رواية «الحب والحيلة»

بقلم حافظ نجيب
fig11
غلاف مخطوطة مسرحية «الحب والحيلة».

الشخصيات١

  • الملك: أحمد حافظ.
  • الملكة: ماري إبراهيم.
  • دي توسكا: محمد بهجت.
  • بنفيه: حافظ نجيب.
  • المحافظ: علي مرتضى.
  • مدير البوليس: عبد المجيد شكري.
  • الدوق: محمود حبيب.
  • الأميرال: حسين حسني.
  • جاك: أحمد ثابت.
  • ماري: لبيبة.
  • الخادم: أحمد فهمي.
  • حاجب: فوزي الجزايرلي.
  • متكلم أول: علي مرتضى.
  • متكلم ثانٍ: محمد يوسف.
  • جارسون: فوزي الجزايرلي.
fig12
إحدى صفحات مخطوطة مسرحية «الحب والحيلة».

الفصل الأول

المنظر الأول

(قصر الملكة)
الملكة (لنفسها)٢ : ليس بين كل النساء من لا تحسدني على جاهي وجمالي، وأنا أحسد أشقى النساء على سعادتها وشقائي، ليس الهناء في الحياة بالجاه وألقاب العظمة ولا بوفرة المال وكثرة الرجال، إنما الهناء بطمأنينة القلب، وابتهاج النفس بتحقيق رغباتها، يا نساء العالمين … أيتها الحاسدات … لا تتركن أبصاركن يلهيها تلألؤ الجواهر؛ فتنخدع بالزينة والظواهر، فتعمى عمَّا في نفسي من ألم الغيرة وذلِّ الانكسار، وعمَّا في قلبي من الحب والهياج.
يظنون أن الحب لهو ولذة
وأن هناء العيش في رفعة الجاهِ
فيا قلب هل هذا صحيحٌ تحسه
وإلا غرور الناس بالظاهر الواهي

(يدخل الكونت.)

هذا أنتَ يا كونت؟ ما وراءك من الأخبار؟
الكونت (بدهاء) : كل ما يسر جلالة الملكة سماعُه.
الملكة (بمكر) : إذن ليس لديك ما تخبرني به؛ لأنك تعرف أني لا أُسَرُّ من شيء، وما دام الذي تعرفه ليس فيه ما يضاعف آلامي ومزعجات نفسي، فوفِّر عليك مشقة نقله إلي، فإنني لا أُعْنَى بغير شخصي.
الكونت : إذن أنت سعيدة يا مولاتي. الحمد لله الذي أوصلك من الفلسفة إلى حد اجتلاء حقيقة السعادة؛ فقد سمعت أحد الحكماء يقول بأن ارتباط الفرد بالجماعة، يُكْسِبه شيئًا من الفائدة الاجتماعية، ولكنه يدفع ثمنها من سعادته وهناء نفسه، وكلما قَلَّت الرابطة، نقص الثمن وتوفر للإنسان جزء من غبطته وهنائه.
الملكة (بتعجب) : ما هذا يا دي توسكا؟! أراك ماهرًا في كل شيء حتى في الفلسفة، دعني بربك من الدلالة على مقدرتك واجلس إلى جانبي أقص عليك حادثًا غريبًا لست أدري أأنزعج منه وأتكدر؟! أم أضحك منه وأبتهج؟!
الكونت : وهل تريد صاحبة الجلالة أن أهيئ نفسي للانزعاج معها أم للضحك والابتهاج؟!
الملكة (بضيق) : اسمع الحديث أولًا، ثم افعل ما يروقك بعد ذلك.
الكونت (بأدب جم) : كلِّي أذان تسمع يا مولاتي.
الملكة : عُدْتُ ليلةً من حفلة ساهرة، فسمعت بعد اضطجاعي صوتَ رجل يُوقع على قيثارة، ويغني في المرج، قريبًا من نافذة حجرتي … أعجبني ما سمعت! بل إن تأثير الصوت كان يبعث في نفسي، كل ما أراده المغني بتوقيعه، فقمت إلى النافذة بالرغم مني أسمع، ونفسي تنتقل من الشجن إلى الشجن، حتى بكيت من قوة الانفعال، ومن مشاركة عواطفي عواطف المغنِّي أو الشاعر في قصيدته، وفي الصباح سألت عن الرجل، فلم أهتدِ إليه! فنزلت إلى المرج كعادتي، فلم أجد زهوري على شجيراتها، واستنتجت مما حولها من منتثر الزهر، أن يدًا سبقتني إلى قطفها فاستأت، وقصدت إلى النهر عند المظلة حيث أجلس عادة، فراعني أن وجدْتُ الزهور منسَّقَة في شكل باقة، وإلى جانبها القصيدة التي سمعتُ صاحب القيثارة يتغنى بها، وعنوانها: تحت النافذة!
الكونت (بانزعاج) : متى كان هذا يا مولاتي؟
الملكة : منذ أسبوع. وقد تكرر هذا الحادث للمرة الثالثة، ولمَّا لم أتمكن من الاهتداء إلى ذلك المنشد الفرَّار زاد شوقي لمعرفته! فبثثت العيون في الحديقة، عسى أن يقبضوا عليه، فأعرف من هو؟ وماذا يريد بغنائه؟ وبقطف الزهور وإهدائها إليَّ مع القصائد؟! ولكنْ لك أن تصدِّق أنني غير حانقة على الرجل، ولا أريد به إلا الخير، فهلا يريد ذلك المسكين أن يسمع مني عبارة الإعجاب به؟!
الكونت (بغضب شديد) : يلوح لي أن مولاتي لا تعبأ بهذا الحادث! ولا تُعْنَى منه بغير رخامة الصوت وجودة التوقيع. أما أنا، فالواجب والعقل يقضيان عليَّ بالتفكير وتدبير المحافظة على الملكة من خصومها؛ فقد يكون المُغنِّي يرمي إلى غاية، لا قدَّر الله!
الملكة (بضيق) : أية غاية تقصد؟!
الكونت (بخبث) : أنا لا أُعَيِّن غرضًا بذاته، وإنما أقول: إن الذي يجيء بالليل ليغني قريبًا من نافذة الملكة ثم يفر عند البحث عنه حقيق بمحبي الملكة والمخلصين إليها أن يفكروا في شأنه!
الملكة (بضيق أكثر) : أنت تمثل دور العاشق يا كونت، وتظنني ساذجة، فأنت تتخذ من كل حادث أو حديث سببًا للدلالة على إخلاصك لي، وعلى تفانيك في الغيرة عليَّ … وعلى … وعلى … ولست أدري ما الذي يجشمك مشقة التفكير وعناء الإجهاد في الاستنباط والتمثيل؟!
الكونت : مولاتي … لا تؤلميني بهذا التهكم، فما أنا بحاجة إلى الدلالة على صِدْق ما أشعر به نحو صاحبة الجلالة من الإخلاص والود، إن الحب القوي الصادق لا يحتاج للدلالة على وجوده بل تحسه الروح، وتَفْعَل قوَّتُه في قلب المحبوب ما تَفْعَل تموجات الكهرباء وسيالاتها.
الملكة (بتهكم) : كلمات محفوظة يقولها كل شاب لكل حسناء.
الكونت : مولاتي … أنا لا أطمع بغير الذي اكتفيتُ به … القناعة بالنظر إلى ذاتك البهية … والشرف بخدمتك … والشوق إلى تضحية حياتي بأمرك متى وكيف تريدين!
الملكة : حبذا لو يصدق الرجل!
الكونت : حبذا لو لم يكن قلب الحسناء قاسيًا!
الملكة : لا تتألم من مزاحي يا كونت، فإنني واثقة من إخلاصك لي ومن الود الذي تذكر.
الكونت : ليس هو يا مولاتي ودًّا، ولكنه انفعال النفس بالقوة اﻟ …
الملكة : دعنا من هذا الحديث الآن؛ فأنت لا تريد أن تنتهي منه، وليس هنا مكانه، ألا تريد أن تسمع شكري لك على الخادم الذي اخترْتَه لي؟
الكونت : تريدين بنفيه؟
الملكة : كم أشكرك على هذه المنة، فالرجل عاقل رزين حريص على أسراري حرْصَه على حياته، وعلى مرضاتي لا كمولاته، وإنما كابنته … كمخلوق عزيز عليه … لا تغَرْ منه يا كونت فإنه خادمي.
الكونت : أنا أغار عليك من النسيم يمسُّ جسمك … ومن الهواء تستنشقينه … ومن الماء تروين به ظمأك … ومن كل ما تلمسين ويقع بصرك عليه … وما اخترت لك بنفيه إلا لوثوقِي مما عرفت من خصاله، وخلاله الطيبة، ومن أمانته في نقل الرسائل إليَّ وإلى مولاتي.
الملكة : إذن ما عدْتُ أرتعد عند الكتابة إليك (تتذكر) آه يا كونت لو علمت كم جزعتُ عندما عرفت أن خادمي المرحوم، كان يخونني ويُبْقِي رسائلي في حقيبته بدلًا من أن يوصلها إليك! آه يا ربي كم تألمت وكم جزعتُ!
الكونت : لقد لقي الخائن جزاءه العادل، فلا تخافي يا مولاتي، ولا تَشُكِّي في أمانة بنفِيه فإنه من خيرة رجالي اللاصقين بي.
الملكة : حسن جدًّا، فقد أزلْتَ عني بعض همومي وثبَّتَّ قلبي على الاطمئنان. فدعني الآن أسألك عن حفلة الرقص، هل غرم الملك على الرقص فيها مع … مع بعض السيدات!
الكونت : نظام الحفلة ذُكِرَ به الرقص، ولكن من يدري … ماذا يفعل جلالته وهو الرجل المشهور بالتردد وبكثرة التقلب؟!
الملكة (تلتفت وتنظر إلى ملابسها) : وكيف تراني في هذا الزي؟! هكذا كانت تلبس حنه دوتريش زوج لويس الثالث عشر
الكونت (ينظر إليها بإعجاب) : كان ينقص تلك الملكة العاشقة هذا الحُسْن الباهر، وهذا القلب الحساس الطاهر.
الملكة (بدلال) : كفاك مداهنة يا دي توسكا، إلى الملتقى بعد قليل، فإنني بحاجة إلى الخلوة بنفسي قبل أن تبدأ الحفلة، وما بقي عليها إلا دقائق (يخرجان ويدخل بنفيه الذي كان متواريًا يستمع لحوارهما).
بنفيه (لنفسه وكأنه يتحدث مع الملكة، مرددًا إحدى العبارات التي جاءت على لسان الكونت) : لا تَشُكِّي بأمانة بنفيه! نعم يا ناتالي يا مالكة فؤادي، لا تَشُكِّي بأمانة بنفيه، بنفيه يحبك من كل قلبه، يحبك بجميع قوى نفسه، يحبك ويعطف عليك، لا كابنته كما تقولين، ولكن كروحه كحياته كآماله (بغيط وكأنه يتوعد إنسانًا أمامه) دي توسكا ويل لك أيها المعشوق الخائن، ويل لك لأنك تخدع التي أحبها، وتتخذ من ضعفها في حبك قوة للكيد بها وللانتقام لنفسك، ويل لك لأنها تحبك، وأنا أغار من هذا الحب، أنت عقبة في سبيلي إلى قلبها فويل لك، ظننْتَ أيها الأبله أنني من رجالك واللاصقين بك، وأنك تستخدمني لتحقيق غايتك ولخدمة شهواتك السافلة، سترى مَنْ مِنَّا الذي يهنأ بقلب هذه الملكة المتيمة بحبك، الغافلة عني وعما وراء هذا المشيب من نضارة الشباب، ووراء هذا الضعف من قوة الحيلة، دي توسكا أيها المحبوب الخائن، سترى كيف أصرعك، فقد وقفْتُ على كل أسرارك، وعلى أسرار القصر، وكل من يلوذ بك … (بتهكم) الملك يعشق كاترين ابنة دي توسكا، الملكة تحب دي توسكا وتغار على زوجها، دي توسكا ناقم على الملك، يريد الانتقام منه بواسطة تلويث عرض الملكة، ثُمَّ بأعظم من ذلك … (بتأثر) يا لله من شرور الإنسان، ويا لله مما تُضْمِر الضمائر، إن صحيفة البحر تلوح ساكنة صافية، ولكن هل يصل النظر إلى ما وراء الجزء الظاهر! وهل يُبْصَر ما في جوفه من المخوفات …
إن رجلًا داهية كالكونت لا يُستهان به، ولا من السهل خذله ومصادمة آماله ومقاصده، فلكي أصل إلى تحقيق رغباتي يجب أن أنفذ هذه الخطة، أمنع الملك من الرقص مع كاترين، أمنع دي توسكا من مخالطة الملكة في هذه الحفلة، أفضح تنكُّر دي توسكا، وأَدُلُّ الناس عليه حتى لا يتسنى له الدنو من الملكة ولا البقاء إلى جانبها، أخلو بالملكة وأحادثها ما دامت متنكرة بزي حنه دوتريش، وأنا بزي وزيرها الكاردينال ريشيليو، وأجعل هذه المناسبة واسطة للمحادثة، أُهِين دي توسكا أمامها، إذا بدرت منه بادرة غيظ أو صلف، وأغلبه على أمْره لأحقره في نظر الجميع (بحزم) هذا ما قَرَّرْتُ تنفيذه في هذه الحفلة (بتحدٍ) دي توسكا، لقد تغلبْتَ على قلب الملكة بالخداع والتظاهر بالحب، وسأنتزعه منك على الرغم من كل شيء ومن كل قوة بالحيلة، وسترى أية القُوَّتَيْن أضمن إلى تحقيق الرغبات.

