الحلم والأوباش
«ممكنٌ جدًّا جدًّا أن يكون التمثال، وهو عارٍ، قطعة من الفن الرائع، لكن جسد امرأة عارية، لا يمكن أن يكون من الفن في شيء.» … هذا ما قاله السيد مورويا لأبي وهو يحدِّثه، والغَلْيون الأصفر المصنوع من خشب الحور مُتَدلٍّ من جانب فمه … «الحب شيءٌ موجود في أحلامنا فقط يا عَم … كل الأشياء التي تسحب خيالك وتُجرجره وراءها حتى ينتهي إلى أرض الواقع … وكل الحاجات التي تُشبِع نهمَ أعضائك الحسية، كلها تهدم الحب من أساسه.» مالت شمس الظهيرة وانحدر ضوءُها في ركن الفِناء الواسع، فصنعَت أوراق شجر المشمش ظلالًا خفيفة، وكان أبي جالسًا على الحذاء ويُنصِت مليًّا، وكأنه يحاول أن يفهم حديث الرجل الذي اسمه مورويا، الأجنبي القادم لا أدري من أي بلد في الأرض، وكان يتكلم بلغةٍ صينيةٍ ركيكة، لا تُسعِفه في التعبير عن أفكاره بوضوح … هل فهمتَ قصدي؟ سأله السيد مورويا، فمال أبي برأسه وهو يتأمل أظافرَ قدمَيه العشرة مطروحةً أمام عينَيه، ولونُها داكنٌ دُكْنةً سوداء كابية، نظر في الأمر قليلًا، ثم تكلَّم بنبرةٍ مليئةٍ بالشك، قائلًا: هل تقصد أن وجهة نظرك، أن الولد يجب أن يذهبَ إلى المدرسة؛ لأن هذه هي الطريقة التي ستجعل له مستقبلًا؟ أجابه مورويا بحسم: «طبعًا … دون كلامٍ آخر.»
بعد وجبة العشاء قام مورويا ومشى، وهو يحمل ربطةً كبيرةً من الثوم وعِدَّةَ فطائرَ خبزَتْها له أمي، وقمنا وراءه جميعًا نُوصِّله إلى سدِّ النهر، فمضى وخلفه ضوءُ قمرِ الخامسَ عشرَ من الشهر. قدماه طويلتان ومِشْيتُه كهيئة المتخبِّط خَبْطَ عَشْواء، كأنه جوادٌ مكدود الحيل، وسرعان ما ذاب مختفيًا في سرداب الليل حيث تبهت أنوار القمر. مضى، وكأنه لم يظهر في حياتنا، أو لم يجلس معنا إلى مائدة عَشاءٍ مليئة بالفلفل الحامي، لكن الرائحة التي كانت تفوح من تحت إبطَيه، الرائحة النتنة التي ما كانت تشبه إلا رائحة الثعالب الجرْباء، ظلَّت تفوح في أجواء القرية، وفي ذاكرتي، زمنًا طويلًا.
قال أبي للجدَّة: «كلام الرجل هذا الذي اسمه مورويا معقولٌ جدًّا، وما دام هو بنفسه قد نصحنا بإرسال الولد إلى المدرسة، فما المانع أن نرسله؟ هذا رجلٌ أجنبي وله مكانةٌ معتبرة، ولا بد أن نعمل برأيه … هذا ما أراه وأنتم معي.» كذا تكلَّم أبي إلى الجد والجدة.
تأملتُ ضوء القمر ينسكب من السماء فيلمع منه المغزلُ المصنوع من عَظْم الأبقار، كانت جدَّتي تقبض عليه وتُمسِك بخيطٍ من صوف، فيتقلَّب المغزل في دوائر صفراء زاهية، وقد غامت ملامحها، فتعذَّر عليَّ ملاحقة انطباعات حديثها إلى جدِّي وقد بدا متململًا، ثم سمعتُ أبي يقول: «ما دام ليس عندكما ما تقولانه، فسوف أرسل شوكن غدًا إلى المدرسة.»
تكلَّم جدِّي أخيرًا: «يدرُس؟ يدرُس ماذا؟ أنا لم أذهب إلى المدارس في حياتي، ومع ذلك لا أختلف عن الناس في شيء … آكل وأشرب وأنام مستريحًا، مثل المتعلمين بل أكثر.»
لحقَتْه الجدَّة وأمَّنَت على كلامه: «إذا كنتم سترسلونه إلى المدرسة، فمن يرعى النعجتَين؟ يا للأجنبي الملعون! … بطن الجوال المنفوخ … لا يكتفي بالوجبة، بل يريد الطعام كله.»
قال أبي: «ما دام مورويا قد رأى ذلك، فلا بد أن نعمل كرامةً لوجوهنا، وليس فيها شيء لو ظلمنا النعاج قليلًا، وممكنٌ أن أقول لشوكن أن يصحو مبكرًا ويقطع الحشيش ويُلقيه لها، وعند خروجه من المدرسة، يذهب بها إلى المرعى لبعض الوقت؛ فهي تظل طولَ النهار من غيطٍ إلى حقل، تقفز هنا وهناك، لا تسمن بسهولة مع ذلك.»
لم ينطق الشيخ وامرأته بشيء، وحطَّت علينا أسرابٌ من البعوض والذباب، وهي تطن وتحوم في الأركان، والمروحة في يد الرجل وامرأته تهوي ذات اليمين واليسار، وتنفث غضبها المكتوم، حنقًا على أبي وعليَّ، دون أن تنسى نصيبَ مورويا القائم بمهمة التدريس في الفصول الكائنة غرب القرية.
صباح اليوم التالي، أرسلَني أبي إلى المدرسة، وكنتُ قد رأيتُ وأنا خارجٌ من البوابة الكبيرة تلكم النعجتَين مربوطتَين إلى وتدٍ خشبي بجانب الحائط؛ حيث لاحتا في نظر جدِّي وجدَّتي كأنهما لؤلؤتان صافيتان في كنزٍ مخملي، بينما كانتا تلتقطان كومة العشب واحدةً وراء الأخرى وقد اختلطَت بالندى، ورفعَتا رأسيهما وتأملَتاني بعيونهما الزرقاء الباهتة، ولم يعُد على جسدَيهما شيءٌ من الصوف بعد أن جزَّته الجدة، فظهر الجسد مُحمرًّا حمرةً وردية، سوى الرأس والذيل والأقدام؛ إذ بقي فيها الصوف على حاله، فأصبح شكلها قميئًا وفي منتهى الغرابة، والنعجتان في الواقع ذكرٌ وأنثى، أخٌ وأخته قد طال بهما الأمد في ممارسة سِفاح القُربى، فمن حظِّهما أنهما كانا من فصائل النعاج، فلو كانا من بني البشر لقام أهل القرية برميهما بالحجارة حتى الموت. ثم إني تذكَّرتُ منظر إغراق فتًى وفتاةٍ تابعَين لأسرة «شوجيا»؛ حيث قام كبير العائلة بتقييد جسدَي مرتكبَي السفاح إلى طاحونةٍ قديمة حتى غاصت بهما في بُحيرة العشب، وكان أن الولد والبنت لم ينطقا بكلمةٍ طوال ما حدث، وظلت عيناهما بارزتَين تنظران شبح الموت العاجل، ولا بد أن العشب الذي لاكَتْه النعاج كان مما حشَّته أمي في الصباح الباكر؛ لأني رأيتُ الطين عالقًا ببنطالها ومداسها.
لما صعدتُ إلى أعلى سد النهر، ألقيتُ نظرة فإذا جدَّاي واقفان لدى شاطئ النهر يفردان شبكةً كبيرةً في الماء، ويُوغِلانها بجانب منطقة الحشائش الخضراء المتاخمة للشط، فعرفتُ أنهما يصطادان القريدس الذي هو نوع من الجمبري، وخصوصًا النوعَ الداكنَ اللون؛ فهذا النوع بالذات يتحول لونه إلى الأحمر البرتقالي إذا ما وُضع لفترةٍ قصيرة في الماء المغلي، فيلذُّ طعمه بدرجة لا تُوصف، ولو أني لم تُواتِني الجرأة على أن أقربَ مما كان يصطاده جدِّي من القريدس بأي حال؛ لأنه كان طعامه المفضَّل، لكني كنتُ أحيانًا أستغلُّ ما كان ينتابُ جدَّتي من لحظات انشغالٍ أو غفلة، فأسطو خفْية على بعضٍ منها، وبينما كان القريدس الغليظ يَخِزُ جانب فمي بشواربه وذيله المشعَّث، فقد كانت تنتابُني من جرَّاء ذلك الإحساس لذةٌ غامرة. ذات مرة ضبطَتْني جدَّتي متلبسًا بهذه الفعلة فاندفعَت بكفِّ يدها على رقبتي تريد أن تسُدَّ حلقي؛ كي أتفل ما مضغتُه توًّا، وكانت تُواجهني بملامحها المكشرة وصوتها يكاد يمزِّق غشاء أذني، وأصابعها الرطبة الباردة تكاد تنغرس في قصبة حلقي، لكني لم أتنازل عن ابتلاع ما مضغتُ، حتى عندما كانت تحاول أحيانًا أن تمُدَّ طرف إصبعها في حلقي لتلتقط فتات طعام البحر؛ فكنتُ أعَضُّ أصابعها برفق، على سبيل التحذير بادئ الأمر، حتى إذا تراجعَت أصابعها قليلًا، انتهزتُ الفرصة فابتعلتُ كل ما في حلقي دفعةً واحدة، ذلك أني كنتُ قد أدركتُ بوضوحٍ تام أن جسدي الذي يمُر بمرحلة النمو وعقلي الذي يكبر، وكل الوظائف الحيوية تحتاج إلى البروتين وغيره من العناصر الغذائية، فأحسستُ أني مع كل حَفْنة من القريدس، تزداد صحتي نموًّا وأمتلئ سخونةً وعنفوانًا، كان ذلك إحساسًا بصحة تزداد انفتاحًا، وكأني بالخلايا المنقسمة والمتكاثرة تُصدِر أصواتًا تتفاعل داخلي كمثل طقطقات المطر فوق العشب الناضج، كلما ازدردتُ قطعةً من ذاك الطعام الشهي، صار لي مثل لحم القريدس وذكائه، فلما تنامت وكبرت خلايا عطاء البحر، تعاظمَت قدرتي على إتيان الأحلام.
ربما كان عمري وقتها خمسَ سنواتٍ أو نحو ذلك، وفي ذات ظهيرة صيف حامية، استلقيتُ فوق فرنٍ حامٍ كأنه رغيفُ خبزٍ مقلي بالزيت ونمتُ سريعًا، فرأيتُ في منامي الخابية الكائنة في الحوش وقد انكسرَت بكل هدوء دون نأمة صوت، فسالت منها المياه وملأَت الفناء كله، بل وخرج من الجرة المكسورة سرطانان كبيران كنا نُربيهما داخلها، فزحفَا على الأرض المبلَّلة بالطين، وقفزا على سمكتَين كبيرتَين كانتا تعيشان داخل هذه الخابية نفسها، فإذا بديكٍ منتفش الذيل قد أقبل حتى مال برأسه ونقر السمكات في عينها، فما لبثتُ إلا وقد أفقتُ من نومي فجأة وقمت واقفًا فاندفعتُ صوب الفناء، فلم تلبث اندفاعتي المفاجئة أن أفزعَت والدتي التي كانت ترشُّ مبيد الناموس في الغرفة، فصاحت بي: «شوكن، ماذا بك؟ فيمَ لهفتُك هكذا؟»
قلتُ: «انكسرَت الجرَّة.»
وما كدتُ أنطقها حتى انكسرَت الخابية الفخارية فعلًا، وصارت المشاهد التي رأيتها في الحُلم رؤيا عين شاخصة … وكل المناظر تحققَت.
ورأَت أمي كل الوقائع بعينٍ ملؤها الفزع، وسحبَت شطفة من الإناء المكسور وتطلعَت فيها بنظرات ملؤها الحيرة والشك، وأثار الصوت جدِّي وجدَّتي فجاءا يستطلعان الخبر، بوجوه جمَّدَتها المفاجأة، ثم ألقيا عليَّ باللوم في كسر الخابية، فدافعَت عني أمي، لكن دفاعها لم يصمد في وجه المنطق المتحجر، وأشارا بأصابعهما المدبَّبة في وجهها، قائلين: «كيف تنكسر إذا لم يكن قد احتكَّ بها؟ حماية ولدك لا تكون هكذا، وعلى رأي المثل السائر: من أراد أن يقتل ولده، فليبدأ بالتدليل!»
