الفصل العاشر

نهاية البداية

قياسًا إلى العالم، تمثل جزيرة مانهاتن بطولها البالغ اثنين وعشرين ميلًا وعرضها الأقل من خمسة أميال، نقطة صغيرة؛ جوهرة واقعة على مصب نهر هادسون بشمال المحيط الأطلنطي. وعند إلقاء نظرة عليها عن قرب، نجدها أشبه بملعب ضخم هائل؛ إنها موطن لمليون ونصف المليون نسمة، وهي وجهة للملايين يوميًّا، وقد ظلت على مدار قرن من الزمان نموذجًا للمدينة الحضرية التي لا تنام.

لكن من منظور علمي، تعد مانهاتن أشبه بالأحجية. يستهلك ملايين البشر يوميًّا، وما يؤدونه من أنشطة خاصة وتجارية، قدرًا هائلًا من الموارد؛ كالغذاء والماء والكهرباء والغاز، ومجموعة متنوعة هائلة من المواد، بدءًا من الأغلفة البلاستيكية، ومرورًا بالعوارض الفولاذية، ووصولًا للأزياء الإيطالية، هذا فضلًا عما يصرِّفونه من كميات ضخمة من المخلفات على صورة قمامة ومواد قابلة لإعادة التدوير وصرف صحي ومياه صرف؛ فيصدِّرون بشكل جماعي قدرًا هائلًا من الطاقة الحرارية الخام، وينشئون بذلك مناخهم الصغير الخاص بهم، لكن ما من شيء تقريبًا تحتاجه المدينة للبقاء يُنتَج أو يُخزَّن بالفعل داخل ضواحيها، هذا فضلًا عن عجزها عن تلبية أيٍّ من حاجاتها للتخلص من مخلفاتها. تُنقَل مياه شرب مانهاتن مباشرةً عبر الأنابيب من جبال كاتسكيل التي تبعد عن المدينة ساعتين بالسيارة في اتجاه الشمال، أما الكهرباء، فتُولَّد بعيدًا في الغرب الأوسط، في حين يصل الغذاء في شاحنات من جميع أنحاء الولايات المتحدة وسفن من أنحاء العالم كافة. في الوقت نفسه يستمر نقل قمامة هذه المدينة في قوارب ضخمة إلى مقلب فريش كيلز بجزيرة ستاتن آيلاند القريبة، الذي يُعَد أحد بناءين من صنع البشر يمكن رؤيتهما من الفضاء (الآخر هو سور الصين العظيم).

بناءً على ما سبق، يمكن النظر إلى مانهاتن كرابطة من التدفقات؛ أي نقطة التقاء دائمة الدوران للبشر والموارد والأموال والطاقة، وما إن تتوقف هذه التدفقات عن الحركة — حتى ولو مؤقتًا — حتى تبدأ المدينة في الانهيار جوعًا أو غرقًا في فضلاتها؛ فالسعة التخزينية لمتاجر البقالة فيها لا تكفي إلا لأيام قليلة فحسب، وتقل عن ذلك لدى المطاعم، وإذا لم تُجمَع القمامة مرة واحدة على الأقل، تبدأ في التكدس بالشوارع. بعد انقطاع الكهرباء الكارثي في عام ١٩٧٧، لا يمكن تصور ما قد يحدث حاليًّا إذا انقطعت الكهرباء لأكثر من بضع ساعات. يشتهر أهالي نيويورك بثقتهم المشوبة بالتهور، فيظهرون شيئًا من القدرة، حتى في أكثر الظروف مشقةً، لكنهم في الواقع أسرى للأنظمة نفسها التي تجعل الحياة في المدينة شديدة الملاءمة. إن اعتمادهم يزداد كل يوم على الأداء القوي للبنية التحتية المعقدة الضخمة التي لولاها لصارت تفاصيل حياتهم العادية — الطعام والشراب والتنقل — مضنية على نحو لا يُحتمَل.

ما الذي يمكن أن يحدث إذا توقفت هذه البنية التحتية، أو جزء منها، عن العمل؟ هل يمكن أن يحدث ذلك؟ ومن يمكنه ضمان عدم حدوثه؟ بعبارة أخرى، من المسئول؟ يفتقر هذا السؤال، شأنه شأن الكثير من الأسئلة المتعلقة بالنظم المعقدة، لإجابة محددة، لكن أقصر الإجابات الممكنة هي: «لا أحد!» في الواقع، ما من شيء يسمى بنية تحتية واحدة ليكون هناك مسئول عنها، لكن القائم هو مزيج معقد من البنى الحاكمة والأنظمة والمؤسسات والشبكات المتداخلة، يجمع بين الجوانب المجتمعية والسياسية والاقتصادية العامة والخاصة. إن نقل الأفراد وحده من مانهاتن وإليها وحولها مقسم على ما لا يقل عن أربع جهات لخدمات السكك الحديدية، وجهاز مترو الأنفاق، والعشرات من شركات الحافلات، وعدة آلاف من سيارات الأجرة، في الوقت نفسه تُمكِّن العديد من الجسور والأنفاق التي تديرها هيئة الموانئ، إلى جانب آلاف الأميال من الطرق والطرق السريعة، ملايين المركبات الخاصة — بالمعنى الحرفي للكلمة — من الدخول إلى الجزيرة ومغادرتها يوميًّا، هذا ويتسم كلٌّ من الغذاء والبريد بدرجة أعلى من اللامركزية، فيتضمن هذان المجالان المئات من خدمات التوصيل التي تدفع جميعها بالآلاف من الشاحنات والعربات، بل الدراجات أيضًا، في جميع أنحاء شوارع مانهاتن على مدار اليوم طوال أيام الأسبوع.

