الفصل الثالث

الواقعة الأولى

(يرتفع الستار عن هيئة تخت ملوكي وبه الملك والوزير وأكسيفار وفرناس وأركاس والجند.)

الجميع :
مظهر السعد تجلَّى
فوق أفلاكِ الكمال
وبه الكون تحلَّى
وازدهى وجه الجمال
يا ليالي الأنس عودي
عاد سلطان الوجود
بعلامات السعود
والمعالي والجلال
ملك سامي المنار
ذو وقار واعتبار
دام في أعلى فخار
فائقًا نور الهلال
ملك :
زمانٌ لَعُوبٌ بهذا الأنام
وكلٌّ يودُّ نوالَ المرام
وما كلُّ سارٍ يحلُّ الديار
وما كل طيرٍ يطول الغمام
وما كل عانٍ ينال مرامًا
وما كل عينٍ تذوق المنام
فما الدهر إلا ظلوم خئون
كثير التعدِّي قليل الذمام
كليث الدحال يُرينا ابتسامًا
ويبطش من بعد ذا الابتسام
نودُّ الدفاع بدرع التأنِّي
فيغزو الدروع بسيف الصدام
فيا قلب صبرًا ولا تيئس
فإني صبورٌ جسورٌ همام
ما فهمت السبب الذي ألجأكما يا أكسيفار، لأن كلًّا منكما يترك مقاطعته، ويأتي إلى هذه الديار!
أكسيفار : السبب في مجيئنا أيها الوالد الجليل، هي أكاذيب أهل العدوان والأضاليل، التي أشاعوها في جميع البلدان، بأنَّكَ قُتِلْتَ في بلاد الرومان؛ ولهذا جئتُ وجاء أخي فرناس، وكلٌّ منا لا يعي على أحد من الناس، وعزمنا على الانتقام وأخذ الثار، من أعدائنا الرومانيين الأشرار، وفي أثناء عزمنا على هذا الأمر، وردَتْ لنا البشائر بتشريفك من البحر، فحمدنا المنعم الراحم، الذي رَدَّك إلينا سالم، وأسرعنا لملتقاك؛ لنحصل على رضاك، فهذا يا صاحب البطش والباس، السبب في مجيئي ومجيء أخي فرناس.
ملك : أصادق أخوك يا فرناس؟
فرناس : نعم يا معدن الإيناس، هذا الخبر الذي سمعناه، والأمر الذي قصدناه، وقد اكتفينا والحمد لله العظيم، بتشريفك سالمًا من كل خطب جسيم، ونسأله تعالى أن يحفظ ذاتك العلية من الزمان، وينصرك على الأعداء في كل آن ومكان.
ملك : أنا لا أشتبه بصدقك يا فرناس، ولا بصدق أخيك الخالي من الأدناس، وحيث إني رجعت مكسور، وخائبًا ومقهور، وقد سمحت الإرادة باجتماعنا بعد مشقة عظيمة، وحروبٍ هائلةٍ وخطوبٍ جسيمة، فأرغب أن أتمتَّعَ قليلًا بالراحة، وأخبركم بعدها بما ترغبون إيضاحه، وندبِّر أمورًا نحصل بها على النجاح، والفوز على الأعادي بعناية الملك الفتاح، فاذهبا بالسلامة الآن، وحين الطلب تحضران.

(يذهب الجميع ما عدا الملك والوزير.)