لم تجد أمي سوى أن تصمت، ففكَّرتُ أن أنافح عن نفسي، فحضر أبي وكأنه قد سقط علينا من السماء ليفصل بين جبهتَين متصارعتَين، لكنه وبتحريضٍ غادر من الجدَّين ناولني كفًّا غليظة، ولكمةً في الصميم، ولم يبخل على والدتي هي الأخرى بركلةٍ معتبرة، فأخذَت وجهَها بكفَّيها وبكت، بيد أني لم أَبكِ، وأحسستُ بفائرة غضب تأكل صدري، فكززْتُ على أسناني قائلًا: «سيأتيكم يوم الحساب على يدي … ولن ينفعكم الندم! ولتقطِّعكم مائة ألف سكين يا أوباش.»
ما كاد الشتم ينفصل عن لساني، حتى ناولَتْني أمي عدة أكُفٍّ حامية على صدغي. المشكلة أن الضرب كان حقيقيًّا، هذه المرة، بيدٍ من حديد، وشعرتُ كأن كفها تتطوح بعيدًا في حركة ارتدادية بعد كل صفعة، كأن كتلة رأسي قُدَّت من حجر صوان، فاضطربتُ عظيم الاضطراب، وتناوشَتْني المشاعر، وللحظةٍ اختلطَت في عيني صورة الخصم والصديق.
في الليل تكوَّمتُ، مقرفصًا، على ظهر الفرن، والجو يعبق برائحة الشيح، وكنتُ أتقطع من الغيظ والمرارة، وجاءني صوتُ أمي تنهيدة عميقة، وسرعان ما شعرتُ بيدها المغطَّاة بشرنقات حرير تداعب رأسي، وتمسح بالأنامل فروة رأسي، فأشعر بحكَّة أظافرها، بل أسمع تكشُّطها … تس … تس … ثم إن الأم تنحَّت عن صفوف الأعداء، وانضمَّت إلى تحت رايتي، وقالت: اسمع يا شوكن يا ولدي … إياك أن تفلِت لسانك هكذا؛ فليس ثمة سوى جدك وجدتك، واحترامهم واجب وإلا حرقَتْك السماء برعودها.
– كيف يا أمي وقد رأيتِ بعينَيك؟ فلم أكن أنا الذي كسر الخابية.
– أتُراك رأيتَ هذه المنظر في الحُلم؟
– صدِّقيني يا أمي … فأنا لم أقُل كذبًا.
أطبق الصمتُ علينا، ورغم أني قد أغمضتُ عيني، فقد كنتُ أرى أمي، بعيني المعتمة، وكانت تحدِّق في الظلام غارقة في أفكارها.
قالت لي أمي: «اسمع … اعمل لي معروفًا، واحلُم من أجلي حُلمًا يبيِّن لنا من الذي خطف الفطائر الخمس التي ضاعت السنة الفائتة، أتذكُر تلك الواقعة؟ عندما اتهمَني جدَّاك، ظلمًا، بأني أنا التي سطوتُ على الفطائر من وراء ظهرهما، وما زالا لليوم يردِّدان ذلك الافتراء.»
سمعًا وطاعة، سوف تكون رؤياي تبرئةً لساحة الأم.
وحلمَتُ تلك الليلة بالفطائر المشار إليها، ورأيتُ فيما يرى النائم أن ابن عِرْس خطفها وجرى بها ليُخفيَها في كَومة القش الكائنة عند جذع شجرة قديمة متاخمة لشجرة المشمش القائمة في صدر الفِناء، فكان يكوِّر فُتات الفطائر، ويقبض عليها بأسنانه الحادة، فيهرول على أقدامٍ أربعة قصيرة إلى مخبئه. كذا تبدَّت لي مناظر الحلم فقصصتُها بتمامها على أمي، فقالت: «شوكن، لا تذكُر حُلمك لأحدٍ من الناس كائنًا من كان.»
وبعد أيام قالت أمي لجدَّتي وهي تحادثها: «الشجرة القديمة تهرَّأَت ولا بد من قطعها، وإلا وقعَت علينا فجأة.»
غضبَت الجدة وقالت لها: «وما الذي منعك من قطعها طوال هذا الوقت؟ أنا عن نفسي لم أعُد أطيق رائحة العفن التي تفوح منها كل يوم، وأتحمل على مضَض ولا أشكو إلى أحدٍ لأجل خاطرك، ولماذا كل هذا العناء؟ وهل سأعيش أكثر من الأجل المكتوب؟ الميت بعد أن يُغمِضَ عينَيه وتنفرط يداه، لا يعود ليأخذ من الدنيا فلسًا واحدًا ينزل به في مقبرته … ولذلك فأنتم أحرار، أقولها لك … أنتم وشأنكم؛ سواء قطعتُم شيئًا أو تركتموه على حاله، أو حتى قلبتُم الدنيا رأسًا على عقب، فهذا أمرٌ يخصُّكم، ومن اليوم فصاعدًا، لن أضمر لكم خيرًا ولا شرًّا؛ وبالمرة أريح نفسي من وجع الدماغ، لئلا يأتي صغيركم الجميل هذا، بعد أن تنصلح أحواله، ينتقم مني ويقطِّعني بالسكاكين!»
في أنفاسٍ متلاحقة حاولَت أمي الاعتذار، وقالت لها إن شوكن مجرد طفل لا يفهم شيئًا، وإنها لا تدري من أين جاء بكلام الرعاع والسِّفلة هذا، ولا بد أنه سمعه في مكانٍ ما، وقلَّده من دون أن يفهم معناه … والأطفال كلهم هكذا.
أجابتها جدَّتي قائلة: «اقطعوا الشجرة كما ترون! لكن أريد أن أقول لكِ إنكِ مهما كان كلامك معسولًا، فلن يغير من الحنظل الذي تسقونني إياه.»
بنظرة تقدح شررًا من جانب عينها، حدجَتني العجوز، فشعرتُ أن حنقها عليَّ راسخٌ في أعماقها كعظام جسدها.
أزالت أمي طبقة الحصير المتهرِّئة من حول كَومة الحشائش، فثار الغبار، وبدت أكوام القش المتشابكة وقد تصرَّمَت في السنين.
وإذا بأمي تمُد يدها فتجد قِطَع الفطائر وقد غلَّفتْها طبقةٌ من الزغب الأخضر، بدت إحداها تامة الشكل بينما ظهر على الأخريات أثر الأسنان الحادة، فأحالتها بعضَ فُتات، وصاحت الأم من الدهشة: تعالَي يا أمي … انظري هنا.
أقبلَت الجدة متردِّدة تتساءل: ماذا تريدون أيضًا … أنظر ماذا؟
بلمحةٍ أدركَت، فاكفهَرَّ وجهُها وعادت أدراجها دون كلمة.
تطلَّعتُ إلى وجه أمي المشحون بالانفعالات، وقد غامت عينُها وراء الدموع، بينما اجتاحني شعورٌ بالابتهاج؛ إذ رددتُ إليها اعتبارها، ورددتُ عنها تهمةً ظالمةً بفضل حُلم، راجيًا أن تصحبني دائمًا موهبة الأحلام الكاشفة، غير أني فوجئتُ بجدَّتي تنقلبُ علينا مثل عاصفةٍ سوداء، وقالت بنبرة ملؤها السخرية التي لا يحتملها إنسانٌ صبور بطبيعته: ولماذا لا تكون المسألة، من أولها لآخرها، مجرد سرقة تم إخفاؤها في الكَومة؟
معنى هذا، بوضوح، أنها تتَّهم أمي بالسرقة، فصِحتُ فيها غاضبًا: قد حلمتُ بما حصل، وابن عرس هو السارق!
كان ابن عرس في الحُلم ضخمًا للغاية، لم أرَ لضخامته مثيلًا! قالت جدَّتي: عشتُ سبعين عامًا، ولم أرَ حتى الآن ابنَ عرسٍ ذا ساقَين.
رأيتُ المنظر وكأنه حُلم يقظة، فما إن حملَت أمي كَومة القش، حتى قفز منها ابنُ عرسٍ كبيرُ الحجم، وبدا كأنه يومئ برأسه ناحية جدَّتي، ثم انسلَّ هاربًا بمحاذاة الجدار.
وقعَت الجدة من طولها، وأخذَت تُتمتِم في رجفة: «هوانغ داشيان شوتزوي» … غفرانك يا ملاك هوانغ، السَّماح يا أولياء!
ألقت الأم كَومة القش في فزع، وأسرعَت بيدٍ مغبرَّة تُعين جدَّتي على الوقوف، فأسندَتها وصحبَتها حتى أدخلَتها الحجرة، وقد وقع في ظني بادئ الأمر أنها ستثأر لنفسها، وتَكيل للعجوز أغلظ العبارات؛ لتكسر لها رأسَها المتبجحَ المُستفزَّ، وخيلاءها الفارغ؛ عساها تُطأطِئ خَجْلَى أمام برهان الحقيقة الراسخ رسوخ الجبال، لكن إذا بها بدلًا من هذا، تتصرَّف بمنتهى التواضع والأدب الذي يفوق ما بذلَته لأي أحدٍ من الناس فيما مضى من أيامها، وكأن المظلوم في الحكاية هو المرأة الأخرى وليست هي نفسها، فأخذَتْني الحَيْرة وانكسر خاطري.
قالت لي أمي: «أنت ما زلتَ صغيرًا … ولا تفهم الكثير.»
بعد واقعة انكشاف ابن عرسٍ بعدة أيام، شعرتُ أن موقف الجد والجدة من ناحيتي قد تغيَّر بعض الشيء، وخصوصًا جدَّتي؛ حيث لم تعُد تعاملني باحتقار، وتبدَّلَت نظرتها لي وكأني عفريتٌ هبط إليها من عالم السحر والأسرار، وأظن أن والدي قد استطاع، في ظل تلك الظروف التي تهيأَت لصالحي، أن يجد الفرصة المناسبة لإلحاقي بالمدرسة.
وقف جدِّي إلى شاطئ البحر يصطاد القريدس، وأدركتُ أنه قد لمحَنا. كان أبي يمشي ممسكًا بيدي وأنا أتعثَّر بالخُطَى فوق منحدر السد النهري، والأرض تحت قدمي مبلَّلة. قال له أبي: سأُوصل شوكن إلى المدرسة.
غمغم جدِّي بشيء لا يبين، ثم رفع الشبكة بحركةٍ مفاجئةٍ من ذراعه، فجعلها في وجه التيار، وبحركةٍ دائريةٍ بسيطة رفعها ثانية، فاضطربَت النباتاتُ البحرية الناشئة على الحافة، وبقبقَت المياه وحومَت الدوامات ففارت العكارة على سطح الماء، وتأملتُ مربعات الشبكة وهي تتقلَّب بقفزات القريدس المضطرب وهو عالق بنسيجها، تكاد من فَرْط شفافيته ترى باطنه من الظاهر، حينذاك شعرتُ وكأنه يتنطَّط في جوفي أنا، تدبُّ فيه الروح.
كرَّر أبي على مسامعه مرةً أخرى، وبغاية الإجلال، خطَّ سيره، وأوضح له أن غايته توصيلي إلى المدرسة.
وفي منتهى الهدوء أفرغ الجد صيد شبكته في الجوال المطروح بجوار قدمه، ثم التفَت نحونا متبرِّمًا، وألقى عليَّ نظرة قائلًا: الحق بطريقك، هيا امضِ سريعًا، وعمومًا فالأقدار بيد السماء، ولا فائدة من كثرة التفكير وإطالة التأمل.
قال له أبي: دعِ الولد يتشرَّب الدراسة لبعض الوقت … (ننقعُه) في المدرسة مدة العام أو نصف العام، ونُريح ضميرنا من هذه الناحية، ولعله يستفيد شيئًا ولو ضئيلًا.
أشاح جدِّي بيده ضجرًا وقال: طريقكم … الحقوا بالوقت، ولا تعطِّلوني عن شغلي.