ما من كيان واحد يتولى تنسيق هذا النظام المعقد والمذهل على نحو لا يصدق، وما من أحد يفهمه، لكن يوميًّا عندما تتوقف عند المتجر المجاور لك في الثانية صباحًا لشراء المثلجات بالنكهة المفضلة لديك، يكون هذا النظام موجودًا، ويكدس أحدهم دائمًا الأرفف البراقة بمنتج ما وصل حديثًا. هذا النظام حقيقة من حقائق الحياة التي يعتبرها سكان مانهاتن أمرًا مسلَّمًا به، لكن نجاحه في المقام الأول يعد معجزة حقًّا. لكن حري بالفكرة التالية أن تثير اهتمام سكان مانهاتن بين الحين والآخر، حتى لو لم يحدث هذا إلى الآن: فلو أن ثمة شيئًا واحدًا تعلمناه من الفصول السابقة، فهو أن الأنظمة المتصلة اتصالًا معقدًا لا تُظهر القوة الهائلة في وجه المحن وحسب، بل تُظهر ضعفًا صادمًا أيضًا، وعندما يكون النظام معقدًا كمدينة مزدحمة بالمباني والبشر، وحيويًّا لحياة ملايين البشر، ومحوريًّا لاقتصاد إحدى القوى العالمية الكبرى، يكون التفكير في نقاط تعطله المحتملة أكثر من مجرد تأمل لا جدوى منه. وبناء عليه، ما مدى قوة مانهاتن؟

(١) الحادي عشر من سبتمبر

بدأت الإجابة عن هذا السؤال تتكشف لنا يوم الثلاثاء، الحادي عشر من سبتمبر عام ٢٠٠١. أُشبِعت أحداث ذلك اليوم المشئوم، وآثارها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، تحليلًا بالفعل، لكن ثمة سببًا يدعونا للعودة إلى هذه المأساة في سياق هذه القصة؛ إذ إنها تفسر الكثير من التناقضات التي واجهتنا: كيف يمكن أن تكون الأنظمة المتصلة قوية وضعيفة في الوقت نفسه؟ كيف يمكن للأحداث البعيدة ظاهريًّا أن تكون أقرب مما نظن؟ كيف يمكن أن ننعزل، في الوقت ذاته، عما يحدث بالجوار؟ وكيف يمكن للروتين العادي أن يؤهلنا لما هو استثنائي؟ كشفت هجمات الحادي عشر من سبتمبر، بطريقة لا تفعلها سوى الكوارث الحقيقية وحدها، عن الروابط الخفية الكامنة في بنية الحياة المعاصرة المعقدة، ومن هذا المنظور، ما زالت هناك بعض الدروس التي ينبغي علينا تعلمها.

من منظور البنية التحتية المحض، كان يمكن لتلك الهجمات أن تكون أسوأ بالفعل، فعلى عكس الانفجارات النووية أو تفشي أحد عوامل العدوى البيولوجية في الهواء، كان الهجوم متمركزًا نسبيًّا في موقعه، بل معزولًا أيضًا عن باقي المدينة. على سبيل المثال، عدد خطوط المواصلات، التي تمر بما كان يُعرف بمركز التجارة العالمي آنذاك، كانت أقل بكثير منها في ميدان تايمز سكوير أو محطة قطارات جراند سنترال مثلًا، ومع ذلك، فقد كان انهيار البرجين كارثة مروعة، طُمِرَت الشوارع من جرائها ودُمِّر مترو الأنفاق، وأُبيد أحد مراكز الاتصالات الرئيسية بالمدينة؛ مبنى فيرايزون في ١٤٠ بالشارع الغربي، وتطلب الكثير من هذه الأضرار سنوات لإصلاحها، مع تكلفة تُقدَّر بالمليارات.

لكن في يوم الثلاثاء ذاك تسبب الضرر المادي في نتيجة مماثلة في الأهمية تمثلت في التعجيل بوقوع أزمة «مؤسسية» خطيرة؛ فقد دُمرت غرفة متابعة الحالات الطارئة الخاصة بعمدة المدينة مع انهيار المبنى رقم ٧ من مركز التجارة العالمي بعد انهيار البرجين بفترة وجيزة، وبحلول العاشرة صباحًا، فقد مركز التحكم الخاص بقوات الشرطة جميع خطوط الهاتف، بالإضافة إلى خدمات الهواتف المحمولة والبريد الإلكتروني وأجهزة الاستدعاء، ولما كانت المدينة تواجه كارثة غير مسبوقة وغير متوقعة على الإطلاق، مع عدم توافر أي معلومات تقريبًا يمكن الاعتماد عليها، وفي ظل تزايد التهديدات بوقوع هجمات تالية، تعيَّن على المدينة التنسيق بين عمليتين كبيرتين في آن واحد؛ الإنقاذ والأمن، وفي أقل من ساعة على بدء حالة الطوارئ، أصابت الفوضى البنية التحتية نفسها التي صُممَت خاصة للتعامل مع الحالات الطارئة.

لكن بطريقة ما، تمكنت المدينة من اجتياز الأزمة؛ ففيما يُعَد استجابة منظمة على نحو يستحيل تصديقه في ضوء الظروف القائمة آنذاك، حوَّل كلٌّ من مكتب العمدة، وإدارتي الشرطة وإطفاء الحرائق، وهيئة الموانئ، والهيئات المتعددة المختصة بالتعامل مع الطوارئ، سواء الفيدرالية أو التابعة للولاية، وعشرات المستشفيات ومئات الشركات وآلاف المتطوعين وعمال البناء، جنوب مانهاتن من منطقة حرب إلى موقع للتعافي في أقل من أربع وعشرين ساعة، وفي تلك الأثناء استمر كل شيء في باقي أنحاء المدينة في العمل على نحو طبيعي تمامًا؛ الأمر الذي بدا غريبًا للغاية. لم تنقطع الكهرباء، ولم تتوقف القطارات عن العمل، وظل بالإمكان تناول غداء لطيف في أحد مطاعم شارع برودواي بالقرب من جامعة كولومبيا، ونظرًا للإجراءات الأمنية التي حتَّمت ملازمة المنازل أو المكاتب في الجزيرة ذلك اليوم، عاد تقريبًا جميع من كانوا خارج المنطقة المنكوبة إلى منازلهم تلك الليلة، وعاد سير العمل في توصيل المؤن وجمع القمامة إلى حالته الطبيعية تقريبًا في اليوم التالي. ظلت الشرطة تجوب المدينة، واستمرت إدارة إطفاء الحرائق في الاستجابة لكل إنذار حريق، مع أنها فقدت في ساعة واحدة أكثر من ضِعف عدد الرجال الذي يمكن فقدانه في جميع أرجاء البلاد في عام كامل. وفي تلك الليلة شاهد الأصدقاء خطاب الرئيس الذي بثه التليفزيون في الحانات التي احتشد فيها الناس كعادتهم، وفي اليوم التالي عاد أغلب سكان المدينة في الواقع إلى العمل. استمرت أنشطة الحياة اليومية إلى حد أصاب سكان نيويورك، في الحقيقة، بالشعور بالذنب لعدم تأثرهم بالحادث بما فيه الكفاية.

