قديمة تدل على عظمة فن النحت الهندي منذ القرن العاشر حين كان يحكم الهند ملوك تشانديلا.

وكنت قد زرت عددًا من المعابد القديمة الشهيرة في مادورا جنوب الهند ومعظمها تماثيل للآلهة والإلهات وهم يرقصون.

لكن الآلهة والإلهات في كاجيورا لا يرقصون فحسب، ولكنهم أيضًا يمارسون الجنس بشتى أنواعه وأوضاعه. كان ملوك تشانديلا يمثِّلون نوعًا من الثورة على التقاليد القديمة المتزمِّتة التي تفصل بين الإنسان وجسده وتنظر إلى الرغبات الجنسية كنوع من الإثم والدنس والضعف.

وقد صوَّر هؤلاء الملوك حياتهم وحياة الآلهة على أنها حياة بشرية عادية: بعضها حرب وبعضها أكل وبعضها علم وبعضها جنس وبعضها مرح ولعب.

من أكبر المعابد في كاجيورا معبد «لاكشانا» و«كانداري»، على الجدران الخارجية رأيت التماثيل تصوِّر الحياة بكافة نواحيها، جيوش من راكبي الفيلة يحاربون أعداءهم، مواكب الاحتفالات والرقص والغناء، مجالس الحكام، أنواع من العمل، حجرات الطعام، ثم في أحد الأركان هناك تماثيل عارية لرجال ونساء يمارسون الجنس الثنائي أو الجنس الجماعي، هناك لوحة كبيرة لمجموعة من الرجال والنساء يداعبون بعضهم البعض جنسيًّا، ولوحة أخرى لنوع آخر من المداعبات، ولوحة أخرى لرجل وامرأة أثناء عملية جنسية كاملة.

لم يكن هذا الركن الجنسي يمثل إلا مساحة صغيرة فوق الجدران، فقد امتلأت الجدران بصور أخرى تمثِّل الحرب والعمل والحكم والطعام والاحتفالات وغيرها، لكني لاحظت أن معظم المتفرجين (أكثرهم سياح أجانب وبعضهم هنود) قد جاءوا من أجل مشاهدة هذا الركن الجنسي فحسب، وسمعت ضحكاتهم وهم يتفرجون، ووصل إلى أذني بعض تعليقاتهم. وقد أدركت أن ملوك تشانديلا في العصور الوسطى المظلمة كانوا أكثر من رجال ونساء العصر الحديث فهمًا للجنس، إنهم بصورهم وتماثيلهم لا يقولون إن الجنس هو كل شيء في الحياة ولكنهم يضعون الجنس في مكانه الصحيح ويقولون إن الجنس جزء من الحياة، وهم يرفضون أيضًا الكبت وإنكار الجنس ويقولون إن الحياة الخالية من الجنس حياة ناقصة أو مشوَّهة.

لكن الناس في عصرنا الحديث لا زالوا مرضى بشيء اسمه الجنس (بسبب الكبت والتربية الخاطئة والاستغلال التجاري للجنس)، ولا زال كثير من السياح في العالم يدفعون أموالًا كثيرة من أجل مشاهدة حوانيت الجنس في السويد والدانمارك أو تماثيل الجنس في كاجيورا والهند. هذا في الوقت الذي يضربون فيه على يد أطفالهم إذا نطق أحدهم بكلمة الجنس.

•••

أخذنا الطائرة إلى مدينة صغيرة اسمها «أناند» في ولاية جوجارات على الساحل الغربي للهند، وهي مدينة صغيرة لكنها شهيرة، كل علبة جبن في الهند طُبِعَت عليها كلمة «أناند»، مصنع الجبن في أناند تملكه شركة هندية كبيرة اسمها «آمول» تصنع الجبن والزبد وألبان الأطفال المجففة.

تتبَّعنا الخطوات التي يمر بها اللبن منذ أن يُحلب من ضرع الجاموسة أو البقرة إلى أن يصبح علبة جبن تباع في السوق، نظام محكم دقيق، والآلات في المصانع تسير بنظام مُحْكَم دقيق، والمهندس المختص يشرح لنا كيف بدءوا يستخدمون الآلات الإلكترونية في التصنيع.

لكن عقلي يشرد بعيدًا، وعيناي تتأملان الصف الطويل من الفلاحات اللائي وقفن بجوار اللبن ويبعن اللبن المُصَنَّع. إن الواحدة منهن تحمل فوق كتفها طفلًا جائعًا هزيلًا هو أحوج ما يكون إلى هذه الزجاجة من اللبن التي تبيعها. وبعملية حسابية بسيطة وجدت أن كمية اللبن التي تبيعها الفلاحة نظير روبية واحدة تنتج من جبن آمون ما قيمته خمسة عشر روبية، وإذا حذفنا مصاريف المصنع كلها وجدنا أن الفلاحة التي تبيع عشرة أرطال من اللبن تأخذ ثمن رطل وتعطي تسعة أرطال بالمجان.

وهذه الفلاحة لا تختلف كثيرًا عن العاملة في مزارع الشاي التي تعمل ساعة واحدة بأجر وبقية الثماني ساعات بغير أجر.

قلت أفكاري للمهندس المختص فضحك وقال: هذه هي الصناعة في كل أنحاء العالم، إذا لم يربح هذا المصنع كل هذا الربح فلماذا يشغله أصحابه؟

قلت: ولكن أصحابه يربحون الآلاف، وهؤلاء الفلاحات يحرمن أنفسهن وأطفالهن من اللبن ويعشن على الكفاف.

قال المهندس: إن جاموسهن أيضًا كان يعيش على الكفاف بسبب الفقر الشديد. وقد وجدنا أن العناية بالجاموس ضرورية ليدرَّ لبنًا دسمًا وبكميات وفيرة؛ ولهذا أنشأنا في المصنع جزءًا خاصًّا لإنتاج علف خاص بالجاموس يغذيه ويزيد من دسامة لبنه، هذا العلف نبيعه للفلاحين والفلاحات. وعندنا قسم للتلقيح الصناعي للجاموس، نحن ننقل الحيوانات المنوية من ذكور الجاموس الجيد إلى رحم الجاموسة، وتحمل الجاموسة ثم تلد السلالة الجيدة. وقد دربنا الفلاحين والفلاحات على كيفية وضع أنبوبة الحيوانات المنوية في رحم الجاموسة، نحن أيضًا نربي ونستخرج بعض سلالات ممتازة من ذكور الجاموس.

وأخذنا المهندس إلى مزرعة تربية الجاموس، ورأيت مجموعة من ذكور الجاموس تدور حول نفسها، وظننت أنها تجر ساقية لكني لم أرَ الساقية، وقال المهندس: هذه تمرينات رياضية لذكور الجاموس حتى لا يترهلوا بسبب عدم الحركة وتضعف حيواناتهم المنوية، إننا نطعمهم طعامًا جيدًا مخصوصًا، والرياضة اليومية ضرورية لهم. كما أن عندنا نظامًا طبيًّا عالي الكفاءة لرعاية صحة الجاموسة سواء هنا في مزرعة المصنع أم في القرية. إن رعاية صحة الجاموسة من أهم ما يمكن للمصنع؛ لأن الجاموس هو الذي يعطي اللبن.

وأخذنا المهندس إلى القسم الطبي في المصنع ورأيت أمام المبنى عددًا كبيرًا من عربات جيب وإلى جوار كل عربة سائقها.

سألت: ما هذه السيارات؟

وقال المهندس: إنها سيارات إسعاف الجاموس.

عندنا خدمة إسعاف عالية الكفاءة، وعندنا عدد من الأطباء البيطريين الذين دُرِّبُوا في أعلى الجامعات والمعاهد.

ودخلت إلى القسم الطبي، ورأيت عدة أجهزة التليفون وعاملًا خاصًّا يتلقى الإشارات التليفونية التي تعلن عن مرض جاموس في أي مكان في المنطقة، وبعض أطباء بيطريين في وضع الاستعداد دائمًا للإسراع بسيارة الإسعاف إلى الجاموسة المريضة، وحقائب إسعاف وأدوية حديثة وكل شيء.

إن مركز إسعاف الجاموس هذا أكثر كفاءة من كثير من مراكز إسعاف المرضى من البشر في بلاد كثيرة، بل في هذه المنطقة بالذات ترتفع نسبة وفيات الأطفال والكبار؛ بسبب سوء الرعاية الصحية وانتشار الأمراض.

ورعاية الجاموس الصحية تشمل أيضًا الرعاية النفسية. قالوا لي إنهم يدرسون الأسباب النفسية التي تجعل الجاموسة تحزن ويقل إدرارها للَّبن؛ أحد هذه الأسباب هو حرمانها من أولادها الصغار، وقالي أحد الأطباء البيطريين مزهوًّا وهو ينظر في بعض الإحصاءات الأخيرة: لم تظهر حالة مرض معدية واحدة بين الجاموس في المنطقة كلها منذ عشر سنوات، وقد تحسنت صحة الجاموس تحسنًا كبيرًا، وزاد إدرار لبن الجاموسة الواحدة عشرة أضعاف في السنوات الخمس الأخيرة، كل ذلك بفضل نشاط القسم الطبي في «أناند».

وبينما نحن نغادر المصنع رأينا من خلال السور وجوه الجاموس المتوردة ذات الصحة الجيدة، ولم نكن قد نسينا منظر وجوه الأطفال والأمهات الضامرة الشاحبة، فقال زوجي للمهندس الهندي ضاحكًا: إذا كانت مسألة تناسخ الأرواح حقيقية — كما تقول «الجيتا» — فإني أود أن تلبس روحي بعد وفاتي جسد جاموسة في «أناند».

وضحكنا حتى دمعت عيوننا من شدة الضحك وشدة الأسى معًا.

•••

في شرفة فندق «التاج محل» انحنى الجرسون الهندي واضعًا أمامنا صينية الشاي، وجه أسمر من تحت عمامة ضخمة بيضاء، أسنان تلمع كالفضة، وإبريق الشاي من الفضة أيضًا مزين بنقوش إسلامية مغولية.

هواء البحر يملؤني برائحة اليود وحنين لبحر الإسكندرية وأحلام الطفولة، أصوات الغناء والرقص والموسيقى تتصاعد مع رائحة البخور الهندية والصندل المحروق والند، وفي أعماقي تستيقظ مشاعر أو غرائز قديمة نامت مع الزمن أو ربما ماتت منذ عصور مصر القديمة، أنهض واقفة وأحرِّك ساقي وذراعي في الهواء وأندهش، فهي الحركة نفسها التي يؤديها الإله شيفا مع اختلاف واحد، هو له أربع أذرع وأنا ليس لي إلا ذراعان.

ضحك صديقي الهندي «شاندري» بصوت خافت أو بلا صوت، شهقة أشبه بالشهيق العميق أو الزفير الطويل، وهزة رأس لم أعرف منها أيقول نعم أم لا، لكن أسنانه البيضاء أضاءت وجهه الأسمر بابتسامة ورشف الشاي بصوت عالٍ، وقال بصوت خافت: قدماء المصريين كانوا يرقصون مثلنا؛ وذلك لأننا الهنود …

وقاطعته قبل أن يدخل في حديث طويل عن الهنود وحضارتهم التي يؤمن أنها أقدم من حضارة المصريين، وقلت ضاحكة: ربما اكتشف الإله «شيفا» الرقص، لكن الإلهة «إيزيس» اكتشفت الحكمة والعقل.