تطلَّعتُ في شغفٍ شديدٍ إلى القريدس، الذي هو جمبري البحور، وهو يتنطَّط في الجوال الكتاني وحلقي يتشوَّق إلى طعمه، حتى كدتُ آخذ لنفسي واحدًا منه فألتقِمُه نيئًا يتلوَّى، وقد لاحظ جدِّي تقريبًا أفكار قلبي، فرفع الجوال ودفعه ناحيتي بكل قوَّته حتى كادت فوَّهة الكيس أن تصطدم بأنفي، وقال لي بهدوء ثلجي: مدَّ يدك وكُلْ … على راحتك!
لم يشغلني النظر إلى وجه جدِّي ولا وجه أبي، بل انصبَّ اهتمامي كله على القريدس الذي بداخل الكيس، وراح كلا الرجلَين يسخران مني، ويُشبِّهانِني بواحدة من تلك القشريات التي يصطادها الجد، ولم أعبأ بشيءٍ مما يقولان، ما دام القريدس في متناول يدي وفمي، وليتهكَّما كما يشاءان حتى لو قالا بأني كلبٌ شارد في الأزقَّة والطرقات.
مددتُ يدي دون تردُّد إلى الجوال، وقبضتُ على مقدار حفنة ملء الكف، فدفعتُها إلى حلقي، وشملَني إحساسٌ باللذة تغلغل في كياني كله، ولم ألبث أن مددتُ يدي إلى داخل الجوال ثانية فالتقطتُ حفنةً أخرى ألقيتُها في جوفي سريعًا، وهنالك قبض والدي على ذراعي بقوة وحسم، ثم سحبني وراءه حتى طلعنا إلى سد النهر.
ماذا في القريدس حتى تأكله نيئًا؟ سألني والدي وعلاماتُ الدهشة والحيرة على وجهه.
وإذ أستعيد ذكرى سؤال الوالد لي على هذا النحو، أكتشفُ بأنه كان يفتقد إلى الذكاء والبداهة؛ فمن ذا الذي يهتم إذا كان القريدس نيئًا أو مشويًّا، وهل يحتاج المرء لكي يأكل القريدس، أن يتساءل أصلًا، فضلًا عن أن يتساءل ﺑ «لماذا؟»
لم أستطع وقتئذٍ الرد على سؤال أبي؛ لأن جوفي كان محشوًّا بالطعام، بينما أخذ هو يدفعني في كتفي يستحثُّني على عدم التلكؤ وابتلاع ما في فمي بسرعة، ولا أدري كيف مشيتُ معه حتى بلغنا مبنى الكنيسة عند الطرف الغربي من القرية، وكنت لمحت قمة المبنى وأنا ماش فوق سد النهر، ورأيت علامة الصليب الكبيرة المنصوبة على سطحه، وهي العلامة الغريبة التي كانت تضفي على قريتنا القديمة مسحة من الجلال والفخامة، وإن كنا نُغضي عن الاهتمام بالتطلع إليها، غير أن الأجانب كانوا عندما يرونها، ولو على مبعدة، يقطعون المسير فجأة ويتأملونها في دهشة.
وقف والدي عند مدخل الكنيسة ورسم على صدره علامة الصليب، بينما كان يتلو شيئًا بصوتٍ خفيضٍ ختمه قائلًا «آمين». لم يكن في قريتنا كلها واحد يضارعه في طهارة قلبه ولا في إيمانه، ولعل أحدًا من كل اليسوعيين لم يكن يضارعه صدقًا وإخلاصًا، بيد أنه كان في الوقت نفسه أقربَ الناس إلى قلب المبشِّر مورويا.
كان مورويا هذا واقفًا بنفسه عند باب المدرسة، يستقبلنا بابتسامةٍ ساذجة، وسرعان ما أخذ يربِّت على رأسي بلطف قائلًا: شوكن، كنتُ قد اضطجعتُ مع أمك، وها هو ذا الحَمَل الوديع قد جاءنا أخيرًا.
رددتُ كما تُرد السن بالسن، قائلًا: مورويا، وأنا قد نمتُ مع جدتك، فجئتَنا كما يجيء التيس الجبلي آخر المطاف.
بدا الذعر على وجهه، لكنه أخذ يضحك وهو يفركُ كفَّيه، بينما شارباه يهتزَّان في ارتجاج ضحكته، وكان أبي هو الآخر يضحك … هئ هئ هئ، ببلاهة ليس كمثلها مثيل.
أرسلَني مورويا إلى الفصل، وكلمة الفصل هذه من قبيل المبالغة؛ لأن فصول المدرسة كلها لا تزيد عن كونها مجرد قمرتَين متجاورتَين تقعان في الجانب الغربي من الكنيسة، كانتا في الأصل مهملتَين لاحتوائهما على بقايا أشياء قديمة لا أدري ما هي بالضبط، وتم إخلاؤها فيما بعدُ جميعًا وأُعيد ترتيبها لتضم عشرَ مناضدَ خشبية، فضلًا عن لوحةٍ خشبية دُهنَت بسناج الأفران والرماد المتخلف عن الأواني والقدور من أثَر النار، ثم عُلقَت على الحائط الكبير في صدر المكان، وكان بالفصل نحو ستة أو سبعة تلاميذ في مثل سنِّي تقريبًا، وعلى باب الفصل وجدتُ شابًّا شاحب الوجه ذا شعرٍ طويلٍ مسترسل، رحَّب بقدومنا، فقدَّمه لنا مورويا قائلًا: «هذا مدرِّسكم، وهو خريج أكاديمية سان جون العليا بشنغهاي.»
بعد ذلك مباشرةً أُقيم حفل افتتاح الدراسة، وكان من أهم رُوَّاده الناظر الشرفي للمدرسة، المبشِّر مورويا، وكبير أعيان القرية من آل شوي، العم شوي تسايجو، كما شارك في الحفل التاجر الكبير «هوسي نيان»، صاحب سلسلة المطاعم الشهيرة، وطلب مورويا من أبي أن يذهب ليُشرِف على بعض الأنشطة الاحتفالية التي ستقام في مدخل الكنيسة، وأهمها جميعًا المفرقعات التي تنطلق في الأجواء فتجتذب بدَوِيِّها الهائل أعدادًا من القرويين من المناطق القريبة، وتنبِّههم إلى بدء الاحتفال المقرَّر، وبالفعل فقد جاءت أفواجٌ كثيرة منهم، وجمهرةٌ غفيرة من الأطفال الذين كانوا يحملون على ظهورهم وأكتافهم إخوتَهم الصغار، فلما قارنتُ نفسي بأحوالهم المشعثة وجدتُني خليقًا بالفخر.
مع ختام الألعاب النارية، وإطلاق آخر جعبة في المفرقعات، أعلن مورويا بكل مهابةٍ وإجلالٍ افتتاحَ مدرسة «ماري» للتعليم الأساسي، وكانت أول فِقرة في برنامج الافتتاح الجديد، ترتيل قداس للرب، وصارت عيون مورويا والمصلين دامعةً في خشوعٍ وهم يرتلون معًا في صوتٍ واحد صلواتٍ صاعدةً إلى السماء، كأن الشيخ الذي سالت من رأسه خيوط دماء مطَّلع علينا فوق رءوسنا، يُنصِت ملء آذانه للأناشيد والصلوات.
انتهى الحفل وذهب الجميع بمن فيهم مورويا وأعيان القرية إلى القاعة الرئيسية، وبقينا نحن، مجموعة من التلاميذ الأشقياء مع ذلك السيد الشاحب الوجه ذي الشعر المسترسل، ويبدو أنه أراد أن يقول لنا شيئًا، لكنه ما إن استعد للكلام حتى فاجأه السعال الحاد، فغطَّى فمه بيده وأخذ يسعل طويلًا، فلما أفاق من ذلك نظر إلينا وأظهر لنا كف يده الذي كان يُخبِّئ به وجهه، فإذا الكف ملوَّثة بالدماء، ثم إنه تكلم إلينا قائلًا:
«أرأيتم منظر كف يدي؟ قد جئتُ إليكم برغم مرضي العُضال، لا أبغي سوى أداء رسالتي في نقل المعرفة والعلم لكل واحدٍ منكم، فإذا بقيتم تتعبونني هكذا، دون أن تأخذوا مسألة الدراسة بجد واهتمام، فلا تلوموا إلا أنفسكم.»
جاشت نفسي بالمشاعر، فنظرتُ إلى التلاميذ الجالسين حولي، فإذا وجوههم بليدةٌ كألواحٍ خشبية مصمتة، حتى ذاك الذي أصبح فيما بعدُ رئيسًا لمكتب ضرائب المحافظة، المدعو «لي دونغساي»، إذا به وسط تلك الأجواء المُفعَمة بالمشاعر، يضرِّط بصوتٍ عال، فيثير هوجةً من الضحك ارتجَّت لها أنحاء الفصل، فاستحال وجهُ المعلم كتلةً من الإحباط والأسى والانكسار الذي لا مزيد عليه، فضايقَني تصرُّفه الأحمق، لكني نظرتُ إلى طوله الفارع وجِرْمه الهائل، وأدركتُ أني لن أصمد أمامه في خناقة يحمى فيها وطيس العراك، وإلا كنتُ وثبتُ عليه فقبضتُ على أم رأسه وصدعتُ وجهه في الحائط حتى تتهشم أنفه وتبرقَ في عينيَه نجومٌ كالشرَر، ثم أنزع عنه بنطاله بيد، وباليد الأخرى أغترف حَفْنةً من طينٍ راكد فأدفعها في ثقب استه سدادة من وحل وقطران، ثأرًا للمعلم المسكين الذي تفل في كف يده الدماء.
هدأ كل الزملاء وقتئذٍ، وتمكَّن المعلِّم «تشن» من السيطرة على الموقف وتهدئة الوضع تمامًا، ثم أمسَك بإصبع طباشير أصفر وكتب على السبورة ثلاث كلمات بخطٍّ كبير: «هذا هو اسمي … تشن … سان … إينغ؛ لقبي هو «تشن»، والاسم إينغ (ابن عطاء الرب)، وأظن أنكم جميعًا بعد أن دخلتم الكنيسة، رأيتم وشهدتم القدَّاس. هناك ما يشير إلى الملائكة المجنحة من الذكور يطوفون بالملأ الأعلى: أنا أحد أولئك.»
ضحك البعض سخرية، فقال المعلم: «لا تستهزئوا؛ فأنا أتكلم بجِدِّية؛ فقد حلمتُ ليلة أمس بأني أحلِّق بجناحَين في الأفق البعيد حول عرش السماء.»
قال المعلم: «اكتبوا أسماءكم»، فكتب كل واحدٍ اسمه؛ لي دونغساي، تشانغ ليشن، آباوكو، واشتد الصخب بين التلاميذ، وقلتُ إني أُدعى شوكن (جذر الشجر).
قال المعلم ضاحكًا: «اسمٌ فريد من نوعه … جذرُ الشجر … لكن تُرى أي نوعٍ من الشجر؟»
قلتُ: «ليو شو كن (جذر الصفصاف).»
قال: «رائع جدًّا.»
بعد هذه اﻟ «رائع جدًّا» بدأ المعلم المجنح، ابن العطاء المقدَّس، يشرح أول دروسه، لكن ملامحه الجادة وكلماته ذات الدلالات العميقة ذبلَت بتأثير السُّعال المختلط بمخاط الدم وأسراب الذباب التي ملأَت الفصل بشكلٍ غير عادي، وقد فاحت في الأجواء رائحة الدماء المتناثرة من فمه، وتعاظم الإحساس بالاشمئزاز، وكان لمعان المخاط في أقدام وأجنحة الذباب يصيبنا جميعًا بالدُّوار، فلم ألبث أن نمتُ ودخلتُ في الأحلام، حتى رأيتُ طفلًا جميلًا كملاكٍ مجنح يبول فوق علامة الصليب، ثم رأيتُ مورويا يُقعي إلى جانب نعجته الحلوب يعتصر ضرعها، وهنالك أخذ المعلم تشن، ابن العطاء الأقدس، يميل برأسه وقد انتابته نوبةُ سُعالٍ حادة تفجَّرَت منها دفائن القلق في أعماقنا، وتأملتُه فإذا وجهه كالذهب الأصفر، وفاحت في وجهي، حينئذٍ، رائحةٌ منبعثة من جوفه أشبه ما تكون بما يفوح من الزنجار الذي هو شائب النحاس القديم، ثم لم يتمالك أن وضع يُمناه على فمه وبيُسراه لوَّح لنا، قائلًا: «اذهبوا … اذهبوا جميعًا … انتهى الدرس، فانطَلِقوا إلى بيوتكم.» وجهُه كتلةٌ من الإرهاق، وقد طفح به الكيل منا، ولم يَدرِ أن كيلنا نحن قد فاض إلى حد الطوفان والغرق، وقد بلغ السأَم مبلغه، وهكذا فقد انطلقنا نعدو ونصيح، وصار لكل فمٍ صُراخه.