بحلول يوم الجمعة، كانت الحواجز المطوِّقة للطرف الجنوبي من الجزيرة قد تراجعت جنوبًا من شارع ١٤ إلى شارع كانال، وفي يوم الاثنين الموافق ١٧ سبتمبر، كان أغلب منطقة وسط المدينة جاهزًا لعودة العمل به، بل إن البورصة ذاتها فتحت أبوابها من جديد، على الرغم من تكبُّد عالم المال معظم الخسائر في كلٍّ من الموظفين والمواد. كافحت شركات التداول للعمل، من المنازل والمكاتب المشتركة والأدوار المكتبية المؤجرة بجميع أنحاء مانهاتن وبروكلين ونيوجيرسي وكونيتيكت في استماتة لإعادة هيكلة عملها، وإنقاذ البيانات من خوادم النسخ الاحتياطي وإصلاح نظم الاتصالات مؤقتًا، وذلك في مسعاها ليس فقط للتعايش مع مأساة فقدان الزملاء، بل تعويضها أيضًا.

كان لدى مؤسسة مورجان ستانلي وحدها ثلاثة آلاف وخمسمائة فرد يعملون في البرج الجنوبي، وما يصعب تصديقه هو أنه ما من أحد منهم لقي حتفه، لكن ذلك لم يقلل من حجم مشكلة إعادة توزيع آلاف الأفراد في غضون أيام؛ لأنه لم يكن من الواضح بعدُ في تلك الأثناء كم منهم لا يزال على قيد الحياة! واجهت الكثير من الشركات الأخرى، الكبيرة منها والصغيرة، مهمة مخيفة مماثلة؛ فعلى سبيل المثال، لم تفقد شركة ميريل لينش، التي يقع مقرها قبالة مركز التجارة العالمي، مكاتبها، لكن تعيَّن عليها إعادة توزيع آلاف العاملين لأكثر من ستة أشهر إلى أن تمكنوا من دخول المبنى مرة أخرى. وإجمالًا، تعيَّن على أكثر من مائة ألف شخص أن يذهبوا لأماكن مختلفة للقيام بأعمالهم في يوم الاثنين من ذاك الأسبوع. إن توزيع هذا العدد الهائل من الأفراد ما كان ليتحقق في فترة تقل عن أسبوع، حتى في الجيش نفسه المُعد خاصة لمثل هذه المواقف. لكن بطريقة ما، في التاسعة والنصف صبيحة يوم الاثنين؛ أي بعد ستة أيام فحسب مما بدا حينها نهاية العالم، دق جرس بدء التداول ببورصة نيويورك من جديد.

كما حدث في أزمة تويوتا-آيسين، تمتعت كل الشركات والهيئات الحكومية المشتركة في جهود التعافي بدوافع قوية — اقتصادية واجتماعية وسياسية — لفعل ما فعلتْهُ، لكن حسبما أشرنا في الفصل التاسع، ليست الدوافع — بما في ذلك أقواها — كافية لإحداث رد فعل فعال على المدى القصير، فلا بد أن تتوافر القدرة، وكما حدث مع مجموعة تويوتا، ما كان من الممكن تصميم القدرة على التعافي من الكارثة بوعي، بل في الواقع، لم يحقِّق الجزء المصمَّم من قبل — غرفة متابعة الحالات الطارئة الخاصة بعمدة المدينة — النجاح، أو على الأقل فشل في العمل كما كان مفترضًا. أيضًا لم يتوافر الوقت الكافي، في خضم الأزمة نفسها، لجميع الأطراف المعنية ليدركوا كل شيء كانوا بحاجة إلى معرفته، ومن ثم، أيًّا كان ما تمتع به النظام ومكَّنه من التعافي بهذا القدر من السرعة، فلا بد أنه كان موجودًا مسبقًا بالفعل، وتطور في الأساس لأغراض أخرى.

بعد أشهر قلائل من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، سمعتُ قصة مذهلة من سيدة تعمل بشركة كانتور فيتزجيرالد، وهي شركة لتداول الديون فقدتْ ما يزيد عن سبعمائة من موظفيها الذين لا يتعدون الألف موظف جراء انهيار البرج الشمالي، وبالرغم من الصدمة العميقة التي عاناها من تبقى من الموظفين (أو ربما بسببها)، قرروا في اليوم التالي أنهم سيسعون لدعم بقاء الشركة، القرار الذي بدا غير قابل للتصديق على الإطلاق نظرًا للعقبات العملية المثبطة للهِمم التي لزم عليهم تجاوزها. أولًا: لم يقع مقر أسواق الدخول الثابتة، على عكس أسواق الأسهم، في البورصة، ومن ثم لم يتم تعليق العمل بها؛ لذا إذا أرادت شركة كانتور فيتزجيرالد النجاة، فعليها العمل في غضون الساعات الثماني والأربعين التالية. ثانيًا: مع أن خطة التعامل مع الطوارئ المصممة بعناية لديها اقتضت توفير نسخ احتياطية بعيدة من كل نظم البيانات والكمبيوتر، ثمة حالة طارئة واحدة لم تتوقعها، وهي أن كل من كانوا يعرفون كلمات المرور قد فُقدوا في الأحداث! وفي الواقع، إذا لم يكن أحد على علم بكلمات المرور، فما من قيمة للبيانات، على الأقل إذا استحال الوصول إليها ليومين كاملين.

لذا ما فعلوه هو أنهم جلسوا كمجموعة، وأخذوا يتذكرون كل ما يعرفونه عن زملائهم، وكل ما فعلوه، وكل مكان ذهبوا إليه، وكل ما حدث من قبل بينهم، ونجحوا بالفعل في أن يحزروا كلمات المرور. يبدو ذلك أمرًا يصعب تصديقه، لكنه حقيقي، وهو يفسر بشكل كبير الفكرة الموضحة في الفصل السابق: التعافي من الكارثة ليس شيئًا يمكن تخطيطه بما يناسب حدثًا محددًا، أو تنسيقه مركزيًّا وقت وقوع الكارثة نفسه. في الكوارث الحقيقية يكون المركز هو أول جزء في النظام يتعرض للانهيار، كما حدث مع مكتب العمدة وشركة آيسين من قبله؛ لذا فإن استمرارية النظام، كشركة كانتور فيتزجيرالد، تعتمد على شبكة موزعة من الأعمال الروتينية العادية والروابط الموجودة من قبل التي تربط المؤسسة بعضها ببعض على جميع المستويات.