هو أستاذ للتاريخ في جامعة بومباي، ولا يمكن أن يكفَّ عن الحديث إلا إذا قاطعه أحد.

وقال وهو يرشق «البايب» في زاوية فمه وفوهتها ناحيتي: أرجوكِ دعيني أشرح لكِ الموضوع منذ بدايته؛ لأن …

وقلت وأنا أطرد الدخان المتصاعد من أنفه وفمه: أرجوك لا أستطيع أن أتابع حديثك وأصوات الموسيقى والرقص تملأ الكون، انظر هؤلاء الناس الذين تجمَّعوا بالآلاف!

وقال: إنه عيد الإله جانيش.

وقلت: هيا نشترك معهم في الرقص؛ فأنا لا أستطيع أن أقاوم عدوى الفرح والبهجة بالحياة خاصة إذا كانت جماعية.

هبطنا إلى الشارع، مهرجان من الألوان والألحان والرقصات، رجال ونساء وأطفال يملئون الشارع ويمتدون على الشاطئ حتى البوابة الضخمة المفتوحة على المحيط، بوابة بومباي الشهيرة تشبه قوس النصر على رأس «الشانزليزيه» في باريس. لكنها هنا لا ترمز إلى النصر، لقد بُنيت هذه البوابة من أجل أن يمرَّ من تحتها ملك بريطانيا (جورج الخامس) في أول زيارة له للهند سنة ١٩١١، بوابة بُنيت كالكوبري الحجري الضخم ليمرَّ الملك الإنجليزي من تحتها.

وهز شاندري رأسه وهو يشير بأصبعه إلى البوابة: الملوك في الهند كالكوارث وفيضانات الأنهار لا بد أن تُبْنَى الكباري ليمروا من تحتها، وقلت: نعم، في عالم السياسة يمكن بناء كوبري يمر تحته نهر.

سرنا وسط الجموع حتى الشاطئ، وقف شاندري تحت البوابة وحملق في مياه المحيط: السياسة كالتاريخ كالدين علم يحتاج إلى خيال، وليس كل شيء في السياسة أو الدين ندركه بالحواس أو حتى بالعقل، وإلا ما أصبح «جانيش» إلهًا رغم أن له رأس فيل.

مجموعة من الرجال يرقصون ويقتربون من الشاطئ، يحملون بين ذراعهم تمثال الإله «جانيش»، له جسم طفل منتفخ البطن ورأس فيل، يلمسون الرأس والبطن ويتباركون، أيادي النساء تمتد من وراء الرجال تحاول الحصول على لمسة من الإله وبركة، الأجسام تتزاحم حول الإله الخشبي، وأيادي الرجال ترتفع عاليًا بالإله ثم تهوي به إلى قلب المحيط، ودهشت: أغرقوا الإله جانيش؟!

وقال شاندري: لأنه ثمرة الخطيئة.

قلت: أي خطيئة؟

قال: خطيئة الإلهة «برافاتي» مع رجل آخر غير زوجها «شيفا»، وقطع «شيفا» رأس طفلها، لكنها أعادت الحياة إليه بعد أن ركَّبت له رأس فيل، وأصبح الإله «جانيش»، ونحن الهنود نعبده ونحبه ونحتفل به.

قلت: تعبدونه وتقتلونه غرقًا؟

قال: إغراقه يعني إغراق الخطيئة؛ ولهذا نحتفل بهذا اليوم.

قلت: لكنه يموت غرقًا.

قال: لا يموت أبدًا؛ الآلهة لا يموتون، الخطيئة وحدها هي التي تموت. أما الإله «جانيش» فهو ينقذ نفسه.

قلت: معقول جدًّا، إذا لم يستطع الإله أن ينقذ نفسه من الموت أو الغرق فهل يمكن أن يكون إلهًا؟

وثبَّت عينيه السوداوين الواسعتين من تحت النظارة البيضاء على وجهي وقال بشيء من الاحتجاج: أتتهكمين على آلهتنا؟

قلت: أنا أحترم آلهة كل البشر على اختلاف أنواعهم، وعلى الأخص الإله «جانيش»؛ فهو طفل بريء ولا يستحق الموت غرقًا. لماذا تحاسبون الطفل على فعل قام به أبوه أو أمه؟! لماذا لا تحتفلون مثلًا بإغراق «شيفا» أو برافاتي؟! هذا هو العدل في رأيي.

وقال شاندري: هذا هو العدل الإنساني المنطقي، لكن في عالم الأديان والآلهة هناك عدل آخر غير منطقي. لا يمكن أن نحاسب الإله «شيفا» على أخطائه؛ لأنه يملك قوة الدمار والموت.

لا يمكن أن نحاسب الآلهة الذين يملكون هذه القوة؛ فالمنطق هنا منطق القوة وليس منطق العدل.

ورأيت امرأة ترقص على حافة الشاطئ وتُلقي زهورًا حمراء في مياه المحيط حيث أُلقي الإله جانيش وتردِّد بصوت كالغناء: أيها الإله الطيب «جانيش»، يا نصير الضعفاء والأطفال المرضى والجياع، أتوسل إليك أن تتوسَّط لي عند الإله الجبار «شيفا» ليحمي طفلي من الموت. إنه مريض منذ ثلاثة شهور ولا ينهض من الفراش!

ترجم لي شاندري هذه الكلمات وقال: أترين؟ نحن نعبد «جانيش»؛ لأنه إله طيب. لكنه إله ضعيف لا يملك الضرر أو المرض أو الموت، وكل ما يملكه هو أن يتوسط بيننا وبين آلهة الموت والدمار أمثال شيفا وبراهما وفيشنو.

بدأت عدوى الرقص تنتقل إلينا، غمس شاندري إصبعه في المسحوق الأحمر المقدس وطبع على جبهتي دائرة حمراء. في حركة يده وفي تلامس الذرات المقدسة بجسدي تحوَّلت إلى امرأة هندية تعبد الإله شيفا، أو ربما أصبحتُ الإلهة برافاتي نفسها زوجة شيفا التي خانته وأنجبت جانيش. وأحببت الإله «جانيش» كأنه ابني من صلبي، ولدته في مكان وزمان لا أدري عنهما شيئًا.

حرَّكت ذراعي في الهواء كالمروحة وأصبح لي أربعة أذرع، ثم تضاعف العدد بسرعة وأصبح ثمانية أذرع، بسرعة حركتي في الهواء يتضاعف عدد أذرعتي، توقَّفت لحظة عن الرقص وأنا ألهث.

وقال شاندري: أتؤمنين بتناسخ الأرواح؟

وتساءلت: لماذا؟

وقال: لأن روحك الآن لبست جسد بارفاتي وأذرعتها، وكأنما كنت على وشك التصديق وقلت: أجل، ربما، على أي حال عقلي لا زال غير مقتنع، لكني أحس في هذه اللحظة أنني الإلهة برافاتي أو ربما الإلهة إيزيس، على أي حال كلهن إلهات!

وضحك شاندري ضحكته الصامتة كالشهيق أو الزفير، ولمعت أسنانه في المساحة السمراء وقال: وكلهن خائنات! في كل تاريخ الإلهات ليس هناك إلهة واحدة مخلصة لزوجها، وكلهن مثل الإلهة برافاتي، ولكل واحدة منهن طفل مثل «جانيش».

وقلت: ألهذا السبب لم تتزوج يا شاندري؟ وشحب وجهه الأسمر: لا، ولكني حين أتزوج سأختار امرأة من وسط العبيد وليس من وسط الإلهات؛ فالعبودية تعلِّم المرأة الإخلاص لزوجها حتى بعد موته؛ فهي تُلقي نفسها في المقبرة معه ولا تتركه يُدفن وحده.

قلت: وأنت زوجها هل تُلقي نفسك في المقبرة إذا ماتت هي قبلك؟ حك شاندري رأسه بطرف أصبعه وأطرق إلى الأرض صامتًا كأنما يستجمع أفكاره أو ذاكرته من زمن سحيق، ثم قال: المرأة هي سبب الخطيئة وسبب الموت، وهي المسئولة عن موت زوجها إذا مات قبلها؛ ولهذا أمرنا الآلهة بأن تُدفن الأرملة مع زوجها في المقبرة نفسها، وإذا عاشت الأرملة بعد زوجها فهي تسبِّب الفساد والكوارث.

انظري ماذا فعلت بنا أنديرا غاندي! منذ أن تولت السلطة هذه الأرملة وجميع الآلهة غاضبون علينا.

وتساءلت: جميع الآلهة في الهند؟ أم في بلاد أخرى؟ وانفرجت شفتاه عن شهقة سريعة: ماذا تقصدين؟

وضحكت: لا أقصد شيئًا، مجرد محاولة لمعرفة إذا ما كان الآلهة في الهند يتفقون في هذا الرأي مع الآلهة في بلاد أخرى من العالم.

بدأ اللون الأحمر يتصاعد إلى بشرته السمراء وهز رأسه: ربما تؤمنين بآلهة أخرى وهذا حقك، لكن آلهة الهند لا يحبون الأرملة؛ لأنها سبب موت زوجها، لكن الرجل ليس سبب موت زوجته؛ فهي تموت بسبب أخطائها وتكفيرًا عن ذنبها، ومن حق زوجها أن يتزوج امرأة أخرى بعد موتها، هذا هو قانون الحياة، ألديك اعتراض على قانون الحياة؟

وقلت: أتقصد أن قانون الحياة هو أن تُدفن الأرملة مع زوجها الميت في مقبرة واحدة؟ قال: أتعترضين على دفنهما في مقبرة واحدة؟ بعض الأديان تعترض على دفن النساء مع الرجال في مقابر واحدة، ولا بد من دفن النساء في مقابر خاصة بهن.

كنت لا أزال واقفة على الشاطئ، تحت بوابة بومباي الضخمة، رائحة البحر واليود تملؤني بالحنين لبحر الإسكندرية وأحلام الطفولة، خيالات في رأسي تشبه خيالات الطفولة، وصوت جدتي في أذني يحكي عن الجان والعفاريت ولكل عفريت ثمانية أذرع طويلة، و«جنية» البحر لها رأس امرأة وجسد سمكة. صوت شاندري يشبه صوت جدتي: الآلهة لا يحبون الأرامل.

وقلت بصوت طفولي: لعلهم يفضِّلون العذراوات.

وصاح بدهشة: هذا صحيح! كيف عرفتِ هذا؟

وقلت: لأنني طبيبة نفسية، وأفهم نفسية الآلهة.

وقال شاندري: لكن الآلهة عندنا يختلفون، وليس شيفا مثل فيشنو أو «برهما». قلت: قد يختلفون سياسيًّا، ربما يفضل «شيفا» الرأسمالية، وفيشنو ربما له ميول اشتراكية، لكني أعتقد أنهم يتفقون جميعًا في نظرتهم للمرأة.

وظل شاندري يحملق في وجهي بعينيه السوداوين، أصبحت عيناه ضيقتين كعينَي جدتي وبلا رموش، صوته أيضًا هو صوتها، وأطفال بومباي ينظرون إليَّ بعيون سوداء واسعة يملؤها الجوع والدهشة معًا كعيون الأطفال في قريتي البعيدة على شط النيل، وعيوني في الصورة وأنا طفلة أقف في الصف الأول إلى جوار زميلاتي في المدرسة الابتدائية.