وكان أني تطلَّعتُ، فيما أنا خارج من الفصل، فرأيتُ مورويا بجسده الضخم وقد أقعى فعلًا بجانب نعجته ممسكًا في يُسراه بآنيةٍ خزفية وبيده اليُمني يعتصر الحلمات المتضخِّمة بلونها الوردي الهادئ، والحليب الأبيض المختلط في شيء من الزرقة الخفيفة يندفع في الإناء فيشُق الحليب المتجمع محدثًا صوتًا مميزًا … تشي … تشي … في كل اعتصارٍ دفقةٌ طازجة. والرجل الأجنبي الكهل منشغلٌ بما في يده، بكل انتباهه، لا يلتفت إلى أحد، والشمس ترسل سخونتها الحامية على ظهره وعنقه وقد سالت قطراتٌ من العَرق المختلط بالتراب، فبلَّلَت قميصَه عند أكتافه وأعلى الظهر، وبدا شعره الأشيب المجعَّد يتموَّج في لمعانٍ يتردَّد جيئة وذهابًا، بينما اشتدت حمرة رقبته، وسمعتُ كأن لهاثه يخرج من قمة رأسه، وكانت النعجة منفرجةَ الساقَين الخلفيتَين مقوَّسة الظهر في انحناءةٍ خفيفة رافعةً ذيلها حتى ظهر نسيج بطنها المتورِّد، وكان رأسها يميل إلى الجانب قليلًا وهي تتطلع إلى السيد مورويا بعينٍ ساهمة ثم تخفضها كأنثى عريقة الامتثال، وكانت أحيانًا ترفع عينها قليلًا لتُلقي إلينا نظرةً خاطفة غير عابئة بشيء، كأنها ترمينا بكل ما في العين من احتقار، وكانت الآنية تمتلئ رويدًا بالحليب الذي تدفَّق فيها شيئًا فشيئًا، ويتردَّد صوتُ تدفُّقه في السائل الرجراج، فتتكاثف مادته وتدور بشبه الدوَّامة على سطحه ذي الرغوة، ثم سرعان ما يجفُّ الضرع الذي كان محتقنًا ويصير قطعةً متشنجة من الجلد في جسم شاةٍ مهزولة، فيقوم السيد مورويا واقفًا منهَك القوى، فيدور الهواء في جنبات المكان على أثر وقفته، وتدور معه رائحة الغنم الزنخة وتندفع في أنوفنا، ويلتفتُ بجِرمه الكبير فيواجه خيوط الشمس الحامية وتقع في عينَيه فيزرُّهما، وإذا به يعطَس عطسةً يهتزَّ لها بكل كيانه، فيتأرجح الحليب في الإناء ويندلق، ويقع شيءٌ منه على الإصبع البيضاء الغليظة في كفه، فيصُب من الإناء المليء حتى آخره على يده الأخرى، ويمد طرف لسانه الأحمر الممتلئ ويلعق إصبعه، ثم يقول بصدرٍ منشرح:
الشكر للرب يا أولاد، الشكر لمن وهبنا ضياء الشمس والهواء وحليب الشاة الطازج، آمين.
ثم يدور بإصبعه المبتلَّة بالحليب على صدره بعلامة الصليب.
قلتُ وأنا أحذو حَذْوه: «آمين.»
كان الإناء في يده وهو يمضي متثاقلًا، فلمَّا رفعتُ رأسي حانت مني التفاتةٌ إلى علامة الصليب الرمادية المنتصبة فوق قمة الكنيسة، فرأيتُ غرابًا أسحم جاثمًا فوقها.
على المائدة في بيتنا سألَتْني جدَّتي بخبثٍ لا تُداريه عما تعلَّمتُه في الدرس الأول، وهل أعرفُ الآن بالضبط كيف يُؤتى بالذئب من ذيله، لكني كنتُ أنظر بعينٍ نهمة إلى الطبق الخزفي الموضوع قُدام جدِّي وقد امتلأ على آخره بالقريدس بعد أن استحال لونه إلى الأحمر البرتقالي، بينما رحتُ أردُّ على السؤال وأنا شارد الذهن تمامًا، وأنا أقول:
«قال لنا المعلِّم تشن إن الرب أخذ واحدًا من الأضلاع فصنع منه الإنسان.»
لم تتمالك جدَّتي أن ردَّت بغضب، قائلة: «فُساء الكلب في وجهك! كم قُلتُ لك من قبلُ … قلتُ لك ألفَ مرة، وإن لم يكن ألفَ مرة فتسعمائة وتسعًا وتسعين مرة، إن الأم الكبرى نيوا هي التي خلقَت الإنسان من طينٍ كالطمي الأصفر. عجبتُ للكلام الغريب هذا، إذا كان الإنسان قد خُلق من طين، فكيف إذن يفترق الذكر عن الأنثى؟»
لم أكُن مغرمًا أدنى غرامٍ بالتعمُّق في مسألة خلق الإنسان، ولم يكُن في أعماقي أيُّ نزوعٍ لأي سفسطةٍ في هذا الشأن، الشيء الوحيد الذي ملَك عليَّ نفسي كان القريدس، الذي هو الجمبري الأصفر … يتنطَّط ويتشقلَب ملء أعماقي.
قال جدِّي وهو يمضغ طعام البحور بشهيةٍ مفتوحة على آخرها: «المدارس التي من مثل هذا النوع تُتلِف أدمغة الأطفال، ولا تدَع أحدًا منهم دون أن تُخرِّب رأسه.»
رسم أبي على صدره علامة الصليب وهو يُغمغِم قائلًا: «سامحنا يا رب!»
شزر إليه جدِّي بعينه القدَّاحة بالشرر وهو يكظم انفعاله، ثم حشا جوفه العميق بحفنة هائلة من قشريات البحر.
وما هي إلا لحظةٌ حتى حدثَت جلبةٌ فوق عارضة العمود الحامل للسقف، فرفعتُ رأسي أنظر ما الأمر، فإذا فرخُ طائر السنونو قد مدَّ مؤخرته من العُش الكائن فوق العارضة وتغوَّط كتلة زبل بيضاء وقعَت ساخنةً فوق العروق الزرقاء النافرة في ظهر كفِّ جدَّتي.
بصقَت العجوز غيظًا وقامت واقفة وذهبَت لتغسلَ يدها وهي تُثرثِر: «سوف أنتهي من الأكل حالًا وأطفِّشكُن من العُش … كل الأشياء صارت أخلاقُها منحطة، حتى الطيور ساءت أحوالها، هل كانت أفراخ السنونو في زمن أجدادنا الطيبين تجسر على أن تبول على الناس هكذا؟»
اقتنصتُ فرصة تطلُّع جدِّي ناحيةَ عُشِّ الطير فوق العارضة العالية، فمدَدتُ يدي إلى الآنية المليئة بالقريدس، لكنه كان أسرع مني في ملاحظة حركاتي الخاطفة، وحال بيني وبين التقاط أية واحدةٍ من قشريات البحور.
تحت الليل، ربَّتَت أمي على رأسي قائلةً لي: «شوكن، يا بني، متى ستتوقف عن النهَم، وتتعلم القناعة؟»
ليس في الدنيا كلها من يستطيع فهم مشاعري الحميمية تجاه القريدس، حتى أمي لا تفهم ذلك؛ فهذا هو السر الذي انغلق عليه قلبي، السر الذي داريتُه عن الجميع كما يداري المرء سوءة الإثم.
ما إن بزغ صباح اليوم التالي حتى قمتُ وذهبتُ إلى المدرسة، وقبل أن أبلغ بوابتها قابلتُ في طريقي أحد زملاء الدراسة ويُدعى جاو تشونليان، وكان في حالةٍ شديدة من التشوش والاضطراب، حتى قال لي: «أسرِع بالعودة إلى بيتك يا ليو شوكن؛ فقد مات المعلِّم تشن شنغ ين ليلةَ أمسِ.»
لم أصدِّق، وأخذتُ الطريق ركضًا حتى بلغتُ الكنيسة، وبالفعل رأيتُ المعلِّم تشن شنغ ين ممددًا تحت شجرة بجوار الجدار الكبير، ووجهُه مغطًّى بصحيفةٍ بيضاء، وأسرابٌ من الذباب ذي الوجه الأحمر تحوم حول أطرافه.
ما إن رآني السيد مورويا حتى صاح فيَّ بانفعالٍ شديد: «شوكن، ارجع إلى البيت بسرعة، وقل لأبيك أن يأتينا في الحال، قل له إن الأستاذ تشن قد مات، ولا بد من البحث عمَّن يقومون بعمل اللازم بشأن الدفن والجنازة.
… شوكن … شوكن، انتبِه، أَفِق حالًا؛ فقد حان وقتُ الذهاب إلى المدرسة.»
رأيتُ أمي واقفةً أمام الموقد الذي اتخذَت سطحه فراشًا، وكانت تدعوني بصوتٍ خفيض، يفوح منها عطر كولونيا مختلط برائحة الحشائش، فعرفتُ أنها ذهبَت إلى الغيط في البكور ثم عادت تحمل كَومة الزرع، ففركتُ عيني وأنا أستعيد منظر الحُلم في قلقٍ شديد، وألصقتُ فمي بأذن أمي وقلتُ لها همسًا: «حلمتُ بأن أستاذنا قد مات، رأيتُه ممددًا في ظل شجرة جنب الجدار، وعلى وجهه ورقةٌ عريضةٌ بيضاء، بينما الذبابُ هائجٌ على جسده المسجَّى.»
ما كدتُ أقصُّ عليها، حتى اكفهرَّ وجهها وقالت بجِدِّية: «كلامٌ فارغ، كلما فتحتَ عينَيك من النوم تهذي بكلامٍ فارغ!»
أنا أيضًا تمنيتُ أن يكون هذا كلامًا فارغا تمامًا؛ لأنه لو نزل الحُلم على أرض الحقيقة فسيكون معنى ذلك انتهاء مستقبلي الدراسي بأكمله، أليس كذلك؟ وساعتها سيكون مطلوبًا أن أقوم كل يوم وأسحب النعجتَين إلى الأرض وأخوض في الأوحال، وأنزع من رأسي تمامًا فكرة أن أصبح شيئًا مرموقًا … أتخلى عن أن أصبح عملاقًا كرأس التنين، وأبقى في طيَّات الذل تحت إمرة جدَّيَّ كلَيْهما.
مشيتُ حَذْو الطريق الذي مشيتُه أمسِ إلى المدرسة، ترفعني وتحطُّ بي مشاعر القلق، عند سد النهر، رأيتُ منظر جدِّي واقفًا عند الشاطئ، نفس المنظر الذي تحوَّل الآن إلى جزء من مشاهد الحياة الطبيعية لكثرة ما ألفتُه، وكان يخوض في النهر عاريَ الساقَين، وكانتا رفيعتَين كساقي كركي ويهزُّ شبكته على نحوٍ آلي تقريبًا، وكانت قشريات القريدس بجسمها الصغير الشفَّاف تتقافز أمام عيني، وظننتُ أني لو أغضَيتُ عن رغبتي العارمة في تناول قشريات القريدس النيئة، فلن أفلح في دفع النمو العقلي ودعم عملية النضج الكافي، ومثلًا فقد استطعتُ بفضل قطعتَي القريدس الكبيرتَين اللتَين أكلتُهما بالأمس أن أتمكَّن من إحراز مستوًى فعَّالٍ وملموسٍ في درجة وضوح الأحلام، بل بلغ تأثيرهما مبلغًا جعل صور الأحلام تكاد تتطابق مع الوجه الأصلي للواقع المعاش … هنالك تبدو الحشائش خضراء زاهية، والورود في لون الحمرة القانية، وكل مذاقٍ أجد له في فمي طعمًا باقيًا حتى بعد أن أُفيق من الحلم، إلى أن بدت حقائق اليقظة في قلب النهار، إذا ما قُورِنَت بآفاق الأحلام، بعض خيالاتٍ غائمة في رؤًى ضبابية.