ما كان لافتًا للنظر حقًّا آنذاك بشأن قوة وسط مدينة نيويورك هو أن آليات النجاة والتعافي التي استخدمها الأفراد والشركات والهيئات على حد سواء لم تكن استثنائية على الإطلاق، فبعد تعطل كل الإلكترونيات الرائعة الموجودة بغرفة متابعة الحالات الطارئة الخاصة بالعمدة، وقع عبء الاتصالات على أجهزة اللاسلكي الخاصة بجهاز الشرطة والأوراق التي كانت تنقلها سيارات الشرطة ذهابًا وإيابًا. وفي غياب توجيهات واضحة، ما كان من رجال الإسعافات الأولية وعمال البناء ورجال الإطفاء ممن هم خارج الخدمة، والمتطوعين، إلا أن وصلوا إلى مكان الحادث، وصاروا سريعًا جزءًا من عمل روتيني تبلور في الأساس على أرض الواقع، وليس وفقًا لأي خطة محددة مسبقًا، وعثر الناجون المتفرقون من كانتور فيتزجيرالد بعضهم على بعض بالمرور على منازل كلٍّ منهم. تذكر أنه في أعقاب الحادث مباشرةً، لم يكن أحد على علم بما يحدث — يستوي في ذلك القوات والقادة العسكريون — ولم يعلم أحد كيف ينبغي الاستجابة له، ومن ثم فعل الجميع الشيء الوحيد الذي كان بوسعهم، وهو اتباع الخطط الروتينية وتطويعها على أفضل نحو ممكن لتراعي الظروف التي طرأت عليها تغيرات هائلة. كانت هذه الاستراتيجية مفجعة في بعض الحالات — فرجال الإطفاء الذين هرعوا أعلى السلالم ليلقوا حتفهم كانوا يتبعون أيضًا خطط عملهم الروتينية — لكنها نجحت نجاحًا مذهلًا في أغلب الحالات. انتشر وصف «أبطال اعتياديون» مرارًا وتكرارًا في الشهور التالية للحادي عشر من سبتمبر، لكن من وجهة النظر المؤسسية، ما يجدر بنا تعلمه من جهود التعافي هو أن الاستثنائي ما هو إلا روتيني في الواقع.

مع ذلك، وبعد ستة أشهر، ظهر الجانب الضعيف للنظام نفسه، مع تأثر كل مجال تقريبًا؛ بدءًا من التأمين والرعاية الصحية، وصولًا إلى النقل والترفيه والسياحة وتجارة التجزئة والتشييد والتمويل، بالهجمات على نحو سيئ؛ توقف عدد من المطاعم في جنوب مانهاتن عن العمل على الفور تقريبًا بعد أن اضطرت لغلق أبوابها أيامًا، بل أسابيع، وأصاب الشلل أيضًا العديد من عروض برودواي نظرًا لانخفاض أعداد الجماهير، وفي خلال شهر كان آلاف العاملين في القطاع المالي قد سُرِّحوا من وظائفهم، في حين خسر أغلب الآخرين علاواتهم السنوية، ومن ثم انخفض أجرهم بنسبة وصلت إلى ٧٥ بالمائة. ومع أن القطاع المالي يشكل ٢ بالمائة فقط من الوظائف في نيويورك، فإنه يسهم بنحو ٢٠ بالمائة من دخل المدينة؛ لذا فإن نقصًا بهذا الحد من شأنه أن يطول شتى أنحاء الجزيرة، ليؤثر ليس فقط على تجارة التجزئة والإيجارات، بل أيضًا على الإيرادات العامة المستخدمة في تنظيف الشوارع وتأمين خطوط مترو الأنفاق والمحافظة على جمال الحدائق.

ما زاد الأمر سوءًا هو أن السبب الرئيسي وراء وجود هذا العدد الكبير من الشركات المالية في جنوب مانهاتن هو وجود الكثير من الشركات الأخرى بالفعل هناك، لكن في العقد الأخير أو نحو ذلك، ومع تحول المعاملات المالية إلى النظام الإلكتروني على نحو متزايد وتراجع أهمية التقارب المادي، بدأت بعض الشركات في الانتقال بعيدًا. والآن، بعد أن دُمر مركز التجارة، وصارت الكثير من الشركات تواجه قرار نقل مقراتها في الوقت نفسه، قد يتحول هذا الابتعاد إلى نوع من الفرار الجماعي، وفي حال حدوث ذلك، فإن أغلب العائدات ذات الصلة التي صارت نيويورك تعتمد عليها قد تتجه إلى مسار آخر، لتعود المدينة إلى الركود المالي الذي اتسمت به في سبعينيات القرن العشرين، لكن لا يعلم أحد بعد احتمالية وقوع هذا السيناريو الكئيب، وقد اقتُرح العديد من البدائل الأكثر تفاؤلًا. ليس المقصود بهذا التنبؤَ بأمور معينة، بل توضيح أن المدينة متصلة بصور يصعب توقعها، ومن الأصعب توجيهها.

لم يتوقف التأثير، بالطبع، عند ضفة نهر هادسون؛ إذ كان للهجمات تأثيراتها أيضًا على المستوى القومي؛ فقد أعلنت خطوط ميدواي الجوية (التي يقع مقرها في كارولينا الشمالية) إفلاسها في اليوم التالي للهجمات، وبحلول نهاية الأسبوع، كانت كل شركة نقل في البلاد تمر بضائقة مالية قاسية، وسُرِّح في النهاية ما يزيد عن مائة ألف عامل بالخطوط الجوية، وبدا اقتصاد الدولة، الذي كان على حافة الركود بالفعل، على وشك الانهيار إذا ما هجر المستثمرون الاستثمارات الأمريكية، وفشل المستهلكون في تجاوز الركود. وعلى الرغم من مرور الاقتصاد الآن بمرحلة تعافٍ واهٍ وتراجع الاحتمالات الأكثر تشاؤمًا، فلا يزال حجم الخسائر الثانوية كبيرًا. وبعد موسم كريسماس مخيب للآمال، تقدم أحد أكبر متاجر التجزئة في البلاد، وهو كيه مارت، بطلب حماية من الإفلاس، مخلفًا أطنانًا من الديون المُعلَّقة، التي يمكن أن تؤدي بدورها إلى المزيد من حالات الإفلاس بين الدائنين الذين لم يحصلوا على مستحقاتهم بعد.

