الفصل الأول

الكتَّاب الذين كانوا قبل الثورة وحالتهم بعد سنة ١٩٢٤

(١) الأدب والثورة

بعد أن شبَّت نيرانُ الثورة الروسية نُكب الأدب الروسي بانصراف فحول الكتَّاب — إلا أقلهم — عن الكتابة، فقد التزموا جانب الصمت ولم ينتجوا شيئًا، حتى إن أحد زعماء النقد الروسيين وصف هذه الفترة بقوله: «إن أدباء ما قبل الثورة اتخذوا لأنفسهم رأيًا يخالف نظام الحكومة الثورية، بل كانوا يرجون سقوط هذا النظام.» وترك كثير من زعماء الأدب روسيا السوفييتية، وبعد أن حلَّت الهزيمة بالجيش الأبيض هاجروا إلى الأقطار الأخرى، نذكر من هؤلاء الأدباء: بونين، كوبرين، أرتسيباشوف، مرزخوفسكي، رمزوف، تشيملوف، بوريس زاتيسيف من كتَّاب القصص، وبالمونت، مدام هيبوس، خدازفتش، مارينا تسفتيفا، جورج إيفانوف من الشعراء. وانضم قليل من الكتَّاب إلى البولشفيك في بادئ الأمر أمثال جوركي، سيرافيموفيتش من القصصيين وبريسوف وشعراء المستقبل من الشعراء، وأكبر شاعرين من شعراء المذهب الرمزي وهما بلوك وبيلي، اعتنقا الثورة وشجعاها لما توهما في مبادئ الثورة من بعض العناصر المسيحية الإنسانية، ويظهر ذلك في ديوان «بلوك» المسمى «الاثنا عشر» وهو خير ما جاد به شعراء عصر الثورة، وفي ديوان «بيلي» المسمى «قيام المسيح»، وإن كان هذا الديوان أشبه شيء بعظة دينية، ومع ذلك فقد توفي بلوك سنة ١٩٢١ غيرَ متأثر بأوهام الثورة، ولم ينشد بعد «الاثني عشر» شعرًا له قيمة تذكر. أما بيلي فقد أمضى مدة وهو شبه مهاجر، ولكنَّه عاد إلى روسيا سنة ١٩٢٣ وظلَّ بها إلى أن توفي في يناير سنة ١٩٣٤ (وسنتحدث عنه فيما بعد).

ومن الشعراء النابهين الذين كانوا قبل الثورة «نيكولا جوميليف»، وقد أنشد بعد الثورة عدة قصائد تعدُّ من أروع أشعاره، ولكنَّه قُتل سنة ١٩٢١ لاشتراكه في جمعيةٍ مناوئة للنظام السوفييتي، وهو أحد الذين لم يشتركوا في الثورة، وكذلك أنا أخماتوف، فيدور سلوجوب، أوسيب ماندلزتام، فهؤلاء جميعًا لم يشتركوا في الثورة، وقد نشرت أنا أخماتوف كتابًا واحدًا سنة ١٩٢١ يحوي عدَّة قصائد غنائية نلمس فيها عمق الإحساس ورقة الشعور، ثم اختفى اسمها نهائيًّا من تاريخ الأدب الروسي، ونشر أوسيب ماندلزتام سنة ١٩٢٢ كتابه القيم «تريستا» وجمع سنة ١٩٢٨ بعض قصائده التي أنشدها قبل الثورة وبعد الثورة، ولكن نقَّاد السوفييت قابلوا هذا الديوان ببرود عجيب، والواقع أن ماندلزتام كانت تنقصه الملائمة بين نفسه وبين عصره وخاصة في وقت إصلاح ما هدمته الثورة.

وبعض الأدباء أمثال جوركي وفيريسييف من أدباء المدرسة الواقعية القديمة وبريشفين، سرجيف تسنكي، زامياتين من تلاميذ المدرسة الواقعية الحديثة نشطوا جميعًا للكتابة والنشر بعد الثورة، وانضموا إلى الكونت أليكسي تولستوي وإيليا أهرنبرج بالرغم من أن جوركي قضى سنوات الثورة الأولى مع الجيش الأبيض، ثم هاجر ثم عاد إلى روسيا سنة ١٩٢٣، والكاتب الثاني بعد أن تردد عدَّة مرات في رأيه هاجر إلى باريس؛ حيث كان يقيم قبل الثورة، وحيث كان يشعر أنه في وطنه، وظلَّ هناك في جوِّ مقاهي مونبارناس، ولكنَّه كان يزور موسكو بين الفَينة والفَينة ويُقابل كأنه أحد الغرباء.