قبل أن أدلفَ من بوابة المدرسة قابلتُ زميلي جاو تشانليان، وكان مضطربًا للغاية حتى كاد يندفع في صدري، بينما رفع طرف كُمه ليمسح مخاط أنفه، قال:
«عُد إلى البيت يا شوكن؛ فقد مات الأستاذ تشن ليلة البارحة.»
أسرعتُ إلى الفناء، ووجدتُ المعلم تشن ممددًا تحت الشجرة، والذباب الأحمر يحوم فوق جثمانه، والوجه مغطًّى بورقةٍ بيضاء.
ما إن رآني السيد مورويا حتى زعق فيَّ مهتاجًا:
«ليو شوكن، أَسرِع إلى البيت وقل لوالدك إن المدرس تشن إينغ قد مات، ولا بد أن يجيء بمَن نبحث معهم في ترتيبات الدفن والجنازة.»
في ركاب أبي جاء أهل القرية — المتدينون منهم على وجه الخصوص — حتى وصلوا إلى فِناء الكنيسة، فأحاطوا بجثمان تشن شنغ ين وأفواههم تنطق ﺑ آمين، وكل الأيدي ترسم على الصدور علامة الصليب، وقال أبي: ألم يكن قد تحسَّن بالأمس قليلًا؟ كيف يعاجله الموت هكذا؟ عويل السيد مورويا كان يسبقه وهو يقول: «هو الآن في مملكة الرب يهنأ بسرورٍ مقيم؛ فهناك مآلنا جميعًا.»
ودار النقاش محمومًا بمائة فم وألف لسان، وانصبَّت من لدن الشمس وقدةٌ حامية، حتى فاحت في الأرجاء جيفة الأستاذ تشن، وحوَّطَته أسرابٌ من ذباب البرِّية، فامتلأَت الأنحاء بغائلة الفقد، وصار للموت رهبة في الصدور.
لا يمكن أن نبقى طويلًا، قال أبي: «اجمعوا من كل واحدٍ على قَدْر ما يستطيع ثمنًا لكفنٍ بسيط، ثم نكفِّنه ونسجِّيه في النعش، ونحمله لغاية أرض المقابر غرب القرية حيث ندفنه هناك … كذا أقول لكم.»
اعترض والد لي دونغتساي قائلًا: «هذا مجرد رجلٍ غريب عنا، فلا داعي للكفن أصلًا … والمسألة كلها لا تحتاج أكثر من حصيرة نلفُّه فيها طيتَين ونحمله مرةً واحدة، وننتهي من الموضوع.»
وافق أبي على اقتراح والد زميلي لي دونغتساي، وأشار إلى أحد الواقفين بالذهاب لشراء الحصيرة، ثم رشَّ على جثمان المعلم تشن شنغ ين بعضًا من الخمر ليكتم الرائحة المنتنة، وأقبل عليه عددٌ من الرجال المقطِّبي الجبين، وجعلوا يلفُّونه بإحكام، ثم ربطوا الكفن بأربطة، وعلَّقوه في حمَّالاتٍ من الخشب فرفعوه ذاهبين به ناحية الجبَّانات الغربية، والذباب يأبى إلا أن يصحبَهم أرتالًا وجماعات، يغشى وجوه الأحياء لا يريم، والحصيرة بدت أقصر من أن تحوي الجثمان بتمامه؛ إذ تدلَّت من رأس المعلم تشن خُصلات شَعره الطويل والذباب يلتفُّ حولها منعقدًا.
جنازة المعلم تشن شنغ إينغ كانت في غاية البساطة، وقد جمعَت بين التقاليد الصينية والغربية معًا؛ فقد راح السيد مورويا يصلي ويقرأ من الكتاب المقدس، في حين انهمك بعض كهول القرية في قراءة تعاويذ الانتقال السرمدي، وبعد أن أُغلقَت فتحة القبر أمرني أبي قائلًا: «اركع يا شوكن، انحَنِ واسجد لأستاذك تشن.»
زمَمتُ حاجبيَّ في استياء، فلا هو بقريبي الحميم ولا خصمي اللدود … أي ليس بيني وبينه ما يؤرِّق مشاعري سلبًا أو إيجابًا … وإن كان موتُه المفاجئ قد هالني، فلماذا وعلى أي أساسٍ أنحني ساجدًا له؟ قال أبي: «اسجُد؛ فمن كان لك يوما معلمًا، فسيبقى للأبد والدًا.»
فضربتُ له الأرضَ برأسي، وإذ خفَّضتُ رأسي لدى ذلك المدفن المُنشَأ حديثًا، شممتُ رائحة التراب الأصفر بغير شوب، وبدا أن أسرابَ الذباب قد حلقَت بعيدًا، بينما هبَّت نسماتٌ رطبة من أعماق الحقول، وكان تغريد الطيور في الأجواء يثير في النفس رعشةً يتقبَّض منها كياني، والحشود واقفة في خشوع أمام المقبرة، كأنهم أشجار صُفيراء قديمة، وحده السيد مورويا كان أشبَهَنا بشجر الحَوَر الأبيض. قال والدي للكاهن:
«أليس من المناسب يا أبانا أن نبحث عن معلمٍ آخر، ما دامت المدرسة قد افتُتحَت؟»
عقد السيد مورويا حاجبَيه حائرًا، ثم غَمغَم بشيء وقال دون أن نعرف سببًا لما قال:
«يا ربنا، خلِّص بلطفك ورحمتك أولئك الذين أفسدَت قلوبَهم الآثام.»
ما كاد ينتهي من صلاته حتى مشى وحده يترنَّح، والناس واقفون يتأملونه وهو ماضٍ، والجميع يأسى له، وتكلَّم الرجل الثاني في عائلة فانغ جيا، فقال: «تفضَّلوا … كل واحدٍ لشأنه، قمتم بواجبكم، وليس أسوأ من تفشِّي الظلم بين الناس؛ فهنالك تطفر الدموع في مآقي السيدة العذراء.»
تفرَّق الجمع في صمت، وجذبَني أبي من ذراعي كأنه يخشى عليَّ الفرار. وكان أن أغلقَت مدرسة ماري أبوابها، وسمعتُ أن السيد مورويا أخذ نعجتَه وربطها في حجرة الدرس التي تحوَّلَت إلى مزودٍ خاص بها، ثم تحوَّل فصلنا إلى زريبة للنعاج، وقال أبي إن الحجرة الغربية كانت في الأصل حظيرةً مخصَّصة للنعاج التي يقوم على تربيتها السيد مورويا. وعلى أية حال فقد عادت حياتي إلى سيرتها الأولى؛ حيث بقيتُ أرعى البهائم طوال اليوم، من الصبح إلى ما بعد الظهر، بينما انهمك زملاء دراستي الآخرون في رعي الغنم وأم رعي الأبقار، وذلك في أرض المنخفض الكبير الواقع جنوب القرية، الذي لم يكن له صاحبٌ معروف، ورغم هذا فقد كان المرعى خصبًا والحشائش وفيرة منتثرة على بقعةٍ عريضة تكاثف فيها النبات، بألوانٍ من كل طيف؛ الأبيض، الأصفر، الأزرق، وكان منه ما نضر لونه وما شحب ذابلًا؛ وكان ثمَّة بِركة مياه وسط المساحة المترامية، مليئة بأسماكِ الأنقليس وأنواعٍ من سرطان البحر، وغير هذا كثير كثير، لكن الشيء الوحيد الذي لم يكن موجودًا هناك هو القريدس الشفَّاف.
كنا ذات يومٍ نلهو فوق حشائش المرعى الكبير، والدوابُّ تجول وسط الزرع في كل اتجاه، تنتقي أنضر العشب وتتنقل في الأرجاء على هواها، فرأينا على البعد رجلًا أبيض ضخم البِنية يسحب نعجةً ويسير بها، وإذا بنا نتعرَّف عليه جميعًا؛ فقد كان هو السيد مورويا بنفسه وقد اعتدنا رؤيته بصحبة خادمه المخصَّص لرعي أغنامه، فكان يقطع لها الحشائش ويقدِّمها لها في المزاود، لكنه اختفى فجأة بعد موت المعلم تشن، ولم نعُد نسمع له حسًّا ولا خبرًا، غير أني حلمتُ في المنام بما آلت إليه أحوال ذاك الخادم، لكني لم أشأ أن أخبر أحدًا، ولا أظن أن أحدًا كان سيُصدِّقني لو قصَصْتُ عليه ما رأيت.
رائحة الغنم الزنخة فوق جسد السيد مورويا كانت تنتقل مع الريح، فتفوح في الأجواء وتأتينا من بعيد، وكلما اشتدَّت الرائحة ازداد قربًا، حتى إذا صار قبالتنا مباشرةً زالت الرائحة فجأة، وهنالك قال لي مورويا ضاحكًا:
«ما رأيك يا شوكن لو تركتَ أغنامنا تسرح مع أغنامك على نفس العشب؟»
والتفَتَ مشيرًا إلى تلك النعجة، وحاول أن يجذبها قليلًا، لكنها تصلَّبت بأطرافها جميعًا، بل أخذَت تتراجع بعناد.
قال له لي دونغتساي: «النعجة حَرون، كلما جذبتَها عَنْوةً تراجعَت بإصرار، إذا لم تكن تصدِّقني فأطلِقها وشأنها، وسوف تذهبُ من تلقاء نفسها وتختلطُ بأغنامنا.»
وفعلًا فكَّ لها مورويا قيدها، فتقدَّمَت شاتُه الحلوب بشيء من الوجل إلى قطعاننا التي استقبلَتها في غيرِ قليلٍ من النفور، فاعتذرَت نعجة السيد مورويا عن الفضول، وانطلقَت تنتقي من بين الأعشاب زهرات النوار بلونها الأزرق السماوي.
أفضتُ في مظاهر الاحترام البالغ للسيد مورويا، لكنه كان مثل طفلٍ مشاكسٍ مثيرٍ للقرف والغيظ؛ فلم يكن يكُفُّ عن استفزازنا بشتى الطرق؛ يشد هذا من أذنه، ويضرب ذاك ببعضِ ما في يده، ويتحسَّس فلانًا في بعض جسده، فصحتُ فيه غاضبًا: إلى هذا الحدِّ، وكفى مضايقة.
جاء السيد مورويا في اليوم التالي ليرعى قطعانه معنا، وأخذ يُحاول استثارة غضَب الجميع مثلما فعل في المرة الفائتة، فلم نُطِقْ صبرًا، وطوَّقْناه جميعًا نشُده من ذراعه ونجذبه من بنطاله حتى أقعدناه على الحشائش، وهنالك اقترح علينا كبيرُنا لي دونغتساي أن نلعب به «الكبير رأس الخيار»، فوافقناه في صيحةٍ واحدة لم يتخلف عنها أحد، فخلعنا له بنطاله وأخذنا نُدخل رأسه الأشيب الكبير في حجره الواسع، ولو أنه كان أضيق كثيرًا مما ألفناه في البنطال الصيني؛ فشَقَّ علينا إدخال رأسه في الحجر كاملًا، لكنا بذلنا غاية الجهد حتى أنفذنا رأسه داخله، فصار المسكين يتقلَّب على الأرض وهو يلهث بكل ما وسعه، ونحن إلى جانبه نصفِّق ضاحكين، ثم قام لي دونغتساي وتناول الأنشوطة التي نهُشُّ بها على القطعان فانهال بها ضربًا على مؤخرة مورويا، فكان صُراخه المكتوم يصدر من بين ثنايا نسيج البنطال المحيط برأسه، وعلى أثر إحدى تلك الضربات العفوية تهتَّك النسيج عند وصلة الحجْر فبرز منه منخارٌ أحمر، فتقلَّبنا على أقفيتنا من الضحك، حتى كدنا نتغوَّط دون أن ندري أو ينساب البول بين أرجلنا ونحن ذاهلون، ثم واتَتْني فكرةٌ جديدة كل الجدَّة، وهي أن أقتطفَ غصنًا يابسًا مدببًا، ثم أخِزَ به الشعيرات المحتشدة في فتحة الأنف المحمرِّ، وإذا الأنف القاني يتشنَّج ويعطَس عطساتٍ متوالية لينشقَّ الحجْر كله ويخرج رأس مورويا من مزنقه وقد احمرَّت وجنتاه وغامت العين في طوفان دموع.