أصبح شاندري هو الذي يرقص الآن، على جبهته الدائرة الحمراء المقدسة، رأسه يشبه رأس الإله «جانيش» بدون زلومة الفيل، ذراعاه يتحرَّكان في الهواء وقد تضاعف عددها وأصبح له أربعة أذرع طويلة كالمخالب، وصوته كصوت الإله الراقص «شيفا»: نحن أفضل من غيرنا وأكثر تقدمًا، فنحن لا نعترض على اختلاط النساء والرجال في المقابر بعد الموت. أما الأرملة! هل هناك أحد يحب الأرامل؟! وقد نشفق على الأرملة الضعيفة المستكينة المطيعة لأوامرنا، لكن هذه الأنديرا غاندي! إنها تمتلك قوة تنافس بها الآلهة، واستطاعت أن تتخلص من خصوم أبيها، وكان نهرو يسميهم «الثعابين»، وعجز عن مقاومتهم، واستطاعت أن تنجح فيما فشل فيه «نهرو»، لكن نجاحها معناه سقوط الآلهة، وخاصة الإله «براهما» وجميع البراهميين؛ أي رجال الدين والفكر عندنا، وهم الطبقة العليا. فنحن لا نفصل بين أملاك الإله «براهما» وأملاك البراهميين.

كان أحد الرجال قد اقترب من شاندري وهو يرقص، جلباب ممزَّق تفوح منه رائحة قمامة، ووجه شاحب تشتعل فيه عينان سوداوان بوهج الجوع، وسقط «ظله» وهو يرقص على سترة شاندري السوداء من الصوف الإنجليزي الثمين، توقَّف شاندري عن الرقص فجأة، ونفض عن سترته «الظل» كأنه ينفض شيئًا له قوام مادي، كالحشرة تمامًا ينفضها عن ملابسه.

وقلت بدهشة: إنه لم يلمسك.

وقال: ظله لمسني وهذا يكفي. كان أبي يستحم إذا سقط عليه ظل واحد من هؤلاء المنبوذين.

ابتعدت أنا الأخرى عن الرجل، رائحة تملأ الدنيا بالقمامة والفقر، تذكرت برنارد شو: «أنا لا أحب الفقراء، ولا أحب رائحتهم»، وهل هناك أحد يحب رائحة القمامة؟ حتى الآلهة في الهند لا يحبون الفقراء والمنبوذين، خاصةً الآلهة براهما وشيفا، مع أن الفقراء هم أكثر الناس حبًّا للآلهة، ما من معبد دخلته في الهند إلا وكان مكتظَّا بالفقراء. لا يكفُّون عن العبادات وتقديم الهدايا للآلهة وخاصة الإله «براهما»، لكن الإله «براهما» يأخذ منهم ولا يعطيهم شيئًا، إنه لا يعطي إلا طبقة البراهميين، يغدق عليهم من ماله وأملاكه، مع أنهم لا يزورون المعابد أبدًا، ولا يقدمون شيئًا للآلهة، مثل غيرهم من طبقة رجال الحرب (التشاتريا) والتجار (الفيشيا) والتشودار أيضًا أصحاب الأعمال اليدوية.

وقال شاندري: هذا حال الدنيا، والدنيا ظالمة، لكن الآلهة عادلون؛ فهم يعطون الأشرار الأموال ويعطون الفقراء الإيمان، والإيمان أفضل من المال، والفقراء منبوذون في الدنيا؛ لأنها ظالمة وزائلة. لكنهم بعد الموت سينالون رضا الآلهة ولذلك سماهم غاندي «الهاريجان» يعني أطفال الإله: نعم، نعم، وهز شاندري رأسه، نعم لن ينسى «شيفا» «الهاريجان» بعد الموت. أما الأرامل فلا مكان لهم في قلب «شيفا».

وكان لا بد أن تُدفن أنديرا غاندي في مقبرة واحدة مع زوجها منذ سنين. كانت ستنعم برفقة زوجها بدلًا من حياتها كامرأة وحيدة بلا رجل، تعيش في بيتها وحيدة، وتموت وتُدفن في مقبرتها وحيدة. هذه الأنديرا غاندي قد حرمت نفسها من أهم الحقوق التي تحظى بها أبسط امرأة هندية، وهو أن تُدفن في مقبرة واحدة مع زوجها.

صوت «شاندري» لا زال في رأسي، البحر أمامي والشاطئ. لكنه ليس شاطئ بومباي. إنه شاطئ الإسكندرية، وأنا أجلس في شرفة فندق «البوريفاج»، أمامي الورق والقلم أحاول أن أكتب، الجرسون النوبي الأسمر ترك لي صينية الشاي وجرائد الصباح، لمحت عنوانًا في جريدة الأهرام (١٢ ديسمبر ١٩٨٢):

لا يجوز دفن رجل مع امرأة في قبر واحد.

هل يجوز دفن رجل مع امرأة في قبر واحد؟

جرى عمل السَّلف على دفن كل ميت في قبر خاص، فإن دُفن فيه أكثر من واحد كُرِه أو حَرُمَ إلا لضرورة، ككثرة الموتى وضيق المقبرة، وروى عبد الرزاق بسندٍ حسن عن وائلة بن الأسقع أنه كان يُدفن الرجل والمرأة في القبر الواحد، فيُقدَّم الرجل وتُجعل المرأة خلفه، وكأنه يجعل بينهما حاجزًا، لا سيما إذا كان أجنبيين، وذلك عند الضرورة، أما في غيرها فلا يجوز دفن رجل مع امرأة في قبر واحد عند الشافعية. كما قيل: لا يُجْمَع بين رجل وامرأة في قبر إلا لضرورة، فيحرم عند عدمها. قال ابن الصلاح: ومحله إذا لم يكن بينهما محرمية أو زوجية، والذي في (المجموع) أن الجمع حرام حتى في الأم مع ولدها.

كتبت بضع كلمات سريعة على ورقة، طويتها وأرسلتها عن طريق البرق كأنما هي وصيتي الأخيرة.

فتح البرقية وهو جالس في بيتنا بالجيزة ودهش. كانت كلمات البرقية متكررة الحروف ثأثأة مصاب بداء في اللسان:

أأ أريد يا يا يا حبيبي أن ن ن ن ت تضمني أنا أنا وأنت وأنت، مقبرة واواواواوا واو ا وا واحدة.

زوجتك المخلصة

لم أكن أطلب في رحلاتي لقاء أصحاب أو صاحبات السلطة؛ بيني وبين الآلهة فوق الأرض عداء، أما الآلهة من ذوي الأجنحة أو من ذوي الأذرع المتعددة فقد كان من السهل أن ألتقي بهم في معابد الهند، حيث يلتقي كل الفقراء والمنبوذين والمنبوذات.

كنت أندهش: كيف يمكن للآلهة الحقيقيين أمثال شيفا أن يكونوا أكثر تواضعًا من الآلهة المزيفين فوق الأرض؟

روبية واحدة أو كسرة خبز تكفي لأن ألتقي بالإله الجبار شيفا، أو إله الموت والدمار. وهو — رغم ألوهيته وجبروته — لا يعبأ بأن أرتدي له زي التشريفات، وليس له مدير مكتب ولا سكرتير خاص ولا حاجب ولا أحد يمكن أن يعترض طريقي إليه.

لكن هؤلاء الآلهة الآخرين الذي يمشون فوق الأرض على قدمين وليس لأي منهم أجنحة أو أربعة أذرع، وإنما مجرد ذراعين مثلي تمامًا، هؤلاء الآلهة لم أكن أفكر في اللقاء بهم، بل إنني كنت أسعى إلى الابتعاد عنهم، حتى صورهم في الصحف اليومية الصباحية لم أكن أنظر إليها؛ لسبب واحد بسيط: هو رغبتي الصادقة في استقبال اليوم الجديد بنفس منشرحة متفائلة.

تعودت خلال السنين الأخيرة ألا أقرأ الصحف أول النهار. أخبئها تحت المكتب حتى آخر الليل ثم أنساها وأنام، لكني في صباح اليوم التالي أراها تحت عيني تطل عليَّ من تحت عقب الباب.

ذلك الصباح استيقظت مبكرًا وبحكم العادة اتجهت عيني نحو الباب وهبطتا حتى العقب، ولدهشتي لم أجد الصحف، رأيت الأرض لامعة نظيفة لا يعلوها شيء، نهضت من الفراش بحركة سريعة نشطة أشبه بالسعادة المفاجئة، واكتشفت في لحظة خاطفة كضوء الكشاف، لماذا أصبحت أحب السفر: كنت أريد أن أفتح عيني في الصباح فلا أرى الصحف.

والصباح في نيودلهي كان مشرقًا، وقد أحببت شمس الهند في الشتاء؛ فهي شمس قوية أقوى من أي ريح باردة، لكنها ليست قوة غاشمة مستبدة وإنما قوة الكواكب العظيمة الواثقة في نفسها، قوة الآلهة الحقيقيين من ذوي الأذرع المتعددة والقلوب الرحيمة المتواضعة تحتضن الكل بالتساوي، لا فرق بين منبوذ أو مهراجا.

أغرقتني شمس الصباح وأنا جالسة في الشرفة أطلُّ على القباب المغولية وأنصت إلى زقزقة العصافير وسمعته يقول: لقد زرت الهند عدة مرات وعشت فيها شهورًا، وتجوَّلت فيها شمالًا وجنوبًا، ولا يمكن لكِ أن تتركي الهند دون أن تقابلي أنديرا غاندي!

•••

لم يمضِ على ذلك الصباح بضعة أيام ووجدت نفسي داخل السيارة الصغيرة التي اجتازت البوابة الحمراء الكبيرة التي تقود إلى «راشترابا هي بافان» وهو مقر الحكومة في العاصمة دلهي، لم أرَ إلا حارسًا واحدًا على الباب الخارجي، ولم أجد إلا سكرتيرًا واحدًا صافحني بابتسامة الهندي المتواضعة، ثم إذا بي في مكتب رئيسة الوزراء: أنديرا غاندي.

كانت واقفة مرتدية «الساري» الذي يزيد من قوامها الممشوق، وعلى وجهها ابتسامة تنسجم مع إشراقة الخصلة البيضاء فوق جبهتها المستقيمة الواضحة، أدركت لأول وهلة أن وجهها يعبِّر عن شخصية أقوى وأكثر تميزًا من الوجه الذي رأيته لها في الصحف والمجلات والكتب، هي إذن من هذا النوع من الناس الذين تعجز آلة التصوير عن نقل شخصيتهم وروحهم الحقيقية للناس.

شعرت وأنا أصافحها براحة، تغلبت على الضيق الذي أحسه دائمًا وأنا داخل مكاتب أصحاب السلطة من أي نوع. لا بد أنني ابتسمت في هذه اللحظة واتخذ جسمي وضعًا طبيعيًّا مريحًا في المقعد المواجه لمقعدها.