(٢) بيلي

ولد أندريه بيلي سنة ١٨٨٠م وتوفي سنة ١٩٣٤، وكان يُعدُّ الحلقة الوحيدة بين الأدب الرمزي وبين الأدب السوفييتي، فقد كان أدباء المذهب الرمزي بين ميت (بلوك – بيريوسوف – سلوجوب)، وبين مهاجر من روسيا (بالمونت – هيبيوس – فياتشسلاف – إيفانوف)، كان بيلي ثوري المزاج، ولذلك اعتنق الثورة منذ نشوبها، ولكنه — مثل بلوك وغيره من الشعراء — اعتنق الثورة مؤمنًا بمبادئ في نفسه هو لا بالمبادئ التي أظهرتها الثورة، اعتنقها لا من ناحيتها السياسية والاجتماعية، بل من ناحيتها الدينية والثقافية، أراد أن تعمل الثورة على تطور الإنسانية نحو الكمال الذي يساعد روسيا لتؤدي رسالة الكمال الإنساني في العالم، وأن تطبع هذه الرسالة بطابع المعرفة البشرية، هذه المبادئ التي دان بها بيلي، وعمل من أجلها مع الثائرين، فقد كان بيلي تلميذًا للفيلسوف رولف ستينر، وعنه أخذ هذه الآراء، ومع ذلك فاشتراك بيلي في الثورة لم يلهمه أي أثر شعري، وكل ما جادت به قريحته ديوان «قيام المسيح»، وبعد عودته من برلين سنة ١٩٢٣ — حيث أمضى نحو عام أصيب فيه بكارثة كادت تؤدي به إلى مستشفى الأمراض العقلية — حاول بيلي أن يتقرَّب إلى رجال الثورة، ولكن شعوره الشخصي نحو الثورة والثائرين كان ينقصه الثبات والحزم؛ لأنه كان يشعر في قرارة نفسه أن الثورة الشيوعية لا تلائم طبيعته من ناحيتها السياسية، وأن نظرته إلى العالم كانت نظرة دعائمها الدين والمثل العليا، فلم يحس بعاطفة نحو النظم المادية الماركسية، وظهر صدى شعوره الباطني في أشعاره التي جاءت مطبوعة بطابع التكلف وعدم الإخلاص، بينما كانت أجمل أشعاره تلك التي نشرها قبل الثورة، وسيذكر بيلي في تاريخ الأدب الروسي بقصته «بطرسبرج واليمامة الفضية»، وبأجمل مقطوعاته الغنائية «القارورة والرماد»، وبما في شعره من رمز، وقد تكون قطعته الوحيدة التي أنشدها في عصر الثورة والتي يمكن أن نقرنها بأشعاره القديمة هي قصيدته «المقابلة الأولى»، وفيها يعيد إلى الأذهان حياته في الشباب وجو الحياة العقلية الرائعة في موسكو في أوائل سِنِي القرن العشرين، وقصصه التي كتبها بعد سنة ١٩٢٤ «موسكو تنشط»، «موسكو تفصح»، «الأقنعة» تذكرنا بشخصيات بيلي في قصصه القديمة، وتكشف عن خصائص فنِّه القصصي، ولا سيما مهارته في السيطرة على المواقف المتشابكة والعُقد المركبة، والتي تشبه إلى حدٍّ ما أفلام الدراما الغنائية، ولكنها على وجه عام تقل في قيمتها الفنية عن قصصه القديمة، وقد يرجع ضعفه إلى أن نثره ممل، وأن في عرضه للحوادث وفي تحليله النفسي غموضًا وإبهامًا، وأنه يتعمد الألفاظ المبتدعة، وهذه الظواهر كلها واضحة في قصصه الجديدة أكثر مما في قصصه القديمة.

كان بيلي في أواخر أيام حياته يكتب مذكراته، وقد نشر بعضها تحت عناوين مختلفة، وقد ظهر الجزء الثالث منها بعنوان «ابتداء القرن» قبل وفاته في ٧ يناير سنة ١٩٣٤ بأيام. وهذه المذكرات طريفة ولكننا نلاحظ أنه اضطر إلى تغيير فكرته، فبدلًا من أن يكتب تاريخ حياته نراه قد كتب تاريخ عصره، وبيلي لم يكن ذاتيًّا في تأريخه بالرغم من أنه أظهر عداءه الشخصي في كتاباته، ويشعر القارئ بعاطفة شديدة كلما أمعن في قراءة هذه المذكرات لما بها من حوادث متعاقبة سريعة ومعانٍ جديدة، وما فيها من حوادث الكاتب نفسه، وستظل مذكرات بيلي وثيقة لها قيمتها وخطرها عن عصر زاهر في تاريخ الأدب الروسي كتبها رجلٌ من أكبر المتقلبين المترددين في هذا العصر، ففي نفسه اجتمعت العبقرية والجنون.

ويحتل بيلي في الأدب الروسي الحديث مكانة رفيعة؛ لأن عبقريته في الابتداع أثرت في الكتَّاب الناشئين الذين عاصروا سني الثورة الأولى، فقد فتنوا بطريقته في الكتابة وبتلاعبه بالألفاظ، فالكاتب بيلنياك نهج سنته ولكن لم يبلغ أحد تلاميذه ما بلغه هو، بالرغم من ظهور تلاميذ يتبعون طريقته في اللعب باللفظ فإن مدرسته لم تخلد طويلًا إذا قارناها بمدرسة ليسكوف وريميزوف.

والآن في التطور الجديد نحو المذهب الواقعي نجد ميلًا شديدًا لمحو مذهب بيلي في الكتابة؛ فالمجهودات التي بذلها بيلي في الثورة لم تظفر بنتيجة سوى الرثاء له، ومهما احتفظ بآثاره الأدبية التي كتبها بعد الثورة فلن يعتبر بيلي من أدباء السوفييت فمكانه في العصر الرمزي.

(٣) جوركي

يعد ماكسيم جوركي منذ عهد الثورة الروسية عميد الأدب السوفييتي بالرغم مما قاله ميرسكي عن كتابات جوركي قبل الثورة: «إن كتاباته ليس بها عمق كتابات الجيل الحديث، فجوركي ينقصه دقة الأسلوب كما أنه لا يأبه بمعرفة النفس البشرية على ضوء العلوم الحديثة.» هذا ما ردده ميرسكي منذ سنوات عن جوركي. ولكن جوركي قد تغير وأصبح قريبًا من الأدب الروسي الحديث، بل قل: إن الأدب الروسي الذي ظهر في عصر الثورة اقترب إلى فن جوركي؛ أي إلى المذهب الواقعي الممزوج بالخيال، فكتابات شولكوف، فادييف، ليونوف، فيدين أقرب إلى مذهب جوركي من بلينياك وأصحاب المذهب اللفظي الذين تبعوا بيلي أو كتابات كافرين وأوليشيا، ليس باتفاق عرضي أن تتجه الميول أخيرًا إلى المذهب الواقعي الخيالي (أو الواقعي الاشتراكي كما يسميه النقَّاد). وأن يحتضن الشيوعيون هذا المذهب وأن يكون زعيمه جوركي! ارتفعت مكانة جوركي في الأدب السوفييتي منذ أن اندمج اندماجًا تامًّا بالنظم الشيوعية، وأصبحت حكومة السوفييت تنظر إليه نظرتها إلى ممثلها الرسمي لدى الآداب العالمية، وينظر إليه أدباء الشباب الذين ظهروا بين سنة ١٩١٨–١٩٢٢ نظرتهم إلى شيخهم وزميلهم الأكبر، وقد اعترف بابل وإيفانوف وغيرهما أن جوركي له كل الفضل في أنهم شقُّوا طريقهم الأدبي. وأصبح المذهب الواقعي الاشتراكي هو كلمة السر في الأدب الروسي إذ ذاك، ويجب أن يكون جوركي أستاذ الكتاب الناشئين يأخذون عنه طريقته ومنهجه، ومن يكتب على نمط جوركي فهو أديب ممتاز، ومن يحيد عن سنن جوركي فهو بعيد عن زمرة الأدباء!