ما الذي يمكن استنتاجه مما سبق؟ هل كانت الهجمات أكثر إضرارًا مما بدت عليه أول الأمر، أم أقل؟ هل تجاوب النظام بقوة؟ أم أن نقاط ضعفه الخفية قد اتضحت؟ في مقال شديد الإحباط، لكنه مثير للتفكير في الوقت نفسه، نُشِر في صحيفة نيويورك تايمز بعد الهجمات بأسابيع قليلة، أعلن بول كروجمان عن تنبؤاته بشأن تأثير الهجمات على الاقتصاد الأمريكي الواهن بالفعل، وقد اتسمت حُجج كروجمان، كعادته، بالبلاغة والمنطقية والإقناع، بيد أن ملخص ما قاله هو أنه يوجد عدد من الأسباب الوجيهة لأن ينهض الاقتصاد الأمريكي من جديد ويتعافى في المستقبل القريب، هذا فضلًا عن عدد مساوٍ من الأسباب التي تحمل القدر نفسه من المعقولية لأن يسير الاقتصاد الأمريكي سريعًا نحو ركود مدمر طويل المدى. لم يرغب كروجمان في أن يقول إنه ليس لديه أي فكرة عما كان يحدث (وقد مكَّنه تحوطه البارع من الادعاء بالتنبؤ الصحيح بصرف النظر عن النتيجة الفعلية)، لكن من الواضح تمامًا أنه لم تكن لديه أي فكرة بالفعل. يعد كروجمان أحد أفضل علماء الاقتصاد في العالم، خاصةً فيما يتعلق بشرح الظواهر الاقتصادية الحقيقية، ومن ثم إذا لم يكن لدى كروجمان وزملائه في جامعة برنستون فكرة عن كيفية استجابة النظم الاقتصادية للصدمات الكبيرة، فيمكنك المراهنة على أنه ما من أحد آخر يعرف ذلك.

ما الذي يمكن لعلم الشبكات إيضاحه لنا، في حين لا يستطيع كروجمان ذلك؟ للأسف، الإجابة الصادقة عن هذا السؤال هي: «ليس الكثير.» من المهم إدراك أنه على الرغم من الخمسين عامًا التي مرت على ظهور علم الشبكات، فإنه لا يزال يخطو خطواته الأولى على أرض الواقع، ولو شبهناه بالهندسة البنيوية لقلنا إننا لا نزال في مرحلة التوصل إلى قواعد الميكانيكا؛ أي المعادلات الأساسية التي تحكم ثني المواد الصلبة وتمددها وكسرها، أما المعرفة التطبيقية التي يمكن للمهندسين المحترفين الوصول إليها — الموائد والكتيبات وحزم التصميم الحاسوبية والقواعد الأساسية الخاضعة لاختبارات كثيرة — فلا تزال قابعة على المدى البعيد، وذلك وفقًا لأفضل التقديرات، لكن ما يمكن لعلم الشبكات فعله هو تقديم أسلوب جديد للتفكير في المشكلات التقليدية؛ الأسلوب الذي أدى بالفعل إلى بعض الرؤى المدهشة.

(٢) دروس لعصر متشابك

أولًا: علَّمنا علم الشبكات أن المسافة مفهوم مُضلِّل. إن الفكرة القائلة إن أي فردين بطرفين متقابلين من العالم لا يجمع بينهما الكثير من الأمور المشتركة يمكن أن يتصلا من خلال سلسلة قصيرة من روابط الشبكات — في ست درجات فحسب — تكشف جانبًا في واقعنا الاجتماعي أذهل جيلًا بعد جيل، والتفسير — كما رأينا في الفصل الثالث — مستمد من حقيقة أن عددًا قليلًا فحسب من الروابط يمكن أن يكون له تأثير كبير على الاتصالية في العالم أجمع، ومثلما رأينا، بعد ذلك، في الفصل الخامس، يكمن أصل هذه الروابط طويلة المسافات في الطبيعة متعددة الأبعاد للهوية الاجتماعية؛ فنحن نميل للارتباط بأفراد يشبهوننا، لكن لكل منا طرقه المستقلة المتعددة داخل إطار هذا التشابه، ونظرًا لأننا لا نعرف من هم أصدقاؤنا فقط، بل نعرف أيضًا طبيعة شخصياتهم، يصير بمقدورنا التنقل داخل الشبكات، بما في ذلك الضخمة منها، بواسطة عدد قليل من الروابط فحسب.

لكن حتى لو كان صحيحًا أن بمقدور الجميع الاتصال بعضهم ببعض في إطار ست درجات من الانفصال وحسب، فما أهمية ذلك؟ ما مدى بُعد الست درجات بأي حال؟ من منظور البحث عن وظيفة أو تحديد معلومات بعينها أو الحصول على دعوة لحفل ما، يعد أي شخص أبعد من صديق أحد أصدقائك، غريبًا عنك. لذا، فيما يتعلق باستخلاص الموارد أو إحداث تأثير ما، فإن أي شيء على بعد أكثر من درجتين قد يكون بعيدًا للغاية أيضًا. قد نكون متصلين حقًّا، لكن ذلك لا يقلل من درجة غربتنا بعضنا عن بعض، ولا يجعلنا ننزع بالضرورة لتجاوز التكتلات البسيطة التي تحدد شكل حياتنا الفردية. في النهاية، لدينا جميعنا أعباء علينا تحملها، وانشغالنا بعدد المسافات الذي يفصلنا عن الآخرين لن يفيدنا في شيء، بل سيدفعنا إلى الجنون.