وجهًا لوجه وعينًا في عين زاد شعوري بأنني أمام امرأة قوية. كنت قد قرأت بعض الكتب عن طفولتها وحياتها وكفاحها قبل وبعد وفاة أبيها نهرو. شاركت مع زعماء الهند ومع جيلها من الرجال والنساء في الكفاح ضد الاستعمار، وحين أحبت رجلًا من غير دينها ومن غير طبقتها (كان من الفارسيين الذين يعبدون النار ومن طبقة فقيرة) صمَّمت على أن تتزوجه، رغم أن زواجها يجب أن يُبنى على الحب والتفاهم، وكان هذا الفعل من جانبها ثورة في المجتمع الهندي الذي يقوم على التفرقة الشديدة بين الطبقات والأديان. في فترة ما من حياتها كادت أن تترك السياسة والكفاح العام وتتفرغ لحياتها كزوجة وأم، لكنها لم تستطع. إن الكفاح السياسي في دمها، رضعته وهي طفلة وشاركت فيه طوال صباها وشبابها. لم تكن حياتها سهلة، ولم يكن لامرأة بغير قوتها أن تنجح في قيادة المجتمع الهندي الكبير الذي لا زال في معظمه مجتمعًا رجاليًّا يسود فيه الرجل داخل الأسرة وخارجها، ذلك المجتمع المترامي الأطراف، المليء بالمشاكل والثروات معًا، والذي خرج من قبضة الاستعمار لكنه لا زال يعاني آثاره في الهند الآن حوالي ٣٠٠ مليون شخص يعيشون دون الكفاف، وفي كل مكان نرى هؤلاء البشر الجالسين أو الراقدين على الأرض، أو الذين يعيشون داخل أكواخ من الصفيح أو القش أو الخيش، ملايين من الناس رجالًا ونساءً وأطفالًا اتخذوا من الرصيف بيوتًا، يأكلون وينامون ويستحمون ويموتون فوق الرصيف.

كانت أنديرا غاندي محاطة بالأوراق العديدة فوق مكتبها، عيناها مليئتان بحيوية غريبة، وابتسامة تكاد تكون مرحة، وربما نسيت في بعض اللحظات أنني أمام المرأة التي لقَّبها الغرب بأقوى امرأة في العالم، لكنني سرعان ما كنت أدرك أنها هي أنديرا غاندي بتلك النظرة العميقة في عينيها والانقباضة في عضلات فمها حين تتكلم ويتخذ وجهها الصرامة والجدية اللازمة لأصحاب السلطة.

وبدأت أنديرا غاندي تقول:

صداقة العرب والهند صداقة قديمة، وعلينا أن نقوِّي هذه الصداقة ونجددها دائمًا. وبالرغم من أن بعض زعمائنا — ومنهم المهاتما غاندي — قد عطفوا على اليهود بسبب اعتداء هتلر عليهم، إلا أننا لم نؤمن أبدًا بالطريقة التي خُلِقَت بها إسرائيل. إن مشكلة الشرق الأوسط (نسميها هنا منطقة غرب آسيا) لم تكن إلا مشكلة أوروبية حاولت أوروبا أن تحلَّها على حساب الشعب الفلسطيني، نحن هنا في الهند نساند الشعوب العربية؛ لأنهم ظُلِمُوا وعانوا الاستعمار والاستغلال كما حدث لنا سنين طويلة. لقد عانينا في الهند من أزمة البترول مثل غيرنا من البلاد، لكننا نرى أن مشكلة الشرق الأوسط لا بد أن يُنظر إليها نظرة عادلة شاملة. من حق جميع البلاد النامية أن تفعل ذلك. ونحن في الهند نحب السلام، وهدفنا دائمًا هو الصداقة وإزالة سوء التفاهم والقضاء على الكراهية، رغم كل شيء ساندنا الصين وأيَّدنا انضمامها إلى هيئة الأمم، وكان السوفييت أول مَنْ ساعدنا في إنشاء صناعة ثقيلة في الهند، ونحن نحاول أن نقضي على الفقر في بلادنا، لكن استمرار بقاء مشكلة الفقر لا يعني فشلنا في الهند كمجتمع، ولكنه يعني فشل نظام العالم الحديث في تحقيق العدالة. إن البلاد المتقدمة تحظى بكل خيرات العالم رغم قلة سكانهم. إنهم يستهلكون أكبر كميات من القمح والبروتين والفواكه والبترول وكل شيء، ولا يتركون لشعوب العالم الثالث إلا القليل رغم كثرة السكان، ولا ترجع مشكلة الفقر في بلادنا إلى كثرة السكان كما يقولون في الغرب، ولكنها ترجع إلى خطأ في النظام العالمي. وقد غضبوا مني في الغرب بسبب رأيي هذا، لكننا في الهند نعرف مشاكلنا ونعرف أسبابها الحقيقية، ونحن ندرك أن التصنيع والتنمية الشاملة وخروج النساء إلى العمل أهم العوامل التي تؤدي إلى إنجاح برامج تنظيم الأسرة. وقد تقدَّمت الهند في هذه المجالات وانخفض معدل المواليد عن ذي قبل.

والمرأة الهندية تعمل في كل مكان، وأنا لم أصادف في عملي كرئيسة للوزراء مشكلة واحدة بسبب كوني امرأة، ولكني بالطبع واجهت في حياتي العديد من الصراعات التي استطعت التغلب عليها. إن الإنسان لا يقوى إلا من خلال انتصاره على الآلام والصراعات التي تواجهه في حياته، والنساء في الهند تشارك في جميع المجالات، عندنا ولايتان ترأس الوزراء في كلٍّ منهما امرأة، وفي كل ولاية في الهند تشترك في الحكومة وزيرة امرأة على الأقل، وعندنا عديد من عضوات البرلمان وممثلات الأحزاب المختلفة، عندنا قاضيات في مختلف الولايات، وفي القرى هناك نساء منتخبات في المجالس القروية، ونسبة الجامعيات والمتعلمات والعاملات في كل المجالات أعلى من البلاد المتقدمة، ولنا في الهند تاريخ فلسفي عميق يساوي بين الرجال والنساء، ثم إن زعماءنا السابقين من أمثال ماهاتما غاندي وأبي نهرو وغيرهم كانوا يدعون دائمًا إلى مساواة المرأة والرجل، وخروج المرأة إلى الحياة السياسية والإنتاج. وقد شاركت النساء في الكفاح قبل الاستقلال ودخلن السجون مع الرجال. أثبتت النساء أنهن قادرات على العمل والتضحية؛ ولهذا كان من الطبيعي بعد الاستقلال أن تستمر النساء في عملهن السياسي وفي الإنتاج. كان والدي نهرو متمردًا مؤمنًا بأن المرأة كالرجل؛ لذلك لم أشعر في أي يوم بأي تفرقة أو اضطهاد لأني امرأة، وأخذت كل فرصتي في التعليم والعمل السياسي، لكن أمي حُرِمَت من هذا وكانت آسفة على ذلك دائمًا، لست أوافق على الرأي القائل بأن الأم يجب أن تتفرَّغ لبيتها وأطفالها، المرأة تستطيع أن تكون أمًّا وعاملة في الوقت نفسه. إن رعاية الطفل وإعطاءه الحب لا يعني أن تتواجد المرأة في البيت طول النهار، ما هو مهم في تربية الطفل ليس هو كمية الحب ولكن نوع هذا الحب، هناك نساء متفرغات في البيوت ولا يعطين حبًّا لأطفالهن، وهناك نساء عاملات يعطين الحب الحقيقي لأطفالهن في الفترة القصيرة التي يَعُدْنَ فيها إلى البيت، وهن أيضًا قادرات على منح أطفالهن الاستقلال الذي يساعدهم على النضوج واستقلال التفكير عن الآخرين؛ لذلك أنا لا أوافق على الطريقة المتخلِّفة التي تظهر بها المرأة الهندية في أفلامنا؛ فالمرأة الهندية في الحياة الحقيقية أكثر احترامًا وأكثر إيجابية وكفاحًا وتقدمًا منها في الأفلام الهندية، لكن السينما حرة في الهند والحكومة لا تتدخل في شئونها، نشجع الآن مجموعات من الشباب لعمل أفلام جديدة متقدمة، ولكن الدور الأساسي لتطوير الفيلم الهندي يجب أن تلعبه الجمعيات النسائية والتنظيمات الشعبية. إن واجب هؤلاء هو تنوير الرأي العام وجَعْل المساواة بين الجنسين حقيقة في الحياة اليومية للناس لتنعكس في الأفلام، ويعبِّر الفن الهندي تعبيرًا حقيقيًّا عن حياة الرجال والنساء في الهند. إن جميع القوانين تساوي المرأة بالرجل، ولكن تطبيق ذلك في الحياة والفن يقع على عاتق التنظيمات النسائية والنساء أنفسهن. لقد زُرْتُ في الفترة الأخيرة هذه الجمعيات ووجدت أنها تقوم بنشاط كبير فعلًا، ولكن وجدت ازدواجًا في بعض الأنشطة، وأن كل جمعية منعزلة عن الأخرى وليس هناك تنسيق بين الجمعيات المختلفة. كما أن معظم الأنشطة مركَّزة في المدن والطبقة المتوسطة، ولا تتوغَّل بالقدر الكافي في الريف وبين الطبقات الفقيرة. إن جهودي موجَّهة لتقوية الإنسان الهندي والقضاء على التفرقة بين الطبقات وحماية الإنسان الهندي من أن يتحول إلى ترس في آلة. إن تحويل الإنسان إلى ترس في آلة مشكلة في البلاد الصناعية المتقدمة. لكنها ليست مشكلة الآن في الهند، وأحاول أن أبذل جهودًا وقائية لحماية الإنسان الهندي، خاصةً وأننا نسير بخطوات سريعة نحو التقدم الصناعي. نحن نهيئ الظروف للتلميذ والتلميذة والعامل والعاملة للقراءة خارج المنهج المقرر وخارج العمل وخارج المصنع، بحيث تنمو قدرات الشخص الفكرية ومواهبه الخاصة. بمعنًى آخر: لا يُحْبَس عقل العامل داخل المصنع، ولا يُحْبَس عقل التلميذ أو التلميذة داخل المدرسة، ولا بد من الاطلاع على الثقافات الأخرى. إن الهند ومصر لهما تاريخ عريق ولهما ثقافة متقاربة. ولكنا لا نعرف عن الأدب العربي إلا القليل، وكذلك لا يعرف العرب عن الأدب الهندي إلا القليل، والسبب في ذلك هو مشكلة الترجمة. إن الأدب الهندي مترجَم إلى اللغة الإنجليزية بكميات هائلة، ولكنه لا يترجَم إلى العربية إلا نادرًا، والحال نفسه أيضًا بالنسبة للأدب العربي، فلماذا يحدث ذلك رغم أن الإنجليز قد خرجوا من مصر ومن الهند، ورغم أن اللغة الهندية — وبالذات اللغة الأردية — حتوي ١٠٪ منها على كلمات عربية؟ نحن في حاجة إلى جهود كثيرة في مجال الترجمة. لا بد أن يقرأ الإنسان العربي دون أن تكون اللغة الإنجليزية هي الوسيط بينهما، إني أثق في المستقبل وأعتقد أن صلتنا بالعرب وبمصر سوف تزيد على الدوام.