الواقعة الثانية

(ملك، وزير)
ملك :
إلامَ يميلُ الحظُّ عني ويرغب
وأطلب منه نصرةً وهو يهرب
وأستقبل الأيام وهي عبوسةٌ
وأستضحك الآمالَ وهي تغضب
حُسامي وعزمي لم أجد لي سواهما
مُعينًا إذا ما غَرَّ سعديَ مطلب
ولا بدع أن صادفتُ أعظمَ شدَّة
بما أرتجي فالحُرُّ يشقى ويتعب
فواعجبًا ممَّن أودُّ لقاءها
فمنِّي لها قربٌ ومنها تجنُّب
ألين لها قلبًا وأرضى بحكمها
علي فتقسو كلَّ حِينٍ وتغضب
إنني بعد معاناة الحروب، ومقاساة الأهوال والكروب، قد رجعت إلى الوطن، وأنا في تيار الإحن، من القهر والكسر، وعدم الفوز والنصر، فرأيت ولديَّ الخائنين، قد حضرا إلى هنا بكل قبح وشين؛ لما شاع عني من الأخبار، بأني شربت كأس الدمار، ولكن رجوعي سالمًا إلى الأوطان، ألجأهما إلى التزوير والبهتان، فاكشف لي يا أرباط جميع الأسرار، التي فقهتها من فرناس وأكسيفار، وحذارِ من الكتمان؛ لتأمن الخسران.
أرباط : إن أول من أتى هو الأمير فرناس، وأشاع خبر قتلك بين عموم الناس، وبقينا مدة بين الشكِّ واليقين، إلى أن حضر الأمير أكسيفار آسفًا حزين، وأكد لنا بغزارة دموعه، وشدة احتراقه وعدم هجوعه.
ملك : وما فعلا بعد ذلك؟
أرباط : أكسيفار أيها المالك أزمع على الانتقام من الرومان، وفرناس مانعه عن ذلك الشان؛ أملًا أن يطرده من هذه الديار، ويقترن بعدها بمونيم ذات الافتخار، ويصير ملكًا وسلطان، وحاكمًا على جميع اليونان والرومان.
ملك : وهل اجتمع فرناس بمونيم؟
أرباط : نعم أيها الفخيم؛ فإنه بحال وصوله استحضرها، وطلب اقترانها بعدما أخبرها، بأنك أيها المصون، قد سُقِيتَ كاس المنون.
ملك : وما كان جواب مونيم لفرناس؟
أرباط : مونيم يا سيدي أرجعته بالياس، بعدما تهدَّدها بالإعدام، إذا رفضت قصده والمرام.
ملك : آه يا لك من ولد خئون، أهكذا سوَّل لك الجنون! وجرَّأك على خيانة أبيك، فأبشر يا فرناس بما لا يُرضيك، من حدِّ هذا الحسام، الذي يُذيقك الحِمام. وأكسيفار ما تعرض لمونيم؟
أرباط : لا يا مولاي الفخيم، أكسيفار ما ذاع أسراره، ولا أوضح أفكاره، ولا أبصرنا منه سوى الاهتمام، والرغبة في الحرب والانتقام.
ملك : بالحرب والانتقام، سنستوضح المرام، ونميِّز الصدق من التزوير، بعون الله أيها الوزير.
أرباط : أنت يا مولاي أعلم بفرناس الجريء، وأدرى بأكسيفار البريء، وأنا أخبرتك بالظاهر، والله أعلم بالسرائر.
ملك : أنا لا أشك ببراءة أكسيفار، وما عنده لي من الطاعة والاعتبار، ولكن ذلك كان، من قديم الزمان، وأما بعدما سمع بوفاتي، ربما صار كأخيه عاتي، فلا بد من الفحص والتدقيق؛ لنعرف العدو من الصديق، ونقابل العدو بالإعدام، والصديق بالإحسان والإنعام، آه من زماني الغادر الخوَّان كيف أوقعني في أشراك، وحملني على بلاء وارتباك، وظفر أعدائي، وطال عنائي، وجرَّأ ولديَّ، على فعل الزيغ والغي، فأزمعا على الخيانة، وقلَّة الحفظ والأمانة.
لا يرتجي المرء حفظ الودِّ من أحدِ
ولا يعوِّل في الدنيا على ولدِ
فالغدر في الناس طبعٌ لا يغيِّره
شيءٌ فيا قلَّة الإنصاف والمددِ
هم والزمان على نهج الفساد سروا
في كل حالٍ وقد ضلُّوا عَنِ الرَّشَدِ
كيف التخلُّص مما قد بُليتُ به
وقد تجرَّدْتُ عَنْ صبري وعَنْ جَلَدي
أرباط : قد أقبلتْ يا مولاي مونيم.
ملك : سر من هنا أيها الفخيم، لأحظى بها وحدي، وأبذل في تقريرها جهدي.

