حافظ نجيب … الكاتب الاجتماعي

كانت صفة الكاتب الاجتماعي كثيرًا ما تُطْلَق على حافظ نجيب، بسبب ترجمته لمجموعة كبيرة من الكُتب الاجتماعية، وهي: «روح الاعتدال»، «غاية الإنسان»، «الناشئة»، «الغرور»، «دعائم الأخلاق»، «مناهج الحياة» … وهي مجموعة من الكُتب تندرج أيضًا تحت عِلْم الفلسفة، رغم كونها من علم الاجتماع! وقد صدر الكتاب الأول «روح الاعتدال» عام ١٩١٢، عن مطبعة المعارف لصاحبها نجيب متري. وللأسف لم نطَّلِع على هذا الكتاب، لعدم وجود نسخة منه بدار الكتب،١ ورغم ذلك، عَلِمْنا أن مؤلفه هو «شارل وانير»، وهو كتاب تدور موضوعاته حول الاعتدال في العقل والروح والعقل والفكر والقول، وقامت السيدة وسيلة محمد بترجمته!٢
fig3
غلاف كتاب «غاية الإنسان».

وفي العام نفسه ١٩١٢، صدر الكتاب الثاني «غاية الإنسان» عن مطبعة المعارف أيضًا، وهو كتاب وضَعَهُ الفيلسوف جان فينوت، وقامت أيضا السيدة وسيلة محمد بترجمته! وهو يدور حول الأفكار الإنسانية السامية، كالسعادة والفضيلة والحرية والواجب والحق … إلخ هذه الأفكار. فعلى سبيل المثال نجد المبحث الأول بعنوان «أين السعادة»، وفيه يقول المؤلف:

«لكل شيء غرض منه أو غاية يرمي إليها، والباعث على الشيء هو سبب وجوده، ونتيجة الوجود هي الغاية التي يرمي إليها. فإذا كتب كاتب ما حداه إلى الكتابة هو الباعث عليها، ويكون الغرض منها هو الغاية التي يقصد إليها. فكذلك الحياة؛ للإنسان غرض منها أو غاية يطمح إليها. وإجماع الأفكار على تخصيص نوع الشيء يشير إلى دنو المُجْمَع عليه من الصواب. فانصراف رغبات الناس جميعًا، منذ خلق النوع الإنساني، إلى غاية واحدة، دليل على أن هذه الغاية المفردة، هي الغاية من الحياة، وهي السعادة.»٣
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: من هي السيدة وسيلة محمد، وما علاقتها بحافظ نجيب؟! والإجابة على هذا السؤل، جاءت في مقالة أحمد حسين الطماوي، عندما أشار إلى أن جريدة المحروسة نَشَرَتْ حديثًا صحفيًّا لحافظ نجيب في ٣ / ١٢ / ١٩١٢، اعترف فيه بأنه صاحب ترجمة كتاب «روح الاعتدال» و«غاية الإنسان»، ولم تَقُمْ بترجمتهما السيدة وسيلة محمد، كما هو معروف.٤
ونُضيف إلى ذلك أدلة أخرى، منها أسلوب حافظ نجيب نفسه، حيث كانت له كلمات أثيرة، ذات معانٍ خاصة في كتاباته وإبداعاته، منها كلمة «المفرد» بمعنى الوحيد، أو «المفردة» بمعنى الوحيدة، وقد جاءت هذه اللفظة مُظللة، في نهاية الجزء السابق من مبحث «أين السعادة»!٥ ومن الأدلة أيضًا غلاف كتاب «الناشئة» المطبوع عام ١٩١٥، وقد جاء فيه أنه ترجمة حافظ نجيب، مُترجم «روح الاعتدال» و«غاية الإنسان»! وقد تكرَّر هذا الأمر على غلاف كتاب «الغرور» لحافظ نجيب أيضًا، الصادر عام ١٩٢٣.
هذا بالإضافة إلى اعترافٍ صريح من حافظ نجيب، نَشَرَهُ عام ١٩٢٣، قال فيه: «النفس إذا انصرفَتْ إلى غاية لا تقف دونها إلا مرغَمة مكرَهة، والرغبة إذا قَوِيَتْ لا تحول دون تحقيقها الحوائل والعقبات. عَلِقْتُ مطالعةَ كتب الاجتماع والأخلاق، ورَغِبْتُ في إفادة أبناء بلادي بما انتفعت بالاطلاع عليه، فلم يمنعني الاختفاء والتنكر من تحقيق هذا الغرض، فنشرت «روح الاعتدال» و«غاية الإنسان»، منسوبة ترجمتهما إلى زوجتيى السيدة وسيلة محمد، فإذا لم يكن لهذه السيدة فضل في الترجمة، فإن لها يدًا في نشْر هذين الكتابين، فهل من خطأ؟»٦
وعلى الرغم من أن كتاب «غاية الإنسان»، كما جاء على غلافه، هو ترجمة! إلا أن كلمة وسيلة محمد في بداية الكتاب — أو بالأحرى كلمة حافظ نجيب — تفيد بأن الكتاب أقرب إلى التعريب أو التأليف منه إلى الترجمة! ومما جاء في هذه الكلمة: «إنني لأكذب إذا نَسَبْتُ كُلَّ ما في كتابي هذا إلى نفسي، أو قَصَرْتُ ما فيه من الأفكار على ثمرة عقلي. فقد تَحَدَّيْتُ الوقوف على أفكار من سبقوني إلى الكتابة في هذا البحث، وطالعْتُ شتاتًا من صنوف الكتب، فعَلِقَ بذهني منها ما أدركْتُهُ. وغاب عنه ما استعصى عليَّ فهمه. فالفضل في الواقع راجع إلى أولئك الحكماء لا إليَّ؛ لأنني منهم استمديت وعنهم أخذت، ومن زبد أفكارهم كوَّنْت فكري … فإنني صورْتُ ما علق بفكري، وما انطبع عليه من صور أحوال الحياة، على ما تمثلته تمامًا وظننت أنه الحقيقة. ولما كان ما يتمثله الفكر ويقرره الإنسان، على أنه الحقيقة، قد لا يكون هو الصواب دائمًا؛ لهذا أتحاشى الجزم بكون ما كتبْتُه هو الصواب، وإنما أقرر كونه الحقيقة، على قدر ما تصورْتُها ووصل إليها إدراكي. فليحاسبني الناس على غايتِي من الكتابة، لا على دنوِّها من الصواب أو بُعْدها عنه، فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.»٧