وانتهى كلام أنديرا غاندي. وخرجت من مكتبها متفائلة قرب الظهر. وفي المساء لبَّيتُ دعوة عشاء مع كاتب هندي عجوز، تربطه بأنديرا غاندي صلة قرابة، لكنه من المعارضين لسياستها. لم يعترف بأي صفة حسنة لأنديرا وقال: كله كلام في كلام، وماذا يمكن أن ننتظر منها؟ والأرملة في تاريخنا شؤم وخراب.

وفرغت صحونه من الطعام، وامتلأ صدري بالتشاؤم، وخرجت لكن وجهه ظل أمامي مليئًا بالتجاعيد، وصوته يذكرني بصوت جدتي.

كنت طفلة في السادسة، وهي تحكي كل ليلة قبل أن أنام حكاية الغولة، تهز رأسها الملفوف بالمنديل الأسود وتردِّد كأنها تغني وعيناها نصف مغمضتين: هائلة مخيفة.

كل أصبع من أصابعها ثلاثة أذرع في عرض ذراعين.

وفي رأس كل أصبع منها ظفران حديديان مثل المنجلين.

وكان موضع جلوسها قريبًا من الأرض.

وهي أول من بغى على وجه الأرض.

وعمل البخور والسحر.

وجاهر بالمعاصي.

ولذا أرسل الله عليها أسودًا كالفيلة.

وذئابًا كالإبل.

ونسورًا كالحمير.

فقتلوها وأراحوا الأرض من شرها …

وأُخْفِي وجهي تحت الغطاء وأنا أسأل جدتي بصوت خافت: هل هي جنية البحر؟

وترد جدتي: لا، إنها امرأة من لحم ودم، مثلي ومثل أمك، ومثلك حين تكبرين وتصبحين امرأة مثلنا.

وأهمس من تحت الغطاء: وما اسمها يا جدتي؟

وتهمس جدتي بصوت كفحيح الثعبان: اسمها عناق أم عوج، إحدى بنات آدم لصلبه، لعنها الله هي وأمها حواء.

أدركت بعد التنقل في أنحاء الهند الشاسعة أن هذا البلد العريق الضخم ينطوي في أحشائه على تاريخ البشرية، منذ بدء ظهور الإنسان البدائي حتى عصرنا هذا في الثلث الأخير من القرن العشرين.

في ساعات قليلة بالطائرة كنت أنتقل فجأة من المجتمع الأبوي الشديد التزمُّت الشديد الاستغلال للمرأة، إلى المجتمع الأموي حيث لا يزال يُنْسَب الأطفال إلى أمهاتهم، وترث البنات الأرض عن الأم، وترتفع مكانة النساء في هذا المجتمع الأموي ارتفاعًا كبيرًا في مختلف نواحي الحياة والعلوم والفنون.

وبعد ساعات قليلة بالطائرة أهبط على أرض تبدو لي كأنها جزء من العصر الحجري القديم وأرى الرجال في البيوت يتزينون بالمساحيق البيضاء والحمراء وفي آذانهم حلق ذهبي أو فضي، وأندهش حين أرى أصابع الرجال ناعمة رقيقة (لأنهم لا يعملون شيئًا سوى الإشراف على المعابد والرقص في الحفلات الدينية). أما أصابع النساء فهي قوية خشنة؛ بسبب مسك الفأس طول النهار في الحقل.

وحينما تهبط بي الطائرة في مطارات البلاد الشهيرة بمعبد من المعابد، أو حينما أصل إليها بالقطار، فإن المطار أو المحطة يكتظ دائمًا بهؤلاء البشر الجالسين أو الراقدين على الأرض، أجساد متلاصقة، الجسد بجوار الجسد. لا تكاد تعرف الذكر من الأنثى، ولا الطفل من العجوز، فكلهم هياكل عظيمة متشابهة تغطيها طبقة سوداء من الجلد الجاف، والوجه ليس إلا جمجمة تلتهب في وسطها عينان سوداوان واسعتان فيهما نداء صامت واحد: نريد أن نأكل.

بعد ساعات من هذا المنظر المفزع تنقلني السيارة في دقائق قليلة إلى شوارع نظيفة، وبيوت أنيقة تشبه فيلات الأثرياء في لندن أو واشنطن أو المعمورة، وأرى الوجوه نضرة ممتلئة باللحم متوردة، وأيضًا كلابهم (أخذ أثرياء الهنود عن الإنجليز هواية تربية الكلاب) أرى كلابهم تجري في الحدائق الفيحاء متوردة الملامح سمينة تأكل اللحم بغير عظم.

وفي مدينة بومباي التي تشبه نيويورك في أجزاء منها ألتقي ببعض رجال العلم من ذوي الشهادات العالية والدكتوراه وأُعْجَب بثقافتهم الواسعة، ولكني أراهم بعد دقائق جاثين في خشوع أمام الإله «جانيش» الذي له جسد إنسان ورأس فيل.

وفي شوارع نيودلهي العاصمة أرى الحدائق الجميلة النظيفة والشوارع الواسعة اللامعة، ولكن هناك أيضًا أسراب البقر تسرح جماعات ووحدانًا في جميع الشوارع، وهؤلاء الذين يُحَرِّمون لحم البقر، وهؤلاء الذين يعبدون النار أو الشمس أو أي كائن حي، وهؤلاء الذين يعلِّقون موتاهم في الشجر لتأكلها النسور المسماة «قالتشرز».

كل شيء وأي شيء يمكن أن تراه في الهند، حتى أحلامي المزعجة وأنا طفلة رأيتها في الهند، حتى أغرب الخزعبلات البعيدة عن أي عقل بشري وجدتها في الهند. هذا كله إلى جوار أحدث المعاهد العلمية وأرقى الصناعات وأعلى نسب في العالم من الحاصلين على أعلى الشهادات، سواء كانوا رجالًا أو نساءً.

من الصعب على العين الغريبة عن الهند أن تلمس قوة المرأة الهندية، كثير من الصحفيين يذهبون إلى أنديرا غاندي رئيسة الوزراء ويسألونها كيف تقود هذا البلد الضخم وهي امرأة، في مجتمع رجالي ينظر إلى المرأة كمخلوق أقل من الرجل؟ هؤلاء الصحفيون لم يروا من المرأة الهندية إلا هؤلاء القلة ممن تعلَّمن في المعاهد والجامعات في أوروبا وأمريكا وأثرت فيهن ثقافة الطبقة المتوسطة في هذه البلاد الغربية.

لكن المتعمق قليلًا في حياة المرأة الهندية يدرك أن النساء الهنديات بصفة عامة يتمتعن بقدر أكبر من الاحترام والمساواة من النساء في بلاد أخرى كثيرة.

وقد تحيرت في أسباب ذلك الارتفاع لمكانة المرأة الهندية وبالذات في جنوب الهند في تلك الولايات، مثل ولاية كيرالا التي كانت بمنأى عن هجمات المستعمرين ولم تغزُها ثقافة الغرب الرأسمالية الأبوية القائمة على استغلال المرأة. إن ولاية «كيرالا» تتميز بارتفاع في نسبة المتعلمين وتطور الصناعة ورقي الثقافة وارتفاع مكانة المرأة وانتشار الأسر الأموية.

وقد وجدت أيضًا أن أحد أسباب ارتفاع مكانة المرأة الهندية سياسيًّا واجتماعيًّا هو أن الديانة الهندوكية في أصلها لا تفرِّق كثيرًا بين الرجل والمرأة، وأن الآلهة في هذه الديانة ليسوا ذكورًا فحسب، ولكن هناك الإلهات الإناث، وكم من هنود يركعون أمام الإلهة «برافاتي» أو الإلهة «لاكشمي» وغيرها الكثيرات.

عشت في الهند بضعة شهور أتجوَّل بين ولاياتها الشاسعة المتباينة، أزور المعابد والمزارع والمصانع والجامعات، وألتقي في كل ولاية بعدد من الأدباء والأديبات وقيادات مختلفة لأحزاب متعددة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ودفعتني هذه الجولات وهذه اللقاءات إلى أن أقرأ عن تاريخ الهند وأديانها، وبعض الروايات الهندية والقصص والشعر. كنت كلما ازددت معرفة بالهند كلما أدركت صعوبة الإلمام بما فيها من تراث متشعب وثقافات متعدة وتيارات وتناقضات لا حد لها، هناك أشياء كثيرة مشتركة بين مصر والهند، وكم من أحيان نسيت فيها أنني في بلد غريب خاصةً في تجولاتي بين الآثار الإسلامية التي تشكِّل أهم وأبرز حضارة في تاريخ الهند (حكم المسلمون الهند ثلاثة قرون ونصفًا من ١٥٠٠–١٨٥٠)، لكن الاستعمار الإنجليزي للهند الذي استمر حوالي القرنين ترك بعض بصماته على الشخصية الهندية أكثر مما تركها على الشخصية المصرية. كثيرًا ما يصادفك ذلك الرجل الهندي الذي يعيش على الطريقة الإنجليزية، فإذا به يضع «البايب» في زاوية فمه، ويتكلم الإنجليزية من أنفه، ويرتدي البالطو الإنجليزي في عز الحر، ويشرب شاي الساعة الخامسة والدنيا ملتهبة كجهنم، وأيضًا هناك كلبه الذي يأخذه كل صباح للتريض.

لكن هناك أيضًا الشخصية الهندية التي وعت فلسفة غاندي ونهرو ناضلت من أجل الاستقلال وعايشت استقلال الهند منذ سبعة وعشرين عامًا. إن متابعة الجرائد اليومية في الهند متعة. يشعر المرء أنه في بلد ديمقراطي رغم المشاكل العديدة التي لا تزال تواجهها حكومة أنديرا غاندي، إلا أن ما حدث في الهند من تقدُّم منذ استقلالها حتى اليوم ينبئ بأن هذا العملاق الآسيوي قد هبَّ من رقاده، وأن قوته الجديدة المتزايدة مع قوة العملاق الآسيوي الآخر «الصين» قد أصبحتا مثار قلق شديد في العالم الأوروبي والأمريكي. هذا العالم الذي أطلق على نفسه «العالم الأول» إيمانًا بسيادته، وأطلق على بلاد آسيا وأفريقيا اسم «العالم الثالث».

لكن التاريخ يتغير على الدوام، وكم من إمبراطوريات عظيمة تهاوت وحلَّت مكانها بلاد أخرى، هل يعيد التاريخ نفسه ويصعد العالم الثالث إلى فوق وتتهاوى إمبراطورية العالم الأول؟ هناك مَنْ يتنبأ بذلك من علماء الغرب، ولعل هذا هو سبب ذلك الذعر الذي أصبح يعم بلاد العالم الأول، وهو السبب أيضًا في أن بلاد العالم الثالث أصبحت تتجمع وتتآزر معًا في مواجهة أطماع العالم الأول.

•••

في ليلة مظلمة بغير قمر وقفت في خشوع أمام الإله «فيشنو» في حوض نهر «جانداك»، صورته ليست صورة إنسان مثل الإله «شيفا»، أو نصف إنسان ونصف فيل كالإله «جانيش»، ولكنه تجسَّد على شكل ثمرة تشبه الموز والرأس كعضو الذكر يشبه الزهرة المتفتحة المتأهبة للإخصاب.