المنظر الثاني

(حفلة رقص – صالون – الجميع يدخلون متنكرين)
الكونت (بابتهاج إلى الملكة) : هذه الليلة من أسعد الأوقات التي عرَفْتُها في حياتي؛ لوجودي إلى جانب الملكة العظيمة حنه دوتريش.
الملكة (تنظر إلى الملك ولا تبالي بالكونت) : ولكنها في نظري من أوقات الشقاء التي أحفظ ذكراها إلى أمد بعيد، فقد رأيت الملك يتهيأ للرقص مع عشيقته يا كونت، وأنا زوج كثيرة الغيرة على زوجها.
الكونت (بخبث) : الغيرة لا تكون قوية إلا مع وجود الحب، فهل مولاتي لا تزال تحب زوجها، بعد الذي عرفَتْه من أمره؟!
الملكة (بذكاء) : هل نسيت يا سيدي أنني والدة أبنائه، وأنه أول رجل خفق له فؤادي ورقص من حبه قلبي. إن المرأة قد ترغمها ظروف مخصوصة فتنسى واجباتها، أو تكون مثلي ضعيفة الإرادة فتستسلم لعواطفها الطائشة فتخون زوجها، ولكنها لا تَكْرَهُه متى كانت قد أحبته، وترجع إليه لأول داعٍ إلى الوئام، وأؤكد لك أنه لولا سوء تصرف الأزواج ما سَقَطَت الزوجات، ومَنْ لا يحرص على ما في حوزته يُعَرِّضه للتلف أو للضياع (يدخل بعض المدعوين).
متكلم أول (يشير إلى الكونت) : انظروا! انظروا هذا الواقف إلى جانب الملكة دوتريش، هو الكونت دي توسكا!
متكلم ثانٍ (ينظر بتعجب) : هو! هو بعينه الكونت دي توسكا.
الملكة (للكونت بانزعاج) : لقد عرفوك يا كونت، فدعني أبتعد عنك.
الكونت (يذهب إلى من تحدَّثَ بغضب شديد) : من الذي يذكر اسم دي توسكا؟!
متكلم أول (بحرج) : أنا يا سيدي الكونت.
الكونت : وهل بلغ بك السُكر إلى حد التهكم عليَّ وفضح تنكُّرِي في مثل هذه الحفلة؟!
متكلم ثانٍ (بتحدٍّ) : لا تحتَدَّ على رفيقي، فإنه لم يذكر اسمك قصدًا، (يُشير إلى ظهر الكونت) وإنما قرأ ما هو مكتوب على ظهرك!
الكونت (يلتفت وراءه بانزعاج وحرج شديدين) : على ظهري! (تمسك يده بورقة ملتصقة على ظهره، وينظر فيها بغضب) من الشقي الذي كاد لي هذه المكيدة؟! الويل له إن عَرَفْتُه! (يخرج ويثرثر في ثورة غاضبة شديدة).
متكلم أول (في حذر) : الكونت رجل جبار فما لكم وله؟! إنه لا بد أن ينتقم لنفسه منكم بسبب هذا التهكم (يضحك).
متكلم ثانٍ (بضيق) : لا نظن الرجل على شيء من شرف النفس أو الشهامة، فلو كان من الذين ينتقمون ممن ينالون من كرامتهم، ما غض الطرف عن سلوك ابنته كاترين، وقد افتضح أمْرُها مع الملك.
متكلم أول (ينظر إلى القاعة) : عجيب أمْر هذه الحفلة، فكل ما حدث بها غريب، فقد أُرْغِم الجميع على عدم الرقص في الشوط الأول بسبب ما حدث من انطفاء النور ومن سرقة نوتات الموسيقى!
متكلم ثانٍ (بتعجب) : حدث هذا في لحظة قصيرة جدًّا، ويغلب على ظني أنها مدبرَّة من قَبْل حدوثها!
متكلم أول : لا بد أن تكون للملكة يد في هذه الحادثة؛ لأنها الإنسان الوحيد الذي يهمه تكدير صفاء الملك (يضحك) وإرغامه على عدم الرقص مع خليلته كاترين!
متكلم ثانٍ (كأنه يفكر) : يلوح لي أن هذه الحادثة لها ارتباط بفضح تنكُّر الكونت دي توسكا والد كاترين، وأُرَاهِنُ من يشاء، على أن اليد التي سرقت نوتات الموسيقى وقلبت نظام الحفلة، هي التي وضَعَتْ هذه الورقة على ظهر دي توسكا (يضحك) الكونت دي توسكا والد كاترين!
متكلم أول (يبتسم ابتسامة خبيثة) : ما أكثر فكاهات هذه الحفلة الشائقة، تعالَوْا إلى ساحة الرقص؛ فلا بد أنه يحدث شيء غير هذا، تعالوا ننظر (يهم بالخروج من الجهة اليمنى).
متكلم ثانٍ : بل تعالَوْا نشرب ونسكر (يخرج من الجهة اليسرى، بينما تدخل الملكة، وخلفها بنفيه متنكرًا في زي الكاردينال).
الملكة (باندهاش) : لماذا كسرْتَ الكأس التي شربتُ فيها يا سيدي الكاردينال؟
الكاردينال (ينظر إلى فمها) : لأنني أعلم قيمة من لمستها بشفتيها … وأضن بتلك الزجاجة وقد تقدست أن يلمسها فم آخر!
الملكة (تنظر إليه بإعجاب) : يلوح لي يا سيدي أنك تمثل أطوارَ مَنْ تتَّزِي بزيه، فإنه على ما ذكروا كان يحب الملكة حنه دوتريش!
الكاردينال : ولكن ذلك العاشق ألمَ بغيرته من أحبها، وجعلها تقضي كل حياتها منغَّصة متعسة، (بصوت هامس) أمَّا أنا فإنني أبذل حياتي رخيصة لكي لا تسيل دمعة واحدة مِنْ عين مَنْ أحب بسبب هذا الحب، فثَوْبِي هذا ثوب ريشيليو، ولكن قلبي عند ذلك القلب المتحجر.
الملكة (بخبث) : هل تعرف شخصي يا سيدي؟! إن في حديثك ما يشير إلى كَوْنِك تعمَّدْتَ التزيي على هذه الصورة لتُسمعني حديثك، وأنا أشعر بأنك لا تلقيها جزافًا، وأُرَجِّح أنها ليست تجيء صدفة؛ لأنك تسوقنا وتحول كل شيء إلى هذا الغرض الذي تريد أن تتكلم فيه!
الكاردينال (مبهوتًا) : صدقْتِ يا مولاتي.
الملكة (بدهاء) : إذن أنت تعرفني!
الكاردينال : لا أُنْكِر هذا.
الملكة : من أنا؟!
الكاردينال (بصوت رقيق هامس) : أنتِ التي قضيتُ الليالي تحت نافذتها أنشد قصائدي … أنت التي كنت أنمِّق لها الباقات لتلمس يدها ما لمست يدي، صدقيني يا مولاتي إن روحي هي التي كانت تناجيك، لا صوتي الذي كان يشجيك.
الملكة (بفرح ممزوج بالتعجب) : أنت ذلك المغني! بربك من أنت؟! لقد زِدْتني شوقًا إلى معرفة شخصك، تكلَّمْ (يدخل دي توسكا ويُبهت مما يرى).
دي توسكا (بغضب وخبث) : ما عهدنا ذات الجلالة الملكة تخلو بعدوها الآن ريشيليو؟! فلعل مرور الأزمان يبدِّل قلب الإنسان!
الكاردينال (بذكاء وتحدٍّ) : ونحن ما عهدنا أن رجلًا من النبلاء ينفضح سرُّ تنكُّره في حفلة ويبقى فيها يروح ويجيء بدون خجل ولا حياء!
دي توسكا (في تحدٍّ كبير) : كان الكاردينال العظيم أوسع صدرًا منك يا سيدي، وأكثر دهاء وحكمة، وما عرفنا عنه أنه يتصدى لمثل ما تفعل من العداء جهارًا؛ لأنه وإن كان قويًّا بفكره، إلا أنه كان ضعيف الجسم، ولا أظنك إلا مثله في الجسم، وإن كنت دونه في الدهاء والحزم!
الكاردينال (بلا مبالاة) : أهذا الذي جرَّأَكَ على مناوأتي؟!
دي توسكا (يتقدم نحوه في ثورة غاضبة) : بل على تأديبك، حتى لا يدْفَعك التزيِّي بزيِّ العظماء إلى الاغترار والاعتداء. (يشير إليه بأصبعه) أنا أراهن على أنك أنت الذي وَضَعَ على ظهري ورقة كتبتْها يدُ اللؤم والسفالة.
الملكة (بانزعاج من ثورة الكونت) : ماذا تقول يا دي توسكا؟! هل تجرأ أمامي على النطق بهذه الألفاظ؟! (بتهديد) إنك مندفع في سبيلٍ قد يكون خطرًا عليك!
دي توسكا (في انكسار) : كأن مولاتي تشجِّع خصمي وتفل من عزمي.
الملكة (تخفض من غضبها) : أنت مشاكس في هذه الليلة يا كونت، كأنك فقدت عقلك، ولست أرى خيرًا إلا الابتعاد عنك (تخرج جهة المقصف).
دي توسكا (إلى الكاردينال في تحدٍّ) : أراهن على أنك أنتَ الذي سرقت نوتات الموسيقى!
الكاردينال (بتهكُّم وهدوء) : ربما صحَّ ما تدعي.
دي توسكا (في غضبٍ متزايِد) : وأراهن على أنك الذي فضحْتَ تنكُّري!
الكاردينال (في هدوء أكثر) : قد تصْدُق فيما تظن!
دي توسكا (يصرخ) : ما الذي تريد بما فعلتَ؟!
الكاردينال (يقف أمامه وجهًا لوجه في تحدٍّ صريح) : إذا كنتَ مصيبًا في الذي حذرت، وإذا كنتُ أنا الرجل الذي فَعَلَ ما تدَّعي أنني فعلت، وإذا كان للحادثتَيْن ارتباط ببعضهما يكون جواب ما تسأل. إنني أردت أن أمنع الملك من الرقص مع خليلته ابنتك أمام الملكة (يُبهت الكونت) حتى لا تتألم من الغيرة، وحتى لا تتمكن أنت من اغتنام فرصة غيظ الملكة من زوجها لزيادة التفريق بين الزوجين (تبرق عين الكونت) وأردْتُ بفضح تنكُّرك أن لا تبقى في هذه الحفلة مجهولًا تدس الدسائس وتنصب الشراك لتهيئة أسباب انتقامك ممن لم يُسئ إليك … من الذي نشأت في نعمته، وتحوطك رعايته، وتريد النكاية به وبزوجه، لا لسبب غير ما انطبعَتْ عليه نفسُك من الشر (يدفعه بعيدًا) هذا الذي أردت، وهذا جواب ما تسأل عنه فلعلك فهمْتَ.
دي توسكا (في رعب داخلي، وجرأة كاذبة ظاهرة، شاهرًا سيفه) : أنت رجل قضى على نفسه بالموت (يُفكر برهة، فيُعيد السيف إلى غمده) ولكني لا أبارز رجلًا لا أعرفه، فقد تكون غير شريف!
الكاردينال (بتهكم وجرأة) : هل تظن الشرف والنبل بالألقاب؟! كم بين النبلاء من ذوي النفوس الخبيثة والخصال السفيهة؟! وكم بين العامة من ذوي المحامد والمجد الصحيح؟! دعنا من المحاولات يا سيدي الكونت، فمثلك ليس بالرجل الأبله، ولا بالذي يَعْتَدُّ بالشرف، وإلا فلماذا سكتَّ على سلوك ابنتك وأغمضت عينيك عن رؤيتها في أحضان ﺧﻠﻴ …
دي توسكا (في ثورة) : اسكت يا سفيه، (يُشهر سيفه مرة أخرى) فقد آن أن تَسْكُتَ إلى الأبد (يحاول طعن الكاردينال).
الكاردينال (يتفادى الطعنة بمهارة) : حضرة الكونت الشريف أصبح قاتلًا سفاكًا (يُخرج سيفه وتبدأ المبارزة) هل هذا يا سيدي عمل النبلاء الذين يخشى أن لا أكون منهم (تشتد المبارزة، وتطيش جميع ضربات الكونت) رويدًا رويدًا يا سيدي القائد … فقد لا تملك نفسك وأنت متهيج بالغضب فتفلت يدك السيف.
دي توسكا (يسدد طعنة أخرى) : مت يا لئيم وإلى جهنم.
الكاردينال (يتفادى الطعنة وبمهارة يضرب يد دي توسكا فيسقط سيفه) : تناوَلْ سلاحك يا كونت، ألم أقل لك إن الغضب يجعلك لا تُحْسِن استعمال السلاح (يدخل البعض ومنهم الملك والملكة).
دي توسكا (في رعب) : الملك، الملك (متوعدًا) سنلتقي يا سيدي مرة أخرى (يخرج).
الملك (مبتهجًا وسط مجموعة المدعوين) : إلى المقصف فقد حان الوقت (يلتفت إلى امرأة جميلة، فيتعجَّب عندما تكشف وجْهَها حيث إنها زوجته) الملكة، هذه أنت يا سيدتي، لقد كنت كثير الإعجاب برقصك البديع مع الكاردينال ريشيليو، يا ليتني لم أكن أجهل شخصك الكريم، ويا ليتني سألتك الرقص معك، لقد أحسنْتِ وأبدعْتِ.
الملكة (في فرح) : أشكر الله على النعمة التي نلْتُ بلفت نظر جلالتك إليَّ، وأشكرك كل الشكر على عبارات الإطراء والمديح التي أردْتَ أن تتنازل لتُسْمعني إياها على غير استحقاق!
الملك (في استرحام) : سامحيني يا مولاتي سامحيني، ولا تكوني قاسية القلب (يقترب مكنها أكثر) لقد أسأْتُ إليكِ وألمْتُ قلبك، وها أنا أتقدم إليك معتذرًا سائلًا العفو، وعهدي بك مُحِبَّة للتسامح، قوية الإشفاق، كثيرة الغفران.
الملكة (في دلال) : مولاي يعرف ما في قلبي من الحب والاحترام، وأنا أبتهج كل الابتهاج برضى جلالته عني، ولا أذكر أبدًا أنني كثيرة الحفيظة، نعم أعترف بكَوْني تألمت وبكيت، ولكن هذه اللحظة السعيدة تنسيني كل ما مر من ساعات الآلام ونكد العيش.
الملك (في حنان) : أنتِ مَلَك كريم يا زوجي، أنت خير أمٍّ وأفضل زوج، يا ليت نساء العالمين مثالك في الصبر على نزق الأزواج، وفي التسامح والإشفاق، إنما الحكمة في إصلاح الأحوال بالرفق والعقل لا بالتعنت والعناد.
(ستار)