وإذا كان حافظ نجيب قد ترجم — أو عرَّب أو ألَّف — كتاب «غاية الإنسان»، وأن كل كلمة فيه منسوبة إليه، إلا أن زوجته وسيلة محمد لها في هذا الكتاب بضعة أسطر فقط، هي أسطر الإهداء، حيث قالت فيها:

«إلى ابنتي العزيزة … الدهر عِبَر، والحياة سِيَر، والنفس بينهما لا تستقر. فمن تَتَقَّى الأيام تأمَّن عبرها، ومن تعرف الحياة تجمل سيرها. والحوادث جائية ذاهبة، والأعمار فانية ناضبة، فالحال لا تدوم أَسْعَدَتْ أم أَشْقَتْ، والذكرى لا تفنى قبحت أم حسنت. فاتَّقِي بنيتي العاقبةَ الأخرى، فإنما الحياة هي الذكرى.»

وهذا الإهداء يعطي لنا معلومات مهمة عن حياة حافظ نجيب الشخصية، حيث إنه يُشير إلى أن وسيلة محمد، لها ابنة من رجل آخر غير حافظ نجيب! وأن هذا الإهداء كُتب لها! ولم يكن إهداءً لابنتها من حافظ نجيب! والدليل على ذلك أن حافظ نجيب ذَكَرَ في إهداء كتاب «الغرور» أن ميلاد ابنته الأولى كان في ١٤ / ١٢ / ١٩١٢. علمًا بأن حافظ نجيب اعترف في حديثه بجريدة المحروسة في ٣ / ١٢ / ١٩١٢، بأنه أصدر كتابين باسم وسيلة محمد، منهما كتاب «غاية الإنسان»! فكيف تَكْتُب وسيلة محمد إهداء لابنتها، قبل أن تُولد أوَّلُ ابنة لحافظ نجيب منها بعشرة أيام؟!

fig4
غلاف كتاب «الناشئة» عام ١٩١٥.