وتقول الأسطورة الهندية: إن الإله «فيشنو» أراد أن يضاجع «تولس» زوجة «كسور السافكي»، وفكَّر طويلًا في الأمر ثم تنكَّر في ملابس زوجها واستطاع أن يحقق أمنيته، لكن «تولس» اكتشفت خدعته بعد فوات الأوان، واستطاعت بقوتها الإلهية أن تصبَّ عليه اللعنة بأن يتحول إلى حجر، وكان الإله «فيشنو» أيضًا قادرًا على أن يردَّ لها اللعنة بأن يتحوَّل شعرها إلى نبات تولس وجسدها يتحوَّل إلى نهر جانداك. وحتى هذا اليوم في الهند فإن أي زهرة في حوض جانداك تنمو على شكل «شاليجرام»، وهو صورة الإله «فيشنو» بعد أن تحوَّل إلى عضو ذكري، ويؤكد الهنود على أن علاقة «فيشنو» و«تولس» تعيش حتى اليوم وإلى ما بعد الموت، وفي شهر أغسطس من كل عام في الليلة المظلمة تمامًا بغير قمر يحتفل الهنود بعبادة نبات تولس وإخصابه بواسطة «الشاليجرام». لقد تحولت اللعنة في الأسطورة إلى بركة، وتسعى النساء والرجال المصابون بالعقم إلى حوض نهر جانداك في تلك الليلة المباركة بغير قمر، من أجل أن تحلَّ بهم بركات «فيشنو» إله الإخصاب.

وقال الفيلسوف الهندي الفقير الجالس على حافة النهر داخل معبد هندوكي صغير طُلِيَ بالجير الأبيض: عندنا في الهند آلهة كثيرة وُلِدُوا بغير آباء، أو من ضلوع الرجال أو رءوسهم. أما الإله «برتيفي» فقد ولد من الفخذ الأيمن لأبيه «فاني»، والأساطير بعد تحريفها، كل الآلهة الذين وُلِدُوا من أجساد الذكور ليسوا إلا أبناء العلاقات الآثمة، لكنها في ذلك الوقت لم تكن آثمة. كانت مقدسة لأن الأم كانت إلهة مباركة، ثم تحولت البركات إلى لعنات، أو على الأصح: أصبحت البركة هي اللعنة، مثل الشمس وظلها يمكن أن يحدثا في اللحظة نفسها والمكان نفسه. وهذا هو سر الحياة، وجود الشيء ونقيضه في وقت واحد وفي جسد واحد.

كانت الدنيا ليلًا، والظلمة شديدة بغير قمر، مياه النهر سوداء، زهور الشاليجرام والتولس تتمايل وتتعانق خلسة دون أن يراها أحد، النهر يمتلئ فجأة بالزهور الوليدة تلمع تحت ضوء النجوم كآلاف من السمك الصغير.

وفي الضوء الخافت رأيت امرأة فارعة الطول تخرج من النهر، لها ذيل سمكة مثل جنية البحر، ملامحها حادة قوية تشبه ملامح الآلهة، وعيناها سوداوان ثاقبتان كعيني حتشبثوت أو الإلهة إيزيس.

ومياه النهر تلوَّنت بالطمي الأحمر الداكن مثل نهر النيل، وعلى سطح الماء رأيتها تمشي بخطوات سريعة كأنها تمشي على الأرض، ومن حين إلى حين تنثني وتلتقط شيئًا تدسه في فتحة ثوبها، ودققت النظر كان الإله فيشنو أو «الشاليجرام» قد تبعثرت أجزاؤه كالأشلاء الصغيرة، وهي تحاول أن تلمَّ الشتات قطعة قطعة تضعها بعناية داخل جلبابها، وتكوَّمت أجزاء الإله كلها تحت الجلباب فوق صدرها وبطنها، وحين رفعت رأسها إلى أعلى وسارت فوق الماء بَدَتْ كالمرأة الحامل. لكنها لم تكن تحمل إلا الإله الذي أخذ اسمًا جديدًا: «أزوويس». وكشف الفيلسوف الهندي عن أسنان بيضاء في وجه شديد السمرة وقال وهو يهز رأسه على طريقة الهنود: نعم، نعم، «الشاليجرام» و«تولس» هما الأب والأم، لكن الأم تحوَّلت إلى لعنة والأب أصبح الإله، والإله عندنا معصوم من الخطأ وإن تنكَّر في ملابس الزوج. أما المرأة فهي مخطئة دائمًا سواء فعلت أم لم تفعل؛ ويرجع ذلك إلى أن الإله خصَّها باللعنة.

وهمست في الليل وأنا لا أزال أحملق في الزهور الآثمة: بدأت الأديان الفكرية بالظلم العظيم.

•••

وأعظم ظلم في تاريخ الهند وقع على مائة ألف امرأة هندية حملن سفاحًا إثر معركة اغتصاب مسلحة. وقد تنكَّر الآلهة في زي الجنود وحملوا أسلحة إنجليزية وملامح هندية واقتحموا المدينة في ليلة مظلمة بغير قمر، والمدينة هندية لكنها بعد التقسيم أصبحت في الباكستان الشرقية، دخل الجنود المسلحون إلى المدينة الجامعية وذبحوا الذكور ثم اغتصبوا الإناث.

والمرأة آثمة (حسب التعاليم المقدسة) سواء فعلت أم لم تفعل، سواء رغبت أم لم ترغب، سواء اغتصبها الرجال بالقوة المسلحة الإنجليزية أو بأي قوة ذات جنسية أجنبية أو متعددة الجنسيات.

لم يكن الآلهة في ذلك الوقت يعرفون شيئًا عن القوى المتعددة الجنسيات. لكنهم كانوا يعرفون شيئًا واحدًا محددًا: إذا حملت المرأة دون أن يُعرف الأب فهي آثمة.

وفي المحكمة ارتدى الإله «فيشنو» زي القاضي الباكستاني وحملق في بطون مائة ألف امرأة حامل بغير أب معلوم، وأصبح بياض عينه أحمر كأنما ينظر إلى الجحيم، وضرب المطرقة الحديدية على رأس المنضدة الخشبية وصاح بذعر: مائة ألف بطن تحمل مائة ألف من أجنة الأعداء؟! لا بد من إعدامها جميعًا!

وثار ضمير العالم البشري: ما ذنب النساء؟ ما ذنب الجنين البريء؟

وتحرَّكت ضمائر الكهنة في المعابد ورجال الأديان في بقاع العالم، ثم تذكَّروا فجأة أن هناك شيئًا اسمه «المغفرة»، والآلهة يغفرون الإثم أحيانًا لمن يشاءون. وهز أحدهم لحيته الطويلة البيضاء وقال: نعم، أحيانًا، فلماذا لا تكون هذه المرة من تلك الأحيان؟ فالأجنة بريئة لا شك ولا يجوز قتلها، والنساء أيضًا قد يكون فيهن البريئة التي قاومت الاغتصاب حتى الموت، وبذلك أنقذها الموت من الحمل سفاحًا بواسطة العدو، وعلينا أن نطلب المغفرة لهؤلاء البريئات اللائي مُتْنَ دفاعًا عن شرفهن. أما هؤلاء اللائي يقفن أمامنا الآن ببطونهن المنتفخة بالإثم فلا مغفرة ولا رحمة بهن، ولا بد من تنفيذ قرار الإعدام عليهن فورًا!

وصاح رجل آخر: ولكنك قلت سيادتك: إن الأجنة بريئة ولا يجوز قتلها، وإذا أُعْدِمَت الأمهات فسوف تُقتل الأجنة في بطونهن أيضًا، وهذا ظلم للأرواح البريئة!

وهرش الرجل شعر لحيته الطويلة وطرقع أصابعه وتمطَّى ثم قال: نعم نعم، لك حق فيما تقول ويمكن تأجيل قرار الإعدام حتى بعد الولادة.

وزمجر رجل من الجالسين فوق المنصة: لا، وهذا أيضًا أمر غير مقبول، بل خطير، سيصبح في بلادنا مائة ألف طفل غير شرعي، ويا ليتهم غير شرعيين فحسب، ولكنهم جميعًا جاءوا من صُلب رجال من الأعداء، وسوف يبحثون إنْ عاجلًا أو آجلًا عن آبائهم ويصبحون بالطبيعة مثل آبائهم أعداءً لنا!

ودبَّ الصمت في قاعة المحكمة، ثم نهض القضاة وساروا يتعثرون في أذيال جلاليبهم ولحاهم الطويلة تهتز فوق صدورهم، اختفوا واجمين في غرفة المداولة، ثم عادوا مستبشرين وقد عثروا على الحل، وصاح كبيرهم وهو يخبط بالمطرقة الحديدية: تؤجَّل الجلسة إلى الأسبوع القادم للدراسة واستشارة الخبير الأمريكي.

حملق الرجال الهنود في ذهول: ما دَخْل الخبير الأمريكي في أمورنا الخاصة شديدة الخصوصية مثل هذا الأمر المتعلق بشرف مائة ألف امرأة من نسائنا؟

إلا أن الصحف بدأت ترد على تساؤلات الرجال، ونشرت مقالات عن الخبرة الأمريكية في عمليات الإجهاض الحديثة، وأن الإجهاض وإن كان محرَّمًا في جميع الأديان إلا أنه جائز في بعض الأحيان.

وصدر القرار الاستثنائي بإجراء عمليات إجهاض جماعية لقتل مائة ألف جنين، وتساءل أحد الرجال من ذوي الضمير الحي: ولماذا نقتل الأجنة البريئة؟! لكن أحدًا لم يرد عليه. وتم تنفيذ القرار في جنح الليل.

إحدى الأمهات رفضت أن تقتل جنينها، حكموا عليها بالإعدام الأخلاقي، وقالوا في أسباب الحكم: لأنها عصت الآلهة وأحبت طفلها الآثم ابن العدو، ولا يمكن للأم أن تحب طفلها وتكره أباه.

وهكذا أُسْدِل الستار على مأساة عام ١٩٧١ في تاريخ الهند إثر قرار التقسيم، ومآسي أخرى راح ضحيتها آلاف الهنود قبل أن يؤدي الاستعمار الإنجليزي طقوس الوداع الأخير لأهم المستعمرات في الإمبراطورية البريطانية المتهاوية شيئًا فشيئًا.

•••

وها هو صوت أمريتا بريتام شاعرة البنجاب والبنغال وبيننا صينية الشاي في بيتها الصغير في نيودلهي: تآمر إنجليزي تحت ستار التوحيد الديني، شطروا وطني وأهلي شطرين: شطر في الهند وآخر في باكستان، وحدثت أكبر هجرة وأكبر مذبحة في التاريخ، فُرض على الهنود المسلمين أن يهاجروا إلى باكستان، وعلى الهنود غير المسلمين أن يهاجروا من باكستان إلى الهند، وفي الطريق ذُبح الآلاف من الفريقين وكل فريق يدافع عن آلهته، لو لم يكن هناك لخلقها الاستعمار الإنجليزي ليمزق الشعب الهندي.

ولاحت لي بيروت والمذابح الطائفية، وتذكرت كلمات «ماريون» صديقتي الأمريكية: عندنا في الجامعات وأجهزة المخابرات أقسام تبحث وسائل استخدام الأديان والأقليات لخلق الفتن الطائفية وتقسيم البلاد على أساس اختلاف الدين والآلهة.