الفصل الثاني

(صالة قصر الملك، والأميرال جالسًا منهمكًا في أعمال كتابية)
دي توسكا (يدخل منزعجًا) : لقد حَبِطَتْ كل أعمالنا … وضاعت مجهوداتنا بدون ثمرة!
الأميرال (متعجبًا في رعب) : ما هذا الخبر المزعج؟!
دي توسكا (في خوف وإصرار) : الحقيقة أن تُقال لا أن تُكْتَم، فإذا أنا صَرَّحْتُ لك بما نالنا من الفشل والخيبة فثِقْ بأنها الحقيقة المؤلمة!
الأميرال (يتصنع الهدوء) : أنا لا أشك في قولك يا كونت، ولكنني بحاجة إلى معرفة سبب هذا الفشل! وكيف فسد ما دبرنا ورسمنا؟!
دي توسكا (يجلس) : كان من خطتنا أن نوقع النفور والجفاء بين الملك والملكة، حتى لا يجتمع أصدقاء الفريقين حزبًا واحدًا فيكونوا قوة عظيمة تعترض نجاحنا.
الأميرال (يتذكر) : وأذكر أننا قرَّرْنا أيضًا أن نجعل الفريقين يتصادمان، فينالهما معًا الضعف والوهن، ويشملهما جميعًا الارتباك، فلا يعودون يوفقون للاتحاد، وإذا اتحدوا بعد هذا لا يُعْتَد بهم، بسبب ما نالهم من الضعف.
دي توسكا (في غضب) : نعم كان هذا رأينا (في يأس) ولكنني لم أُوَفَّق إلى تحقيقه، ولم أنجح إلا في القسم الأول منه، (في تأثر بالغ) بعد تضحية عظيمة (متذكرًا) رأيت الملك قليل الاهتمام بكل نساء القصر، وبكل ما يختلط به، ولحظت عليه نوعًا من الميل المبهم إلى ابنتي كاترين، فأردت أن أجعلها هي الضحية التي أضحيها، والثمن الذي أدفعه لبلوغ غرضي.
الأميرال (في تأثر) : ثمن باهظ، وضحية عظيمة.
دي توسكا (يقف غاضبًا) : نعم، ولكن مثلي لا يتردد لحظة في تضحية كل شيء للانتقام من الرجل، (يستعيد الذكريات) رأيت أن الملكة تحب زوجها، وأن الزوج يبادلها هذا الحب، وكلاهما حريص على كرامة الزوجية، فرأيت أن أهدم البيت من أساسه قبل أن أضرب أفراده الضربة القاضية، وقد يسهل الإيقاع بالمخزون المذهول، فهيأت كاتريل ابنتي لهذا الغرض، ودرَّبْتها حتى صارت قادرة على العبث بعواطف الملك، ودفعتُها إلى هذا السبيل فنجحت، إن الرجل بلغ سن الشيوخ، والقلب في هذا السن إذا عبَثَتْ به امرأة بحكمة ومهارة؛ لا يحبها صفقة واحدة، ولكن الحب يجيء ببطء، وبحركة لطيفة تتقوى بدون أن تُحس، حتى يبلغ الحب أقصى درجاته، فينفجر القلب انفجارًا، ولا يعود العقل والحكمة يقويان على مصادمة العواطف الثائرة.
الأميرال : نهجْت سبيلًا قويمًا، ورسمت خطة مضمونة النجاح، ولكنني لا أزال أكرر أن الضحية كانت عظيمة، وأن الثمن الذي تدفع أعظم من الذي تريد أن تربح!
دي توسكا (في تأثر شديد) : لا تذكِّرْني دائمًا بهذا الخطب العظيم، ودَعْني أمُرُّ عليه عرضًا في حديثي؛ لأنني أتألم وقلبي يتمزق لشرف ابنتي الذي ضحَّيْتُ في سبيل مطامعي الوطنية وتحقيق رغباتي.
الأميرال (يربت على كتفيه) : ثِقْ بأنني أشاركك في مصابك هذا، وفي الألم العظيم الذي أحسه في قلبك.
دي توسكا (يتذكر) : اسمع يا سيدي تتمة الحديث، أَحَبَّ الملك كاترين بكل قوى نفسه، وعرفَت الملكةُ الأمر فانزعجت واضطربت، وأرادت أن تعالج قلب زوجها، فراعها ما وجَدَتْ فيه من قوة الحب التي غلبَتْه على أمْره، وملأت قلبها يأسًا أو حزنًا، إن ظهور خيانة الزوج صدمة ينخلع لها قلب المرأة وتفقدها الصواب، ولو لم أكن إلى جانب هذه المرأة ربما كانت نَجَحَتْ في الانتصار على زوجها بسبب ما عُرف عنه من رقة العواطف، ومن حبه العظيم لأولاده وزوجته، ولكنني ضللت مساعي الملكة، فلم تَشُكَّ في نصائحي؛ لأنها تعلم أن مُصابي بضياع شرف ابنتي أعظم من مصابها بطيش زوجها، والملك قد يتحول عن حبه فيعود إليها، ولكن الشرف الملوَّث لا يُطهَّر، والعِرْض المبتذل لا يُصان ولا يُعوض منه.
الأميرال (في تأثر) : نعم يا دي توسكا، الشرف الملوث لا يُطهر، والعرض المبتذل لا يُعوض منه، صدقت يا أخي صدقت!
دي توسكا (مستكملًا) : فبواسطة المساعي التي سعيت، وبالنصائح المضللة، أمكن لي أن أفرق بين الزوجين، ففصلت بين أنصارهما، ولكن حكمة الملكة وقوة صبرها واحتمالها حالتا دون توفيقي إلى إيجاد العداء والمخاصمة بين الجماعتين، فانسحبَتْ إلى عزلتها وتركت كل الشئون على غارب الملك؛ تركَتْه يتصرف بقلبه وبشئون المُلك كيف شاء، بدون معارَضة منها ولا من أنصارها، ولو أنها نصحت له لعاداها، ولو هي أظهرَتْ روح المعارضة لسحَقَها، ولكن سياسة اللين والمسالمة أطاشت السهم الذي سددتُ، وبدَّدَت شيئًا من قوة الشَّرَك الذي نصبْتُ للكيد لهما.
الأميرال : المرأة حكيمة.
دي توسكا (باستخفاف) : لست أرى رأيك؛ لأنها سقطت في شراكي، ولو كانت حكيمة ما سقطت، إنما المرأة تمتاز بشيء من الوداعة ولطف المعاشرة، تَظْهران في صورة الحكمة. فلا تنخدِعْ يا صاحبي بمظاهر المرأة، وابحث عن علل ما ترى فتدرك الحقيقة الصادقة.
الأميرال (في تردد) : لست من علماء النفس يا دي توسكا، ومهنتي تجعلني دائمًا في معزل عن الناس، فبصفتي أميرال الأسطول تراني دائمًا على ظهْر بارجتي في البحر، أدرس أحوال الكواكب في السماء والعواصف والأنواء والحديد والنار … لا أكثر من هذا!
دي توسكا : آه يا صديقي! خمسة أعوام طويلة قضيتها في درس نفس هذه المرأة، … وفي تهيئة أسباب سقوطها حتى كدت أفوز، فإذا بقوة مجهولة تقاوم مجهوداتي، وتعرقل أعمالي ومشروعاتي (متذكرًا) يا ألله من هول ما أنتقم من هذا الفضولي إذا عَرَفْتُه!
الأميرال (بدهشة) : كيف اعترضَكَ هذا الرجل؟ ومن هو؟ وهل هو بمفرده؟ أو واحد من جماعة؟
دي توسكا (مستنكرًا) : كل هذه أسئلة لا أستطيع الجواب عليها؛ لأنني لم أتوفق لمعرفة أي شيء عن هذا الرجل، وكل ما وصلت إلى الشعور به هو ما وَضَحَ من فشل تدبيري في حفلة الرقص (بضيق) ففاز هذا الداهية كل الفوز؛ أطفأ النور وسرق — بمهارةٍ وخفةٍ — كُلَّ نوتات الموسيقى … فتبدل برغم الجميع برنامج الموسيقى، فاستاء الملك ولم يرقص مع كاترين، فانهدم بهذا التغيير أساس حيلتي وطاش سهمي.
الأميرال (متعجبًا) : ما هي العلاقة بين سرقة النوتات وبين عملك؟!
دي توسكا : الملكة قوية الغيرة على زوجها، ورَقْص الملك مع ابنتي أمامها كان يحرك في نفسها الغيظ والحقد، فأجد من هذه الحالة النفسية واسطة لِحَمْلها على الاتفاق معي للانتقام من زوجها ومن ابنتي (بغيظ شديد) فظهر الرجل المتنكر بزي الكاردينال وفَضَحَ تنكُّري، فلم أستطع الرقص مع الملكة (بتألم) ورقص هو معها فأمكنه أن يتغلب على إرادتها الضعيفة، فاستمالها إليه وأمكنه بالدهاء أن يجعلها تنحاز إليه ضدي، فعزمْتُ على قتله؛ لأنه واقف على أسرارنا ووجوده خطر علينا، فحال دون هذا مجيء الملك والمدعوين، وهَرَبَ الرجل مني، فلم أتمكن من اللحاق به ولا من معرفة مكانه.
الأميرال : وهل قابلت الملكة بعد تلك الليلة؟
دي توسكا : نعم! وهي لا تزال مستسلمة لحبها ولعواطفها نحوي، ولكنها من جهة أخرى لا تزال تُعْنَى بالرجل المتنكر وتعتمد عليه، مع كونها هي الأخرى لا زالت تجهل شخصه ولا تعرف مِنْ أَمْرِه شيئًا.
الأميرال : وهل يمكن لي أن أقابلها اليوم؟ لا بد أن أبرر مجيئي إلى القصر بمثل هذه الزيارة.
دي توسكا : انتظر قليلًا حتى أستأذن لك (يخرج).
الأميرال (في خوف لنفسه) : إن قلبي يكاد ينخلع من الرعب لمجرد ظَنِّنا بوجود رجل واحد واقف على نوايانا وأسرارنا، يا ألله من هول ما يصيبنا لو افتضح الأمر.
دي توسكا (داخلًا في غضب) : لقد خَرَجَت اللعينة للتنزه منفردة، وهذه فرصة يجب أن أنتهزها للخلوة بها والتحدث معها في كثير من الشئون، ويجب أن أعجل للانتهاء من كل هذه الأمور صفقة واحدة، فما عدت أحتمل الصبر، وبتُّ أخشى الخيبة والفشل (يهم بالخروج).
الأميرال (لاحقًا بالكونت) : بادِرْ إذَنْ يا صاحبي للحاق بها، وكن حريصًا في حديثك، فقد تكونُ تنبهْتَ في أمرك.
دي توسكا : اعتمِدْ عليَّ فما أنا بالرجل الساذج (يخرج).