لكن أحيانًا ما تظهر هذه الأعداد الهائلة في حياتنا دون سابق إنذار؛ ففي عام ١٩٩٧ أسفر فصل البات التايلاندي عن الدولار الأمريكي عن أزمة حقيقية في مجال العقارات في تايلاند، الأمر الذي أدى إلى انهيار نظامها المصرفي، وفي غضون أشهر كان الركود المالي قد انتشر للنمور الآسيوية الأخرى (إندونيسيا وماليزيا وكوريا الجنوبية)، مسببًا انكماشًا لنظمها الاقتصادية، التي شهدت ازدهارًا سابقًا، ومحدثًا ركودًا عالميًّا في أسعار السلع، خاصة البترول. في الوقت نفسه كان اعتماد روسيا، التي شهدت آنذاك تحولًا مؤلمًا إلى النظام الرأسمالي، على صادراتها من البترول قويًّا، وفجأة فَقَدَ ذلك الذهب الأسود قيمته. تلا ذلك أزمة في الميزانية الروسية، وتخلفت الحكومة اضطرارًا عن الوفاء بدينها السيادي، وهو الأمر الذي ليس من المفترض أن تفعله أي دولة، حتى ولو كانت قوة عظمى سابقة، وأدت الصدمة التي أصابت أسواق الديون العالمية إلى تجنب المستثمرين للسندات من أي نوع باستثناء سندات الحكومة الأمريكية.

قبل ذلك مباشرةً — وهو الأمر الذي لا يعرفه الجزء الأكبر من العالم — ضخ أحد الصناديق الوقائية في جرينتش بولاية كونيتيكت، واسمه صندوق إدارة رءوس الأموال طويلة المدى، مبالغ ضخمة لشراء سندات اعتبرها سيئة التسعير، لكن أصيب الصندوق بالفزع حين رأى أن الأسعار التي كان من المفترض أن تتقارب بدأت في التباعد، الأمر الذي أسفر عن فقد سندات تُقدَّر بمليارات الدولارات لقيمتها في غضون أشهر قليلة. نسَّق رئيس مجلس إدارة بنك الاحتياط الفيدرالي لمدينة نيويورك عملية إنقاذ من خلال اتحاد أكبر المصارف الاستثمارية في البلاد؛ خوفًا من أنه في حال اضطرار الصندوق لتسييل أصوله ستنهار الأسواق التي يعمل فيها، وبهذا تفادى كارثة محتملة، وهكذا انتهت الأزمة التي اجتاحت آسيا في العام المنصرم دون أن تؤثر على الولايات المتحدة إلا قليلًا.

لم تتضرر الولايات المتحدة كثيرًا من الأزمة الآسيوية عام ١٩٩٧، لكن ما من أحد علم ما يجب توقعه آنذاك. وهذا ينطبق على الحال الآن أيضًا؛ فما من أحد بإمكانه توقع أي شيء في ظل انعكاس الاضطرابات السياسية والدينية في الشرق الأوسط على صورة عمليات إرهابية في سماء نيويورك وواشنطن العاصمة؛ ففي عالم لا يفصل بين أفراده سوى ست درجات فحسب، صار تأثير أي شيء سريعًا، ومن ثم ليس معنى أن شيئًا ما يبدو بعيدًا، وأنه يحدث بلغة لا تفهمها، أنه لا صلة له بك؛ فعندما يتعلق الأمر بالأوبئة والأزمات المالية والثورات السياسية والحركات الاجتماعية والأفكار الخطيرة، ثمة اتصال بيننا جميعًا من خلال سلاسل قصيرة من التأثير، وستؤثر عليك بأي حال من الأحوال، بصرف النظر عما إذا كنت تعرفها أو تهتم بها أم لا، وإساءة فهم ذلك يعني إساءة فهم الدرس المهم الأول بشأن عصرنا المتشابك: قد يكون لدينا جميعًا أعباء، وسواء أحببنا ذلك أم لا، فلا بد أن يتحمل بعضنا أعباء بعض أيضًا.

الفكرة المهمة الثانية، التي يمكننا الحصول عليها من علم الشبكات، هي أنه في النظم المتصلة ثمة صلة معقدة، ومضللة أحيانًا، بين السبب والنتيجة؛ ففي بعض الأحيان يمكن أن يكون للصدمات البسيطة آثار كبيرة (انظر الفصل الثامن)، وفي أحيان أخرى يكون من الممكن امتصاص الصدمات، حتى العظيمة منها، دون إعاقة تُذكَر (انظر الفصل التاسع). هذه النقطة في غاية الأهمية؛ لأننا في أغلب الأحيان نعجز عن الحكم على أهمية الأمور إلا بأثر رجعي، ومن اليسير على المرء أن يكون حكيمًا عند الحكم على شيء ما بأثر رجعي. بعد أن صار كتاب «هاري بوتر» ظاهرة عالمية، سارع الجميع بإغداق الثناء على جودته كرواية للأطفال، وتصدَّر كل جزء تالٍ منه على الفور قائمة أفضل المبيعات. ربما تكون هذه السلسلة جديرة بالفعل بكل النجاح الذي حصدته، لكن ما نغفله هو أن العديد من الناشرين رفضوا النص الأصلي للكاتبة جيه كيه رولينج قبل أن تقبله بلوومزبري (التي كانت آنذاك مؤسسة نشر مستقلة صغيرة). إذا كانت جودة عملها على هذا القدر من الوضوح، فلماذا لم يَرَها العديد من الخبراء في مجال نشر كتب الأطفال؟ وما الذي يقوله ذلك بشأن جميع النصوص الأخرى المرفوضة المهملة في أدراج الناشرين العديدين بجميع أنحاء العالم؟ في عام ١٩٥٧ صارت رواية «على الطريق» لجاك كرواك في مصاف كلاسيكيات الأدب الأمريكي بين عشية وضحاها، لكن ما يغيب عن أغلب قرائها المُلهَمين أنها كادت لا ترى النور؛ إذ انتهى كرواك من النص الأصلي قبل موافقة دار نشر فايكينج على نشره بست سنوات. ما الذي كان سيحدث إذا أصاب اليأس كرواك؟ كثير من المؤلفين يصيبهم اليأس. كم من الأعمال الكلاسيكية خسرها العالم نتيجة لذلك؟
على الجانب الآخر، ماذا إذا لم تتوصل مجموعة تويوتا إلى وسيلة للتغلب على كارثة آيسين؟ يمكن تصور السيناريو بوضوح تام؛ تغلق الشركات الكبرى أبوابها — إنرون وكيه مارت مثالان حديثان على ذلك — وقد يتسبب التعطل المحتمل لأعمال شركة تويوتا في الدفع بها إلى الإفلاس. ما الذي كان يمكن أن يترتب على ذلك؟ إذا حُرِم العالم بغتة من سيارات تويوتا العزيزة عليه، لكانت كارثة آيسين قد احتلت العناوين الرئيسية للصحف لشهور عدة. وبقضاء تلك الأزمة ليس فقط على تويوتا، بل ربما أيضًا على الكثير من مورديها البالغ عددهم مائتين تقريبًا، ربما كان الأمر سيتسبب في انهيار حاد للاقتصاد الياباني الذي كان يعاني آنذاك الركود بالفعل، وربما صار هذا أحد أهم أحداث ذلك العقد من الزمان. لكن لم يعلم أحد بأزمة آيسين قط سوى القليل من المتخصصين في مجال المؤسسات الصناعية، فنظرًا لعواقبها المحدودة للغاية على الاقتصاد العالمي، صارت هذه الأزمة حادثًا عرضيًّا فحسب في سجل التاريخ، لكن كان من الممكن أن يكون لها نتائج مختلفة بسهولة. ينطبق الأمر نفسه إلى حد بعيد (وإن كان لأسباب مختلفة تمامًا) على تفشي فيروس إيبولا بين القردة في مدينة ريستون بولاية فيرجينيا، الذي تناولناه في الفصل السادس. ماذا إذا كان الفيروس من نوع إيبولا زائير؟ كانت الولايات المتحدة ستتعرض لكارثة صحية عامة خطيرة على مقربة من عاصمتها، بيد أن السبب الوحيد لمعرفتنا بالأمر هو أن ريتشارد بريستون ألف كتابه المثير (وعثر على ناشر جيد!)