الواقعة الثالثة

(ملك، مونيم)
مونيم :
بزغ الهنا بالطالع المسعود
وأضاءَتِ الدنيا بخير وقود
يا أيها الملك المعظَّمُ شأنه
لا زلتَ بالتوفيق والتأييد
شرَّفْتَ ملكًا أنت عين حياته
يا غاية المأمول والمقصود
ملك :
أهلًا وسهلًا يا مونيم ومرحبا
بك فالتقرُّب منك أكبر عيد
إن ساءني دهري ببعد محاسن
عن ناظري فالقلب غير بعيد
مونيم :
أهلًا وسهلًا ومرحبا
ملأت ذا الكونَ شعاع
وتفرَّقت أيدي سبا
أكدارنا بالاجتماع
ألبستنا ثوب الهنا
بعد العَنا والانقطاع
ونلنا غاية المنى
بالقُرْبِ يا ذا الارتفاع
ملك : أنا لا أقدر أن أصفَ لكِ يا مونيم، أشواقَ قلبِي الكليم، الذي لاعه الهوى، وألهبتْهُ نارُ الجوى، وأرغب بعد هذا الفراق، أن نجمع أيام التلاق، بتهاني الاقتران، قبل عواقب الزمان؛ لأني رجعت مكسور، وخائبًا مقهور، وعازم بعد حين، بمدد الله المعين، أن أستعد لقتال الرومان، وآخذ لك بثأر أبيك فليبوليمان، فبادري الآن للسعادة، وحصول الفوز والإفادة، قبل موانع الدهر، الذي طبعه الغدر والكدر.
مونيم :
أمركَ يا رب العلا
عندي هو الأمر المطاع
فأنت سلطان الملا
وأنت قنَّاص السباع
إني لهذا بانتظار
وليس لي عنه امتناع
وبه حبوري والفخار
وسعادتي والإرتفاع
ملك : حيث الأمر على هذا المنوال، فهيا بنا إذًا لعقد الاقتران في الحال … ولم توقفتِ عن الذهاب؟ هل لكِ مانع؟ ما الجواب؟
مونيم : لا يا سيدي ليس لي مانع، ولكن …
ملك : ولكن؟ ما هذا الدمع الهامل؟
مونيم : حزنًا يا ملك الزمان، على والدي فليبوليمان، فهذا الذي أجرى دموعي، وحرمني لذة هجوعي، وعلى كلٍّ لا أرغب عما تريد، ولا …
ملك : ولا … والخلاصة بلا تزويد.
مونيم : الخلاصة … أن.
ملك : أن لا ترغبينَ غير فرناس، المطبوع على الأدناس.
مونيم : ما هذا الكلام أيها الجرفاس؟ ومن أخبرك أني أرغب فرناس؟
ملك : امتناعكِ يا فاجرة، روغانكِ يا خاسرة، أحسبْتِ أنِّي ما أخذتُ الخبر، وعرفت ما جرى وتدبَّر، بينكِ وبين فرناس، المخاطر الخنَّاس، وكيف تجاسرتِ على نقض الذمام، مع أنكِ لي من سنين وأعوام؟
مونيم : لا تظلمني أيها الهمام، أنا ما نقضت لك ذمام، ولا اجتمعت بفرناس، ولا بأحد من الناس، وأعلم أني مُسلَّمة لك من أبي، ولغير قربك لا يكون طلبي، فأمرني بما تريد يا ذا الشجاعة، ولا يكون جوابي لك سوى الطاعة.
يا مليك الكون ما لي
مقصدًا إلا رضاك
وأنا في كل حال
لم أزل تحت لواك
لست أعصي لك أمرًا
يا فريدًا في الزمان
كل من في الكون طرًّا
يرتجي منك الأمان
ملك : وكيف أنكرتِ اجتماعكِ بفرناس، مع أنه أرشفكِ من حديثه أطيب كاس، ووعدكِ أن يجعلكِ ملكة اليونان والرومان، إذا أجبتِ طلبه وقبلتِ به الاقتران.
مونيم : نعم يا ملك الزمان، ما تفضلت به كان، ولكني كتمتُ عليك الأمر؛ لما رأيتك مغمومًا من القهر، وقصدت ألَّا أزيد، على الكرب كربًا جديد، فهذا يا ذا الفخار، ما جبرني على الإنكار، وها أنا لك الآنَ مطيعة، ولأوامرك سميعة، ومهما …
ملك : ومهما … والغاية.
مونيم : الغاية بلا شك لا أرغب غير إك … إك … إكليل المجد والتعظيم، الذي سأناله بقربك أيها الفخيم.
ملك : قد لاح لي منكِ أمور، توجب البغضاء والنفور، وهي التردُّد في الكلام، وعدم إظهار المرام، فأوضحي لي جل أفكاركِ، وأنا أبلغكِ جميع أوطاركِ.
مونيم : أنا ما لي أفكار إلا …
ملك : أكسيفار.
مونيم : ما هذا الاتهام والوسواس؟ أنا لا أرغب أكسيفار ولا فرناس، وجل ما أرغبه وأتمناه، اقتراني بك بلا اشتباه، فعجِّل بما تريد، وأنا لأمرك كالعبيد، لا أعصي لك أمر، ولو ألقيتني في الجمر.
ملك : آه يا باغية.
مونيم : ما هذه الداهية؟
ملك : شبَّهْتِ الاقتران مني بالجمر، وما هبتِ يا عظيمة الوزر، أني أقتلكِ وأقتل أكسيفار، وفرناس وأسقيهم كئوس الدمار.
سريرة فكري سوف تظهر للورى
وتعرف أبناء الزمان مآلها
وسيرة من خان العهود عن الورى
إذا حملته النائبات جبالها
لا بد ما أبدأ بقتل فرناس، المتَّصف بالخيانة والأدناس، وأعجِّل لكِ بعدها الانتقام، جزاء لكِ على ارتكاب الآثام.
زماني وأولادي وأهلي تعمَّدوا
نكالي وكلٌّ لاح لي زيغ خَتْله
ستنظرين فرناس الخئون مجندلًا
جزاء له مني على سوء فعله
تصوَّرْتُه في باطن الأمر صادقًا
فبان كذوبًا مستحقًّا لقتله
وعن شكوتي وبعده لا يفيد بغاية
وهيهات أن تُرجى النجاة لمثله
مونيم :
مليكي زيغ فرناس ظاهر
عن الرشد فاقتله على سوء فعله
ومُنَّ لأكسيفار بالعفو والرضا
فأفعاله بالصدق عنوة قوله
ملك : أكسيفار صادق؟
مونيم : نعم يا سيدي وموافق.
ملك : آه يا خائنة آه يا شقية، ما هما وحياتي إلا أشقى البرية، فرناس غدار، وأكسيفار … أكسيفار … أحضروه بالعجل.
جندي : أمرك أيها الأجل.
مونيم : إلهي ما هذا العمل؟ ماذا تريد يا مولاي من أكسيفار؟ اقتلني عوضًا عنه، آه أحرقَتْني النار، اعفُ عنه إنه بريء.
ملك : صه.
مونيم : ضاعت أفكاري.