المنظر الثاني

(بنفيه وسط الأشجار في الغابة)
بنفيه : لا شيء في الوجود يتعذر على صاحب الإرادة القوية والعقل الناضج، وكل شيء يتحقق البلوغ إليه بالتفكير فيه أولًا ثم برسم السبيل المؤدي إليه، ثم بتنفيذ ما قَرَّرَ العقلُ، فإذا لم يصل الإنسان إلى مراده وحبط في عمله لا يكون هذا دليلًا على التعذر، وإنما على خطأ الإنسان أو على الارتباك في تنفيذ ما رَسَمَ العقل، أنا أحب الملكة وأريد أن أصل إلى قلبها، وهو موصد في وجهي لأنها تحب دي توسكا، هذا هو كل موضوع البحث، فهل يمكن أن أبلغ إلى غرضي وأحققه؟! إنه لأمر ممكن لأنه لا شيء متعذر، ماذا يجب أن أعمل لأنجح؟! يجب أن أستأصل من نفسها حب دي توسكا ليتسع المجال لي، كيف يمكن هذا والحب والكراهة لا يكونان بإرادة الإنسان المطلقة؟! حيث إن الحب يجيء لاعتقاد المحب بوجود صفات وخلال في شخص من يحب يُعْجَب بها وتجذبه إليه، فالوصول إلى العكس يقتضي وجود صفات تُضادُّ الأولى؛ تبغضه وتنفره، فإذا ثبت للملكة أن دي توسكا خائن، وأنه لا يحبها، وأنه ينافق ويسلِّم أسرارها وكتبها إلى خصومها لتكون سلاحًا في أيديهم يفضحونها به عند الوقت المناسب، فإنها بدون شك تنفر منه، وينقلب حبها إياه بغضًا وكراهة. وكيف أُحَوِّل قلبها إلى حبي أنا؟! أخدمها بإخلاص لا أدل عليه وإنما أجعلها تُحِسُّه وتدركه، وألفتُ نظرها إلي بأحوال شاذة وسلوك غريب غير عادي … أنقذها من أخطار أهيئها بنفسي لأنقذها منها فتكون مدينة لي بحياتها وبشرفها، ولا تتردد بعد ذلك في الاستسلام إلى عاطفة الحب، إن قلبي لا يقوى على رؤيتها في خطر … ولكن ما حيلتي ما دمت لا لأضمن الاختصاص بقلبها إلا بعد إنقاذها من خطر داهم (تدخل الملكة، راكبة فرستها، تستغيث وتصرخ).
الملكة (لفرستها) : يا للمعونة! يا للمعونة! يا حارس الغابة … ويلاه ماذا أصاب الفرس؟!
بنفيه (مختبئًا) : أرى المادة التي حَقَنْتُ بها الفرس بدأ يظهر مفعولها!
الملكة (تستغيث) : يا حارس الغابة، يا للمعونة! الفرس جُنَّتْ، ألا من مغيث رباه! رباه إنها منطلقة إلى النهر!
بنفيه (يدخل) : لقد آنَ أنْ أنقذها فقد بلغت إلى حالِ الخطر المحقَّق (يُطْلِق النار على فرس الملكة، فيسقط ويُسرع إلى الملكة الواقعة على الأرض) لا تُرَاعي يا مولاتي ولا تخافي فقد زال الخطر.
الملكة (تنظر إليه) : الحمد لله، الحمد لله، فقد كِدْتُ أموت من الرعب، شكرًا لك يا سيدي فقد أنقذْتَ حياتي من الموت المحقق.
بنفيه : لا تشكريني على واجب قمت به يا مولاتي، بل اشكري الله الذي جاء بي في طريقك في مثل هذا الوقت.
الملكة : نعم أشكر الله (تتسمع لصوته متذكرة) من أرى؟ … أذكر أنني سمعت هذا الصوت قبل الآن!
بنفيه (في خجل مصطنَع) : نعم، حصلت على هذا الشرف في قصر الملك، في حفلة الرقص.
الملكة (تتذكر) : آه يا سيدي، نعم، أنت الذي كنت متنكرًا بزي الكاردينال، ما أضعف ذاكرتي! أنت صاحب القيثارة والقصائد، أنت دائمًا في طريقي، وأنا دائمًا أكون مدينة لك بالشكر.
بنفيه (برِقَّة) : أنا من عبيد الملكة، وقلبي وحياتي وشرفي … كلها أضحيها في خدمة ذات الجلالة.
الملكة : هذه الرقة في الحديث لا تمنع أن أكون مدينة لك بحياتي، فاطلب مني ما تشاء. تَعْرِفُ أنني لست ممن يجحدن المعروف.
بنفيه : بل أطلب إلى الله أن يحفظ مولاتي من كل شر.
الملكة (في تأثر) : نعم يا سيدي، سله كثيرًا من أجلي؛ فإنني بحاجة إلى من يسأله عني.
بنفيه (متعجبًا) : ولِمَ هذا؟! ألا تسألين بنفسك؟! ما أنت بحاجة إليَّ؟! إن الله يُصْغِي لكل من يسأله بحرارة!
الملكة : ولكنني غير حقيقة بالتضرع إليه؛ لأنني أشعر بتوبيخ ضميري على خطيئات لا ترضيه!
بنفيه : تَذَكَّرِي يا مولاتي أنني أُمَثِّل دور الكاردينال تمثيلًا، وما أنا بالكاهن الصادق الذي يصح الاعتراف له بالخطايا، اذكري هذا ولا تستسلمي للضعف الذي انتابك بعد هذا الاضطراب.
الملكة : أنا ضعيفة حقيقة، ولكن الضعف الذي تظنه طرأ الآن إنما هو مستمر دائمًا أحسه في نفسي، فأنا بحاجة إلى قوة من الغير أستعين بها على مقاوَمَة أحوال الحياة المتقلبة، ولكن هذا الذي أنشد تُمْنَح لي منه بضاعة مزيفة تضر ولا تنفع!
بنفيه : أنا أعلم من أحوال مولاتي ما لا تعلم هي عن نفسها! وإنني لواقف على أسرارها كلها، وعلى ما يخفون منها وما يريدون بها!
الملكة : نعم. نعم أنت صادق؛ لأنك ذَكَرْتَ لي شيئًا من هذه الأسرار في حفلة الرقص، ولكنني كنت مرتابةً في أمْرك؛ خصوصًا بعد أن رَفَضْتَ أن تُعَرِّفَنِي بحقيقة شخصك!
بنفيه : لي العذر في هذا التنكر، فإنَّكِ ضعيفة الإرادة وواقعة تحت تأثير دي توسكا صديقك، وقد رأيتِ بنفسك كيف كان يشاكسني ويطلب مصادمتي بعد أن رآني إلى جانبك نتحدث؛ لهذا كنت أخشى أن يعرف منك حقيقة حالي واسمي في لحظة من لحظات الضعف، ولكن هل ما تزال مولاتي تشكُّ في إخلاصي لها؟!
الملكة : معاذ الله! هل تطمع مني بأكثر من حياتي، إنني مدينة لك بها وأدفع لك ثمنها ما تشاء!
بنفيه : إن شعرة واحدة من رأس الملكة تُفدى بكل الأرواح والمهج، فصدقي بأنَّ تنكُّري عنك واجب، إذا خالفته كنت سببًا في الإضرار بشخصك المبجل المحبوب، ولولا وثوقي من هذا لجثوْتُ عند قدميك أذكر هذا الاسم الحقير.
الملكة (متعجبة) : وكيف يكون تنكُّرك لفائدتي يا سيدي؟! أنا لا أُدْرِك ما ترمي إليه!
بنفيه : إن تنكُّرِي يمكنني من بقاء خصوم الملكة الذين يكيدون لها في غفلة عني وعن سهري على سلامتك، وعن اقتفائي خطواتهم في كل ما يُقْدِمون عليه!
الملكة (فرحة) : إذن أنت ساهر على سلامتي من خصومي!
بنفيه : بل إنني ضنين بلحظة من حياتي، تضيع في غير هذا الأمر!
الملكة : أشكر لك هذا الشعور يا سيدي.
بنفيه : هل تسمح لي مولاتي بأن أسألها عن أَمْر تهمني معرفته.
الملكة : نعم.
بنفيه (في خبث) : أين يا مولاتي الخاتم، الذي أهداك الملك إياه، يوم عدت من سياحتك في الشرق؟!
الملكة (تتذكر) : الخاتم (متعجبة) وهل وصل إلى علمك أيضًا أمْر الخاتم؟!
بنفيه : نعم. وبودي أن تكوني صريحة في الجواب؛ لأنني أريد أن أدفع عنك خطرًا جسيمًا، ربما يصيبك بسبب هذا الخاتم!
الملكة (بلا مبالاة) : فُقِدَ مني منذ شهور.
بنفيه (بمكر) : إنك لا تزالين في شكٍّ من إخلاصي لك!
الملكة (في تردد) : لا، لا. أنا واثقة منك كل الثقة، ولكن!
بنفيه (في جرأة) : إذن دعيني أوفِّر عليك مشقة الإجابة على هذا السؤال الخطير، وأجيب عليه بدلًا منك، الخاتم يا مولاتي أُهدي إلى دي توسكا، وحين أَدْرَكْتِ خطأك بإهداء الخاتم إليه عُدْتِ فطلبْتِ استرداده فاعْتَذَرَ لك بأنه فُقِدَ، وجاء بخاتم يشبهه كلَّ الشبه ليحل في نظر الملك مكان الخاتم الأول!
الملكة (في خوف وتعجب) : عجيب! إنك واقف على كل شيء من أسرارنا (في حزم) يا سيدي إنك ترعبني بهذه المقدرة!
بنفيه : والذي تجهلين من أمر الخاتم هو الجزء الأعظم خطرًا في المسألة، الخاتم يا مولاتي أُرسِلَ إلى دوق هيس ويمر، ولا يزال موجودًا عنده!
الملكة (في اندهاش) : دوق هيس ويمر … ويلاه ويلاه. ماذا أسمع!
بنفيه : هل تعرفين ماذا يريد الدوق من الحصول على الخاتم؟!
الملكة (في رعب) : رباه! أي سهم بقي في كنانة الدهر، ولم يصوبه إلى فؤادي؟!
بنفيه (في ثقة يُخرج ورقة من جيبه) : وهذه يا مولاتي صورة الخطاب الذي بُعِثَ به إلى دي توسكا تهدين إليه الخاتم، مأخوذة بالفوتوغراف عن الكتاب الأصلي. وهو بخطك وتوقيعك!
الملكة (تشيح بوجهها جانبًا) : رحمة رحمة يا سيدي!
بنفيه : والدوق قد حصل على الصورة الأصلية وأبقاها عنده مع الخاتم ليقدمها إلى الملك في الوقت المناسب، أي إنه يريد أن يهديك بهذا السلاح الماضي، ليحصل منك على ما يطمع، فإن امتنعْتِ ينتقم منك بلا شفقة، أي إنه يرغمك على الانتحار فرارًا من العار!
الملكة (تخفي وجهها بيديها) : رباه. رباه. ماذا فعلتُ وماذا أسمع؟!
بنفيه : تسمعين الحقيقة المؤلمة، ولكنها حقيقة يا مولاتي.
الملكة (في استرحام) : سيدي، رحماك رحماك، خذ بناصري، يلوح لي أنك إنسان لا كسائرِ الناس، وما رأيت من عملك إلى الآن إلا ما يدل على مقدرة فوق العادة، ولا أظنك تُطْلِعني على هذه الأسرار لإزعاجي، أنت الذي أنقذْتَ حياتي، أنت الرجل القوي لا تريد إزعاجي أنا المرأة الضعيفة، أنا الملكة التعسة الشقية، ولا تريد محاسبتي على ضعفي وعلى حب دي توسكا، فأنت تريد إذن إنقاذ شرفي كما أنقذت حياتي، أليس هذا صحيحًا يا سيدي؟! طمْئِنْ قلبي بكلمة منك. رُدَّ إليَّ نفسي المسكينة والسلام!
بنفيه (مشفقًا عليها) : نعم يا مولاتي أردت أن أنقذك، (في حزم) وإنما بشرط واحد لا مناص منه!
الملكة (في توسل) : تكلم. إنني لا أرفض ما تسأل، ماذا تطلب؟! كل ثمن أدفعه ما دام في استطاعتي!
بنفيه : أشترط عليك أن لا تعودي لمثل هذا الخطأ، حتى نصلح الماضي ونخفي عوراته، أشترط عليك أن لا تكتبي أبدًا مثل هذه الخطابات. هل تعدين؟!
الملكة (فرحة) : نعم يا سيدي بدون تردُّد!
بنفيه (في حزم) : ولا لدي توسكا!
الملكة (في خوف) : ولا لدي توسكا!
بنفيه : إذن ثقي بأنني أرد لك هذا الخاتم، وكل رسائلك التي تخافين من ظهورها، فإياك أن تبوحي بهذا السر الخطير، فإن كلمة منك بخصوصه لأي إنسان تعرقل عملي وتدنيك من الانتحار.
الملكة : ثِقْ بوعدي ولا تَخَفْ!
بنفيه : أخشى أن يعاوِدَك الضَّعْف؟!
الملكة : إن تصوُّرِي ما يتهددني من الخطر يقويني على هذا الضعف.
بنفيه : إذن عودي إلى قصرك، وإياك أن يعلم أحد بأمر هذه المقابلة.
الملكة : متى ترد إليَّ الخاتم والرسائل؟!
بنفيه : يوم أحصل عليها وأجيء بها من عند الدوق.
الملكة : أنت عناية الله بعثها لإنقاذي، فشكرًا لله، ولكن ما الذي يدفعكَ يا سيدي للمخاطرة بنفسك من أجلي؟! وأنت تعلم أن الدوق جبار من الجبابرة العظام، وتعلم أنني ملكة ضعيفة، لا حول لي ولا قوة!
بنفيه (في حنان) : يدفعني إلى الأخذ بيدك وانتشالك من الهوة التي سقطت فيها دافع قوي لا أعرف كيف أسميه؛ فالأمر الذي يسبب ضعفك أمام دي توسكا هو بعينه السبب الذي يقويني لإنقاذك!
الملكة (فرحة) : فهمتُ فهمتُ. أنت تحبني!
(ستار)