نشر جوركي بعد الثورة روايتين وعدة قصص قصيرة، الرواية الأولى تُرجمت إلى الإنجليزية بعنوان: «سقوط». والثانية ترجمت في ثلاثة أجزاء بعناوين متفرقة: «شاهد – مغنطيس – النيران الأخرى»، والرواية الأولى هي أولى روايات جوركي القيِّمة التي كتبها بعد سنة ١٩١١، وهي تدلُّ حقًّا على أنها كالقذيفة في قوتها، فهي أجود ما كتبه في عصره المتوسط، ففيها جرأة وتركيز وإتقان لا نجدها في قصصه الأخرى، بجانب دقة الملاحظة التي هي من خصائص جوركي، تتحدث هذه القصة عن أسرةٍ غنية أسسها رجل عصامي، هو أرتامونوف العجوز وهو رجل مثابر قوي الإرادة وقوي الجسم معًا، ثم جاء أبناؤه وأحفاده وقد وصفهم جوركي بأنهم على وشك السقوط والانحدار، وصورهم كما صور سيدات القصة والشخصيات الثانوية تصويرًا دقيقًا بطريقته الفنية في الربط بين الشجاعة والنشاط، وبين النظرة الحادة القاتمة التي ينظر بها إلى الحياة ما ظهر منها وما بطن، وبالرغم من أن جوركي يتخذ شخصياته من الحياة الواقعية المتشعبة النواحي، فهو لا يظهر إلا ناحيتها الحزينة فقط، ولذلك يحوي القصة كلها هذا الجو المظلم الذي هو من دقائق وخصائص نظرات جوركي عن روسيا القديمة، وهي في الوقت نفسه إحدى صوره للمذهب الواقعي، ونشعر بهذا كله أيضًا في قصته الثانية، وهي تكاد تكون ملحمة طويلة عن أربعين سنة من حياة روسي، وموضوعها الأساسي هو الثورة ونشاطها، ويمكن تلخيص عاطفة جوركي لروسيا القديمة في الكلمات الآتية التي وردت في الرواية الثانية: «كل شيء ممكن في هذه البلاد المجنونة؛ حيث يُوجِدُ الرجال أنفسهم بعد شيء من اليأس، وحيث الحياة كلها اختراع رديء.»

وفي بعض قصصه الأخيرة حاول جوركي أن يترك المذهب الواقعي وأن يشيد في حديثه عن السوفييت بدلًا من أن يقتصد.

(٤) ل. ن. تولستوي

هو أحد فحول كتَّاب القصة الروسية الذين نبغوا وتفوقوا قبل الحرب الماضية، وهو أحد هؤلاء الفحول القليلين الذين يعيشون الآن في روسيا، كان قد هاجر إلى خارج روسيا، وبعد الحركة التي تعرف في تاريخ السوفييت بحركة «حدود الأراضي»، وعاد من مهجره سنة ١٩٢٢، ومنذ عودته استطاع أن يصل تدريجيًّا إلى مكانة سامية في الأدب الروسي الحديث.

الحق أن تولستوي كاتب فذٌّ له مواهبه الطبيعية، فقد ولد ليكون كاتبًا، ومن الكتَّاب الواقعيين؛ فخير ما يكتبه عندما يصف الحياة كما هي، بل الحياة التي يعرفها ويعرف أسرارها معرفة تامَّة، فعندئذٍ يملأ كتاباته بالحياة ويضفي عليها من قوة فنه، ويمنح شخصيات قصصه ما يجعلهم كالأحياء تمامًا، ولكن يكاد فنه يضعف بعد الثورة الروسية؛ لأنه لم يستطع الوصول إلى موضوع يناسبه، ويخيل إلينا أنه حاول البحث بين معاصريه الذين يمثلون تقاليد وأخلاق العصر عن هذا الموضوع بعد عودته إلى روسيا؛ لأنه يختلف عن معاصريه، واختلفت روسيا الحديثة عما عرفه عن روسيا القديمة، وهو في نفسه رجلٌ له تاريخ معروف، ويجمع بين الرجل الرقيق الذي أخذ بحظٍّ من الخُلق الكريم والنفس المهذبة، وبين الأديب البوهيمي، فواضح إذن أن يشعر مثل هذا الرجل أنه فقد نفسه في اضطراب الثورة ومحيط الثائرين، ولم يشأ أن يكتب في موضوع قديم، ولم يكن على صلة وثيقة بالأحداث الجديدة ليأخذ منها وحيه وإلهامه، أما كل ما كتبه في السنوات الأولى للثورة، وعواطفه التي أظهرها في كتاباته فقد كانت من وحي الخيال، فقد ترك المذهب الواقعي بعض الشيء والتجأ إلى الخيال ليجمع بين الخيال والآراء الثورية، ففي قصته «أتيلا» التي نشرها سنة ١٩٢٢ جمع بين خيال «يوتوبيا» وبين قصة واقعية روسية بها تحليلات نفسية وعناصر قوية من عناصر الثورة، ومحور القصة الخيالي يتركز في وصول «مارس» إله الحرب على رأس حملة سوفييتية لإشعال ثورة اشتراكية في «يوتوبيا» مملكته الخيالية، ووضع تولستوي بجانب هذه الفكرة الخيالية فكرة أخرى هي أن الحبَّ أقوى من كل العواطف الثورية، وتمثل هذه الفكرة في شخصية المهندس الروسي لوس والفتاة الجميلة «أتيلا»، والعنصر الثوري في هذه القصة يتشخَّص في «جيسيف»، وهو أقوى شخصية في القصة، صُوِّر على أنه جندي في الجيش الأحمر وأنه وضع نفسه على رأس بعض الرعاع وأتى إلى مارس ليعلن اندماجه في روسيا السوفييتية، ولكن يظهر أن تولستوي لم يوفق في رسم هذه الشخصية، فقد لاحظ نقاد السوفييت أن تصويره بهذه المثابة تبعده عن الرعاع ولا تقربه من الشيوعيين؛ لأن آراءه الثورية بها صبغة وطنية قوية.