وبعد ثلاثة أعوام، أصدر حافظ نجيب ترجمةَ كتابه الثالث «الناشئة»، من تأليف شارل وانير — صاحب كتاب «روح الاعتدال» — في أوائل عام ١٩١٥، عن مطبعة المعارف لصاحبها نجيب متري، ناشر جميع كُتب حافظ نجيب الاجتماعية. والكتاب الذي نحن بصدده، لا يختلف في موضوعه أو مباحثه، عن بقية الكُتب الأخرى، من حيث اهتمامه بالاجتماع والفلسفة. وقد قال حافظ نجيب في كلمة المُترجم:

«الناشئ لأول عهده بالحياة كالغريب في المدينة الواسعة، يتهيب أهلها، ويجهل دروبها، يبحث ولا يجد، وينظر ولا يرى، ولكنَّ له من دهش المفاجأة وعدم الاعتياد عذرًا مقبولًا. والمدينة لا تماثل الحياة إلا مماثلة الذرَّة للكون؛ لأنها ثابتة منظورة ومحصورة، أما الحياة فصروفها جمَّة، وأحوالها متبدلة، ومناهجها تؤدي إلى الفضل والهناء، كما تدهور إلى السفه والشقاء، والعقول عاجزة عن حصر ما فيها عجزها عن إدراك ما وراء المنظور. فما العبرة إذن بالذي في الحياة من مختلف الأحوال الظاهرة والخفية، وإنما بالتمييز بين منافع المحسوس ومضارِّه، وبين ما يؤدي إلى الغاية منها وما يدفع إلى قرار الهاوية. والعجز عن حصر أحوال الحياة لا يمنع عرفان المعلوم منها والملحوظ؛ لأن النور الضئيل خير من الظلام الحالك، ولأن المعرفة القليلة أفضل من الجهل التام.»٨
ومن الجدير بالذكر، أن حافظ نجيب كان سيهدي هذا الكتاب إلى ابنته، ولكنه أهداه إلى محاميه، قائلًا: إلى محمود بك أبو النصر المحامي … سيدي الأستاذ الفاضل … البذور إذا غُرِسَتْ في التربة الجيدة تنتج وتثمر، وكذلك المعروف إذا أُسْدِي إلى غير ذي نفسٍ خبيثة، يؤثِّر فيه فيحتفظ بذِكْره. وليس غريبًا أن تمنَّ وأنت رَجُل الفضل، وإنما أن يَذْكُر مثلي تلك المنَّة، في زمان عُرف كثير من أهله بالجحود ونكران الجميل. لقد تَقَدَّمْتَ للدفاع عني حين فقدتُ الأنصار، فقلتُ في نفسي: رجل من المحاماة يؤدي واجبًا إنسانيًّا، ولكن حين رأيتك تَفْحَص نفسي، وتحلِّل معدنها بدراية ومهارة أمام القضاء، عرفْتُك عالمًا من علماء الطبائع فأكبرْتُك. وما لُمِسَ من حرارة نفسك ونهضتها لإنقاذ دخيل على الأدب، إكرامًا للحرفة التي احترف، وللسبيل التي طَرَقَ، ذلك أبقاني أحس بتلك الحرارة إلى هذه اللحظة، وشجَّعَني على الالتصاق بالأدب، وإن كنت لا أزال دون رجاله في كثرة البضاعة وجودتها، وفي القيمة الشخصية. وإذا كان حبُّ طفلتي هو الذي نفث فيَّ هذا الروح ورغَّبني في الاعتصام، فإنك بعملك الواجب، وبما أَظْهَرْتَ من العواطف الإنسانية، تحْيِي تلك الروح وتقوِّيها، وتملأ نفسي الخاملة نشاطًا وفتوَّة، وتسوقني إلى حُبِّ الحياة والاجتماع، وإلى خدمة الإنسانية من طريق الأدب. وإذا أنا حَرَمْتُ ابنتي هذه الهدية واختصصتك بها، فأنا لا أجني عليها ولا أُتَّهم بالتبديد؛ لأنها هي أيضًا مدينةٌ لك ضِمْنًا بالمنَّة، أسيرةُ ذلك الفضل القديم. وإنها لتَبْتَهِجُ بعرفان الوفاء من خصال أبيها أكثر من ابتهاجها بالإهداء إليها، بل إنَّ هذا لَدرسًا عمليًّا يهذِّب نفسها ويرقِّق عواطفها، ويحضُّها على التكمُّل بالاقتداء وعلى التطُّبع بالتحبيذ والنحو. فكن يا سيدي الأستاذ طيِّب النفس عند القبول، مطمئنًّا لهذه التقدمة، فالباعث عليها قَدْر حقِّك من الفضل، والواجب علينا من الإخلاص والوفاء. نَفَعَ الله بك الأدب والفضل، وجعلك مثالًا حيًّا للمروءة وعلوِّ الهمة. أنت رجل والرجال قليلون.»٩
وهذا الإهداء له علاقة بحياة حافظ نجيب الشخصية، حيث إنه في عام ١٩٠٩، كان مُقيمًا في فندق ناسيونال بِاسم غالي جرجس، ولكن جندي إبراهيم صاحب جريدة الوطن تعرَّف على حافظ، فأبلغ عنه البوليس، الذي حاصره في غُرَف الفندق، ولكن حافظ نجيب استطاع أن يهرب من الفندق، بعد أن هدَّد قوة البوليس بأسلحة متنوعة، منها قنبلة ومسدس بالإضافة إلى تلغيم إحدى الغرف بالمفرقعات. وفي عام ١٩١٣، عُرِضَتْ هذه القضية على محكمة الجنايات، برئاسة محمد توفيق رفعت وبحضور حافظ نجيب نفسه، وكان ممثل النيابة محمد زكي الإبراشي، وقد تطوَّع المحامي محمود أبو النصر للدفاع عن حافظ نجيب، حيث حصل حافظ على البراءة!١٠