الفصل الثالث

(خمارة في لوكاندة، يظهر الدوق يحتسي الخمر بشراهة)
ماري : جاك … من هذا الرجل الذي لا يشفق على كئوس الخمر؟!
جاك (ناظرًا إليه متعجبًا) : ألا تعرفينه يا ماري؟!
ماري (في استنكار) : ما رأيته غير هذه الليلة (الدوق يشرب بكثرة مفرطة) انظر انظر كيف يفرغ الخمر في جوفه؟ إنه يشرب بلا وعي ولا حذَر، كأنه يريد أن ينتحر!
جاك (يلتفت يمينًا ويسارًا في حذر) : هذا عظيم من أكبر عظماء أوروبا يا ماري!
ماري (مستنكرة) : لعلك تمزح! وهل هكذا يفعل العظماء؟! يقتلون أنفسهم بالخمر؟!
جاك : لكل إنسان عيوب خاصة، ومكان ضعف معيَّن، فمن عيوب هذا الرجل الاستهانة بقيود الواجبات والعادات، والإدمان على الخمر، وحب النساء!
ماري (في غضب) : وهل تَعُدُّ حب النساء من العيوب يا جاك؟! سامحك الله، وماذا تفعل أنت؟ ألست تحبني؟!
جاك (مستدركًا) : أحبك يا ماري، ولكن حب هذا الدوق للمرأة لا يماثل حب سائر الرجال إياها!
ماري (في تعجب) : وهل هو دوق؟!
جاك (في قوة) : هو دوق، ومن أرفع البيوت عمادًا وأعظمهم جاهًا!
ماري (تنظر في تعجيب) : وكيف يحب هذا العظيم السكير؟!
جاك : يحبها لأول لحظة يراها، وينساها لأول خطوة يبعد، ولا يفكر في النساء إلا وهو في حال السُكر، ويندر جدًّا أن لا يكون إلا سكرانًا ثملًا!
ماري : غريب أمْر هذا الإنسان، وكيف ترضى عشيقته بهذه التصرفات؟! وكيف ترتبط به؟!
جاك : أراك لم تدركي ما أريد؟! ليس الدوق من الذين يرتبطون مع امرأة معينة بحب ثابت أو بقيد دائم، ورأيه في المرأة لا يسرُّك أن تسمعيه، فالرجل يطلب الشراب يملأ به جوفه، ولا يَكُفُّ إلا إذا فاضت الخمر من فمه، وطاش عقله ونظره، فيطلب المرأة — وكل امرأة يصادفها ترضيه — فيزعجها بأحواله الشاذة وسماجته، ولكنه يرضيها بسخائه، فإذا فارقها لا يعود يذكرها، أو يذكر أنه عرفها، وكل نساء الشوارع والحانات يعرفن له هذه الفضيلة، ويستفدن منها كل الفائدة، فإنه يحبهن جميعًا، ولا يعرفهن أبدًا، ولا يختار ولا يفكر في الاختيار، ولو صادفه دب في ثوب امرأة لرضي به وجلس إليه يغازله، ويردد ما حَفِظ من العبارات لملاطفة المرأة!
ماري (مستنكرة) : كان الأولى بالدوق أن يشرب من دن الخمر رأسًا، بدلًا من أن يُتْعِب نفسه في تحويل الدن إلى جوفه بواسطة الكئوس الصغيرة (تدخل سيدة جميلة، وتجلس على إحدى الموائد، فينظر إليها الدوق).
جاك (يلحظ الموقف) : انظري يا ماري كيف يحملق إلى السيدة التي جلست إلى تلك المائدة، أنا أراهن على أنها استلفتتْ نظره، وعلى أنه يفكر الآن في الانتقال إلى مائدتها!
ماري (ترقُب المشهد باهتمام) : السيدة جميلة جدًّا يا جاك (في تهديد) هل تعرفها؟!
جاك (في تردد) : ما رأيتها أبدًا قبل هذه اللحظة، ولكن مظهرها وثيابها تشير إلى أنها نبيلة وشريفة، انظري، إن المقاعد التي حول المائدة محجوزة، إن المرأة على موعد مع خليل أو مع قريب!
ماري (في لهفة) : انظر يا جاك، انظر إلى الدوق، ها هو يتقدم إلى ناحيتها، لعله يعرفها!
جاك : أنا واثق كل الثقة من أنه لا يعرفها ولا رآها قبل الآن!
ماري (في استغراب) : وكيف يتعرف إليها؟! وكيف يسمح لنفسه بالجلوس على مائدتها؟!
جاك : الرجل سكران، وسيختلق عذرًا أو حيلة للجلوس، (الدوق يتحرك ويصل إلى مائدة السيدة) انظري. ها هو يجلس بدون تردُّد ولا تكلُّف، كأنه لا يشعر بوجودها!
السيدة (مستغربة من جرأة الدوق) : تنبَّهْ يا سيدي. إن هذه المقاعد محجوزة لي ولمن معي، ولا يلبث أصحابها أن يجيئوا!
الدوق (بلا مبالاة) : محجوزة يا سيدتي!
السيدة : نعم محجوزة لنا من قبل!
الدوق (يترنح في جلسته) : ولكنني في حالة تعب شديد، وقد اعتراني دوار في الرأس وألم في المعدة وارتخاء في المفاصل، فهلا تسمح لي السيدة بالراحة بضع دقائق حتى تهدأ آلامي!
السيدة : إن اعتذارك يا سيدي يرغمني على قبول ما تبديه، فالإنسانية تقضي بهذا (يدخل الخادم).
الدوق (للخادم) : زجاجة شمبانيا
السيدة (في استغراب) : ما هذا الفضول يا سيدي؟! إن تصرفك لا يتفق مع ما أبديت من العذر! وأنا لا أسمح لك بالبقاء!
الدوق (في جرأة) : لنفرض أنك لا تريدين بقائي، فكيف ترغمينني على ترك هذا المقعد؟!
السيدة (في حزم) : أطلب إليك الابتعاد حالًا!
الدوق (في هدوء) : وإذا فُرض وكنت سمجًا ولم أُطِعْ هذا الأمر الذي لا يتفق مع إرادتي وسروري!
السيدة : أدعو الخادم فيطردك من هنا (بتودد وهدوء) ولكنك لا تلجئني طبعًا إلى هذه الغلظة!
الدوق (فرحًا) : طبعًا طبعًا؛ لأنني لا أريد أن أُطْرَد، ولا أريد أن تتهم سيدة مثلك بالغلظة، خصوصًا مع رجل مثلي يُدعى دوق هيس ويمر!
السيدة (في اندهاش وفرح) : دوق هيس ويمر!
الدوق (في غرور المنتصر) : نعم يا سيدتي!
السيدة (تمد يدها بالسلام) : لي الشرف التام بالتعرف إلى سموك الكريم، آه يا سيدي كم يكون زوجي سعيدًا حين يراك، إنه مدين لصاحبة السمو الدوقة والدتكم بمنة عظيمة حفظت بها شرفه وحياته، وهو أبدًا يذكر اسم هيس ويمر مشفوعًا بالدعاء لأهل هذا البيت (يدخل الخادم بزجاجة الشمبانيا).
جاك (يترقب المشهد) : هل رأيت يا ماري كيف أنه تعرف إليها بلحظة، ها هما بدآ يشربان نخب بعضهما!
ماري (ترْقُب المشهد باهتمام) : انظر، انظر. ها هو يضغط على يدها ويداعبها بقدمه!
الدوق (في غزل) : إن جمالك فاتن جذاب!
السيدة (في رقة) : بل إن لطف مولاي هو الذي يحمله على التنازل للنظر إلي!
الدوق (يقترب منها) : بل إن هذا الحُسن يجذب إليه عقلي وقلبي!
السيدة (تقترب هي أيضًا) : إنك تخجلني يا مولاي بهذا التعطف الذي لا أستحق!
الدوق (يقترب أكثر) : أنت زهرة فاتنات باريس وعروس أحلام الشباب، بل أنت منيرفا إلهة الجمال … (يقدم إليها الكأس) الخمر تذهب إلى الرأس، ولكن الكأس التي أتناول من يدك تخطئ طريق الرأس وتذهب إلى القلب!
السيدة (في دلال) : مولاي، إني سعيدة بهذه اللحظة التي أقضيها إلى جانبك … وبودي لو تطول مدى الدهر!
الدوق (في خبث ودهاء) : وإنني لأتوق إلى ما بعد هذه اللحظة … وبودي لو يكون الاجتماع في غير هذا المكان المزدحم بالجماهير!
السيدة (تبتعد عنه فجأة) : ها جاء زوجي (يدخل بنفيه متنكرًا).
بنفيه (معتذرًا) : لقد أبطأت عليك يا تيريز، أعذريني فإن … (ينظر إلى الدوق مستغربًا جلوسه على مائدة زوجته).
السيدة (تقاطعه) : اسمح لي أن أقدمك إلى السيد العظيم الذي غمرتْكَ والدتُه بمنَّتِها، والذي تذكر اسم عائلته دائمًا بالدعاء والحمد!
بنفيه (مقاطعًا فرحًا) : لعله مولاي الدوق هيس ويمر!
السيدة (في سعادة) : نعم. هو بعينه ذلك السيد العظيم!
بنفيه (مستبشرًا) : ليلة مباركة، وشرفٌ ما كنت أؤمله، وسعادة ما حلمت بها، ما أسعدك يا زوجي بالمكث مع السيد العظيم (يدخل الخادم) زجاجات من الشمبانيا وكأس لي.
الدوق (ينظر إلى الزوجة) : سروري عظيم بمعرفة السيدة (يملأ الكأس).
بنفيه (غير مهتم بنظرات الدوق لزوجته) : أسيرة منتكم … السيدة دي ترامبل!
الدوق (في نشوة) : اسم سأذكره ما حييت، وأذكر هذه الليلة الحافلة.
بنفيه : هي ليلة رأس السنة الجديدة يا مولاي، وهي فأل حسن يجعلني أومل بأن العام الجديد يكون عام خيرات وبركات لمناسبة حظوتنا بمعرفة شخصك الكريم … (يحضر الخادم) مولاي. بقيت دقيقة واحدة تودع أثرها العام الحاضر ونستقبل العام الجديد (تدق الساعة الثانية عشرة) فاسمح لنا أن نشرب نخب سموكم في هذه اللحظة ليكون عامنا الجديد مباركًا.
الدوق (ينظر إلى المرأة وهو يترنح) : وأنا أقترح أن نشرب الكأس الثانية … نخب زوجتك الجميلة السيدة … (يترنح أكثر من السُكر).
بنفيه : دي ترامبل (يتظاهر بالسُكر أيضًا).
الدوق (متذكرًا) : نعم السيدة دي … دي ترامبل (يكاد أن يسقط).
بنفيه (يترنح أكثر) : يلوح لي أنني ثملت من الخمر، وما عدت أستطيع الوقوف (يكاد أن يسقط).
السيدة (تتظاهر بالشعور بالإغماء) : وأنا أشعر بدوار شديد في رأسي، وأحس المكان يرقص بمن فيه (تتظاهر بالسقوط).
الدوق (يسندها فرحًا) : استندي على ذراعي يا سيدتي العزيزة، فأنا لا أشعر بشيء!
بنفيه (يمسك بالدوق) : وأنا أستند على ذراعك الآخر يا مولاي، فإن الأرض تضطرب تحت قدمي (يخرجون جميعًا مستندين بعضهم على بعض).