ومهما يكن من شيء فقد أعجب تولستوي نفسه بشخصية جيسيف هذا بما في روحه من فوضى، وبما في نفسه من ميول وطنية ثورية، فاتخذ صفاته أساسًا لقصة أخرى هي «مخطوط تحت الفراش»، يتحدث فيها عن رجلٍ مسن محترم كره الثورة والثائرين، ولكنَّه لم يسعه إلا أن يُظهر إعجابه بما فيها من عناصر روسية خالصة ووطنية صادقة، ويظهر الخيال عند تولستوي في قصته المسرحية «ثورة الآلات»، وفيها تنتصر الحياة بمظاهرها الغريزية الطبيعية على المذاهب العقلية الآلية، وفي قصة «شبه مخروط المهندس جارين» يُصوِّر المهندسَ على أنه حاكم قوي، وأنه مستبد استبدادًا لم يعرف له نظير، وأنه يشغل نفسه في نضال العالم كله، ويحلم ببسط نفوذه على الدنيا بأسرها، وأنه جعل العالم على طبقات؛ فالطبقة العليا وهي أرقى الطبقات سيكون لها الحكم والتفكير والاختراع، والتي تليها تعمل آليًّا لإظهار مخترعات الطبقة العليا والتي تليها يجب أن تجرد تمامًا من كل عاطفة ومن كل رأي فيكون شأنهم شأن الدواب، ثم يجب أن تباد باقي الطبقات التي تلي هذه!

وقصة «الأيام السبعة التي سرقت فيها الدنيا» تهكم خيالي ظهرت فيها مهارة تولستوي في معالجة المواقف الساخرة؛ فقد مُلِئَتْ بما يثير الضحك والإشفاق معًا. وفي قصة «الطريق في الجحيم» صورة تمثل عصره وما فيه من خلافات واضحة، بدأها تولستوي في مهجره، ولكنه أتمها في روسيا، وتحدَّث فيها عن المجتمع الروسي قبل الثورة؛ أي قبل الحرب الماضية وأثناء الحرب، ثم تحدث عن أوائل سني الثورة، ورسم هذا المجتمع في صورة قاتمة محزنة؛ فصور تحلل الشعب، والحياة التي تسير على غير هدًى ولا غاية، كذلك صور بعض حوادث واقعية وشخصيات متعددة تصويرًا دقيقًا، وإن أخذ عليه أن عاطفته أفسدت تلك الصور؛ لأنه أظهر أكثر من صورة واحدة من صور الحياة، وأنه شاء أن يفلسف التاريخ بهذا الموجز التاريخي عن الحياة الروسية قبل وإبان الحرب الماضية.

وفي قصة «المدن الزرقاء» تحدث تولستوي عن موضوع سوفييتي هو موضوع النزاع بين قوى التنظيم العقلية عند الثوار وبين قوى العناصر الطبيعية في الحياة، ومنها العناصر الحيوانية والغرائز الوضيعة، وجعل تولستوي عناصر الحياة هي التي تنتصر.

وفي قصة «فاسيلي سوكوف» صَوَّر تولستوي الحياة اليومية السوفييتية أيام ظهور حركة السياسية الاقتصادية الجديدة، وحبَّذ هذه السياسة في تلك القصة، أما اشتراك تولستوي في مشروع الخمس سنوات الأدبي فقد وضع قصة «الذئب الأسود»، ويدور موضوعها حول دسائس الأجانب والمهاجرين الروس حول الزيت السوفييتي، وأظهر كتابه «بطرس الأول» قصة تاريخية طويلة ظهرت فيها مواهبه الطبيعية، وعواطفه القوية ورسوخ قدمه في تصوير شخصيات قصصه، وأخيرًا وليس بآخر، ظهر فيها ذكاء أصله الروسي فقد لعبت كل هذه الخصال دورًا هامًّا في هذه القصة التاريخية التي ظل يكتبها مدة أربعة أعوام.

(٥) أ. إهرنبرج

ولد إيليا إهرنبرج سنة ١٨٩١، وانضم للسوفييت بعد سنة ١٩٢١، وهو من أكثر كتَّاب السوفييت إنتاجًا، فبعد أن نشر «مخاطرات جوليو جورنييتو» التي لاقت نجاحًا كبيرًا نشر أكثر من تسع روايات طويلة، وعدة مجموعات قصص قصيرة، ولا تتحدث عن مسرحياته ومجموعات سوانح سفره، فمواهب إهرنبرج الأدبية لا تنكر، ولكن أكثر رواياته لا تعد من الأدب الرفيع؛ لأن السرعة والسهولة اللتين يكتب بهما كان لهما أثر قوي على القيمة الفنية لما يكتبه، وأكثر مؤلفاته مزيج من الخرافات، أو من كتابات صحفية، بل يغلب على مؤلفاته الصياغة الصحفية بالرغم من أن إهرنبرج يعرف كيف يعالج موضوعه، وكيف يجعله ممتعًا مثيرًا، فله قدرته وجاذبيته، أضف إلى ذلك تهكمًا حادًّا لاذعًا، وفي استطاعته أن يجعل الفكرة البسيطة السطحية تظهر عميقة لها دلالتها، ولكن شخصيات قصصه ناقصة دائمًا من ناحية التحليلات النفسية، ومع ذلك فهو يحاول أن يجعل هذه الشخصيات تصلح للموضوعات المعقدة التي سبقه غيره من الكتَّاب للحديث عنها، فشخصياته إما مُثُل كاملة للفضائل المعنوية، كما هو الحال في شخصية الصوفي الشيوعي كوربوف في قصة «الحياة وبطالة كوربوف»، وإما تجسيم كل مساوئ البشر مثل شخصيات الأغنياء والرأسماليين النصَّابين!

وبعض روايات أشبه شيء بنشرات سياسية في هيئة تهديد، مثل «اعتقد» التي نشرت سنة ١٩٢٣، والتي تعطي صورة خيالية للانحدار في أوروبا وانتصار المدنية الرأسمالية في أمريكا، وإهرنبرج أحد كتاب روسيا القليلين الذين يعرفون جانبًا من أوروبا معرفة جيدة، ويعتقدون أنهم يعرفون أوروبا كلها، فهو يرى أوروبا كلها من جانب الحياة الخاملة اللاهية التي يعرفها مرتاد مقاهي مونبارناس! ويعتقد أنه يستطيع أن يكتب قصصًا عن الحياة الأوروبية وسياسة أوروبا! وهو إذ يكتب هذه القصص عن أوروبا إنما يشبع رغبة ملحة عند روسيا السوفييتية هي الرغبة في معرفة كل شيء عن البلاد الأجنبية، وفي إحدى قصصه «روسيا لا تعرف الدمع» التي نشرت سنة ١٩٣٢ يتحدث عن حياة روسيٍّ هاجر إلى باريس، ويصف الحياة الإنسانية من جانب واحد ومن ركن ضيق من هذه الحياة، ولم يحاول أن يوسِّع نطاق هذا الركن الضيق أو يفرج الزاوية التي ينظر منها، ولعل أحسن قصة إنسانية كتبها هي قصته التي ترجمت إلى الإنجليزية بعنوان: «في شارع بموسكو»، جعل مسرح حوادثها في موسكو وصوَّر فيها الحياة اليومية أصدق تصوير وأبدعه، بالرغم من أنه جعل شخصيات القصة تظهر في مستوى أرقى مما هي عليه في قصصه الأخرى.