لذلك لا يمكن للتاريخ أن يرشدنا ونحن بصدد مستقبل لا يمكن التنبؤ به، لكننا نركن إليه على أي حال؛ لأنه ما من خيار آخر أمامنا على ما يبدو، لكن ربما يكون أمامنا خيار آخر بالفعل، لا للتنبؤ بنتائج معينة، بل لفهم الآليات التي تحدث وفقها هذه النتائج، ويمكن أن يكون الفهم كافيًا في بعض الأحيان؛ فعلى سبيل المثال، لا تتنبأ نظرية الانتخاب الطبيعي لداروين فعليًّا بأي شيء على الإطلاق، ومع ذلك، فإنها تمنحنا قوة هائلة لفهم العالم الذي نلاحظه، ومن ثم اتخاذ قرارات صائبة بشأن موقعنا فيه (إذا أردنا). يمكننا أن نأمل، على النحو نفسه، في أن يعيننا علم الشبكات الحديث على فهم كلٍّ من بنية النظم المتصلة والطريقة التي تنتشر من خلالها أنواع التأثير المختلفة عبر هذه النظم.

نحن نعي بالفعل أن النظم المتصلة الموزعة، بدءًا من شبكات الطاقة وصولًا إلى الشركات التجارية، بل النظم الاقتصادية الكاملة أيضًا، أضعف، وأقوى في الوقت نفسه، من الكيانات المنعزلة، وإذا اتصل فردان عبر سلسلة قصيرة من التأثيرات، فما يحدث لأحدهما قد يؤثر على الآخر، حتى لو كان أحدهما غافلًا عن وجود الآخر تمامًا، وإذا كان هذا التأثير مدمرًا، يكون كلٌّ منهما أضعف مما إذا كان وحده. على الجانب الآخر، إذا أمكن لكلٍّ منهما العثور على الآخر عبر السلسلة نفسها، أو إذا كانا كلاهما جزءًا من شبكة علاقات ذات تعزيز متبادل مع أفراد آخرين، فقد يتمتع كلٌّ منهما بالقدرة على إحداث تأثير أعظم مما يمكنه تخيله. تتشارك الشبكات في الموارد وتوزع الأعباء، لكنها تنشر أيضًا الأمراض وتنقل الفشل؛ فهي تحمل الخير والشر في آنٍ واحد. من خلال تحديد كيفية اتصال النظم بدقة، ورسم علاقات واضحة بين بنية الشبكات الحقيقية والسلوك (مثل الأوبئة، والصيحات الحديثة، والقوة المؤسسية) الذي تتسم به النظم التي تربط بينها هذه الشبكات، يمكن أن يعيننا علم الشبكات على فهم العالم من حولنا.

وأخيرًا، يثبت لنا علم الشبكات أنه علم جديد بالفعل، وليس فرعًا من أي فرع علمي تقليدي، بل هو علم يتجاوز الحدود الفكرية ويستمد أفكاره من العديد من فروع المعرفة في آن واحد، فكما رأينا من قبل، تمهد الرياضيات التي يستخدمها الفيزيائيون طرقًا جديدة في أرضٍ لم يسبق اكتشافها من قبل، ويمثل كلٌّ من النمو العشوائي ونظرية التخلل والتحولات الطورية والشمولية أشياء معتادة للفيزيائيين، وقد عثروا على مجموعة كبيرة مثيرة للاهتمام من المشكلات في الشبكات، لكن دون خرائط علم الاجتماع والاقتصاد، وحتى الأحياء، التي ترشدهم، ليس بوسع هؤلاء العلماء تمهيد الطرق لأي مكان على الإطلاق. الشبكات الاجتماعية ليست شبيكات منتظمة، ولا يمكن لكل شيء أن يكون عديم المعيار، وقد ينجح أحد أنواع التخلل مع بعض المشكلات، لكنه لا ينجح مع مشكلات أخرى. وتُبنى بعض الشبكات على صورة هرمية، في حين لا تكون أخرى كذلك، ويكون سلوك النظام، في بعض النواحي، مستقلًّا عن التفاصيل الدقيقة للنظام، لكن هناك من التفاصيل ما يحمل أهمية. هناك الكثير من النماذج البسيطة التي يمكننا ابتكارها لفهم سلوك أي نظام معقد، لكن تكمن الفكرة في اختيار النموذج الصحيح. يتطلب ذلك منا التفكير بعناية في جوهر الموضوع الحقيقي، وأن نعرف عنه شيئًا ما.