المنظر الثاني

(منزل)
خادم (غاضبًا) : ما هذه الحياة؟! أقضي كل نهاري، والشطر الأعظم من ليلي في الخدمة، بدون أن أجد لحظة قصيرة للتخلص من هذه الأعمال المتعبة، حتى في ليالي الأعياد، وفي ليلة رأس السنة الجديدة، إن سيدتي ستجيء كعادتها متأخرة وثملة من الخمر، فلا أستطيع مبارحة المنزل إلا بعد انقضاء أوقات النزهة، وا أسفاه! كنت أريد أن أُسَرَّ ببدلتي الجديدة، لقد دفعْتُ ثمنها غاليًا، وأعددتها لهذه الليلة لأتنزه بها وأنا مستند على ذراع حبيبتي كلايا، ويلاه ليت هذه السيدة تجيء فأنصرف إلى موعد كلايا (طرْق بالباب) يا ترى من الطارق؟ (يذهب ويفتح الباب، فيدخل الدوق والمرأة ممسكين ببنفيه ثملًا، فيأخذ مكان المرأة).
السيدة (داخلة) : من هنا يا مولاي، رويدًا رويدًا، فإن جسمه ثقيل (يدخل الدوق والخادم يحملان بنفيه).
الدوق (فرحًا بعد أن وضع بنفيه) : لقد خلا لنا الجو!
السيدة (بدلال) : انتظر يا مولاي حتى أصرف الخادم، فقد ينقل لزوجي ما يرى ويسمع (للخادم) هل انتهيت من عملك (يُشير برأسه نعم) لقد جئت مسرعة حتى لا أحرمك من النزهة والرياضة في هذه الليلة الزاهرة (تُخرج مالًا وتعطيه إياه) خذ هذا الريال أنفقه على سهرتك … عام سعيد.
الخادم (في فرح) : أعاده الله على مولاتي بالخير، هل تأذنين لي بالانصراف؟!
السيدة : نعم عن طيب خاطر، اذهب وكن عاقلًا ولا تشرب كثيرًا، واحترس من السكارى ومن طيش المخمورين!
الخادم : سأعمل بنصيحة سيدتي (يخرج).
السيدة (تغلق الباب وراء الخادم وتخلع ثيابها وهي تقترب من الدوق) : لقد شَرَّفْت منزلنا يا سيدي الدوق، كم أنا سعيدة بهذه الخلوة، كم أُسَرُّ يا مولاي من الرجال الأقوياء، فإن الخمر لا تزيدهم إلا ثباتًا وتعقلًا ولطفًا!
الدوق (ناظرًا إلى جسدها) : أنا أُرَاهِن من يشاء على شرب عشرين زجاجة من الشمبانيا بعد الذي شربت.
السيدة : ولكن زوجي ضعيف، يسكر من لا شيء، والقدْر القليل من الخمر يذهب بصوابه، فلا أهنأ معه في حفلة ولا في عيد (تقترب منه بدلال مُمْسكة معطفه) هل يريد مولاي الدوق أن يخلع معطفه؟!
الدوق (يساعدها على خلع المعطف) : نعم، وأريد أن أخلع ثيابي أيضًا.
السيدة (تملأ له الكأس وتضع فيه شيئًا) : ما هذه الرأس التي لا تفقد صوابها (لنفسها) لا أظنه يقوى على هذا المخدر (للدوق) ليشرب مولاي هذه الكأس نخب ليلتنا الزاهرة بوجوده.
الدوق (يأخذ منها الكأس ويصبه في جوفه صبًا) : سيبقى ذكر هذه الليلة في ذاكرتي إلى الأبد (ينظر إلى جسدها) فإن جمالك الفتان ليس مما يزول تأثيره من القلب … (يبدأ في الترنح) ولا صورته من الذهن، أنا أحبك يا سيدة … يا سيدة! (يكاد أن يسقط من تأثير المخدر).
السيدة : ترامبلان.
الدوق : ترامبلان (يشعر بدوار ويتلعثم في الكلام) … تراﻣ … بلان … اسم لطيف … أين أﻧ … ﺖ … أنا ما عدت … أراك … ما هذا الدوار؟ رأسي! رأﺳ … ﻲ (يسقط على الأرض).
بنفيه (يفيق من إغمائه المصطنع) : أحسنت يا جوزيفين في تمثيل هذا الدور!
السيدة : كنت أخشى يا سيدي أن لا يؤثر فيه المخدر كما لم يؤثر فيه السكر!
بنفيه (يتفحص الدوق ويتأكد من إغمائه) : الرجل قوي الجسم ومعتاد الشراب، أحسنت في إعطائه المخدر وإلا لأفلت من يدي، أحضري السلة الكبيرة (تذهب لإحضار السلة فيقول لنفسه) المرأة لا تؤتمن على السر، ولو كانت عاشقة فمن الحكمة أن يُكتفى بها كآلة، وأن يُتقى بجهلها شر الوشاية والخيانة، المرأة ضعيفة، وأضعف منها من يركن إليها، (تدخل جوزيفين ومعها السلة) جوزيفين. تعالَيْ إلى جانبي، فإنني بحاجة إلى محادثة قصيرة، تعالَيْ أيتها الجميلة.
السيدة : كل الناس يُعْجَبون بهذا الجمال ويؤثر فيهم إلا أنت يا بنفيه، فإن قلبك كالصخرة، لا يحس ولا يشفق على المرأة إذا أحبَّتْك!
بنفيه (بصوت رقيق) : وهل تحبينني حقيقة يا جوزيفين؟!
السيدة (في حنان) : هل أنت في شك من هذا؟! أبَعْد كل الذي رأيتَ تشكُّ في حبي إياك؟! جربني يا بنفيه لتتحقق من صدْق قولي، فإن قوة الحب الذي أشعر به تجعلني أضحي حياتي إطاعة لك، حيث تشاء وكيف تريد!
بنفيه (بخبث) : أنت جميلة أيتها الفتاة (يبتعد عنها قليلًا) ولكن الذي أحبه في المرأة ليس هو الجمال المُغري، ولا المحاسن الجذابة، أحب فيها قلبها إذا كان لها قلب، وأحب في القلب الإخلاص، فهل أنت مخلصة لي؟!
السيدة (بعتاب) : ماذا يفيد القول؟! وهل مثلك يُقْنع من مثلي بالكلام والوعود والعهود، دَعِ الحوادث تُظْهِر لك ما تسأل عنه!
بنفيه : يا جوزيفين. لقد شاركْتُكِ في أمْرٍ أضن على الرجال بمشاركتي فيه، وأطْلَعْتُك على سرٍّ أخشى أن تبوحي به، نعم أنت تحبينني، ولكن المرأة ضعيفة وغير حريصة، فأخشى أن يهتدي البوليس بواسطتك إلى سرِّ هذه الحادثة فينتصر عليَّ ويعرقل أعمالي، ولقد كنت إلى هذه اللحظة أمزح معه وأسخر به، فأنا لا أشك في إخلاصك وأمانتك، ولكنني لا أركن إلى المرأة ولا أَثِق بها للأسباب التي ذَكَرْتُ … ضَعْفها … وعدم حرصها … وإليك الدليل؛ ما اشترك رجل وامرأة في حادثة، إلا وكانت المرأة سببًا يُرْشِد العدالة إلى شريكها.
السيدة (في صدق) : صدِّقني يا بنفيه، إنني أوثر الموت على أن يصل إليك مكروه!
بنفيه (في حنان) : قد يَصْدق ما تقولين، ولكن ذلك رأيي ولا أحيد عنه!
السيدة (متعجبة) : وماذا تريد أن تعمل؟! ولماذا أشركْتني في الأمر ما دمت لا تثق بي؟!
بنفيه : أشركْتُك في الأمر لأن المرأة هي الشرك الذي أصيد به هذا الدوق الفاجر، وأما منْع الخطر فإنني سأعتمد فيه على إخلاصك وعلى حبِّك إن كنت تحبينَنِ!
السيدة (في إصرار) : بنفيه، لا تتردَّدْ فيما تريد أن تفعل بي، ها أنا ذا بين يديك، مُرْنِي أُطِعْكَ، أو اقتلني إذا شئت، فإن القبر يضْمَن لك كتماني هذا السر!
بنفيه (في ود وحنان) : لا حاجة لي بقتلك يا جوزيفين الجميلة؛ فإنني لم أتمتع بعدُ بهذا الحسن النادر، وكل ما أريده منك أن تثبتي لي إخلاصك بتضحية أيام من حياتك تقضينها في السجن الذي أختاره لك!
السيدة (مندهشة) : في السجن … في السجن! هل تريد أن تلقيني في السجن؟! ماذا تطلب إليَّ يا بنفيه!
بنفيه : أطلب إليك أن تتذكري أنني أحبك، وأن هذا الحبيب يريد منك أن تطيعيه، يريد منك أن تغادري هذا المنزل، وأن تسجني نفسك في المكان الذي يختاره لك، إلى أن يضلِّل البوليس ويغتنم ما يطمع به، ثم يعود إليك ليختطفك من باريس ويذهب بك إلى حيث تنعمين بالحب.
السيدة (في خوف وتردد) : ألسْتَ تخدعني يا بنفيه؟!
بنفيه (في ثقة) : هَبِي أنني أخدعك، هل ترفضين أن أخدعك؟! ألا تريدين أن تطيعي إرادتي؟! أنا لا أرضى إلا أن تكون المرأة التي أحب طَوْع إشارتي، مجردة من كل إرادة، لا تفكر إلا برأسي، ولا تنطق إلا بلساني، ولا تعمل إلا ما أريد وأقضي، أريد أن تُفْنِيَ ذاتية المرأة في حبها، وأن يكون معنى الحب الإخلاص، هنالك أُصَدِّق أن المرأة تحب، وربما أسمح لقلبي بحبها، فهل تريدين أن تكوني تلك المرأة؟! هل تريدين أن أحبك؟!
السيدة (كالحالمة) : نعم …
بنفيه : وهل تريدين أن تضحي كل شيء في سبيل مرضاتي؟!
السيدة : نعم …
بنفيه (يناولها كأس الدوق الذي به المخدر) : إذن خذي شيئًا من المخدر الذي شرب منه الدوق، ودعيني أفعل بك ما أشاء.
السيدة (مستسلمة) : لا بد إذن من هذه التضحية!
بنفيه (بإصرار) : نعم …
السيدة : هل تثق بإخلاصي لك بعد هذه التجربة؟!
بنفيه : ربما …
السيدة : إذن أفعل عن طيب خاطر (تشرب المخدر).
بنفيه : أشكر لك الثقة بي يا جوزيفين، ستنامين نومًا عميقًا، ثم تستيقظين في غرفة أعددتها لإقامتك إلى أن يزول الخطر، يومين أو أكثر، فكوني مطمئنة واعتمدي عليَّ كل الاعتماد
السيدة : أنا أحبك وكفى، نعم أحبك يا بنفيه كل الحب … أين أنت (يغشى عليها).
بنفيه (ينظر إلى جسد الدوق النائم) : بارك الله في العلم، فقد هذبت به وسائل الانتقام والكيد واللصوصية، فالعلم يمكن أن يؤدي إلى الخير، كما يمكن أن يكون عدة للشر (يُخرج إبرة طبية ويوغز بها جسد الدوق) هذه الإبرة الحقيرة ستؤثر في كل هذا الجسم القوي، وتجعله في حالة شلل وقتيٍّ يزول بزوال تأثير هذه المادة، فبهذه الإبرة الحقيرة أَصِلُ إلى أوراق الملكة وأنقذها من الخطر ومن حب دي توسكا، وأفتح بابًا إلى قلبها (يفيق الدوق).
الدوق (ينظر حوله) : ما هذا؟! أين أنا؟! ما لجسمي لا يطاوعني على الحركة؟! (يرى بنفيه).
بنفيه (يربت على كتفه) : تنبهْ يا سيدي الدوق، فإن لي معك حديثًا.
الدوق (يحاول أن يتذكر) : من أنت؟! وما لجسمي لا يتحرك؟!
بنفيه : أنا خليل المرأة التي كنت تغازلها، وجسمك لا يتحرك لأنني أردت أن أوقف هذه الحركة، إلى أن نتفق على إعادتها، أو على إيقاف حركة الرأس أيضًا!
الدوق (ينظر حوله) : وأين هي السيدة؟!
بنفيه (مبتسمًا) : لا تزال تذكر السيدة، انظر، ها هي إلى جانبك لا حركة بها!
الدوق (ينظر إليها في رعب) : هل قتلتها؟!
بنفيه (في إصرار وحزم) : هذا لا يعنيك، تنبَّهْ جيدًا وأجبني على ما أسأل عنه، واحذر أن تخونك الذاكرة، فإنْ خانتْك أو إذا حاوَلْتَ أن تكذب فإنني أقتلك لا محالة!
الدوق (يزداد رعبًا) : تقتلني! ما هذه الرؤيا المزعجة؟ أفي يقظة أنا؟! لا شك أنني أحلم (يضربه بنفيه على رأسه) مهلًا مهلًا لقد ألمتني.
بنفيه : تَيَقَّظْ لسؤالي وأجب بسرعة، أين وضَعْتَ خطابات الملكة ناتالي، وأين خبأت خاتمها؟
الدوق (مبهوتًا) : الملكة ناتالي! (يتذكر) خطاباتها … خاتمها … ما شأنك أنت بالذي تذكر؟!
بنفيه : شأني أنني وعدت الملكة بردِّ هذه الأشياء إليها، وأريد أن أفي بهذا الوعد، فأين خبأتها؟ تكلَّمْ، واعلم أن حياتك مرهونة على الصدق، وعلى استرداد هذه الأشياء منك.
الدوق : لا أَعْرِفُ الذي تقول، ولا أريد أن أجيب
بنفيه : أنا لا أعارضك فيما تختار لنفسك (مهددًا) فإن لك كل الخيار في إيثار الموت على الحياة!
الدوق (مرعوبًا) : تقتلني!
بنفيه (بثبات) : لم لا، لقد اشترطَتْ عليَّ الملكة أن أجيء إليها بما حصَلْتُ عليه من الخطابات والخاتم، وإذا تعذَّرَ الأمر آتيها برأسِكَ، حتى تأمن شرَّكَ، وتأمن الانتقام والفضيحة، وليس أيسر عليَّ من إنجاز ما وعدْتُ، ولا يكلفني أخْذ رأسك سوى قطعها، إن موتك لا يترك سبيلًا للانتقام منها، ولو فُرِضَ وظهرت الخطابات بعد موتك فلا يوجد من يرغب في الانتفاع بها من طريق الانتقام.
الدوق (يزداد رعبًا) : كيف يطاوعك قلبك على ارتكاب جريمة القتل؟!
بنفيه (يزداد تهديدًا) : وكيف يطاوعك قلبك أنت الآخر على الانتقام من امرأة ضعيفة، الموت أفضل جزاء لمثلك لتلحق روحك روح دي توسكا في جهنم!
الدوق (فزعًا) : دي توسكا! هل مات دي توسكا؟!
بنفيه (يستل خنجره) : سَلَّ روحَه هذا الخنجرُ!
الدوق (ينظر برعب إلى الخنجر) : ويلاه قَتَلْتَ دي توسكا، لقد كان عدتي للانتقام من العاهرة العنيدة، ويلاه كيف قُتِلَ؟!
بنفيه : سله في جهنم ينبئك بما تسأل عنه، وأقرئه هناك تحية الشيطان (يستعد لطعن الدوق) ناتالي أيتها الملكة المحترمة، هكذا أنتقم لك من الأشرار الخائنين.
الدوق (يتراجع متوسلًا) : مهلًا، مهلًا يا صاحبي. ماذا تربح من قتلي؟!
بنفيه (في إصرار) : أنا لا أبحث عن الربح، وإنما أريد منْع الأضرار عن مولاتي الملكة.
الدوق : رحماك يا هذا، أصفح عني ارحمني.
بنفيه (مهددًا) : دلني على الخطابات وعلى الخاتم.
الدوق (بمكر) : قد تقتلني إذا أرشدْتُكَ إلى مخبئها.
بنفيه : ماذا أخاف من الثعبان بعد خلْع أسنانه.
الدوق (مُنهارًا) : اذهب إلى حجرة نومي، فالخطابات والخاتم في أُكرة السرير السفلي ليمينك بعد أن تصعد الدرج، هل تَرُدُّ لي العافية والحرية؟!
بنفيه (يسحب الخنجر من وجه الدوق) : نعم إذا كنت صادقًا، وسأبقيك في هذا الطابق، لا يشعر بك الشيطان، ولا تهتدي لمقرك الجان، حتى أَثْبُتَ من صدقك وأحصل على هذه الأشياء، فإن كنت كاذبًا كان هنا قبرك!
(ستار)

الفصل الرابع

(غرفة مكتب محافظ باريز)
محافظ باريز (يقرأ في أوراق أمامه) : ما هذه المزعجات، لم يَبْقَ أمامنا من الأعمال غير دوق هيس ديمر؛ مجيء الدوق إلى باريز … وسفره من باريز … وحراسته في باريز … ما هذه الأحوال المرتبكة؟! وما هذه العناية التي لا مكان لها مع سكير فاجر؟! الدوق … الدوق … جاء الدوق … غاب الدوق … أين الدوق … أنا أوثر الاستغناء من منصبي … على احتمال هذه الأمور الصبيانية (يدخل جندي).
جندي (بعد أداء التحية العسكرية) : حضر يا مولاي مدير إدارة البوليس السري بناء على أمركم.
المحافظ : دعْه يدخل (لنفسه) أنا لا أجد ما ألوم به هذا الرجل القدير، ولكن ما الحيلة ووزارة الداخلية تزعجني دائمًا بشأن الدوق … وغرام الدوق … وسُكر الدوق … (يدخل هافار مدير إدارة البوليس السري فيقول له) هل تعرف لماذا استدعيتك الآن يا هافار؟!
المدير : كلا يا سيدي، فهل حصل شيء هام؟!
المحافظ (باستخفاف) : هل حدث شيء هام! تسألني عن الذي حدث! إذن ماذا تصنع في المدينة؟! وماذا يصنع جيشك الجرار من رجال البوليس السري؟! إنني لا أشعر بوجود هذا العدد العظيم إلا يوم يجيئون لقبض المرتبات!
المدير (بحماس) : سيدي، العدل وحب الدفاع عن الحقيقة يسمحان لي بالدفاع عن أولئك الأبطال، أنت لا ترى أولئك العمال المجدين؛ لأن لهم أعمالًا تقضي عليهم بالتنكر والاختفاء عن الإنظار، فإذا كنت لا تراهم فليس هذا جريمة ولا تقصيرًا منهم، فإذا كان لسيدي الرئيس شكوى من عامل بخصوصه، أو منا جميعًا بسبب حادث أو شأن واضح تقصيرنا فيه، فليذكُرْه سيدي المحافظ لنعرف موضع الخطأ فلا نعود إليه، أو نعرف قصورنا فنترك وظائفنا لمن هو أكثر جدارة وكفاءة!
المحافظ (بتهكم يعطيه بعض الأوراق) : خذ يا هافار، اقرأ ما يكتبه إليَّ الوزير، وانظر ما بَعَثَتْ به إليه وزارة الخارجية، (يأخذ المدير الأوراق ويقرأها) أنا لا أريد أبدًا أن يُنسَب إلينا التقصير في أعمالنا، وأمثال هذه الملاحظات من وزيرَي الداخلية والخارجية تفقدني الصواب!
المدير (ينتهي من القراءة) : دائمًا بخصوص دوق هيس ويمر! لعن الله الساعة التي عَرَفَ فيها طريق باريز، إن دوائر البوليس يا سيدي ما عاد يشغلها غير هذا السكير، وروحاته وغدواته وسهراته وسكره وغرامه … ومطاردة لص محنك أو مجنون خطر أيسر علينا من المحافظة على مثل هذا الأحمق!
المحافظ (بعصبية) : أنا لا أسأل الآن عن صعوبة أو سهولة المحافظة عليه أو مراقبته … وإنما أسأل عن الرجل أين هو؟! وماذا أصابه؟! مِن الثابت أن الرجل في باريس، وها هو اختفى فجأة، بدون أن يدري رجاله مكانه، وها هي حكومة بلاده مهتمة بأمره، فأين الرجل؟! لقد كرَّرْت عليكم أن لا تفارقه عيونكم لحظة واحدة، فكيف غاب عنكم؟!
المدير (يُعيد الأسئلة متعجبًا) : أين الرجل؟! (باستخفاف) وهل يكون الدوق إلا في ماخوره مع بعض النساء (يُكرر السؤال) كيف لا تفارق عيوننا شخصه؟! (بتهكم) وهل يريد سيدي أن يدخل رجالي معه إلى سرير المرأة التي يضاجعها؟! يكون مكان لهذه الملاحظات وللتأنيب الذي أسمع إذا كان غياب الدوق بغير اختياره ولجريمة وقعت، أما إذا كان يغيب لإرضاء شهواته وملذاته فليس من قوة في العالم تستطيع أن تقيِّد حريته ولا أن تمنعه من التغيب!
المحافظ (ينظر إلى الأوراق التي أمامه) : بماذا أجيب على هذه الأوراق؟! أين الرجل؟! (بعصبية) أبحث عنه عيِّنْ لي مكان وجوده، ودعني أزعج حكومته وقنصل بلاده ووزير الداخلية، وأذهب معهم إلى ذلك المكان لأريهم الدوق في ملذاته … في منكراته … حتى يكفوا عن مثل هذه المزعجات.
المدير : سأكلف رجالي بمعرفة مكانه إذا كان هذا يضع الحد الأخير بيننا وبين تصرفات الدوق الشخصية وبين حكومة بلاده، لقد كان آخر عهدنا بأخباره ليلة رأس السنة؛ فإنه خرج مع سيدة كانت في حالة سكر مع رجل سكران أيضًا، وقد اشتبه أحد رجالي في أمر الرجل، وبعد غياب الدوق اقتفى البوليس أثر الرجل، وربما كشفنا سر هذه الحوادث في أقل من يوم واحد.
المحافظ (بارتياح) : هذا الذي أريد.
المدير (يهم بالخروج) : هل يسمح لي سيدي بالانصراف.
المحافظ : كلا يا هافار، بل أريد أن تجيء معي إلى وزير الداخلية لتعيد على مسمعه هذه الأقوال.