ومن قصصه «اليوم الثاني» يتحدث فيها عن حقيقة السوفييت ومشاكل النظام الاشتراكي، وتطور الحياة الإنسانية بعد الثورة، وفيها هذه الناحية التي تلازم إهرنبرج دائمًا، وهي ناحية إلحاده؛ إذ من خصائصه هذا الشعور المتأصل بالاستخفاف بكل شيء، وفقد الإيمان من كل شيء، وهذه الخصائص نراها في شيء من الصراحة في مذكراته.

ولما ظهر كتابه «في صيف سنة ١٩٢٥» اتهمه النقَّاد الشيوعيون بأنه يعبر عن حركة «السياسة الاقتصادية الجديدة» ويؤيدها مع أن إهرنبرج لا يمتُّ بصلة لهذه الحركة، ولا «لأيام أسبوع الثورة»، بل كتب ما جاء في هذا الكتاب يعبر به عمَّا في باطن نفسه، وعما تتلوه عليه طبيعته متأثرًا في تفكيره دائمًا بالاستخفاف وعدم الإيمان، ومع ذلك كله فسيظل إهرنبرج الكاتب الذي نجد في كتاباته شيئًا من المتعة، ولكن من الصعب أن نفصل ذرات الجوهر مما يعلق بها من شوائب.

(٦) فيريسييف

وُلِد فيكنتي فيريسييف سنة ١٨٦٧، واسمه الحقيقي سميدوفيكسي، وهو أحد تلاميذ المذهب الواقعي القديم، وقصصه جميعها، سواء ما كتب منها قبل الثورة أو ما كُتب إبان الثورة، تظهر فيريسييف على أنه فنان موهوب، ومن أقدر الناس على وصف التيارات الاجتماعية والنواحي النفسية في عصره، ولكتاباته قيمة المستندات والوثائق الرسمية، ويتجلى هذا القول في قصتين كتبهما إبان الثورة؛ القصة الأولى تُرجمت إلى الإنجليزية بعنوان «معضلة»، والثانية بعنوان «الشقيقات»، ففي الأولى رسم فيريسييف صورة بديعة للحياة العقلية والاتجاهات النفسية لروسيا الاشتراكية إبان الثورة، ولا سيما الغلو في الإرهاب، وهو نفسه اشتراكي وشارك في ثورة أكتوبر عن إيمان بالمبادئ السياسية للثورة، ولذلك نجح في أن يجعل قصته صورة عادلة للحياة في أوائل سني الثورة، أرانا صور الشباب والشيب، وتحدث عمن ساهم في الثورة وعمن عارضها، وكان في تصويره فنانًا بارعًا ينظر ويدقق النظر، ويحلل شخصياته تحليلًا يقوم على دراسة وافية للنفس، وهذا ما يجعل قصته جديرة بأن تقرأ وأن تخلد، ومما يزيد في قيمة هذه القصة ويحببها إلى القرَّاء شخصية الفتاة «كاتيا» التي صورها فيريسييف على أنها فتاة ذكية صغيرة ذات أخلاق قويمة، فهي أمينة وصريحة وجريئة في إنكارها الثورة البولشفية، وأنها تقف حائرة كأنها مخلوق غريب عن هذه الحياة الشيوعية الجديدة، ثم أخذ فيريسييف في وصف هذه الحياة الواقعية دون خشية القوانين الرسمية التي فرضت.

وكذلك نستطيع أن نقول عن قصته الثانية «الشقيقات» التي تلقي شيئًا من صور الريبة والشك على حياة جماعة الشيوعيين الأحداث وعلى عقليتهم في نظر شقيقتين، هما فتاتان صغيرتان من أسرة غنية، ولكنهما انضمتا لجماعة الشيوعيين الأحداث، وكتب فيريسييف حياتهما على هيئة مذكرات يومية كان يدونها شقيقتان مختلفتان في الطباع والمظهر، فالفتاة ليلكا معتدلة في كل شيء، ولكنها آمنت بالشيوعية فاعتنقتها بكل قواها، بينما شقيقتها نينكا فتاة أنانية عندها ولع للتدقيق في كل شيء، ومحاولة التغلغل في باطن كل شيء، فهي تحلل كل شيء وتنقد كل شيء، ذهبت ليلكا للعمل في مصنع مطاط بالقرب من موسكو — وقد وصف فيريسييف الحياة والعمل في هذا المصنع وصفًا دقيقًا، وكذلك وصف المحيط الذي يعيش فيه جماعة الشيوعيين الأحداث، بحيث استغرق هذا الوصف حيِّزًا كبيرًا في القصة — واندمجت ليلكا في نواحي النشاط المختلفة في محيط جماعة الشيوعيين، بينما مرَّت على أختها نينكا أزمة عنيفة من الشكِّ والتردد والأنانية، وأخيرًا تقابل الشقيقتان في الريف حيث كانت كل منهما تعمل للحزب الشيوعي أثناء اشتراكية الأراضي. والمؤلف يظهر نينكا على أنها عنيدة لا تطيع الأوامر مطلقًا ولا تعمل إلا ما يمليه عقلها، ولا تتصرف بأمر إلا بعدما تفكر فيه، ويصورها على أنها كانت تنتصر دائمًا على شقيقتها ليلكا التي كانت ضيقة العقل تطيع تعليمات الحزب طاعة عمياء، ولذلك وجدت نفسها متأخرة جدًّا عندما أعلن الرفيق ستالين رأيه الصريح في مقاله الشهير «صداع بسبب النجاح»، الذي هدد فيه الإفراط في الاشتراكية، وأعلن تغيير سياسة الحزب.