تصادف مرور أبي مع مشهد من واقعة المرعى، فشحب لونه شحوبَ مَن فارقَتْه الروح. يا بهائم … يا أولاد الجهلة الأغبياء. انطلَق يسبُّنا وقد انحنى يخلِّص رأس مورويا المليء بالحكمة من حجْر البنطال، وأخذ يتوعَّدنا ويستقصي عن المحرِّض على تلك الفعلة الشنيعة، وكان مورويا آنذاك ممددًا بطوله على العشب المطروح في المرعى العريض، ساكنًا سكونَ الأموات، ثم لاحظتُ أن وجهه المُحتقن بالدماء جعل يستعيد لون بشرته البيضاء الفاتحة شيئًا فشيئًا، بينما هدأَت أنفاسُه للغاية، حتى ظننتُ أنه لفظ آخرها توًّا.
أخذ أبي بأذني، فثناها آمرًا إياي أن أكشفَ له عن رأس المصائب، فلم أُقرَّ بشيء، فوضع ركبته في بطني يريد أن يبقرها، فصمدتُ للزجر ولم أنثنِ، وبينما نحن على هذا وإذا بالسيد مورويا ينهض واقفًا، وينحِّي والدي عنِّي، يقول له ضاحكًا: «المسألة لا تستحق يا عم ليو … ذلك كان ضحكًا وتهريجًا، فلا تشغل بالك كثيرًا.»
أطلقَني أبي قائلًا: «إياكم أن تُغضبوا السيد مورويا، يكفي هذا الرجل أنه جاء من آخر الدنيا لينشر كلمة الرب بيننا، فتدوم لنا نعمة الأرض ومحصولها ويزداد الخير في بيوتنا، فكيف تهزَءون به، وكيف تطاوعكم أنفسكم على امتهانه بمساخر ألعابكم الدنيئة؟!»
قال السيد مورويا: «أنت لا تعرف الموضوع من أساسه يا عم ليو، وبالمناسبة، فلعبة «الكبير ورأس الخيار» لطيفة جدًّا، ولحسن حظي فقد أُتيح لي أثناء هذه اللعبة منذ لحظاتٍ أن أرى الرب بعيني.»
من وقتئذٍ دارت كلمة السيد مورويا في أنحاء القرية، حتى صار الرعاع والفقراء يتضاحكون فيما بينهم ويقولون: «إذا كان الواحد منا يستطيع أن يرى الرب إلهه أثناء لعبة «الكبير رأس خيار» فما معنى ذلك بالضبط … هه؟ شوفوا أنتم المعنى كيف يكون!» وتنطلق الضحكاتُ في أفواه كل الحاضرين بغير استثناء.
ولعل السيد مورويا لم يؤدِّ دوره كمبشِّر بدرجةٍ معقولة من النجاح، وكم قيل إنه لدى وصوله إلى القرية كان دءوبًا ومخلصًا في نشر الموعظة بين الناس، لكن حماسه تضاءل مع الأيام حتى لم يعُد يقوم برسالته على الوجه الأكمل. صحيحٌ أن الفضل في تأسيس مدرسة ماري يعود إليه، وهو ما كان يُعد أعظم إنجازاته على الإطلاق، لكنه الإنجاز الذي سرعان ما تحطَّم وانهار بعد الوفاة المفاجئة للمعلم تشن، ثم إنه لم يحاول أن يسعى في استقدام مدرسٍ آخر غيره، وبقي يقضي سحابةَ نهارِه معنا نحن الأطفال الصغار، مما أتاح له أن يتعرَّف على مشاعرنا نحوه عبْر الكثير من فترات اللهو الساذجة، بل إن علاقةً طيبة نشأَت أيضًا بين نعجته الحلوب وذكَر الضأن القابع في بيتنا، وكان أن وثَب عليها ذات يوم، وما زلنا من ساعتها لا ندري كيف ستكون النتيجة الطبيعية لمثل هذه العلاقة؛ إذ لا مفر من الانتظار عدة أشهر حتى نرى شكل الضأن الوليد ونحدِّد دور كل الأطراف، بدقَّة، في صياغة النتائج الحاسمة.
لم يكن في القرية كلها ذكَر ضأنٍ إلا وكانت له سابقةٌ في امتطاء ظهر نعجة السيد مورويا، وفي كل مناسبة من هذا النوع كان الأطفال يدورون حول البهيمتَين ويهتفون، بل حتى عندما كان الذكَر ينزلق هابطًا من وثبته فقد كانت الصيحات تستمرُّ دقيقتَين أخريَين، ويعلو صوت السيد مورويا قائلًا: عظيم … عظيم جدًّا … لكم أن تعرفوا أن كل هذا من أمر الخالق.
ربما كان السلوك الضأني قد ألهم السيد مورويا أشياء كثيرة، أو لعله أوحى إليه بأفكارٍ واتجاهاتٍ ما كانت تخطر على البال! فقد حدث أن سيادته زار أبي وأهداه الغَلْيون الفخم الذي كان يتدلى من فمه كثيرًا، بالإضافة إلى علبة دخان من النوع الفاخر، وضعها جميعًا قدام أبي وقال له: اسمع يا عم ليو … يُسعِدني أن تقبلَ مني هذه الأشياء، كما أرجو أن تبحث لي عن زوجة.
سأله أبي دهشًا: أيها الأبُ الجليل … ألم تقُل حضرتُك لنا إنه ليس لك أن ترتبط بامرأة أبدًا؟
أجابه السيد قائلًا: لا … انظر … أريد أن أوضِّح لك أنه إذا كانت المخلوقات مثل الضأن وخلافه تتزاوج فيما بينها، فالإنسان أولى بهذا … علمًا بأن موضوع زواجي قد قرَّرَته الإرادة الالهية.
قال أبي: إذا كان الأمر كذلك، فليس لي أن أعصي إرادة السماء، لكن تُرى أي زوجة بالضبط يريد السيد أن يدخل بها؟ قل لي كيف تريد أن تكون الزوجة المطلوبة.
أشار السيد إلى أمي الجالسة لدى الفرن المُنهمِكة في شغلها، وقال: أريد زوجة مثل امرأتك هذه.
كان واضحًا تمامًا أن هذا الحوار بين أبي والسيد مورويا قد وصل إلى أسماع الوالدة؛ إذ لمحتُ وجهَها قد اشتعل حمرةً مفاجئة، كحمرة القريدس ساعة أن رأيتُه فوق النار.
مشى السيد مورويا، وأقبل أبي على الغَلْيون فملأه بالدخان وأشعل فيه النار، وتظاهر بجذب الأنفاس على نحوِ ما كان يفعل السيد وهو يدخِّن، وقال لجدِّي: «الرجل هذا الأجنبي، من رأسه إلى قدمَيه خائنٌ لرب السموات.»
قال جدِّي: «لكن كيف يتزوَّج بامرأة من بلادنا، أليس في هذا استهتار بالطبائع الصينية؟ ثم كيف لامرأةٍ صينية أن تعاشر أجنبيًّا؟ لا … هذا موضوع يصعب جدًّا تحقيقه، واسمع، أقول لك بصراحة … لا تورِّط نفسك في تزويجه، تفاديًا للمشاكل ووجع الرأس.»
الأمر الذي لم يكن متوقعًا بأي حالٍ هو موقف جدَّتي المتسامح للغاية في هذا الشأن: «ما لكم تضخِّمون الأمور وتعقِّدونها هكذا؟ ومن قال بأن هذا لم يحدث من قبلُ؟ بالعكس؛ فكم سمعنا عن مثل هذه الزيجات منذ زمان … ألم يحدث هذا مع جاوتشون عندما عبَرت من السور الكبير (سور الصين)، ومع الأميرة أون تشنغ … ألم يكنَّ نساءً صينياتٍ تزوَّجن من أجانب؟»
قال جدِّي: «هذا شيء وذاك شيءٌ آخرُ مختلف.»
قالت: «دعْك من هذا الكلام وأسرِع بالبحث عن زوجةٍ مناسبة له؛ فالزواج أفضل له من أن يبقى طوال اليوم يحدِّق بعينَيه في الرائحة والغادية، ومن الدوران والتجوال في القرية طوالَ النهار».
قال لها جدِّي: «ومن هذه التي سترضى بالزواج من أجنبي؟»
أجابته قائلة: «الذي يسعى سيصل لا بد إلى نتيجة.»
قالت أمي: «ولماذا لا تزوِّجونه تلك المرأة المقيمة في شرق القرية؟ ثم إنها من أهالي الخوي، وهم تقريبًا يُعتبرون من الأجانب.»
فكَّرت جدَّتي وقالت: «فكرةٌ معقولة جدًّا … فعلًا، خصوصًا أنها أرملة تعيش وحدها مع طفلَين، ويا حظها لو وَجدَت من يشاركها الحياة!»
جرت محاولة في اليوم التالي لاستطلاع رأي المرأة التي من الخوي، وجاءت النتيجة بالقبول، فأسرع أبي ليتكلم مع مورويا، فإذا هو راضٍ من كل قلبه، فقال له أبي: «الشيء الوحيد المؤسف هو أن هذه المرأة بالذات معها صغيران.» أجابه مورويا: «ولِم لا؟ أنا على كل حالٍ أحب الأطفال.»
في اليوم التاسع من الشهر التاسع تلك السنة، شهدَت القرية حفل زواج مورويا من امرأة الخوي وذهب أبي برفقة أصحابه لتهنئة مورويا في الكنيسة، وشربوا الأنخاب بهذه المناسبة، وكانت أمي قد اصطحبَت صديقاتها وذهبن لتزيين العروس، وكان أن التقينا بطفلَي المرأة، فإذا الكبير ولد في مثل عمر الفتيان من أمثالنا، وملامحه في معظمها قريبةُ الشبه بنا نحن الصينيين؛ هذا بالإضافة إلى طفلة لا يزيد عمرها عن الرابعة أو الخامسة على الأكثر، بشرتها تميل إلى السمرة مع عينَين واسعتَين برموشٍ طويلة، وقسماتٍ أنضر وأجمل مما يميز الأطفال الصينيين العاديين.
كلاهما لم يختلط بجمعنا الحاشد. بالعكس، ظلا طوالَ الوقت منعزلَين لا نرى لهما أثرًا في حياتنا، وأقبل لي دونغتساي يسأل الولد الكبير: أين كنتم قبل أن تأتوا إلى هنا؟
هزَّ الولد رأسه دون أن يرُدَّ بشيء.
عاد لي دونغتساي يسأل الولد عن اسمه، فأجاب بأنه لا يعرف، فسأله عن أبيه، وموطنه، فأدار رأسه يَمنة ويَسرة قائلًا إنه، حقًّا، لا يعرف.
حوارٌ أخرق مثل هذا مع اثنَين من البشر يجيبان على سؤالٍ واحد بثلاثة ردود نافية، لا بد سيدخل في عداد الطرائف. ثم إننا تحلَّقنا عند البوابة ودخلنا الكنيسة، لنشاهد حفل زواج السيد مورويا بالمرأة التي من الخوي.
أُوقدَت الشموع في مدخل قاعة الكنيسة، فتكسَّرَت أشعة الضوء على وجه مويان وقد تورَّد بالحمرة إثر وقدة الخمر في جوفه، بينما كانت امرأته في كنف أمهاتنا اللاتي تكفَّلن بالمطلوب من ناحية استحمامها وتزيينها، حتى صارت كقطعة نحاسٍ قديمة تم تلميعُها بعنايةٍ شديدة، فانبثقَت منها أطيافٌ خفيفة دافئة.
فيما انقضى عامٌ من الزمان حلمتُ بأن السيد مورويا قد وافاه الأجل المحتوم.
مات مورويا، فدفَنه آباؤنا في قطعةِ أرضٍ فضاءٍ أمام مبنى الكنيسة؛ حيث أقاموا له مقبرةً ظاهرة، وزرعوا قُدامها شجرة صنوبر.
لم تنقضِ فترةٌ طويلة حتى كانت المرأة التي من الخوي راقدة والدماء تسيل منها وتبلِّل ملاءة السرير، وفمُها مفتوحٌ يُعاني سكرات الموت، ومن تحتها كانت كتلة لحمٍ حمراء تصرخ باكيةً في تشنُّج وقد أحاطتها بِرْكة من الدماء.
قضَت المرأة نحبها، وقد تركَت وراءها رضيعةً يختلط في دمائها أثرٌ من مورويا، وكان أنها جعلَت تعتصر حلماتِ أمي حتى كُتب لها البقاء على قيد الحياة، حال أن كانت أختي الأكبر من هذه الرضيعة بعامٍ واحد فقط، قد استجابت لنداء السماء.