الواقعة الرابعة

(ملك، مونيم، أرباط)
أرباط : قد شاع يا مولاي خبر قدوم الرومان، وقبل أن أقف على الصحيح، أتيت لأخبرك يا ذا الوجه الصبيح.
ملك : ومن أشاع ذلك الخبر؟
أرباط : قد أشاعه يا مولاي معظم العسكر، فيلزم أن نتدارك الأمر، قبل ما نقع في الخسر.
ملك :
غارت عليَّ جيوش الهم والكدر
والدهر قد قدَّ منِّي درعَ مصطبري
ولم أجد لي على خطب أكابده
عونًا وصار بقلبي حادث الخطر
فخانني مَنْ عليه كنت معتمدًا
حتى أرانيَ لا أنفكُّ عن حذر
قد جُرْتَ يا دهر فيما أنت فاعله
ونار شرِّك لا تخلو من الشرر
إن الليالي أتتْني في عجائبها
وحادثات الأسى قد حيَّرت فكري
ولم أرى في سما حظي سوى زُحَل
حتى تريني ضياء الشمس والقمر
اتبعني أيها وزير.
أرباط : أمرك أيها الخطير.

الواقعة الخامسة

(فوديم، مونيم)
مونيم : آه ثم آه من تقلبات الزمان، وغوائله المذيبة للجنان! زمان غدار، غرَّار قهار، في الصباح يَسُر، وفي المساء يَضُر، يُعطي باليمين ويَستردُّ باليسار، صفاؤه درهم وكدره قنطار، أنا ما صدَّقت أن أراني الحبيب، فاسترجَعَهُ وتركني في لهيب، وعوضني عنه بمتريدات، الذي هو عندي من أعظم البليات، ظننت أني خلصتُ من الأهوال، وبلغت بقتل متريدات الآمال، فرجع وأرجعَ إليَّ المصائب، وحلَّت علي جميع النوائب، بقدومه وفراق أكسيفار، الذي ألبسني بعده الأكدار، بمن أستعين على المصائب وأكتفي من غوائل الأوصاب، أبالصبر وأين أراه! أبالقبر ومتى ألقاه! آه واحزناه!
فوديم : صبرًا يا مولاتي مونيم، واتَّكلي على السميع العليم، فهو المفرِّج القريب، المنقذ من التعذيب.
مونيم : آه نديمتي فوديم، فؤادي في عذاب أليم، من فراق حبيبي أكسيفار، وقرب متريدات الجبار.
رماني زماني بالمصائب والبلا
وصادمني من كل خطب يريده
يفارقني مَنْ لا أريد فراقه
ويصحبني في الناس من لا أريده