فقصة فيريسييف على هذا النحو لها أثر كبير في الشعور، وقد قوبلت بدوي إعجاب من نقاد السوفييت، ولكن هؤلاء سرعان ما أدركوا أن الصورة التي رسمت للحياة الداخلية في جماعة الشيوعيين الأحداث بعيدة كل البعد عن تملق الجماعة أو مدحهم، كما أن الرواية توحي بأن الطريق القويم لعمال الجماعة يجب أن يكون بتجاهل التعاليم الشيوعية وعدم طاعة أوامر الحزب، وكذلك تظهر نينكا على أنها في أعمالها وتفكيرها قد سبقت الرفيق ستالين في سياسته وآرائه، ولهذا كله أُسدل ستار من النسيان على هذه القصة، حتى إنه في المجادلات النقدية بين نقَّاد السوفييت حول أدباء المذهب الواقعي تجوهلت هذه الرواية عمدًا.

(٧) بريشفين وسرجييف تسنكي

ولد ميخائيل بريشفين سنة ١٨٧٣، وكانت كتاباته الأولى عبارة عن موضوعات بعضها صحفي والبعض الآخر دراسات بشرية، ولكنها لم تستكمل كل خصائص القصص والروايات، وقبل الثورة كشف عن نفسه أنه من أقدر الكتَّاب في وصف الطبيعة والحيوانات في الأدب الروسي كله، فقد نشر «في أرض الطيور التي لا تهاب» و«الصيد في سبيل السعادة» … إلخ.

وبدأ في نشر أول رواية له بعد الثورة، وقد قال عن هذه الرواية: إنها أول محاولة جدية عن الإنسان. وظهر أول جزء منها سنة ١٩٢٤ بعنوان «كريمشكا»، وهي قصة طفولة البطل كريمشكا أو «ميشا ألباتوف»، وتدلُّ على أن الكاتب على علم وافر بنفسية الطفل ودقائق ما يدور بخلد الأطفال، فإذا ما شبَّ هذا الطفل أصبح من أشد المتعصبين لمذهب ماركس، ويحدثنا الكاتب عن الجو الذي أحاط بأسرة رجل ثري من التجار ويمتلك أيضًا أراضيَ واسعة، وفيها وصفٌ ممتع في القسم الذي يتحدث فيه الكاتب عن السنوات التي قضاها البطل في المدرسة في بلد بعيد بسيبريا؛ حيث أخذه عمه معه، وقد ساعد الكاتب على دقة هذا الوصف أنه جاب جميع أرجاء روسيا الفسيحة، وشاهد بنفسه ما لم يشاهده غيره من الكتَّاب، فتمكَّن من أن يصف ويجيد الوصف وأن يتحدث عن غرائب لم يعرض لها غيره من الكتَّاب، ولكنها مرَّت به أثناء تجواله فاستطاع أن يصفها. وفي سنة ١٩٢٧ نشر كتابه المسمى «سلسلة كاشكي».

وكاشكي من الشخصيات الشريرة التي يكثر ورود ذكرها في الخرافات الروسية، وفي رأي بريشفين أن هذا الكتاب هو رمز للقيود الثقيلة التي يفرضها التعصب الاجتماعي والخُلقي، والتي يجب أن يتحرر منها الإنسان.

هكذا كتب بريشفين في كل شيء، كتبَ في الطبيعة والحيوان، وكتب قصصًا في خصائص الرجولة، وكتب عن الصحة، فهذه كلها ما تميزه عن الميول المنتشرة في الأدب الروسي، والتي نراها في كتابات ديستوفسكي وتشيكوف وريميزوف وجوركي … ليس معنى ذلك أن بريشفين أعرض عن النواحي الواقعية في الحياة، ففي سلسلة كاشكي تظهر نواحٍ خلقية واجتماعية، ولكنها ليست النواحي الدنيئة التي عند غيره من الكتَّاب …

أما الكاتب سرجي سرجييف تسنكي المولود سنة ١٨٧٦ فهو كاتب قد تردد قبل الثورة بين كتَّاب المذهب الرمزي وبين المذهب الواقعي، ولا نكاد الآن نعرف شيئًا عنه.

ولعلَّ أهم كتاب له في عهد الثورة هو رواية طويلة باسم «فاليا»، نشر الجزء الأول منها سنة ١٩٢٣؛ يمتاز هذا الكاتب بما وصفه به ميرسكي «أسلوب بلغ الذروة في الإحكام والخصب»، وبجانب هذا الأسلوب الخصب المحكم نضيف هدوء الطبع والرزانة، وأنه يفضل الحديث عن كل شيء شاذ، ففي هذه القصة مثلًا نجد أبطالها مجموعة غريبة لا تآلف بينهم، نرى المهندس الذي يعيش صاخبًا متبرمًا كلما تذكر زوجته الخائنة، ونرى تلميذًا أعرج قذف بنفسه وهو يمشي نائمًا تحت عربة، ويشغل نفسه بكتابة مقال يثبت فيه أن للرب طبيعة باثولوجية، والضابط العجوز المخرف وامرأته النحيلة الضعيفة البصر المولعة بالمقامرة، وابنتهما الممثلة السابقة التي تركت أبويها وهي صغيرة لتذهب للحج، ولكنها غامرت في حياتها، بل قُلْ: إن حياتها أصبحت كلها مغامرات، وتظهر في القصة لتلقي شباكها على المهندس وعلى غيره من شخصيات القصة، هذه المجموعة من الشخصيات الشاذَّة هم الذين جعلهم تسنكي أبطال هذه الرواية، وينتهي القسم الأول من الرواية بنهاية حزينة، فالمهندس يقتل خليل زوجته في مطعم، ويتضح أن القتيل خليل لابنة الضابط أيضًا، وجعل تسنكي مسرح روايته في بلاد القرم قبل الحرب الماضية، وهنا يظهر ضعف الكاتب؛ إذ لم يستطع أن يوسِّع مضمار حوادثه بما يلائم هذه المصادمات العنيفة التي في القصة.