ولعل القارئ لا يرى غرابة، في أن يُهْدِي حافظ نجيب أحدَ كتبه إلى هذا المحامي، الذي حصل له على البراءة! ولكن الغرابة في أن البراءة التي حصل عليها حافظ في هذه القضية، لم تكن بسبب دفاع المحامي، حيث إن المحكمة لم تَرَ أيَّ إقناع في دفاعه! والسبب الحقيقي في البراءة، كان في دفاع حافظ نجيب عن نفسه! وهذا بالطبع بناء على ما جاء في «اعترافات حافظ نجيب»! ولعل هذا أيضًا سبب جديد، يُضاف إلى أسباب شُكُوكِنا في هذه الاعترافات! لأن من غير المعقول، أن تترك هيئة المحكمة الحُرِّيةَ المطلقة، لمتَّهَم في إحدى القضايا الجنائية، كي يُدافع عن نفسه بصورة كانت أبلغ من مرافعة محاميه، فيحصل على البراءة! وإذا كنا سنَقْبَلُ هذا الخيال الروائيَّ الغريب من أيِّ مُتَّهَم، فمن المستحيل أن نقبله من حافظ نجيب، صاحب الخيال والأكاذيب!

ومما قاله حافظ نجيب في اعترافاته عن هذا الأمر: «وكان المحامي الذي تَطَوَّعَ للدفاع عني حينذاك في هذه القضية وغيرها المرحوم محمود بك أبو النصر، فبنى دفاعه على تصرفي أنه كان للإيهام بإطلاق النار مع عدم وجود النية على التنفيذ، في حالة عصيان أمري. ورأيت المحكمة غيرَ مقتنعة بهذا الدفاع؛ لأن القانون يُعاقِب على التهديد نفسه، لا على النية المستوردة [أظنها المستورة] المجهولة، من الذي وقع عليه التهديد. فالتمست من المحكمة الإذن لي بالدفاع عن نفسي، فأذِنَتْ لي بشرط عدم تكرار ما ذُكِرَ في دفاع المحامي.»١١
وإذا تركنا كتاب «الناشئة»، إلى الكتب الاجتماعية الأخرى لحافظ نجيب، سنجده عرَّب ونَشَرَ قبل عام ١٩٢٣ كتابين: الأول «دعائم الأخلاق»، والآخر «مناهج الحياة». والكتاب الأول يُعتبر من الكتب المجهولة، ولا نعلم عنه أي شيء، سوى ما أعلنه حافظ نجيب، بأنه عرَّب كتابًا بهذا العنوان!١٢ أما كتاب «مناهج الحياة»، فقد نُشِرَ ضمْن المجلدات السبعة لروايات جونسون، وتحديدًا في نهاية المجلَّدَيْن الثاني والثالث. وللأسف الشديد هذه المجلدات غير موجودة بصورة كاملة في دار الكتب المصرية، والمجلد الوحيد الموجود، غير صالح للاطلاع! وبناء على ذلك، لا نستطيع الحديث عن هذين الكتابين، سوى أنهما من الكُتب الاجتماعية، قام حافظ نجيب بترجمتهما أو تعريبهما!
أما في عام ١٩٢٣، فقد أصدر حافظ نجيب آخر كُتبه المعربة، وهو كتاب «الغرور» لماكس نوردو، ونَشَرَتْه مطبعة المعارف. وهذا الكتاب عنوانه الأصلي «نقد المدنية الحاضرة ونظم الهيئة الاجتماعية»، وتدور أبحاثه حول النظم الاجتماعية والاقتصادية. وفي كلمة المُعرب، وضَّح حافظ هدفه ومنهجه من تعريب هذا الكتاب، قائلًا: «ليس هذا الكتاب ترجمة صحيحة لما كتب ماكس نوردو؛ لأنه كاتب مُلْحِد، وما تضمَّنه كتابه من النظريات والآراء بُني على الإلحاد. وفي نشْر الكتاب بالصورة التي كُتب بها ضرر عظيم، يؤثر في عقول النشء، والذين لم يتمكنوا من التعاليم الدينية، تمكُّنًا يَحْفَظُهم من تأثير قوة المؤلف في هدْم المعتقدات والأديان السماوية. لم