تصاعد الدم في وجه الرجل الإنجليزي العجوز صاحب شركة شاي هندي وصاح مدافعًا عن قدسية الآلهة وهو يرشف الخمر المعتَّق من كأس بلَّوري، وينفث دخان سيجارة الهافاني في وجوه الآخرين، وانتقل من الدفاع عن الإله شيفا وفيشنو إلى اتهام أنديرا غاندي التي عصت الآلهة وظلت تعيش بعد موت زوجها، ويا ليتها تعيش فحسب، ولكنها تحتكر السلطة، وتصادر حرية الشعب الهندي.

وظهرت عليَّ علامات الدهشة، وحملقت في عينيه الزرقاوين الضيقتين كالمأخوذة وتساءلت: يبدو أنك شديد التدين وشديد الحرص على حرية الشعب الهندي!

وحملق بدوره في وجهي ثم قال بصوت الآلهة: نعم، نحن في إنجلترا متدينون ونحترم كل الأديان ونحرص على الديمقراطية لكل الشعوب، وخاصةً الشعب الهندي الذي يربطنا به تاريخ عريق وصداقة قديمة.

وقالت أمريتا بهدوء: نعم، صداقة قديمة وتاريخ عريق مقدس بدماء الشهداء الطاهرة، ورفع صاحب شركة الشاي الهندي صوته الإنجليزي قائلًا: نعم، فنصلي جميعًا على روح الشهداء المجهولين وندعو لهم بالرحمة والغفران ودخول الجنة آمين، ثم قذف في جوفه ببقية «الويسكي».

مدينة العبادة والدعارة

الطائرة تحلِّق في سماء تايلاند، أنوار بانجوك تبدو تحت الجناح الفولاذي الضخم كآلاف الفصوص في عناقيد من اللؤلؤ، صوت المضيفة ينبه إلى ربط الأحزمة وإطفاء السجائر استعدادًا للهبوط، عجلات تلامس الأرض بخفة كأنما تنزلق فوق الماء، موسيقى راقصة تنبعث من سقف الطائرة.

أهز رأسي مع اللحن، رجل عجوز يرمقني بعينين رماديتين من تحت النظارة.

السلم الآلي يقترب ببطء من باب الطائرة، أمد قدمي وأهبط إلى الأرض بخطوات سريعة، مطار بانجوك فسيح حديث، يشبه أي مطار في أوروبا أو أمريكا، سيارة بيضاء عليها لافتة الأمم المتحدة تنتظر زوجي، سائق تايلاندي قصير مربع الجسم عيناه شريطان رفيعان كعيون الصينيين، يفتح لنا باب السيارة بانحناءة ظهر وانكسارة قلب.

هذه الانحناءة رأيتها منتشرة في البلاد الآسيوية، ما إن تقترب من رجل أو امرأة حتى ينثني الظهر بتلك الحركة المنكسرة. هل عانت البلاد الآسيوية من قهر أشد مما عانته البلاد الأخرى في أفريقيا أو أمريكا الجنوبية أو المنطقة العربية؟ حتى في جزيرة زنجبار — مهد العبودية والعبيد — لم أرَ الظهور تنحني بهذا الشكل، بل العكس، رأيت ظهر الرجل الأفريقي الأسود مشدودًا ممدودًا إلى أعلى، ورأسه أيضًا شامخ إلى أعلى وإن كان أنفه أفطس، والمرأة الأفريقية أيضًا رأيتها فارعة القامة مفرودة الظهر، ممدودة الرأس إلى أعلى.

ألمح وجه السائق من الجانب، ملامحه تنفرني من بانجوك قبل أن أراها منكسرة كظهره، وانكسارة الجفون فوق العيون الضيقة الشريطية، عيناه زجاجيتان شاخصتان إلى الأمام، ومن حين إلى حين تختلسان نظرة من خلال المرآة الصغيرة إلينا ونحن جالسون على الأريكة الخلفية.

شفتاه المطبقتان انفرجتا فجأة وقال بالإنجليزي بلهجة أمريكية: بانجوك أصبحت قطعة من أمريكا، وعندنا خبراء أمريكيون في كل مكان.

وأشار بأصبعه خارج نافذة السيارة نحو طائرات ضخمة راقدة على أرض المطار من بعيد: طائرات حربية أمريكية عظيمة!

وهزَّ رأسه بزهو متسائلًا: أنتما من أمريكا؟

وقلت: لا.

وتدلَّت شفته السفلى فوق ذقنه بحركة تنم عن خيبة الظن، لكنه رفعها بسرعة وأطبقها على الشفة العليا ثم تساءل بصوت خرج من فتحتَي أنفه: ومن أين أنتما؟

وردَّ زوجي: نحن من مصر.

وهنا تحول نصف وجهه الأسفل إلى شفتين ممطوطتين وانشغل فجأة بشيء أهم من وجودنا، ثم تساءل دون أن ينظر إلينا من خلال المرآة: هل عندكم أمريكيون كثيرون مثلنا؟

وقلت: لا.

وقال: وماذا عندكم؟

قلت: عندنا مصريون.

وارتفع حاجباه في اندهاش ثم هبطا بسرعة كأنما اكتشف فجأة أن الأمر لا يدعو إلى الاندهاش، وأطبق شفتيه في صمت، لكنه عاد يرمقنا من حين إلى حين في المرآة أمامه وكأنما هبطنا عليه من كوكب آخر أو من فصيلة غريبة من البشر.

أوقف السيارة أمام الفندق، يشبه الهيلتون أو الشيراتون في أي عاصمة في العالم، فندق بلا هوية وبلا شخصية وبلا ملامح كالقرش الممسوح، ووجوه الناس داخله ممسوحة، والغرف والممرات ممسوحة. وقررنا أن نغادر الفندق في الصباح الباكر، وما إن أشرقت الشمس حتى غادرنا الفندق بعد أن أصبحت جيوبنا أيضًا ممسوحة.

على الباب الخارجي للفندق اقترب من زوجي رجل قصير مربع الرأس مشروط العينين يشبه سائق الأمس، همس في أذن زوجي بشيء لم أسمعه، لكني رأيت زوجي يطرده بيده قائلًا: لا، أشكرك.

ولم ينطرد الرجل، ظل يلاحق زوجي.

وسألت: ماذا يقول لك هذا الرجل؟

قال: يقول: إن عنده امرأة جميلة هذه الليلة!

وحين اقترب الرجل مرة أخرى قلت له: وأليس عندك لي رجل جميل الليلة؟

جحظت عيناه الشريطيتان في اندهاش أشبه بالذعر ثم أطلق ساقيه للريح.

•••

«بوذا» معبود الناس هنا يتربع على تمثال من البرونز ومن فوق رأسه ثعبان، والثعبان في البوذية يرمز إلى الحماية والماء (أي الخير).

«الإله شيفا» معبود الهنود لا يؤمن به هنا إلا القليل (٧٪ فقط من السكان)، يتربع هو الآخر على تمثال حجري على شكل عضو الذكر الضخم، تحوطه النساء العقيمات هندوكيات وبوذيات؛ فالمرأة البوذية العقيم تؤمن بأي إله قادر على إخصابها، ولا يهمها أن يكون «بوذا» أو «شيفا» أو حتى الإله الطفل «جانيش» ذو رأس الفيل.

ويهز الكاهن البوذي رأسه قائلًا: نعم، الرأس لا يهم في عملية الإخصاب.

وجوه النساء العاقرات شاحبة رمادية بلون القماش الدمور، العيون مسحوبة إلى أعلى نحو الإله، والأيادي المشققة مرفوعة مفتوحة تلهب بكلمات لا أفهمها.

وحملق الكاهن في وجهي بعينين ضيقتين وقال: أي إله؟ ليس عندنا إله كالهندوكيين. «بوذا» ليس إلهًا، إنه إنسان مقدس ووصاياه مقدسة لكنه لم يقل عن نفسه أنه إله.

•••

اليوم الأحد، يوم السوق في بانجوك، الدكاكين الصغيرة كآلاف العلب المربعة على جانبي الطريق، آلاف السياح الأجانب يتزاحمون على شراء الحرير التايلاندي، أجود حرير وأرخص حرير، الأيدي العاملة في مصانع الحرير لا تزال رخيصة، آلاف الفتيات الفقيرات يقفن أمام الآلات ست عشرة ساعة في اليوم (من ٦ صباحًا إلى ١٠ مساءً) وأجر الفتاة في اليوم دولاران ونصف، وفي الشهر خمسة وسبعون دولارًا، وفي السنة تسعمائة دولار.

ما تحصل عليه فتاة المصنع يساوي ما تحصل عليه فتاة الليل في الأسبوع أو نصف الأسبوع وأحيانًا في الليلة الواحدة.

لكن فتاة الليل هنا لا تسمى فتاة ليل، وبيوت البغاء هنا لا تسمى بيوت بغاء.

يسمونها بيوت «التدليك»، وهي بيوت محترمة لا تقل احترامًا عن معاهد العلاج الطبيعي وعيادات الأطباء، بل إنها أكثر أهمية من كل هذه المعاهد أو العيادات، وأكثر منها عددًا.

ولا شيء في بانجوك يساوي بيوت الدعارة في الأهمية والعدد إلا بيوت العبادة، وإلى جوار كل معبد لا بد وأن تقرأ تلك اللافتة المكتوبة بالخط العريض: بيت التدليك.

وتتنافس بيوت التدليك على جذب السياح الأجانب إليها، وتشجِّعها الدولة؛ فهي تسعى إلى إنعاش الثروة القومية بالعملات الصعبة، وهذا واجب وطني. وهز الخبير الاقتصادي رأسه: نعم، الفضيلة أيضًا تعيش هناك.

لكن المشكلة (كما قال لي أحد خبراء التدليك) أن بيوت التدليك يزداد عددها بمعدل أكبر من زيادة عدد السياح الأجانب، حتى أصبح عددها أكثر من عدد السياح، وزادت حدة التنافس بينها على نحو عجيب؛ إذ يستأجر كل بيت من هذه البيوت عددًا من الرجال يطلق عليهم اسم «المرشدين السياحيين»، ومهمتهم بالتحديد هي: اصطياد الرجال السياح في الفنادق أو خطفهم من الشوارع!

كنت أراهم واقفين أمام أبواب الفنادق، وعند نواصي الشوارع، عيونهم الشريطية تتحرك بسرعة في كل اتجاه، وما إن يظهر سائح أجنبي حتى ينقضُّوا عليه: عندي لك امرأة جميلة الليلة، أسعارنا أرخص الأسعار، الخدمة تشمل كل شيء، تدليك عضلات البطن والفخذين والساقين وما بين الساقين وطرقعة مفاصل الأصابع.

الرغبة في المعرفة أو الرغبة في الاستطلاع سيطرت عليَّ، أريد أن أرى بيتًا من هذه البيوت من الداخل، لكن المرأة ممنوعة من الدخول إلا إذا كانت عاملة داخل البيت، دورها هو تقديم الخدمة أو الإنتاج فحسب، أما الاستهلاك فهو حق الرجل وحده.

وارتديت زي رجل ودخلت، إصرار على المعرفة وهتك ستار المجهول.