(٨) زامياتين

وُلِد إيفيني زامياتين سنة ١٨٨٤ ودرس في معهد الصناعات في بتروجراد، وتخرَّج في كلية بناء السفن سنة ١٩٠٨، فهو إذن مهندس سفن، ولما كان طالبًا قام بنصيب يذكر في الحركات التي هيأت للثورة؛ إذ كان عضوًا في الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وقد قال عن نفسه في مذكراته التي كتبها منذ سنوات: «كنت وقتئذٍ بولشفيًّا، أما الآن فأنا بريء منهم.» وفي سنة ١٩٠٦ قبض عليه وزُجَّ به في أعماق السجون لاشتراكيته، ومن سخريات القدر أنه بعد ذلك بسبع عشرة سنة؛ أي في سنة ١٩٢٢، وتحت حكم الاشتراكية السوفييتية قبض عليه وزُجَّ به في السجن، وكان سجنه في حجرة تطلُّ على نفس الردهة التي كان يطل عليها من سجنه الأول.

أول قصة نشرها زامياتين كانت سنة ١٩٠٢، ولكنه ظلَّ مغمورًا ولم يُعرف إلا في وقتٍ متأخرٍ جدًّا، ففي سنة ١٩١١ نشر مجموعة قصصه القصيرة: «قصص من حياة الريف»، وكان في هذه المجموعة متأثرًا بالكاتبَين جوجول وريميزوف، وقد صور في هذه القصص أحط وأدنأ ألوان الحياة في مدينة صغيرة من مدن الريف، وقصته الثانية «في نهاية العالم» تصوير لحياة حامية من الجيش في الشرق الأقصى، وقد صادرت حكومة القيصرية المجلة التي نشرت بها القصة، ثم أمسك زامياتين عن الكتابة أربعة أعوام، وذهب إلى إنجلترا سنة ١٩١٦، وظلَّ بها يراقب بناء محطمات الثلج الروسية، وكتب أثناء إقامته في إنجلترا قصتين: الأولى «سكان الجزائر»، والثانية «الصياد»، وفي القصتين سخرية لاذعة بالحياة الإنجليزية، ثم عاد زامياتين إلى روسيا سنة ١٩١٨، وفي أوائل سني الثورة كان له شأنٌ عظيم في الحياة الأدبية في بتروغراد؛ إذ كان يلقي محاضرات في الأدب وخاصة في المشاكل الفنية التي تعرض للكتَّاب، واشترك في عدة جمعيات للنشر وللأدب المسرحي، كما كان يقود الكتَّاب الناشئين ويأخذ بيدهم في خطواتهم الأولى نحو الكتابة الأدبية، ولذلك كان له أثر قوي جدًّا عند «إخوان سيرابيون»، وبالرغم من أنه لم ينتج طوال هذه المدة نتاجًا خصبًا يلائم حياته الأدبية ومجهوداته التي بذلها، فإن أحسن ما كتبه من قصص هي تلك التي كتبها إذ ذاك «الكهف – أخي – الشمال … إلخ.»

وفي سنة ١٩٢٢بدأ في كتابة قصص تهكمية «خرافات للأطفال»، وفي سنة ١٩٢٣ اتجه إلى المسرح فكتب مسرحيته «نيران سان دومينيك» التي اتخذ لها موضوعًا تاريخيًّا يستر وراءه ما يريد، فجعل حوادثها تقع أيام التفتيش في أسبانيا، ومغزاها طعن جارح للنُّظم السوفييتية، واتهامات للحكومة البولشفية … ثم أتبع هذه المسرحية بمسرحيتين «قارعو النواقيس» و«البرغوث»، وهذه تمثيلية حماسية في قالب فكاهي كتبها على نمط المسرحية الإيطالية «الفن»، وقد نجحت القصتان نجاحًا ملموسًا وتهافت الناس في روسيا لرؤيتها … وفي سنة ١٩٢٨ كتب مأساة شعرية بعنوان «آتيلا»، ولكنها لم تنشر ولم تمثل على المسرح شأنها في ذلك شأن إحدى مسرحياته الحديثة التي منعت أيضًا بأمر الرقابة السوفييتية، وبالرغم من ذلك فقد والى كتابة المسرحيات إلى أواخر سني حياته، وقد قال عن ذلك: «إذا رأيت مرة أن أحد نظارة مسرحية من مسرحياتك يبدو عليه شيء من التأثر بما يرى فإنك لا تنسى هذا المنظر طول حياتك، ولا سيما إذا حدث ذلك في هذه الأيام في روسيا؛ حيث لا يوجد شعب عادي، ولكن الناس تفتح لهم أبواب المسارح ويلقنون ما يظهرونه من عواطف ومشاعر بطرق تتجدد كل يوم!» وكتب رواية طويلة واحدة «نحن» كتبها بين سنة ١٩٢٢، سنة ١٩٢٣، ولكن الرقابة السوفييتية منعت نشرها في روسيا فنشرت في خارج روسيا، وهي تعدُّ المحاولة الوحيدة التي حاولها لكتابة رواية طويلة وموضوعها معقد شديد التعقيد، بحيث تحتاج إلى تفكير عميق لتتبعها وتفهمها، وقد أخذ أصولها من تقاليد الروايات الأروبية، بينما كانت أسس قصصه الأولى هي التقاليد الأدبية الروسية التي نجدها عند فحول كتاب روسية أمثال جوجول وترجنيف وتولستوي ودوستوفسكي وغيرهم، وقد صرَّح زامياتين في مذكراته «أنه أمضى طفولته بغير أصحاب فقد استبدلهم بالكتب.» وقال: «لا زلت أشعر بنفس الشعور الذي تملكني عندما قرأت قصة نيوتشكا نزفانوفا لدوستوفسكي وقصة الحب الأول لترجينيف، فالكاتبان عظيمان لهما رهبتهما في نفسي، أما جوجول فكان لي صديقًا.»