وجرى الاتفاق أن يتبنَّى آل أو باوتشان، الطفلَين الآخرَين أولاد المرأة المتوفَّاة، غير أنهما لم يتحمَّلا شظف العيش والمعاملة القاسية التي تعرَّضا لها، فما كان منهما إلا أن هربا من البيت، دون أن يعرف أحدٌ إلى أين انتهى بهما المطاف، وقالت امرأة العم أو باوتشان لكل من صادفها إن الطفلَين نسيا الجميل، وأنكرا اليد التي أطعمَتْهما، وهربا بعد أن سرقا أثمن ما تملكه من أطباقٍ وآنيةٍ معتبرة.
بلغ بي مطافُ الأحلام عام ألف وتسعمائة واثنَين وخمسين، وكنتُ حينذاك في الرابعةَ عشرةَ من عمري، في حين كانت اليتيمة ابنة الراحل مورويا من امرأته ذات الأصول التابعة لآلخوي، قد نشأَت في كنف بيتنا، على صدر أمي، إلى أن بلغَت السابعة، فأسميناها شويي (ورقة الشجر)، بَيْد أن ملامحها راحت تُبرِز صفات الدماء المختلطة على نحوٍ غير عادي؛ ومثلًا، فرغم أني كنتُ أكبرها بسبعِ سنوات، فقد بدت بِنيتُها الفارعة قريبةً جدًّا من مقاييس جسدي، حتى كان يمكن للرائي أن يخالَني أكبر منها بعامٍ واحد فقط، دون أي مبالغة. أما بخصوص أحوالي في تلك الفترة، فقد لاحظتُ أني، ورغم مرور مدة طويلة دون أن أتناول شيئًا من القريدس النيء، لم تفارقني حالة الأحلام الغريبة، وكنتُ قد ملَلتُ تلك المقدرة التي جلبَت عليَّ المشاقَّ؛ ولذلك فقد قرَّرتُ ألا أحكي لأحد حُلمًا، ولا حتى لأمي نفسها، فظن كثيرٌ من الناس أن الخوارقَ ذهبَت عني، وبهتَت في ذاكرة آخرين آثارُ زمنٍ كان يستطيع فيه الولد ذو الرأس الضخم أن يرى في الأحلام رؤًى تتجسَّد على مرأًى ومسمعٍ من الجميع، وبالمناسبة، فقد كان منظر رأسي بضخامته التي كادت تتوازى بكتلتها الهائلة مع باقي كتلة الجسد، يشُد نحوي انتباه الناظرين، بينما كانت شويي تتفرَّد بشَعرها البني الفاتح في لون القسطل، وقصبة الأنف المرتفعة والعينَين الغائرتَين في محجرَيْهما؛ هذا ولم تكن شويي في ذاك الوقت تعرف من تجارب الحياة الشيء الكثير، ولا حتى أصل حياتها هي نفسها؛ ومن ثَم فقد عشنا وكبرنا معًا كشقائق، بكل حميميةٍ ورابطةٍ يمكن أن تجمع بين أخٍ وابنة أمه وأبيه.
ذات مساءٍ خريفي، دقَّت بابنا الخشبي المتواضع شابةٌ مليحة بوجهٍ مستدير تُحيطه هالة من شعرٍ مسترسل، قامتُها تميل إلى القِصَر قليلًا، وانفتح الباب فدخلَت، وتوقعتُ من أهلي؛ جدَّيَّ وأبي وأمي، الذين لم يتغيَّر شيء في طبعهم منذ أمدٍ بعيد، أن يستقبلوها جميعًا بعينٍ متسائلةٍ متشكِّكة، ولو أن بيتَنا كان على مدى السنوات التي شهدَت تغييراتٍ وأحداثًا وزمانًا غير الزمان، قد استقبل ضيوفًا كثيرين، أكثرهم من الكوادر الحزبية التابعة للحزب الشيوعي، ممن كانوا ينزلون علينا ضيوفًا، فنستقبلهم في البيوت ونُجلسهم إلى الموائد، باعتبار أننا ننتمي إلى أحد تلك البيوت المُوسِرة. كنتُ لما تطلَّعتُ إلى وجه تلك الزائرة قد بدت لي كأنها إحدى عضوات كوادر العمل، بينما كانت تتحدث بصوتٍ رقيق ونبراتٍ حريرية وهي تقدِّم نفسها إلينا:
«عمي الكريم، سيدتي، الأخ الفاضل، السيدة المحترمة … أقدِّم لكم نفسي؛ فأنا معلِّمة الفصل الجديدة، لقبُ العائلة يوي، وهدفي من الزيارة القيام بحملة لتشجيع منزلكم الكريم على إرسال أطفاله للتعلُّم في المدارس.»
وعلى الفور رمقَني جدِّي بنظرة ملؤها الشك، فكانت تلك تقريبًا هي النظرة ذاتها التي راحت تُرغمني على أن أعود بذاكرتي عدة سنوات إلى الوراء، حال أن كنتُ قاصدًا الدراسةَ في فصول السيد مورويا.
قال أبي: «بيتُنا رقيق الحال، ولا نملك تكاليف الدراسة.»
قالت المعلمة يوي: «المدرسة الآن تتبع الإدارة الحكومية، والدراسة بالمجَّان.»
فعاد أبي يقول: «وماذا يدرس طفلٌ في أسرةٍ ريفية، وما نفعُ الدراسة له؟»
اقتربَت المعلمة وربَّتَت على رأسي وهي تقول: «انظر يا رجل إلى ابنك هذا ورأسه الكبير، أقسم لك أن رأسه الضخم هذا سوف يجعله من أذكى التلاميذ.»
ثم راحت المعلمة يوي تتحسَّس أيضًا رأس شويا، ويبدو أن ما ورثَته البنت من مزايا الهجنة أطار عقل المدرِّسة الشابة؛ إذ نظرَت إليها مفتتنةً بملاحتها، ثم مالت بجسدها فأحاطت وجه البنت بكفَّيها، وجعلَت تنظر مليًّا في الوجه الصغير، وندَّت عنها صيحة إعجاب:
«يا لجمالك! لم يكن يخطر ببالي أن مثل هذه المناطق الريفية البعيدة تكتنز طفلةً حلوة بهذا المنظر … اسمعوا يا حضرات … يا عمتي ويا سيدي الكريم، وأنتَ يا جدِّي ويا جدَّتي، ليكن في علمكم أنكم إذا لم ترسلوا بهذَين الصغيرَين إلى الدراسة، فلن أنتقل من هنا خطوةً واحدة.»
وبالفعل فقد وقفَت المعلمة مكانها وقد عقدَت ذراعيها وراء ظهرها، وبقيَت واقفة على حالها في باحة البيت، ففكِّر أبي سريعًا وقال لها:
«حسنا، تفضَّلي إلى شغلك الآن، وسوف أرسل الأولاد إلى المدرسة، كما تقولين.»
مضت المعلمة يوي، فقال جدِّي: «اذهبا في غدٍ إلى الدراسة، لكنَّ الخوف أن يموت المعلم يومَ بعدِ غدٍ.»
قال أبي: «الوقتُ تغيَّر الآن يا شيخنا العجوز، يقولون إن البلد تحرَّرَت وأفكار الناس لم تعُد هي الأفكار بعد أن تبدَّلَت أشكالٌ كثيرة في الحياة.»
هزَّ الجد رأسه وكأن الكلام ليس على هواه، ويبدو أنه لم يعُد يجد عذرًا يستبقينا به في البيت، خصوصًا وقد ماتت النعجتان، وما عاد يمكنه أن يثير مشكلة البحث عمن يسحب الدوابَّ إلى المرعى.
في اليوم التالي قصدنا أنا وشويا المدرسة، وعلى ظهرَيْنا حقيبتان صغيرتان، استغرقتا ليلةً بأكملها كي تتحوَّلا من قطعة قماش تخلَّفَت عن بنطالٍ قديم إلى حقائبَ مدرسية، ولم يكن موقع المدرسة قد تبدَّل إلى مكانٍ آخر غير الكنيسة، وقد حفظَت أقدامنا الطريق، والحقائب على ظهورنا خالية تمامًا، وإذ بلغنا سد النهر وشرعنا النظر في الآفاق لم نجد المنظر المعتاد للجد وهو بشاطئ النهر يصطاد القشريات، بل رأينا كلبًا يتطلع إلى سطح الماء المتعرج وهو ينبح بلا سببٍ مفهوم.
سألَتْني شويا: أخي … هل تعرف ماذا سيُعطوننا في المدرسة؟
قلتُ: لا أعرف.
– لكن جدَّتي قالت إنك قصدتَ إلى المدرسة من قبلُ.
– لا تصدِّقيها، كم تقول من أشياء، والهدف منها إغاظتي.
عند سد النهر صادفنا رجلًا أعرج يحمل خزانتَي رصاصٍ متدليتَين من حزامه فوق أليتَيه، فوق كل واحدة خزنة بالتساوي، الرجل أعرفه تمامًا، واسمه وانغ الأعرج، ويعمل خفير درك في منطقتنا، كنتُ رأيتُه ذات مرة يطلق الرصاص فيخلع غطاء الرأس عن الهامة، وكان ذا هيبة، حتى داخلَتْنا منه رعشة ونحن على مبعدة.
تفحَّص ملامحنا مليًّا، قال: «إلى أين تذهبون، وما تريدون في هذه الساعة؟»
أجابته شويا وهي تتقافز في مشيتها: «إلى المدرسة ذاهبون.»
قال: «وهل يستأهل المُخلطون من أمثالكم أن يقعدوا في فصول الدراسة؟»
قالت شويا: «المعلمة قالت لنا أن نذهب.»
سخر هازئًا ومضى يتمايل.
قالت شويا: «سمعتَ ما قال يا أخي؟ … لماذا قال عنا «المُخلطون»؟»
قلتُ: «أبوه هو المُخلط الحقير.»
تجمَّع أطفالٌ كثيرون لدى فناء الكنيسة، فدخلنا وسطهم، كانت صورة الرب قد انتُزعَت من فوق جدران الكنيسة وأُلقي بها في النهر الجاري، بينما كانت الشجرة التي تُظلِّل قبر المعلم تشن قد غلُظَت وتضخَّمَت أغصانُها جدًّا، وكان ثمَّة جرسٌ كبيرٌ معلَّق في جذعها، وقيل فيما مضى إن الجرس التابع للكنيسة تم تعليقه هناك، ليدقَّ ثلاثَ مرات في اليوم، كأن المقصود ذلك تنبيه المتعبدين لئلَّا يَسْهوا عن الله، لكن الناقوس توقف تمامًا ونهائيًّا عن أن يطرقَ الأسماع، منذ أن وقع السيد مورويا في أيدينا، فلعبنا وإياه لعبة «الكبير رأس الخيار»، وجيء بحبلٍ أبيض ليحلَّ محل الآخر المربوط إلى الناقوس فتدلَّى منه وهاج مع الريح، وكان كثيرًا ما يتقلَّص مرفوعًا بثنياته إلى أعلى، فربطوه من طرفه السفلي بحجرٍ في حجم قبضة الكف، فصار يتأرجح جيئةً وذهابًا في كل دفقة ريح.
راحت المعلمة يوي تجذب الحبل المعلَّق فيدمدم الناقوس، وتزلزل قلوبنا، ونرتج مع الهدير المبرقش بصدأ السنين، ونضُم أقدامنا معًا وتتخشَّب سيقاننا في وقفة الطابور، ونحن نرقب الضارب بالجرس.
وكان أن توجهَت بنا إلى الفصول؛ حيث كانت أول حصة هي تدوين الأسماء، فقيل لنا: «إذا نُودي على اسم أحدٍ منكم، فليقِفْ مكانه، ليُجبْ بأنه حاضر.»
كان الأستاذ تشو يرتدي نظارةً طبية، ويمشي بانحناءةٍ واضحة في ظهره، بَيْد أنه كان يقيم بقريةٍ مجاورة لنا، وكثيرًا ما كنا نراه في مواسم الربيع مُقْعيًا في أحد أركان السوق الشعبي يبيع اللافتات التي تُعرض للتعليق فوق الجدران، وقد شهد الناسُ له بالبراعة في كتابة اللوحات؛ لما امتاز به من موهبةٍ بارعة في الخط الصيني.