إن الإسهاب في التأكيد على هذه الفكرة والزعم أن كل شيء يمثل شبكة عالم صغير أو شبكة عديمة المعيار لا يعد إفراطًا في تبسيط الحقيقة فحسب، بل يمكن أن يضلل المرء ليظن أن مجموعة واحدة من الخصائص تنطبق على المشكلات كافة، لكن إذا أردنا فهم العصر المتشابك على نحو بعيد عن السطحية، علينا إدراك أن الفئات المختلفة للنظم المتصلة بشبكات تتطلب منا استكشاف أنواع مختلفة من سمات الشبكات. قد يكفي، في بعض الحالات، إدراك أن أي شبكة تتضمن طريقًا قصيرًا يصل بين أي فردين، أو أن بعض الأفراد متصلون على نحو أكبر بكثير من آخرين، لكن في حالات أخرى، ما قد يهم هو هل الأفراد أنفسهم يمكنهم العثور على المسارات القصيرة أم لا. قد يكون من المهم للأفراد، إلى جانب اتصالهم عبر المسارات القصيرة، أن يندمجوا في تكتلات معززة محليًّا، أو ألا يندمجوا اندماجًا كبيرًا. قد يكون وجود هوية فردية أمرًا مهمًّا في بعض الأحيان لفهم سمات إحدى الشبكات، في حين قد لا يكون كذلك في أحيان أخرى، وقد يكون التمتع باتصال قوي مهمًّا في ظروف بعينها، وقد تكون له تبعات قليلة في ظروف أخرى، وفي بعض الحالات قد يكون له نتائج عكسية، وهو ما يؤدي إلى الفشل أو يزيد من تفاقم حالات الفشل التي تحدث طبيعيًّا. ومن شأن التصنيف المفيد للشبكات، شأنه شأن تصنيف الحياة، أن يمكِّننا من توحيد الكثير من النظم المختلفة والتمييز بينها، حسب الأسئلة المحددة التي نطرحها.

وهكذا، يتطلب تأسيس علم الشبكات دفعة منسقة قوية من جميع فروع المعرفة، بل وحتى المهن، الأمر الذي يفرض صراعًا ما بين التعقيد الرياضي لعالم الفيزياء، وبصيرة عالم الاجتماع، وخبرة رائد الأعمال. إنها مهمة ضخمة، وأعترف أنها تبدو مستعصية أحيانًا؛ فنحن نكد طويلًا ولا نتوصل إلا إلى أقل القليل، ومن المغري الاعتقاد بأن العصر المتشابك شديد التعقيد لدرجة تحول دون فهمه بأي طريقة علمية منهجية. ربما، مع كل ما نبذله من أقصى الجهود الممكنة، نضطر في النهاية إلى الاكتفاء بملاحظة لعبة الحياة المبهمة صعبة المراس، والاستيقاظ كل صباح ومشاهدة ما يحدث وحسب، لكن ما من أحد أصابه اليأس بعد.

قد يكون أكثر جوانب العلم إلهامًا أن طبيعته نفسها تفرض طرح أسئلة لم يُجَب عنها بعد، ومن هذا المنطلق، يعد العلم نشاطًا متفائلًا بشكل أساسي، فلا يؤمن العلماء دائمًا بإمكانية فهم العالم فحسب، بل أيضًا لا تردعهم القيود المفروضة على ما يمكنهم فعله، لكن وراء كل مشكلة — مهما بلغت من الصعوبة — مشكلة أخرى أصعب، ولا يكتمل أبدًا أي مستوى للفهم؛ فكل مرض يُعالَج يعقبه مرض آخر، ولكل اختراع تبعاته غير المقصودة، وكل ما تسفر عنه أي نظرية ناجحة هو رفع معايير التفسير لدينا فحسب. في أيام الشدة يشعر كل عالم أنه مثل سيزيف الذي يدفع بحجره أعلى التل بلا نهاية، ليبدأ من جديد من قاعدة التل في اليوم التالي، لكن سيزيف واصل المسير، وهذا هو الحال أيضًا مع العلم؛ فنحن نستمر في كفاحنا، حتى لو بدا الأمر ميئوسًا منه، وسبب ذلك أننا نَجِدُ في الكفاح، كما هو الحال مع معظم الطموحات البشرية، قيمة أنفسنا.

بالإضافة إلى ذلك، إن ما تبدو عليه ألغاز العصر المتشابك من استعصاءٍ على الفهم لا يعني بالضرورة أنها مستحيلة الفهم بالفعل، فقبل كوبرنيكوس وجاليليو وكبلر ونيوتن، كان يُنظَر إلى حركات الأجسام السماوية على أنها لا يعلمها سوى الرب وحده، وقبل أن يطلق الأخوان رايت أول طائرة لهما في مدينة كيتي هوك، لم يكن مقدرًا للإنسان أن يطير، وقبل أن يتمكن متسلق يُدعَى وارين هاردنج من تسلق السطح الجرانيتي لصخرة الكابيتان البالغ ارتفاعها ثلاثة آلاف متر بشق الأنفس، لم يكن من المعتقد أنه يمكن لأي إنسان تسلقها. في كل مسعى من مساعي البشر، يوجد دائمًا ما هو مستحيل، وفي كل مسعى يوجد من يحاولون قهر المستحيل. في أغلب الأوقات يفشلون، ويظل المستحيل كما هو؛ مستحيلًا، لكن أحيانًا ينجحون، ومع كل قفزة من هذا النوع ننتقل جميعًا إلى المستوى التالي في اللعبة الكبرى.

ليس العلم بالمجال الذي يشتهر بأبطاله؛ فما من شيء باهر بشأن ما يفعله العالِم كل يوم؛ بكل صراحة، ليس هناك ما يصلح لأن يُعرَض على شاشة التليفزيون، بيد أن العلماء يتحدون المستحيل كل يوم، في محاولة جاهدة منهم لفهم الأجزاء غير المفهومة من العالم، سواء في الوقت الحالي أو الماضي. وعلم الشبكات ليس سوى مناوشة واحدة وسط هذا القدر الكبير من الصراع، لكنها مناوشة تلفت إليها أنظار المجتمع العلمي على نحو متسارع. وبعد أكثر من خمسين عامًا على إطلاق رابوبورت وإيردوس الشرارة الأولى، يبدو أن الأمور أصبحت تسير في مصلحتنا، أو كما ورد على لسان ونستون تشرشل بعد معركة العلمين في عام ١٩٤٢: «هذه ليست النهاية، بل إنها ليست حتى بداية النهاية، لكن لعلها تكون نهاية البداية.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