الواقعة السادسة

(ملك، مونيم)
ملك :
أرى الدهر من أخلاقه الغدر والمكرُ
وهيهات أن يلقى المراد به الحُرُّ
يساعد أعدائي على سلب راحتي
وَمَعْ كل هذا لا يساعدني الصبرُ
يُحرِّك مني الغيظ بعد سكونه
فألقى همومًا لا يُقاس بها البحرُ
ولكنِّني للحِلْم ملتُ بمقصدي
ولله فيما قد جرى الحمدُ والشكرُ
فلو أُعطِيَتْ نفسي الغداةَ مرادها
لأدركها من بعد رجحانها الخسرُ
اعلمي يا مونيم أني أصبحت عرضة للنوائب، وفريسة أتقلَّب في مخالب المصائب، ولا أدري متى الفرج، من مصائب الحرج؟ وقد بلغت هذا العمر، وأنا في العذاب والقهر، من الرومانيين، وعدم راحة اليونانيين.
مونيم : وهل تأكَّد خبر قدوم الرومان؟
ملك : لا ما تأكد بعده للآن. وقد وجَّهتُ ولدي أكسيفار، وهو متأهب لأخذ الثار. والذي ظهر من أفعاله، أنه صادق في أقواله؛ ولهذا أزمعتُ أن أتنازل له عن التخت الملوكاني، وأجعله ملكًا مكاني، يحكم على كل قاصٍ وداني، أما هو رأي سديد؟
مونيم : افعل يا مولاي ما تريد.
ملك : نعم، أجعله ملكًا عظيمًا، وقيلًا جليلًا فخيمًا، رغمًا عن أنف فرناس، وأنف كل حسود خناس. وحيث وَخَطَني المشيب، وبلغتُ سن الترهيب، فالأجدر أن أزوِّج مونيم بأكسيفار، وأنفرد بعدها للراحة والاستغفار، إلى أن أذوق الممات، وأساوي الرفات الناخرات، فماذا تقولين يا مونيم؟
مونيم : عافني يا مولاي الفخيم؛ فأنا لا أقترن بسواك، ومنتهى رغبتي رضاك.
ملك : أكسيفار ريحانتي الزكية، وخلاصة محبتي القلبية، قد أحببت أن أجعله لك قرين، فلماذا تمتنعين؟
مونيم : إلامَ يا مولاي تُلقيني في أخطار، وتذكر لي تارة فرناس وتارة أكسيفار؟ وأنا في سائر الحالات، هوايَ بالملك متريدات؛ لثقتي بصدق مودَّته، وراحتي في ظل شَوْكَتِه، فإن رغب عني، يكون قد قصد أيني، وسلمني لأيدي المنون، في جميع الأحوال والشئون.
ملك : ما هذا الهمس يا مونيم، عزيزي أكسيفار الوسيم، قد أهديتكِ إياه، وهو كالقمر في سناه، ازهدي به حب فرناس.
مونيم : أنا يا مولاي لا أحب فرناس.
ملك : كفى تروغين أيتها الظالمة، فلا بد وحياتي ما أجعلك نادمة، إذا بقيتِ مصرَّةً على هذه الأفكار، ورفضْتِ الاقتران بولدي أكسيفار، أمَا تعلمين أني أبغض فرناس، وأحب أكسيفار دون جميع الناس؟ والذي يودُّه فهو حبيبي، والذي يأباه فهو عدوي ورقيبي، فطاوعيني يا مونيم، ليكمل حظكِ الوسيم، بقرب ولدي أكسيفار، صاحب البهجة والوقار.
مونيم : هذا الترغيب، وبماذا أجيب؟
ملك : عجِّلي بالجواب.
مونيم : مهلًا أيها المهاب … آه قد تاه فكري، وحرتُ في أمري.
ملك : ما هذا الهمس يا مونيم؟
مونيم : سلامتك أيها الفخيم (لنفسها) وكيف أبوح له بسرِّي، وأطلعه على حقيقة أمري، قبل ما أَقِفُ على المراد؟
ملك : ما هذا العناد؟ قربكِ من فرناس بعيد، ودونه كل عذاب شديد، وكل راحة واعتبار، بقرب ولدي أكسيفار، فامتثلي الأمر، لتأمني من الضر، وتحصلي على الافتخار، بزفافكِ على ولدي أكسيفار.
مونيم : إلهي ماذا أقول! أنا يا مولاي آه.
ملك : ما ذا الذهول؟ ولمَ قطعتِ الكلام؟
مونيم : آه سلِّمني يا سلَّام … قلبي غير مطمئن.
ملك : لا كوني في راحة وأمن، وتكلَّمي بالمرام ولكِ الفوز والسلامة.
مونيم : لي الفوز والسلامة؟
ملك : نعم.
مونيم : آه يا مولاي الهمام، أكسيفار ريحانتي وروحي، أكسيفار غَبُوقي وصَبُوحي، أكسيفار نشوتي وأنسي، أكسيفار قمري وشمسي.
غرامي غريمي في هواه فليته
يمنُّ على قلبي وينفي جَفاه
فلو قيل لي ماذا على الله تشتهي
لقلت رضا الرحمن ثم رضاه
ملك : كوني يا مونيم مطمئنة البال، فقد حصلت على الآمال، فادخلي غرفتكِ الآن، وسيطيب منكِ الجنان، ببلوغ الأوطار، وقربكِ بولدي أكسيفار. (تذهب.)