أكن أمينًا في النقل عن ماكس نوردو للسبب المتقدم، فاخترت من كتابه ما راقني من النظريات والانتقادات والآراء ونشَرْتُها في هذا الكتاب، وجعلْتُ الأبحاث مرتكزة على مبدأ الإيمان بالإله الخالق. قد لا يرضي هذا النهج في النشر بعضَ الذين يريدون الأمانة في الترجمة، ولكنني أوثر عدم الأمانة في الترجمة على إفساد عقائد الكثيرين، بما أنشره من آراء الكاتب الملحد وحججه القوية في هدم الأديان والاستخفاف بالمعتقدات. في هذا الكتاب آراء كثيرة وأبحاث نافعة وانتقادات جمَّة لماكس نوردو، وأضفنا إليها من الآراء والنظريات التي تخالف معتقده، ونسبنا الكتاب كله إلى المؤلف، بسبب كثرة ما اقتبسناه من كتابه من الأبحاث الكثيرة والانتقادات الوجيهة. لم أُحْجِم في كل حياتي عن عملٍ خوفًا من الانتقاد، أو رغبةً في إرضاء الرأي العام؛ لهذا نَشَرْتُ هذا الكتاب متحديًا النهج الذي ذكرته، فلْيُسَمِّه من شاء ترجمةً أو اقتباسًا أو مسخًا، فهكذا فَعَلْتُ لأنشر ما اعتقدْتُ أنَّ في نشره فائدة، ولأمنع ما رأيت في انتشاره أذًى وإضرارًا، فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.»١٣
fig5
غلاف كتاب «الغرور» عام ١٩٢٣.
ومن الملاحظ أن حافظ نجيب أهدى هذا الكتاب إلى ابنته من وسيلة محمد، والتي وُلدتْ في ١٤ / ١٢ / ١٩١٢، قائلًا: «ابنتي العزيزة … الحال أقوى ما تكون تأثيرًا في العقل إذا عرفها بالاختبار، وفي النفس إذا انصدعتْ وتألمتْ منها، وقد حُرِمَ أبوك حنوَّ الوالدين من طفولته، وساوى الأذلين بين أهله، فعرف حقيقة الشقاء. وبقدر حرمانه من مظاهر العطف والحنان وتوقان نفسه إليهما، دام الشجن يؤثر في شعوره فيحييه وفي عواطفه فيرققها، فقوي تأثيره فيهما وتضاعَفَ أَلَمُ النفس. ولما كان الافتقار إلى الحاجة يحدو إلى طلبها نشدَ تلك العاطفة في قلوب من عَرَفَ من الجنسين، النشيط بالصداقة، واللطيف بها وبالحب، فأنفق الحياة بددًا، وألفى ما عوَّض من الإخاء سوءًا، ومن الوفاء ختلًا، ومن الحب غدرًا ونكاية. ولو أن نفسًا طيبةً وُفِّقَتْ إلى عرفان ما امتلأتْ به نفس والدك من الطيبة والوداعة، وقلبه من الحنان والشفقة، لذابت في حرارة هذا القلب ولامتزجت بتلك النفس. فمِنْ تصوُّر هذه الحال المشجنة، وتأثيرها في فكْره ونفسه، تدركين أيتها العزيزة موقعه حيال الناس، ونظره إلى الحياة وكم كان فيها يتألم. ومن شكايته على ذويه تعرفين نوع حُبِّه إياك وقَدْر عطفه عليك وسروره بك واغتباطه بتربيتك. فهل يطول هناء نفسه بقربك، أم تحول بينكما الأقدار؟ يا ألله من هول تلك اللحظة، فإن ألمي من توهُّم حينها يا عزيزتي يمزق أحشائي، فكيف بي إذا حانت؟ ليس حبُّ الذات هو الذي يزعجني عند فراقك، إنما الإشفاق عليك من اليتم والقهر وغلظة أكباد الناس، ومن كل ما عَرَفْتِ من صنوف الشقاء، فهل أنت واعية مبلغ إشفاقي فتعوضيني منه الترحم علي؟ أم يُنْسِيك الزمنُ مَنْ تحومُ حواليك روحُه وتحنُّ إليك عظامه عاش أم مات؟»١٤