الظهور تنحني أمامي في خشوع، والعيون الشريطية ترمقني باحترام بالغ، لأول مرة أدرك معنى أن يكون الإنسان رجلًا. إن أي حركة يمكن أن تتحوَّل إلى شرف عظيم وإن كانت حركة الساقين في الطريق إلى وكر دعارة.

ورفعت رأسي في زهو وتصوَّرت أنني رجل.

ثم وجدتني أقف بين صفوف الرجال ذوي الوجوه البيضاء المشربة بالحمرة، أكتافنا العريضة متلاصقة، أقدامنا متلامسة، عيوننا شاخصة إلى الأمام.

صفوف من الفتيات الجالسات أمامنا خلف لوح من الزجاج كأنما الحيوانات الصغيرة الحبيسة داخل قفص من الزجاج كالسلع المعروضة وراء نوافذ المحلات، نراهم دون أن يروننا، السيقان عارية بيضاء والنهود نافرة يعلوها رقم كأرقام المساجين داخل القفص، عيون الرجال تتسع بالحملقة، تثبت فوق النهد أو الساق أو الفخذ ثم تجري كقطع الزجاج فوق البشرة الناعمة البيضاء بلون الطباشير، كوجوه العرائس من الجبس الأبيض، وعلى كل خد دائرة حمراء كاللطعة، يرتفع الجفن لحظة وتطل النظرة خلسة، نظرة مملوءة بالفراغ يشبه الحزن، أو بالحزن يشبه الفراغ، ثم تختفي النظرة بسرعة، ينكسر الجفن وتتكسَّر العين وتُطرق الرأس حتى تلامس الذقن طرف النهد، وتنغلق العينان تمامًا بما يشبه النوم أو الملل أو الإرهاق.

أجسامهن نحيلة صغيرة كأجسام الأطفال، وأحجام الرجال كبيرة ضخمة كالخراتيت أو الديناصورات، وعيونهم مفتوحة محملقة أو مبحلقة، مملوءة باليقظة والانتباه والدقة، تفحص الرأس والأنف والشفتين، ثم تهبط إلى العنق والنهدين، ثم البطن والفخذين، ثم الساقين والقدمين.

أقدامهن صغيرة دقيقة كأقدام العصافير، هل وضعوا القدم منذ الطفولة في الحذاء الحديدي مثل أهل الصين؟

رأيت رجلًا طويلًا يرفع يده فجأة ويشير بأصبعه إلى الرقم المثبت فوق صدر الفتيات، الرقم كان مثبتًا إلى جوار السعر أيضًا، انتفضت كالفراشة يلمسها الضوء وسارت على أطراف أصابعها نحو ممر طويل في نهايته باب مغلق، فتحت الباب ودخلت ودخل وراءها، ثم أغلق الباب.

وقفت حائرة مترددة، هل أرفع يدي وأشير أم لا أرفع يدي، وربما تحركت يدي (بسبب التردد) بإشارة لفتت الأنظار، فاقترب مني أحد الرجال منحنيًا وفي عينيه نظرة احترام بالغة: أي خدمة؟ هل تريد شيئًا يا سيدي؟

وقلت: لا، شكرًا.

ونسيت أن صوتي لم يكن صوت رجل، وجحظت عينا الرجل بدهشة، وتسربت منهما بسرعة نظرة الاحترام، وأخذني إلى مدير إدارة البيت.

جسمه النحيل الصغير يطل من خلف مكتب ضخم، عيناه مثل أهل تايلاند شريطان رفيعان مسحوبان إلى أعلى.

ورمقني بدهشة وقال: ربما أخطأتِ الطريق ودخلتِ إلى هنا بسبب الخطأ ليس إلا؟ وقلتُ: لا، جئت لإشباع رغبة الاستطلاع.

وصعد الدم إلى وجهه وخبط بقبضة يده على مكتبه غاضبًا: إشباع رغبة الاستطلاع؟! ألا تعرفين أن رغبة الاستطلاع لا تساور شخصًا محترمًا؟ وهذا المكان محترم (وخبط بيده على المكتب) نعم محترم وليس فيه مكان لإشباع الرغبات غير المحترمة.

وقلت: ربما تكون الرغبة الجنسية عند الرجل أكثر احترامًا من رغبة الاستطلاع عند المرأة، لكن الإله «شيفا» خلق الرغبات جميعًا ومنها رغبة الاستطلاع!

وصاح الرجل: أنا لا أومن بالإله «شيفا».

وتساءلت: وبأي إله تؤمن؟ بوذا أيضًا احترم رغبة الاستطلاع، بل إنه لم يفرق بين رغبة الاستطلاع ورغبة المعرفة.

وردَّ الرجل بغضب: أنا لست بوذيًّا! أنا يهودي وأومن بالتوراة.

حملقت في عينيه الضيقتين بدهشة. كنت أظن أن الديانة هنا إما بوذية أو هندوكية فقط، وقال الرجل: من حقي أن أطلب البوليس.

وابتسمت بسخرية: بالطبع، هذا حقك؛ فقد ضبطتني متلبسة بجريمة الرغبة الآثمة، «الرغبة في المعرفة». وقد لعن الرب في التوراة حواء؛ لأنها أكلت من شجرة المعرفة.

وتظاهر بأنه لم يسمع ما قلت وفكر لحظة. رأيت «النني» الصغير في عينيه الشريطية الضيقة يدور حول نفسه عدة دورات كعين زجاجية في آلة إلكترونية حاسبة، ثم توقَّف «النني» عن الدوران ورأيته ينظر في ساعته ثم يسجل على ورقة بضعة أرقام جمعها ثم كتب الرقم الكلي: سبعة عشر ونصف، وقال: يمكن أن تدفعي غرامة قدرها سبعة عشر دولارًا ونصفًا ونطلق سراحك.

وقلت بغضب: هذا ابتزاز!

وقال بهدوء عجيب: هذا حقنا. لقد دخلتِ هنا لتحصلي على المعرفة. وهذه السبعة عشر ونصف دولار مقابل المعرفة التي حصلتِ عليها، أنا لم أفتح هذا البيت ليدخل إليه الناس ويحصلون على ما يريدون بالمجان، لا شيء بالمجان في هذا البيت. ثم إن وقتي أيضًا له ثمن، وقد أخذتِ من وقتي حتى الآن تسع دقائق ونصف.

فكرت لحظة، منطق هذا الرجل اليهودي سليم بلغة السوق والتجارة، وهو رجل سوق، يبيع للرجال المحرومين الإشباع الجنسي بالدقيقة حسب اللوحة المعلقة أمامي، تشبه اللوحة التي تُعَلَّق في عيادات الأطباء ومعاهد العلاج الطبيعي والتدليك، وإذا كان ثمن إشباع الرغبة في طرقعة أصابع القدم دولارًا ونصفًا في الدقيقة فما بال إشباع الرغبة في المعرفة؟ وإذا كان يريد مني سبعة عشر دولارًا ونصفًا نظير تسع دقائق ونصف، فإنه قد حسب الدقيقة بحوالي دولار ونصف، أي بثمن طرقعة أصابع القدم.

وقلت لنفسي: على أي حال، من صالحي الآن أن يكون ثمن «المعرفة» بخسًا.

وكنت على وشك أن أدفع المبلغ بشعور المنتصر لولا أنني تذكرت أن هذا البيت يدار للبغاء تحت اسم التدليك، وأن هذا الرجل يشغل الفتيات الفقيرات ليربح أموالًا من ورائهم، ووجدتني أقول بغضب: لن أدفع مليمًا واحدًا، وأنا التي سآخذك الآن إلى البوليس؛ فهذا بيت للدعارة وليس للتدليك!

لم يكن القانون في بانجوك يضع حدًّا فاصلًا بين تدليك بطن الرجل وإشباع رغبته الجنسية. إلا أن الرجل بدأ يتراجع، وقال: نحن لا نفعل شيئًا ضد القانون، وبدأ صوته ينخفض وظهره ينثني، وبانحناءة مؤدبة ودَّعني حتى الباب.

•••

وكان دخول المعبد أسهل بالنسبة لي من دخول بيت التدليك، والكهنة لا يمنعون أحدًا من الدخول بشرط أن يدفع شيئًا للآلهة، طعام أو ملابس أو نقود؛ فالآلهة هنا شأنها شأن البشر تحتاج إلى نقود وطعام وملابس، صحيح أن كل هذه الأشياء تذهب في النهاية إلى الكهنة في المعبد، لكن الكهنة هم المندوبون عن الآلهة، وليس هناك حد فاصل بين أملاك الكاهن وأملاك الإله.

رأيت أمام المعبد كاهنًا بوذيًّا حليق الرأس، يرتدي ثوبًا طويلًا أصفر، ويرش الماء على الأرض، ثم يمد يده للناس قائلًا: تبرعوا للآلهة.

يده وهي ممدودة تشبه يد الشحاذين، وفي صباح باكر يخرج هؤلاء الكهنة البوذيون بأروابهم الصفراء ورءوسهم الحليقة وأيديهم الممدودة يشحذون طعامهم من الناس.

لا بد وأن تقابل كاهنًا منهم إذا سرت في أي شارع، يغيب الكاهن عن المعبد ثلاثة أيام أو أكثر في رحلة للشحاذة، ثم يعود إلى المعبد ومعه خزين يكفيه أسبوعًا أو شهرًا، فإذا ما نفد الخزين يخرج مرة أخرى في رحلة جديدة لجلب الطعام.

ناولني الكاهن ثمرة فاكهة يسمونها «دوريان»، وهي فاكهة تايلاند الشعبية، قضمت عليها بأسناني، طعمها لذيذ كالتفاح، لكن رائحتها منفرة، وضعت المنديل على أنفي وأنا آكلها.

وقال الكاهن: دعي الرائحة تدخل إلى صدرك؛ إنها مفيدة للصحة.

وقلت: أنت كاهن تفهم في الدين، أما «الصحة» فهذا اختصاصي لأني طبيبة.

وردَّ الكاهن: وأنا أيضًا طبيب.

واكتشفت أن هناك مدرسة طبية داخل المعبد، يتدرب فيها الكهنة على العلاج بالإبر الصينية وبعض العلاجات الأخرى الشعبية، ويسمونهم الأطباء الحفاة.

في ركن المعبد رأيت فجوة في الأرض على شكل حوض لحفظ الماء المقدس، ماء غسل قدم بوذا، وقدمه أيضًا مطبوع على قطعة حجر، بعض النسوة يُقبِّلن الحجر، والكاهن يرش عليهن الماء المقدس وهو يتمتم: لتطهرن من الإثم!

حاول الكاهن أن يطهرني أيضًا من الإثم، ويرش عليَّ الماء المقدس لكني رفضت؛ خشيت أن أُصاب بأحد الأمراض الجلدية، وقلت للكاهن: لم أدخل إلى المعبد لأجل التطهير.

وسألني بغضب: من أجل ماذا دخلت؟

وقلت: مجرد الاستطلاع.

وصاح بغضب: هذا بيت عبادة محترم وليس فيه مكان للرغبات الآثمة.

وقلت بهدوء: «بوذا» لم يحرم الاستطلاع أو الرغبة في المعرفة.

وقال: إذن ادفعي لبوذا شيئًا؛ لأنه أباح لنا المعرفة.

وأخرجت من جيبي بعض النقود وخرجت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