الواقعة السابعة

(ملك، جندي)
ملك : آه من زماني الغدار … أحضروا فرناس وأكسيفار.
جندي : أمرك يا صاحب الافتخار.
ملك :
الدهر علَّم أولادي خيانتَه
فيا قلَّة الحظ من دهري وأولادي
ولم أجدْ لي من الأيام فائدةً
مثل المسافر في الدنيا بلا زادِ
وإن مَنْ كنتُ أبغي من مودَّته
يومًا صلاحًا سعى نحوي بإفساد
إن أفسد الداء عضوًا منك يا جسدي
فداوه بعلاج القاف والصادِ
فسوف يجري على من خانني غضبي
والحزنُ يبقى له دومًا بمرصاد
لا كان مَنْ عاش في الدنيا بلا شرف
ولا يرى الخيرَ في قربٍ وإبعاد

الواقعة الثامنة

(ملك، فرناس، أكسيفار، لحن)
فرناس :
طالع الأفراح عم الوجود
بالمليك الأعظم
أكسيفار :
وصفَتْ أوقاتنا بالسعود
يا بهي الشيم
إن من تدعوه طوعًا أتاك
لاكتشاف الخبر
ملك : إنكما يا ولداي تعلمان، ما لنا من العداوة عند الرومان، وانتصارهم عليَّ في هذه المرة، أوقع في فؤادي كل حسرة وجمرة، وفرَّق شمل العسكر وجدع، وملأ قلوبهم خوفًا وفزع، وعلى هذا تخور دعائم المملكة، من اختلاف الأحوال والحركة، وقد أزمعت أن أجرِّد جيشًا جرار، أزحف به على أعدائنا الأشرار، وذلك بعد مدة وجيزة، أتمكَّن بها على ما أرغب تجهيزه، وفي هذا اليوم قد جاءني كتاب، من طرف ملك البورس المهاب، يُعلمني أنه مستعد لإنجادي، وأن جميع ملكه طوع مرادي، وقد فوَّض أمر ابنته لدي؛ لأجعلها قرينةً لإحدى ولدي، ويصير بعدها حليفي وسميري، ومساعدي في كل الأمور ونصيري، وقد توجَّهتْ يا فرناس إرادة أبيك، أن يخصَّك بهذا الاقتران دون أخيك، فبادر للهدايا والأموال، من ذلك الملك المفضال، وبعد عقد الاقتران، نستعد لقتال الرومان.
فرناس : لا ريب هذه الأفكار، هي مغناطيس الانتصار، الموضحة سبل النجاح، الموصلة لكل ربحٍ وفلاح.
ملك : ألك شبهة يا ولدي بهذا الكلام؟
فرناس : لا يا والدي الهمام … وكيف لا أشتبه بأفكار تجعلنا أتباع التبع، وتجبرنا أن نعيش أذلاء ما بزغ صبح وما لمع، ومن يكون ملك البورس أيها السلطان، حتى نصاهره ونجعله من الأقران! أما نخجل أن يكون عوننا، مع أنه في كل شيء دوننا، وأنا أقول بكل جسارة، وأجلى مقالة وعبارة: إذا كان ولا بد من التنازل لأحد السلاطين، فليكن تنازلنا للرومانيين؛ لأنهم أعظم منا اقتدارًا، ولنا بمحالفتهم أجل افتخارًا.
أكسيفار : متى ترجع يا فرناس عن هذا الكلام، الذي لا تقبله شهامة أحد من الأنام؟ ومن طمَّع الرومانيين سواك، وكلفهم موالاة الحرب يا أفاك؟ أما هو أسف عليك أيها الجبان، أن تكون ابن ملك وسلطان، أسف وألف ألف أسف، عليك يا عديم النخوة والشرف … أنا يا والدي للرومان، ولو ملئوا جميع القيعان، أنا ابن الملك متريدات، أنا أكسيفار صاحب الغارات، أنا طود الشجاعة والباس، أنا الأسد الحلاحل يا فرناس، مر يا والدي بتجهيز العسكر؛ لأريحك من نصب السفر، وستسمع ما أفعل بأعدائنا الفجَّار، وكيف أبدِّد شملهم في البراري والقِفار، إذا التقت الجيوش والأبطال، وثارتْ نيران الحرب والقتال.