ومما سبق يتضح لنا أن حافظ نجيب، عرَّب أو ترجم ستة كتب في الاجتماع أو الفلسفة. وإذا كنا لم نتوقف كثيرًا عند فحوى هذه الكُتب، فهذا راجع إلى أن هذه الكتب تحمل أفكار كُتاب وفلاسفة غربيين، ولا جهد لحافظ فيها غير ترجمتها أو تعريبها! حتى كلمات حافظ أو إهداءاته التي تتناسب مع موضوعات هذه الكتب، فهي في الوقت نفسه لا تتناسب مع شخصية حافظ نجيب، وما عُرف عنه من الخداع والكذب والتناقض والنصب والاحتيال … إلخ! فمن غير المعقول أن نصدق أفكاره وآراءه في كلماته وإهداءاته، المنشورة في هذه الكتب؛ لأنها أفكار وآراء تخالِف كل ما هو معروف عن حافظ نجيب، إلا إذا كان قد كتبها كنوع من التكفير عما اقترفه من أفعال وجرائم! وهناك احتمال آخر، وهو أن يكون حافظ نجيب مصابًا بانفصام في الشخصية!

ومن الجدير بالذكر أن حافظ نجيب، لم يَكْتَفِ بترجمة وتعريب الكتب الاجتماعية فقط، بل قام بترجمة أو كتابة بعض المقالات الاجتماعية، ثم قام بنشرها في مجلة «العالمين»، في بابَي «أبحاث اجتماعية»، و«أبحاث خلقية». ومن هذه المقالات على سبيل المثال: الحياة ونظر الناقد، المرأة العصرية، الزواج، البساطة، الحارس، الهمة، الطاعة، النظم الاجتماعية. هذا بالإضافة إلى نشْره جميع أبحاث كتاب «الغرور»، على هيئة مقالات متفرقة في المجلة أيضًا.١٥
١  من الجدير بالذكر أن أحمد حسين الطماوي، جاء في مقالته (الهلال، أغسطس ١٩٩٤)، ببعض مما قالته الصحف المصرية عن هذا الكتاب، وقت صدوره.
٢  انظر: ماكس نوردو، «الغرور»، تعريب حافظ نجيب، مطبعة المعارف، ط١، ١٩٢٣ ص٢١٦.
٣  جان فينوت، «غاية الإنسان»، ترجمة وسيلة محمد، مطبعة المعارف، ط١، د. ت، ص٥.
٤  انظر: مجلة «الهلال»، أغسطس ١٩٩٤.
٥  قمنا بتظليل كلمتَي «المفرد» و«المفردة» في جميع أقوال حافظ نجيب، التي استشهدنا بها في هذا الكتاب، كدليل على تكرار هذه الكلمة، وثبات معناها عند حافظ نجيب.
٦  ماكس نوردو، «الغرور»، ص٢١٦.
٧  جان فينوت، «غاية الإنسان»، ص٤.
٨  شارل وانير، «الناشئة»، ترجمة حافظ نجيب، مطبعة المعارف، ١٩١٥، ص٥.
٩  شارل وانير، «الناشئة»، ص٣-٤.
١٠  انظر: «اعترافات حافظ نجيب»، ص٣٧٩–٣٩٣.
١١  «اعترافات حافظ نجيب»، ص٣٩١-٣٩٢.
١٢  انظر على سبيل المثال: غلاف كتاب «الغرور»، ومجلة «الحاوي» عدد ٢٨، ١٩ / ١ / ١٩٢٦.
١٣  ماكس نوردو، «الغرور»، مطبعة المعارف، ط١، ١٩٢٣، «كلمة المعرب».
١٤  ماكس نوردو، «الغرور» [إهداء الكتاب، وكان بعنوان «الهدية الرابعة»].
١٥  انظر: مجلة «العالمين»، من العدد رقم ٣ بتاريخ ٢٤ / ١٠ / ١٩٢٣، إلى العدد رقم ٢٥ بتاريخ ٢٢ / ٣ / ١٩٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