وظهر أثر جوجول واضحًا في كتابات زامياتين، ولا سيما في ناحية تصويره للنواحي الوضيعة الذليلة في الحياة البشرية، فكل قصصه الأولى إنما تتحدث عن حياة الريف الروسي، وتحمل طابع الذِّلة والمهانة، ولكن الكاتب صقلها بطبقة رقيقة من النبل المزيف إمعانًا في النفاق الذي أخذه على الإنجليز، وحاول أن يتخذه ذريعة للسخرية والتهكم بهم، وعن جوجول وليسكوف ورث زامياتين كلفه بالمؤثرات اللفظية والأسلوب المنمَّق والجُمل المزخرفة؛ ففي أول أمره بالكتابة كان من تلاميذ المذهب الواقعي الممزوج بالصناعة اللفظية، أما في أواخر أيامه فقد تطوَّر أسلوبه وأصبح له أسلوب خاص به مزج فيه الواقع بالخيال والرمز، حتى إن البرنس ميرسكي قارن بين أسلوبه هذا بطريقة المكعبات في النقش، وقد وصف زامياتين نفسُه مذهبَه الأدبي بأنه المذهب الواقعي الحديث؛ ففي أحد أحاديثه مع صحفي فرنسي قال: ما هو المذهب الواقعي على وجه العموم؟ إذا فحصت يدك بميكروسكوب فسترى صورة غريبة مضحكة! سترى أشياءَ كأنها أشجارٌ وأخاديدُ وصخورٌ، بدلًا من شَعرٍ ومسامَّ وذَرَّات غبار، فهل هذا هو الواقع؟ عندي أنا أنه أشد إمعانًا في المذهب الواقعي من المذهب الواقعي البدائي، ولكي أتابع المقارنة أقول: «بينما يستعمل أصحاب المذهب الواقعي الحديث الميكروسكوب لرؤية العالم يستعمل أصحاب المذهب الرمزي التليسكوب، ويستعمل أصحاب المذهب الواقعي القديم الذي كان قبل الثورة منظارًا عاديًّا، فهذا يحدد كل الصور وكل المقاييس الأدبية.» يتجه المذهب الواقعي الحديث عند زامياتين نحو الخيال وبعض قصصه القيمة «الكهف – أمي … إلخ» لها في لبابها صور مجازية مركبة بنيت عليها القصة، ومع ذلك فليس من الحقِّ أن نظنَّ أنه لا شيء عند زامياتين وراء مؤثراته اللفظية وحبِّه للصناعة والتلاعب باللفظ، فقصة الكهف وقصة أمي تحمل كل منهما جو السنوات القاسية التي مرَّت بروسيا، وهي سنوات الحرب الشيوعية، وبالقصتين رنة ولوعة الحزن الشديد كما نلمس لوعة الأسى والحزن في قصة صغيرة كتبت بالشعر المنثور عند جندي بالجيش الأحمر يطير فرحًا لمقتل عدد كبير من أعدائه، وينقبض قلبه أسًى وإشفاقًا لرؤية عصفور تجمد من الثلوج، وصور زامياتين الأدبية ينعكس عليها دائمًا عقله الرياضي، فمن مميزاته حبه للصور الهندسية حتى إنه يرمز لشخصياته بمصطلحات هندسية، فالتربيع ما يميز البطل «باريها» في قصصه «حياة الريف» والتربيع أيضًا ما صور به أحد شخصياته «سكان الجزائر»، وفي روايته «نحن» قارنَ بين البطلتين بأن الأولى منتفخة مستديرة كحرف O، والأخرى رفيعة كمستقيم الزاوية كحرف I، وقد أخذ عن جوجول تمييز الشخصيات بمظهرهم الخارجي، ويبرز في شيء من التأكيد والتهكم بعض المظاهر الخاصة من المظهر الخارجي، فطريقته كأنها طريقة فنان الصور (الكارتون) ففي قصته «مساح الأرض» وهي قصة ساخرة وتنتهي بمأساة، صور البطل ببعض ألفاظ تثير الضحك: بأن له رأسًا ضخمًا وساقَيْ ذبابة! مما يجعل هذا البطل أمام القارئ كالكاريكاتور.

وهناك فرق ملحوظ بين قصصه القصيرة ورواياته الطويلة من ناحية البناء، فالقصير من قصصه يتميز بالتركيز حول صورة رئيسية يدور حولها، أما قصصه الطويلة فهي أشبه شيء بالصور التي ترسم من مكعبات؛ لأنها مؤلفة من عدَّة قطع مفككة متصدعة، ويحاول أن يلائم بين هذه القِطع حتى تتخذ شكلًا أو أنموذجًا خاصًّا، وقد دافع عن طريقة بناء قصصه الطويلة المقطعة في أحد مقالاته النقدية — وزامياتين ناقد نافذ مدقق — بقوله: «إنها طريقة كتابة القصة في الأدب الحديث.» فإذا قرأنا قصته — «أي شيء أعظم» التي تحدث فيها عن الثورة وخرج منها بنتيجة أن الثورة لن تخلَّد، والتي قال عنها النقَّاد الشيوعيون: إن محورها ليس بثوري — نرى زامياتين يلتزم طريقة القصة المفككة حتى إن القارئ يجهد نفسه ويعمل فكره في محاولة ربط أجزائها، ولكن إذا قرأنا قصة «الفداء» التي وضعها سنة ١٩٢٦، وهي قصة مأساة تحدث فيها عن الحبِّ والغيرة وسفك الدماء، نجدها قد كتبت ببساطة من غير تصنُّع ولا نجد بها التلاعب في اللفظ الذي نعرفه عن زامياتين، وليس بها تهكمه اللاذع ولم تدخل العناصر السياسية في موضوعاتها، بل هي قصة إنسانية تقوم على دراسات نفسية عميقة لا نجد لها شبيهًا في قصص زامياتين الأخرى.

ترك زامياتين روسيا السوفييتية سنة ١٩٣١، وأقام في باريس وهو بطبيعته ملحدٌ وثائرٌ على كل نظام قائم، وينحو في حياته إلى الحياة البوهيمية التي هي أقرب إلى الهمجية من أي حياة أخرى، وينظر إلى الحياة في أيامنا هذه بأنها ليست بأعظم من أيام «أتيلا»، وأنها مجمع الطوفان وعصر الحروب العظمى، ويقول: «غدًا ربما نشاهد سقوط أعظم وأقدم مدنية.» وكان في السنوات الأولى للثورة قد صرَّح برأيه بأن روسيا الشيوعية لن تنتج أدبًا رفيعًا، «فالأدب الرفيع يوجد حيث ينتج، فلا يوجده الموظفون بسلطانهم ولا ينتجه أصحاب المال ولا المترفون، ولكن ينتجه المجانين والنسَّاك والهراطقة والدهريون والخياليون والثائرون.» وزامياتين نفسه أحد هؤلاء الذين تحدث عنهم، والذين استطاعوا أن ينتجوا أدبًا قويًّا!

ومن الطريف أنه كان بولشفيًّا قبل الثورة الروسية، ولكنَّه ناوأ البولشفية بعد أن صار لها القوة والنفوذ الرسمي!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