نحن الذين إذا هاجت مواكبنا
ترتدُّ أعداؤنا من بأسنا جزعا
فكيف نخشى لهم حربًا وهمَّتُنا
صبح الشجاعة من أفلاكها طلعا
إن الزمان لنا بالفتك قد شهدتْ
أبناؤه ولنا بالبطش قد خضعا
من ذا الذي يخبر الرومان أن لنا
مشطَّبًا كيفما وَجَّهْتُهُ قطعا
لو قابلتْه الرواسي وهو مشتهر
هاماتها طأطأتْ من بأسه فزعا
ملك : بارك الله بهمَّتك يا أكسيفار، ولا زلتَ مُزيلًا عن أبيك الأخطار، فما أنت وحياتي إلا فارس اليونان والرومان، وحصنها العاصم لها من طوارق الزمان … وأنت أيها الجبان، متى ترجع عن الطغيان؟ أما كفاك أن جعلتنا سخرية عند الرومان، حتى تعمَّدوا حربنا في كل آن؟ فإلامَ يا خائن تردُّ كلامي، وتُظهر كل خيانة أمامي؟ فَسِرْ لما أمرتك به الآن، وإلا أُذِقْكَ الموت ألوان.
فرناس : عافني يا مولاي من هذا الاقتران، الذي أُفضِّل عليه عذاب النيران.
ملك : تُفضِّل عليه عذاب النيران؟
فرناس : نعم، ولا أودُّ الزواجَ مدى الزمان.
ملك : ولمَ لا تودُّ الزواج؟
فرناس : لأنه داء ما له علاج، وصاحبه يعيش مأسور، ومجبور عليه ومحيور.
ملك : ولو كان بمونيم؟
فرناس : ذاك نعيم في نعيم … لا … لا يا والدي جحيم في جحيم. آه قد سبقني اللسان، ووقعتُ في الخسران.
ملك : الآن تأكدت ما تقرر لديَّ، وعرفت من معي ومن عليَّ، آه يا خناس بنت ملك البورس كعذاب النيران، والزواج لا توده مدى الزمان، وقرب مونيم، ذاك نعيم في نعيم! آه يا لئيم، وكيف تجاسرتَ على ارتكاب الخيانة، وتجرأتَ على مونيم يا قليل الأمانة، مع أنك تعلم أنها خطيبتي، وبغير رضاها لا تحصل نشوتي؟! ما هذه الذنوب الفظيعة، والخطوب الهائلة الشنيعة! فقد استحقَقْتَ غضبي يا خئون، وستذوق من سيفي المنون.
أسعر الرزء بقلبي
غضبًا عَمَّ البطاح
من خئون ليس يلقى
بعد ذا اليوم نجاح
أوثقوه واحبسوه
دمه صار مباح
من حسام كم عليه
من دم الأكباد ساح
فرناس : ارحمني يا أبي، ولا تُعجِّل عَطَبي، فقد أخطأتُ وأرجو السماح، عما ارتكبتُه من آثامي القباح. وأنا ما فعلت ما فعلت عن عقل، وما هو إلا عن طيش وجهل، وكذلك أخي أكسيفار …
ملك : اسكت يا غدار، ولا تنجس هذا المحل بأنفاسك، أكسيفار سيدك ومبرأ من أدناسك … اسحبوه أيها الجند وكبِّلوه بالقيود والأغلال، فقد وقع في النكال، وحرضوا على حفظه الحراس، إلى أن أطلبه لقطع الراس.