المنظر الثاني

(غرفة الدوق هيس ويمر وبها سرير نومه)
بنفيه (يدخل متلصصًا) : إذا لم يكن الدوق كاذبًا ووجدت الأوراق والخاتم في المكان الذي دلني عليه أكون قد هدمْتُ كل ما بنى دي توسكا من وسائل الانتقام، وأكون واثقًا من البلوغ إلى قلب الملكة التي أحب، آه يا ناتالي يا ليت عينيك تبصران ما أعمل، والخطر الذي أُعَرِّض حياتي ونفسي له، ليتك تعلمين أيتها المحبوبة ما أقاسي في سبيل إنقاذك، وبدافع الحب المتسلط على عقلي ونفسي (ينبش بعض الأشياء في الغرفة) هنا لا أجد شيئًا (منزعجًا) أفيكون الدوق قد كذب عليَّ وعرَّضَ نفسه لانتقامي (يزيد في البحث) أو أجد الأوراق فأجد الراحة والهناء والغبطة، وتتحقق كل أماني، إن قلبي يختلج في صدري وما عرفت نفسي ضعيفًا أبدًا ولا جبانًا ولا جزوعًا، يا ألله إنني أسمع ضربات القلب بأذني (يتسمع) ما من أحد هنا، ومن هذا الذي يدري بمكان وجودي أو بعزمي على إتيان هذا المكان، أنا لست خائفًا من الناس، وإنما أخاف الفشل، (يصعد درجات سرير نوم الدوق) أخاف أن لا أجد ما تجشمت من أجله كل هذه المتاعب (يحرك أُكره السرير) الويل لك يا دوق إن كنت خدعتني (تُفتح الأكره) الحمد لله، هذه خطاباتها بعينها، الويل لك يا دي توسكا، لقد قبضت عليك، إن متاعب الأخطار تزول عند الشعور بلذة الانتصار (يدخل رجل البوليس شاهرًا مسدسه).
رجل البوليس (يطلق رصاصة بجوار بنفيه) : يا بنفيه باسْم القانون أُلْقِي القبضَ عليك.
بنفيه (يقف مبهوتًا وظهره لرجل البوليس) : لو أراد الرجل قتلي بالرصاص ما أخطأ إصابتي، إذن هو يريد بإطلاق النار استدعاء الخدم وأهل القصر للاستعانة بهم في القبض عليَّ (يُفكر سريعًا) كيف النجاة! ماذا أفعل؟ يا قُوَّتِي لا تخونيني، يا عقلي تَنَبَّهْ، ما الحيلة … كيف الخلاص؟ (تُسْمَع أقدام تقترب، فيقوم بنفيه بإخراج فلفلًا أسود من جيبه ويلتفت سريعًا إلى رجل البوليس، ويرشه على عينيه، فيصرخ ويسقط المسدس من يده، ويأخذه بنفيه ويطلق الرصاص في الهواء، وقت وصول الخدم وسكان القصر، فيظنون أن الذي يصرخ هو اللص، فيقول لهم بنفيه) إليَّ، ساعدوني على القبض عليه (فيقبض الخدم على رجل البوليس).
رجل البوليس : عيناي … عيناي … اللص … اللص … ابحثوا عنه، حذارِ أن يهرب منكم … عيني … عيني … عيني.
بنفيه (إلى الخدم الممسكين برجل البوليس، وهو ينصرف هاربًا) : إياكم أن يهرب منكم، احرصوا عليه حتى أستدعي الجنود (ينصرف وهو يصيح) يا رجال البوليس، يا رجال البوليس … إلى قصر الدوق … المعونة … إلينا … إلينا … إلى قصر الدوق.
(ستار)