الواقعة التاسعة

(ملك، أكسيفار)
ملك : أنظرت يا أكسيفار، فعل أخيك الغدار؟
أكسيفار : حِلْمك يا مولاي أوسع من جهله، وسيرجع قريبًا إلى عقله، وأرجوك أن تمنَّ عليه بالإطلاق، وأنا أكفله أن لا يرجع إلى الشقاق.
ملك : لا تطلب مني ما لا ينال، فلا بد من قتله في الحال.
أكسيفار : اقبل شفاعتي يا أبي، أو فاجعل قبله عطبي؛ كي لا أراه قتيل، وألازم بعده الويل.
ملك : أنا حسبتك يا أكسيفار عاقلًا، فوجدتك مثل أخيك جاهلًا.
أكسيفار : وما رأيتَ من جهلي؟
ملك : اعتراضك على فعلي، أنت اصبر إلى الآخر، وستعلم الباطن من الظاهر.
أكسيفار : ما فهمت يا والدي المعنى.
ملك : ستفهمها يا ولدي وتراها حسنى، أنا ما سجنتُه إلا لأجلك.
أكسيفار : لأجلي؟
ملك : نعم لأجلك.
أكسيفار : كذلك ما فهمت المقصود.
ملك : اعلم يا ولدي الودود، أني بلغت سن اللُّغُوب، وأنحلتني الخطوب والكروب، وقد أزمعتُ أن أرقِّيك، على التخت الملوكاني دون أخيك، وأزوِّجك بمونيم، ذات الجمال الوسيم، وأنفرد بعدها للعبادة، والراحة والزهادة، وبعد أن تصير ملكًا وسلطان، وحاكمًا على اليونان والرومان، ويصير تحت أمرك ونهيك، ويناط لأمرك إطلاقه ورأيك، فهذا ما كلفني حبسه؛ لنكتفي كيده ونكسه.
أكسيفار : أنت تزوِّجني بمونيم، وتجعلني ملكًا عظيم؟
ملك : إي وعينيك يا أكسيفار، أُصيِّرك ملكًا في هذا النهار، وأجعل في هذه الليلة، مونيم لك يا ولدي حليلة.
أكسيفار : وافرحاه … واطرباه! جبرْتَني يا أبتاه، فعزَّ أن يوجد في المخلوقات، مثلك يا والدي متريدات، وأكمل وأجمل، وأعظم وأفضل، ميمون الحركات، كثير البركات، حسن السيرة، طاهر السريرة، وأوحد ملوك الملا، فهكذا هكذا وإلا فلا.
إليك وإلا لا تُشدُّ الركائب
لديك وإلا لا تُنال النجائب
عليك وإلا ليس يؤخذ موثق
ومنك وإلا لا تنال الرغائب
وفيك وإلا فالحديث زخارف
ومنك وإلا لا تسوغ المشارب
لديك وإلا فالنزيل محقَّرٌ
وعنك وإلا فالحديث مآرب
ملك : أنا تفرَّست فيك يا ولدي النبالة، وأرغب أن أراك في كل حالة، كثير المحاسن والإحسان، كثير الأنصار والأعوان، حسن السياسة والسلوك، مع الرعية والملوك، ليُقال يا عزيزي الأوحد: حبذا الشبل ونعم الولد.
أكسيفار : ستراني يا والدي الفخيم، في كل ضئيل وعظيم، شفوقًا عطوفًا، صدوقًا رءوفًا، حتى يقال يا والدي الأوحد: حبذا الشبل ونعم الأسد.
ملك : وكذلك أوصيك، قبل ما أرقِّيك، أن تعامل مونيم، بكل احترام وتعظيم؛ لأنها عزيزة عليَّ، وتعادل ضياء ناظريَّ.
أكسيفار : وكيف لا أعظِّم مونيم، وهي حياة قلبي الكليم، ولذَّة حواسي، وينبوع إيناسي.
ملك : قد بالغتَ يا أكسيفار.
أكسيفار : ما بالغتُ يا ذا الوقار؛ لأني قتيل هواها، ولا أشتهي قرينة سواها، وكذلك هي تهواني، وشأنها في الغرام كشاني.
ذاتها ذاتي، وذاتي ذاتها
من رآنا لم يفرِّق بيننا
عينها عيني، وعيني عينها
جرمها جرمي، وجرمي جرمها
فإذا أبصرْتُني أبصرتُها
أنا مونيم ومونيم أنا
قلبها قلبي، وقلبي قلبها
نحن روحان حللنا بدنا
آه من العشق والغرام، وحرقة الوجد والهيام.
ملك : أبشر يا خئون بمناك، وستحصل على مشتهاك، بنطع راسك، وإخماد أنفاسك، أوثقوه أيها الجند، فقد تجاوز كأخيه الحد، وظهر أنه خوَّان، وجَحُود مهان، اسحبوه إلى السجن.
أكسيفار : يا والدي الأمان.
ملك : اخسأ يا شيطان، فلا كنتَ ولا كان، أهكذا الأهل والولد، فلا عشتَ أيها الألد، ولا عاشتْ مونيم، أُحْبُولة إبليس الرجيم.
آن أن أعطيكَ حكمًا
يا حُسامي في الأعادي
خفروا عهدي وخانوا
ثم حادوا عن ودادي
كل من ينصب فخًّا لسواه
فَهُوَ الواقع فيه دون أن يلقى نفاد
فليصافيني المصافي
وليعاديني المعادي
وأنا في كل حال
على مولاي اعتمادي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