الفصل الخامس

(حديقة بها أشجار كثيفة ودي توسكا وحيدًا بها، وبنفيه مقنَّعًا يراقبه متخفيًا وسط الأشجار)
دي توسكا : عجيب أمر هذه المرأة، فبينما هي ضعيفة الإرادة تفعل ما يُوحى إليها به بدون تردُّد ولا فِكْر، تطاوِع كل قوة دافعة، وتلين لكل قوة جاذبة، إذا بها تظهر فيها قوة الإرادة فجأة وتتحول من الضعف إلى نقيضه، ومن المطاوَعة المطلقة إلى التفكير والفحص وصِدْق الحكم، هل تَحَوَّلَتْ عن حبي؟! محال أن يكون هذا؛ لأنها لا زالت معي كما كانت عواطفها وإحساساتها وشعورها وحنوها واضحة تفضح سر الحب المملوء به قلبها. إذن ما هو سر هذا التعقل الذي منعها من التورط ومن مطاوعتي في الطريق التي رسمتها لهلاكها، لقد ضاق صدري ولم يَعُدْ بنفيه من باريز لينفِّذ الخطة الأخيرة للتعجيل بها، أنا ما عُدْتُ أستطيع الصبر على رؤية هذه المرأة وزوجها رأسين متوَّجَيْن، ولا عُدْتُ أحتمل تدنيس الملك عرض ابنتي، هذا العرض الملوث لا يطهره إلا الدم (إلى طيف الملكة) مولاتي هل آن أن تذكري عبدك الواله المعذَّب؟ هل آن لك أن تجيئي (تدخل الملكة).
الملكة : تأخرت عنك بالرغم عني يا دي توسكا.
دي توسكا : ليس لي أن أحاسب مولاتي الملكة على الذي تفعل، ألست عبدها؟! ألست الرجل الوحيد الذي تستطيعين أن تقولي: إنني ملكت قلبه وعقله وجسمه وحياته!
الملكة (بدلال) : ألا تزال تناديني بالملكة! دع هذا لغيرك يا دي توسكا، نادني باسْمي، واذكرني باسْمي، ألا تزال تجهل أن لك قلبي وفؤادي وعقلي؟! أنا أحبك يا دي توسكا بكل قوة نفسي، حبًّا لا تبلغ إليه عواطف المرأة، ولا يدركه عقل الرجل.
دي توسكا (يتصنع الحب) : مِنْ هذا أتألم يا مولاتي، ولو استطعتُ أن أنتزع هذا الحب من فؤادك ما ترددتُ لحظة (تبتعد خائفة) لا تجزعي، لا تجزعي، إنني أحبك أكثر من حبي للحياة، ولست أعيش إلا بقوة هذا الحب، ولكنني لا أرضى أبدًا أن أكون سببًا في إيلام قلبك يومًا ما، فإذا كنتُ صادقًا في الحب يجب أن أضحي هنائي لتحقيق هنائك، أريد يا ناتالي أن تكبحي عواطفك، وأن ترتدِّي عن حب دي توسكا!
الملكة (في اندهاش) : ماذا تقول يا كونت؟! ماذا أصاب عقلك؟! هل تظن القلوب طوع الرغبة؟! نقول لها أحبي فتحب، أو أرجعي عن الحب فترجع؟!
دي توسكا (يتصنع التأثر) : مولاتي، يشق عليَّ أن تذرفي دمعة واحدة بسببي، ويحزنني ويؤلمني أن أضيف إلى أسباب انزعاجك من أحوال الحياة سببًا جديدًا أو باعثًا على الاستياء والكدر!
الملكة (في حيرة) : دي توسكا، ماذا تريد أن تقول؟! ألمثل هذا الحديث طلبْتَ هذه المقابلة!
دي توسكا : مولاتي، أريد أن أكون صادقًا في الحب إلى اللحظة الأخيرة من حياتي، وها قد دَنَتْ هذه اللحظة!
الملكة (كأنها تنتظر صدمة كبرى) : دنت اللحظة الأخيرة من حياتك! رباه ماذا تقول؟! دي توسكا، أوضح ما تضمر! لا تكلِّمْني بالألغاز والمبهَمات، كن صريحًا في قولك، ماذا تريد مما تذكر؟!
دي توسكا (بجدية وحزم) : مولاتي، لكل امرئ غاية، ولكل شيء نهاية وقيمة، الإنسان في الحياة بسيرته وبقدر ما يُقَدَّر له من القيمة الأدبية والشرف، وقد لوث زوجك عرضي فقضى على سمعتي وعلى شرفي، فأمامي أحد أمور ثلاثة؛ إما أن أضحي الشرف وأقبل العيش مع العار، أو أُطَهِّر هذا العرض بالدم، بدم من لوَّثَه وهذا لا أفكر فيه، لأنه ملكي ولأنه زوجك ووالد أبنائك، أو أختار سبيل الضعفاء وذوي الجبن فأنتحر، وعلى الأخير عوَّلْتُ؛ لأنني أضنُّ بحياة زوجك إكرامًا للملكة التي أحترمها وأحبها، سأنتحر يا ناتالي العزيزة بعد أن أقتل ابنتي وأزيحها من طريقك إلى الملك، سأرد لك زوجك … سأرد لك الهناء وراحة البال بثمن قليل، بتضحية حبي أنا، بنسيان ما كان بيننا، بإغفال الماضي وأي حادث لا يُنْسَى مع كرور الزمان، بل أي حادث يضمن لي الخلود في فكر الإنسان!
الملكة : دي توسكا، هل تحبني حقيقة؟! وهل هذا الحب قوي إلى الدرجة التي أطمع بها؟!
دي توسكا : ويلاه! تسألني إن كنت أحبها؟!
الملكة : هل يعصى الحبيبُ التي يحب؟ ألست تطيع الملكة، بل المرأة التي تحبك؟!
دي توسكا : هل أنت في شك من أن حياتي كلها لك؟!
الملكة : إذن لا تبدِّدْ ما هو لي واحرص عليه.
دي توسكا (يُمثل التأثر والبكاء) : مولاتي، العار العار … إن زوجك الملك يمزق قلبي بكل نظرة يوجِّهها إلى كاترين، ويهدم شرفي بكل كلمة يُسمعها إياها!
الملكة (متشككة) : وهل أنت غير مَدِين للملك بمثل ما تشكو منه؟! ما للناس ينظرون إلى عيوب غيرهم ويتغافلون عما بهم! يا دي توسكا عِرْض بعِرْض وشرف بشرف!
دي توسكا (في تودد مصطنَع) : ولكن غرامنا يا مولاتي سِرٌّ غير معلَن؛ فشرف الملك وعرضه مصونان في نظر الناس!
الملكة (في تعجب) : ما هذا يا دي توسكا؟! هل أنت من الذين يُقَدِّرون الأشياء والأحوال بقيمتها في نظر الناس لا بقدْر نسبتها إلى الحقيقة ودنوِّها منها أو بُعْدِها عنها؟! لو أرادت ابنتك يا دي توسكا أن يكون غرامها مع الملك سرًّا مجهولًا من الناس ما عرفه أحد، ولكنها هي التي فضحَتْ هذا الأمر، فلماذا تنسب الخطأ إلى الملك؟!
دي توسكا (في تحدٍّ) : هل تنكرين أنه أغرى ابنتي وأغواها؟! أليس لعِرْضي قيمة عند مولاتي؟!
الملكة : أنا أغار على زوجي أن ينظر لامرأةٍ غيري، طبيعة الزوجين لا تتغير ولا تزول، ولكنني لا أنكر الحقيقة التي تعرفها المرأة أكثر من الرجل، لا يستطيع الرجل أن يغري المرأة أو يستغويها إلا إذا رأى منها تشجيعًا على الذي يطمع به، وهي لا تفعل إلا إذا كان في نفسها استعداد غريزي للانزلاق والسقوط، فما لَكَ يا دي توسكا أن تظلم الملك والذنب كله لِنَزَق ابنتك وطيشها!
دي توسكا (في شك) : مولاتي، إنكِ تدافعين عن زوجك كأنه لا جريمة له في تلويث عرضي، أنت تحبين زوجك أكثر مني يا ناتالي.
الملكة (بثبات) : إن عقلي يعترف بهذه الحقيقة إذا أردْتَ أن أجيبك من طريق العقل، ولكنني أطيع قلبي، وقلب المرأة ضعيف، فأنا أحبك بقلبي، وأحب زوجي بمقتضى الحال وبالعقل.
دي توسكا (يحاول استمالتها) : أواه يا ناتالي! أنت قاسية، ليتك لم تكوني متزوجة؛ بل ليتك لم تكوني ملكة، أنا أحبك كامرأة … ملكْتِ كل عواطفي وسكنت قلبي، ولا أريد إلا أن تكوني لي … بعقلك وبقلبك … فويلاه! ويلاه من هذا الزوج!
الملكة (تندفع إليه منهارة) : أنا لكَ يا دي توسكا … بعقلي وبقلبي … رباه ما أعظم لذة الحب وأقواها! إنها تسلب المرأة عقلها، وتقلب إرادتها إن كانت لها إرادة.
دي توسكا (في لذة المنتصر) : ماذا تقولين؟! أنت لي بقلبك وعقلك؟! وزوجك الملك … هذا الذي تدافعين عنه!
الملكة (تقاطعه) : أحبك أنت يا دي توسكا؛ لأنك تحبني، وماذا يرضي المرأة غير الحب المتبادل؟!
دي توسكا : لك أن تختاري بين زوجك وبيني، أحدنا لا أكثر!
الملكة (تنهار أكثر) : لقد فقدْتُ كُلَّ قوَّتي، أنا ضعيفة جدًّا بين ذراعيك يا دي توسكا، يا ألله من لذة الغرام!
دي توسكا : لك أن تختاري … بين هذا الرجل الذي يحبك، ولا يخفق قلبه إلا بذكرك … وبين ذاك الذي يخونك، ويكون عقبة في طريق هذا الحب
الملكة : دي توسكا، ارحمني، ولا تجعلني أضطرب وأخجل أمام هذا التصريح.
دي توسكا (يخرج مسدسه ويُصوبه إلى قلبه) : دعيني إذن أنتحر، فليس لي أمل في الحياة.
الملكة (فزعة) : دي توسكا، حبيبي.
دي توسكا : كنت أعيش بهذا الحب، وكنت أطمع أن تكوني لي وحدي، تتخلصين من كل قيد … من كل رابطة … من كل إنسان، وتكونين لهذا المخلص الذي أحبك لذاتك لا لشيء آخر، اتركيني يا ناتالي، فما عاد لي أمل في الحياة، تلوث عرضي … ضاع شرفي … وخاب ظني في المرأة التي أحبها، فلماذا أعيش؟
الملكة : دي توسكا، أنا أحبك.
دي توسكا : ولكنك تؤْثرين زوجك، عليَّ أنا كثير الغيرة!
الملكة : أوثرك أنت على زوجي.
دي توسكا : محاولة وتغرير.
الملكة : بل هذه هي الحقيقة يا كونت أدركتها في هذه اللحظة، إن قلامة ظفر منك … تساوي حياة زوجي وكل العالم، إن قلبي ينخلع لمجرد رؤية المسدس في يدك، آه يا قاسيَ! إن حياتك لي وليست لك.
دي توسكا : أنا لا أُطيق رؤية زوجك، هو مزاحمي فيك وفي عِرْض ابنتي، دعيني أموت فرارًا من العار، ومن الحب، ويلاه! دعيني أموت يا ناتالي.
الملكة : أشفق عليَّ يا كونت، ألا ترى أنني أكاد أُجَنُّ.
دي توسكا : إن قوة الغيرة عليك ربما تحملني على قتل هذا الزوج، إن دفاعك عنه جعلني أمقته وأخشاه، ويلاه! إن الغيرة تدفعني لقتل هذا الرجل … لا … لا … هو زوجك … دعيني أموت، فلست أنا الذي يحزنك موته.
الملكة : دي توسكا حبيبي، هل تريد أن تقتلني حزنًا وقهرًا؟! دي توسكا، ارحمني، أشفق على هذا القلب الضعيف الذي يحيا بك ولك.
دي توسكا : زوجك الملك، زوجك، أنا لا أطيق النظر إلى هذا الرجل، بعد أن رأيتك تدافعين عنه، أنت تحبينه يا ناتالي، والمرأة لا تحب رجلين.
الملكة : أحبك أنت، أنت الذي تسكن هذا القلب، وتبعث فيه الحرارة والحياة.
دي توسكا : أنت تكذبين.
الملكة (متعجبة) : ويلاه! إنه يهينني، دي توسكا، صدِّق الملكة، إنها تحبك وتقسم لك بأنها تحبك.
دي توسكا : دعيني أموت يا ناتالي، وإلا فإنني أقتل الملك.
الملكة (فزعة) : لا لا … لا أتركك تجني على نفسك.
دي توسكا : إنك تقتلين الملك بإبقائي على قيد الحياة، هل تُؤْثرين حياتي على حياة زوجك.
الملكة : آه، ما أضعف المرأة بالحب! نعم يا دي توسكا أوثرك أنت على زوجي.
دي توسكا : هذا لا يكفيني.
الملكة : ماذا تريد؟! ماذا تقضي به عليَّ؟! لقد سلبتني كل قوتي … الإرادة والعقل … ها أنا بين يديك، ماذا تريد للدلالة على صدق حبي؟!
دي توسكا (بجدية) : اقتلي زوجك لتكوني لي كلك!
الملكة (بتفكير عميق) : أقتل زوجي؟! جريمة … زوجة تقتل! آه دي توسكا، أنا أحبك، ولكنني لا أحب الجريمة، إن أذني لا تسمع، وقلبي يختلج، ورأسي لا تدرك، ويلاه ماذا سمعت؟!
دي توسكا (يركع) : إذن أنت لا تحبينني (يظهر بنفيه).
بنفيه : بل بالعكس، إنها تحبك يا دي توسكا، وأنت واثق من قوة هذا الحب، ولولا هذه الثقة ما أقدمت على تحريضها على جريمة القتل!
دي توسكا (فزعًا) : من أرى؟! العدو المتنكر! أنت دائمًا في طريقي تتجسس عليَّ؟! تبحث على أسراري، لقد جئتَ لتموت، وما عادت الشياطين تنقذك (يُمسك بمقبض مسدسه).
الملكة (تعود إلى رشدها فرحة) : هل عدت يا سيدي؟ هل نجحت؟ إنك تظهر دائمًا في ظروف خطيرة وأوقات حرجة!
بنفيه : لقد عدت يا مولاتي لأدفع عنك الخطر ولأرد لهذا القلب الطمأنينة والسلام (إلى دي توسكا) لقد احتلْتَ على هذه السيدة الكريمة، وخَدَعْتَها بمظاهر الحب الكاذب، فعبثت بقلبها وعواطفها، أنا أعرف آمالك، وأعرف أمانيك، وأُكْبِر دهاءك، وأُعْجَب باقتدارك، ولو بعدْتَ عن الملكة ما تعرضْتُ لك ولا وقفت في طريقك ولا أفسدت عملك!
دي توسكا (بغيظ شديد) : ستموت أيها النذل الجبان فالويل لك مني.
بنفيه : مولاتي، لقد خدعَكِ هذا الرجل الداهية، دي توسكا لا يحبك، وليس في قلبه إلا البغض والحقد عليك وعلى زوجك الملك.
دي توسكا : محتال كاذب، وأثر الوقيعة والفتنة في عملك وفي أقوالك.
الملكة (متعجبة) : أنا لا أصدق ما أسمع، سيدي لقد بدأت أشك في أَمْرِك.
بنفيه : مولاتي، لو كان هذا الرجل يحبك ما كان يحرضك على قَتْل زوجك!
الملكة (في تباهٍ) : الغيرة!
بنفيه : الغيرة تدفع الرجل إلى ارتكاب الجريمة بنفسه لا على تحريض المرأة بجبنه، لكِ ألا تميزي بين الغيرة والمكيدة!
دي توسكا (حانقًا) : الموت … الموت … مولاتي ابعدي عن هذا المكان، دعيني أقتلْ هذا الدساس.
بنفيه (بهدوء) : تمهلْ يا سيدي ريثما أرد للملكة ما وعدْتُها بالحصول عليه.
الملكة (فرحة) : هل نجحْتَ؟! هل أحضرْتَ الأوراق؟! أين هي يا سيدي؟!
بنفيه (يعطيها ورقة) : هذا واحد من تلك الخطابات يا مولاتي، انظري توقيعك وطالعي بإمعانٍ ما ذُيِّلَ به الخطاب بالمداد الأحمر!
الملكة (متعجبة) : نعم هذا خطاب، وهذا توقيعي ما هذا؟ وهذا توقيع دي توسكا (يحاول دي توسكا خطف الخطاب فيبعده بنفيه).
بنفيه : دعها يا سيدي العاشق تعرفْ صدقَك في الحب وإخلاصَك في الغرام وأمانتك في الاحتفاظ على أسرارها وعلى عرضها!
الملكة (تنظر بعيون لامعة في الخطاب) : ويلاه! ماذا أقرأ؟! دي توسكا يرسل خطاباتي للدوق عدوي؟! دي توسكا يكيد لي؟! هل أصدق نظري؟! رباه عطفًا عليَّ … رحمة بي، فقد كدت أُجَنُّ!
بنفيه : مولاتي، لقد غرس هذا الرجل بالدهاء والحكمة حبه الكاذب في قلبك هذا الطاهر، وألقى بك في أعماق الهوة، ويدي هذه الضعيفة تمتد إلى هذا القلب فتنتزع منه هذا الحب بالرغم منك ومن العاشق المخادع، هذه اليد تمتد إلى أعماق الهوة فتنتشل الفريسة من براثن الوحش لتردها إلى الأرج الذي سقطت منه، وترد لها شرفها وإلى قلبها السلام والهناء، (يعطيها الخطابات) خذي، هذه أسلحة خصومك، هذه شراكهم وحبائلهم التي أعدوها لسقوطك، خذيها … مزقيها … أحرقيها بالنار … دعي النار تُلَاشي كل آثار تلك الجريمة … جريمة الرجل الخائن … على المرأة الضعيفة!
دي توسكا (يشهر مسدسه في وجه بنفيه) : لقد قَتَلْتَ نفسك وقَتَلْتَ هذه المرأة أيها المعتوه، الويل لك، هل تظنني أتركك تنتصر عليَّ وتقضي على آمالي (يطلق رصاصة عليه، ولكن بنفيه لا يُصاب).
بنفيه (مبتسمًا) : إن رصاص الخائن يخجل من الانطلاق، وفِّرْ عليك عناء هذه الجريمة؛ فإن الرصاص يطيعني ولا يخرج من مسدسك بغير إرادتي (يطلق دي توسكا الرصاص) اثنين … ثلاثة … أربعة … خمسة … انتهت الرصاصات يا سيدي الكونت! ولو أطعتني لَوَفَّرْتَ على نفسك الخجل ومرارة الاندحار!
دي توسكا (في إصرار) : إذن تموت بالسيف أيها النذل الجبان (يُحاول إشهار سيفه فلا يخرج السيف من غمده)!
بنفيه (ضاحكًا) : وسيفك الآخر يعلم سفالة ما عملت فلا يطاوعك على قتل من فضح مكيدتك، ومنعك من تنفيذ عملك السافل!
دي توسكا (متعجبًا) : هل أَفَلَ نجمي … صفقة واحدة يا للشياطين (يحاول إخراج السيف فيفشل) ما لسيفي لا يطاوعني ورصاصي عصاني! (يُمسك بمقبض خنجره) مت بالخنجر كما يموت اللصوص (يُحاول إخراج الخنجر فلا يطاوعه على الخروج)!
بنفيه (مُقهقهًا) : ولا الخنجر يطاوعك، ألا ترى أنني جردْتُك من كل قواك ومن حيلتك ومن سلاحك، فلم تَعُدْ تستطيع الانتفاع به، هكذا تفعل قوة الحيلة، وبهذا تقضي الحكمة، هل تريد أيها الأبله أن أتعرض لرصاصة من مسدسك أو لطعنة من خنجرك في وقت الانتصار عليك وفضح أسرارك، فلا أعود أغنم ثمرة الانتصار، ولا أنعم بلذة التغلب، لو كنت حريصًا على نفسك يا سيدي الكونت ما تَمَكَّنَ مثلي من الوصول إلى سلاحك والعبث به، ومن يقدم على ما أنت قادم عليه من الأعمال الخطيرة واجب عليه أن يستعين بالحرص مع الحيلة، إن رصاص مسدسك نُزِعَ منه البارود، ونَصْل سيفك ملتحم بقرابه … وكذلك الخنجر، فهل فهمت الآن ماذا تعمل الحيلة والحرص؟ اخرج مدحورًا أيها العاشق السافل الخائن، إن جزاءك الموت، ولكنني أعفو عنك لتتعلم من هذه التجربة وتنتفع من الدرس القهري، دع الأعمال للرجال؛ فإنك لا تزال طفلًا، لست من رجال هذا المضمار، اهرب فهذا طريق المدحورين!
دي توسكا (في رعب وفزع) : هل في بلادي كلها رجل يُقْدم على الخيانة بمثل ما أقدمْتَ؟ أنا لا أصدق أنك من هذا البلد وإلا ما خُنْتَ (يهجم عليه محاولًا نزع قناعه) دعني أعرف وجْه خصمي … وجه الخائن النذل (يسقط القناع ويظهر وجه بنفيه) بنفيه! من كان يظن هذا؟!
الملكة (في ذهول) : بنفيه! بنفيه خادمي! هل هذه يقظة؟! هذا جنون!
بنفيه (لدي توسكا) : نعم بنفيه، الذي ظنَنْتَ أنه من رجالك، وجئْتَ به لخدمة أغراضك عند الملكة، انظر إلى وجهي، هل عرفْتني؟! أنا هو بنفيه.(يجري دي توسكا هاربًا) هربًا هربًا … وإلا عَلَّمْتُك كيف ينتقم الخادم الأمين من خصوم مولاته المخدوعة.
دي توسكا (وهو يفر) : سنلتقي يا بنفيه، وسنرى لمن يكون النصر الأخير.
بنفيه (للملكة) : مولاتي، لقد أزعجْتُكِ كلَّ الانزعاج، وأنا أشفق على هذا القلب الرقيق أن يتألم، ولكنني عَرَفْتُ ما يرمي إليه هذا الخائن مع أعوانه وعصابته، ووقفت على سر المؤامرة المدبَّرة ضد جلالة الملك وضد مولاتي، فدفعني إخلاصي للملكة وإشفاقي عليها إلى الذي رأيت من خذل الطاغية، وإفساد كل ما دبر، ها خطاباتُكِ رُدَّتْ إليكِ، فلم يَعُدْ في أيدي أعدائك ما ينالون به منك، فلا تُمَكِّنِيهم من هذا السلاح!
الملكة : شكرًا لك يا بنفيه، فأنا مدينة لك بحياتي أولًا، ثم بشرفي ثانيًا.
بنفيه (يأخذ يدها) : إن شفتي لا تلمس هذه اليد الكريمة لئلا تحرقها، ولكنني أضع فيها الخاتم الذي أهدَتْه لدي توسكا … الرجل الذي كانت تحبه.
الملكة (في مكر) : بنفيه، بنفيه، ما عُدْتُ أشك أبدًا في إخلاصك.
بنفيه : هل شُفِيتِ يا مولاتي من حب دي توسكا، إنه الحرير إذا لصق بالشوك يتمزق عند اقتلاعه منه.
الملكة : وقد شعرت بقلبي يتمزق وأنت ترفع الستار عن خديعة دي توسكا.
بنفيه : أنا أحسد ذلك الرجل؛ لأنكِ كنت تحبينه، هل تعرفين يا مولاتي حقيقة بنفيه؟!
الملكة : لا أعرف عنكَ إلا الذي أردت أن تعرف.
بنفيه : هل تذكرين يا مولاتي المُترجِمَ الذي كان يرافقك في سفرك من القاهرة إلى الأقصر … ومنها إلى بورسعيد … في سياحتك في القطر المصري.
الملكة : حافظ، نعم أذكره، لقد ترك ذلك الشاب أثرًا في نفسي لوداعته وكياسته.
بنفيه : هل تذكرين صورة ذلك الشاب؟!
الملكة : أذكرها نعم.
بنفيه (يزيل تنكره ويظهر بصورته الحقيقة) : هل تعرفين الآن من هو بنفيه؟!
الملكة (متعجبة) : حافظ! حافظ! ما هذه المضحكات؟! ما الذي جاء بك؟! ولِمَ عَرَّضْتَ نفسك لكل هذه المخاطرة؟!
بنفيه (في وداعة) : لأنني أحبك!
الملكة (بدلال) : وأنا حذرتك من قبلُ هذا الحبَّ!
(ستار)
١  في داخل صفحات مخطوطة المسرحية، وجدْنا إشارات المُخرج تدل على وجود ممثلين آخرين منهم: فكتوريا، نهوه، وقد قامت بدور السيدة، صالح وقام بدور رجل البوليس. كما وجدنا عبارات أخرى تقول إن هذه النسخة هي نسخة الملقن صادق أحمد، وإن المسرحية مُثِّلَتْ ليلة الأحد ١٥ / ٥ / ١٩١٥ بطنطا في حفلة خصوصية لحافظ أفندي، ومُثِّلَتْ مساء الاثنين ليلة الثلاثاء ١٧ / ٥ / ١٩١٥ بالمنصورة لحافظ أفندي.
٢  الإرشادات المسرحية، ووصف بعض المواقف والتحركات، المكتوبة بين الأقواس، غير موجودة في مخطوطة المسرحية، وقد وَضَعْتُها بناءً على قراءة رواية «الحب والحيلة» المطبوعة، وذلك تيسيرًا للقارئ في فهم الحوار والموضوع بتخيُّل صحيح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