دوَّنَت المعلمة كل الأسماء.
وأعطت كل واحدٍ منا كتابَين؛ كتاب «دروس اللغة»، وكتاب «الحساب»، كما وزَّعَت علينا ألواح إردواز ثابتة داخل إطاراتٍ مربَّعة وثلاثة أقلامٍ حجرية.
درَّسَتْنا المعلمة يوي الدرس الأول، وكان نصُّه: أنا ابن الصين الجديدة، أنا أحب الحزب الشيوعي الصيني.
درَّسنا الأستاذ تشو الدرس الثاني، ونصُّه: ١ + ١ = ٢.
قُبيل وجبة الغداء، قالت المعلمة يوي: «انتهى الدرسُ الآن، نواصل الدروسَ بعد الظهر مباشرة».
قمنا واقفين، كأننا أسهمٌ مسنَّنة وجاهزة للانطلاق، لكن المعلمة أشارت بكفها إلى أسفل، قائلة: «اجلسوا … اجلسوا.» فجلسنا جميعًا. قالت: «نحن ألقَيْنا بالروح الذي يسكن الكنيسة في النهر، لكن علامة الصليب الحديدية القائمة فوق سطح المبنى، ما زالت موجودة في مكانها، كأنها تضغط على رءوسنا، فمن منكم لديه القدرة على الوصول إليها زحفًا فيهدمها؟»
لم ينطق أحد، قالت شويا: «أقوم أنا وأصعد إليها.»
قلتُ: «شويا، لا تتظاهري بأنك تقدرين على ذلك.»
قالت المعلمة وهي تبتسم: «كل الأولاد في الفصل مذعورون، إلا فتاة صغيرة.»
الملحوظة استثارت الذكور، فقاموا جماعاتٍ يريدون أن يصعدوا كلهم إلى السطح.
تقول المعلمة: «لا. انتهى الأمر، المهمة هذه ستقوم بها زميلتكم ليو شويا.»
حالَ الوصول إلى الفناء، نادت المعلمة يوي على المدرس تشو، وأشارت له بأن يُحضِر السُّلم الخشبي ويثبِّته فيما بين إفريز غرفة الدرس والجانب الملاصق من حائط الحوش.
تسلَّقَت شويا السُّلم، ثم وثبَت من رأسه إلى ما فوق الإفريز كقردٍ ضليعٍ وانطلقت تجاه علامة الصليب، وأخذتُ أصيحُ بها: «شويا … انتبهي حذَر السقوط لكنها لم تنظر لي، بل مالت على قاعدة العلامة وأحاطتها بذراعَيها وجعلَت تجذبها بقوة وتهزُّها فلم تتحرك قيد أنملة، فصارت البنت تزعق: «لا أستطيع زحزحتها يا أستاذة.» فرفعَت هذه رأسها عاليًا وهي تضع كفَّها مستعرضةً فوق حاجبها تتَّقي شعاع الشمس، وتميل برأسها للوراء وهي تتطلَّع إلى أعلى، وتصيح بتلميذتها: «انتظري قليلًا حتى نُلقي إليك بفأس أو قدومٍ صغيرة.» قالت للمعلم تشو أن يجريَ بسرعة ويبحثَ عن فأس، فمضى الشابُّ بظهره المحني، وبعد فترة عاد بوجهٍ مضلَّع بالأسى، يقول: «لا فأس هناك ولا أي شيء، كل من يسمع بأن الفأس مطلوبة لهدم الصليب يمتنع عن إعارتها.» ردَّت عليه يوي: «يا لنباهة عقلك! … ولماذا تُخبرهم بأننا نهدم الصليب يا ذكي؟ رُح مرةً أخرى استلِف فأسًا، وقل لهم إننا نريدُها كي نهرسَ بها الحطب.» وهنالك مضى المعلم تشو مرةً أخرى، وقالت شويا: «يا معلمة … أريد أن أبول.» فأجابتها قائلة: «لا تنزلي الآن فيصعبَ عليك الصعود ثانية … اصبري قليلًا، وعندي فكرة … اسمعوا يا أولاد، أديروا وجوهكم … الآن يا شويا … اقعدي وتبوَّلي مكانك على السطح … هيا اقعدي.» قالت المعلمة يوي: «ما لكَ يا ليو شوكن؟ لماذا لا تدير وجهك كالآخرين؟» قلتُ في أسًى: «هي أختي.» ضحكَت معلِّمتي وقالت: «معكَ حق؛ فلا داعي إذن أن تحوِّل رأسك.» من فوق السطح جاء صوت شويا: «أخي، عُد خطوة للوراء». فعُدتُ كما أمرَتْني، خطوة للوراء فإذا خيط مياه ساقط من خلال القرميد على حرف السطح، وقد ثارت سحابة غبار فوق بلاطات الإفريز، وللتوِّ عاد المعلم تشن ذو القتب، بيدَين خاليتَين … «ماذا؟ ألم يُعِرْك أحدٌ فأسه؟» كذا قالت المعلمة يوي في سخط، فأجابها تشو: «لا فائدة مهما حاولتُ، كل واحدٍ أكلِّمه يقول لي إنها خطيئةٌ لا تُغتفر.» ثارت يوي: «كلامٌ فارغ، انزلي يا شويا من عندك، نؤجل هذا ليوم آخر، نقوم فيه بإزالة العلامة.»
جاء الشتاء فجأة، كأنه بلمحة عين جاء، ولم تدَعْ لي المَدرسَة بمظاهر حياتها الجافة سوى الشعور بالرتابة، وبالنسبة لشويا، وقتها، فلم تكن قد استطاعت أن تشكِّل رؤيتها الذاتية للمسائل والأشياء، فكانت تتبع خُطاي، ترى لنفسها مثل ما أرى؛ ومثلًا عندما انتابني الشعور بالملل إزاء الدراسة، وعبَّرت عن ذلك مرارًا، كانت هي الأخرى تقطِّب جبينها قائلة: «وأنا أيضًا يا أخي، أشعر بالضجر حتى الموت، كذلك كان أولادٌ كبارٌ مثل ليباو، ولي جانكوي، ممن قاربوا العشرين من عمرهم، ثم إذا هم تلاميذُ في الصف الأول معنا، يجلسون على نفس المقاعد، ثم ما إن يبدأ الدرس حتى يميلوا بأجسادهم قليلًا، ويضرِّطوا بصوتٍ عالٍ، فتفوح رائحةٌ منتنة، يدوخ منها رأسي وتنقلب معدتي ويساورني غثيان … وأنا كذلك يا أخي الأكبر … يُميتُني هذا القرف موتًا … فما رأيك أن نُخبر أهلنا أنَّا لن نذهب للمدرسة ثانية؟» كان الكلام، وقتئذٍ، قد شبَّ ونما على أطراف لسانها، فصارت ذات حديثٍ رائق وثرثرةٍ وحكاياتٍ وأخذٍ وردٍّ، مهما كان موضوع الحديث؛ فما إن تنفتح بوابات الكلام حتى تنطلق وتتشعَّب وتذهب في الحكي كل مذهب، دون أن يدانيها التكرار أو تتلبث بإعادة القول دوائر على بدء، ولم أكن قد انتبهتُ من قبلُ إلى بهجة الاستماع إلى فتياتٍ يتحدثن بعذوبةٍ ودلال، فيفيض الصوت لذة تغشى الأسماع، وكنتُ قد هززتُ رأسي رافضًا، بحسمٍ، ثرثرتَها الفارغة، قائلًا لها إنه ليس من العقل أن نطلبَ من أهلنا إعفاءنا من الدراسة؛ وذلك بالنظر إلى ما قامت به المعلمة يوي من امتداح مواهبنا في حضرة عائلتنا وعلى مسمعٍ منهم، حتى إنها صنعَت منا نحن الاثنَين علاماتِ مجدٍ وفرحٍ رسخَت في أعماق أبوَينا، علامات كأنها نصبٌ تذكارية موقوفة على وعدٍ جميل تأتي به الأيام، وهذه العلامات الراسخة صارت معلَّقةً بنا … مِلكًا لكلَينا … لك واحدةٌ منها ولي أنا أيضًا، والأبوان أمنيتُهما معلَّقة بما نحقِّقه في دراستنا، وبعد المدرسة الأولى تأتي المرحلة المتوسطة، ثم الجامعة فالترقي الاجتماعي والوظيفي. شرف الجدود ومجد المستقبل الباهر.
«مجد فُساء الكلب!» كذا قال الصوت المهجَّن العذب في غيظ ومرارة. حتى هذه الطريقة في السب كانت تقلِّدني فيها وتأخذها من لساني، لكني انتقدتُها ساخطًا: كيف لفتاةٍ مثلك أن تجرُؤَ على مثل هذا اللفظ؟!
صمدَت للنقد دون أن تتزحزح عن موقفها: الأولاد من حقِّهم أن يقولوا كيفما شاءوا … فلماذا تُكمُّ البنات؟
ردَّت مُستنكِرةً وبحُجةٍ مُناظِرة فانحبس لساني.
بعد لحظات، لاطفَتْني قائلة: «إياك أن تزعل … ما رأيُك لو لعبتُ «الشقلبة»؟ … انظر … سأقفز وأنت تنظر لي.»
لم تنتظر لتعرف إن كنتُ على استعداد للتفرُّج عليها أم لا، وأسرعَت لتعلِّق حقيبتها في عنقي وشدتَّ السير الجلدي جيدًا حول وسطها، وعلى سطح أرضٍ مستوية لدى سدِّ النهر، جعلَت تدور دوراتٍ كاملة وهي تميل بجسدها ميلًا خفيفًا بمنتهى الرشاقة والمهارة، كطائر لا تُعوِزه رشاقة القوام ولا مرونة الحركة، ولئن كنتُ قد نشأتُ في بيتٍ واحد معها، حتى كبرنا معًا، فلم أكن أعرف متى أو أين ومع مَن استطاعت أن تكتسب هذه المقدرة الجسدية البارعة، وظَلِلتُ أتفرج مأخوذًا بتعاقُب دورانها، وكلما رأيتُ شقلبتَها وقد جعلَت رأسَها يُلامس الأرض والقدمَين تتناوبان الاتجاه المعاكس، فتنزاح ياقة السترة القطنية تجاه العنق متدليةً جهةَ الأرض، ثم تعود وقد اعتدل الجسد لتستر ما تعرَّى خفيفًا مما يلي السترة، فقلتُ في نفسي هي فتاة مهجَّنة ومليحة تُعجِب الرائي وتُقيم محبتها في القلوب.
اعتدلَت واقفة وهي تلهث وتمسح ما علق بكفَّيها من تراب الطريق في جانبَي السترة، وكان الوجه الأبيض مشبعًا بحمرة الدماء المتدفقة في وجنتَين كحبتَي خوخ بخدٍّ ناعم وطراوةٍ مخملية؛ وقد احتشد رشْح عرقٌ بلُّوري صافٍ فوق عرنين أنفها الشامخ، ثم هدأَت منها الأنفاسُ المتدافعة وابتسمَت فبدَت أسنانها نقيةً نقاءً لا يشوبه كدر.
«متى وأين تدرَّبتِ على تلك الحركات حتى صارت لك كل هذه المهارة؟» سألتُها مستفسرًا.
«هلا أعفيتَني من غضبتك إذا صارحتك؟ وهل تسمح لي بأن أسُبَّ فُساء الكلاب؟» رمقَتْني متخابثة.
قلتُ: «لا عليك إذا سبَبتِ الكلاب … أنت وشأنك … اشتمي ما تشائين ملعون، فُساء كل كلب ودابة جرباء.»
صاحت بأعلى صوتها تسُب وتزيد سبًّا كلَّ عضو في جسد كلب، وكل فتحة تصريفٍ كائنة في ثنايا تكوينه، ثم اشتقَّت من هذه الكتلة الكلبية المنحطة صفاتٍ ونعوتًا ألحقتها متتاليةً مترابطةً لا تنفصم عُراها باسمٍ واحد في المبتدأ، هو المدرسة ولا شيء سواها.
انهدَّت قواها بنهاية السب المُقذع، فصرنا نضحك ونكاد من قهقهاتنا نسقُط من طولنا.
قلتُ: شويا، رأيتُ في منام الليل أن أتان العم ليو سيشان ستلد بغلًا … والبغل جميل.
– لكن أحلامك لم تعُد تحمل نبوءات … مثلما كان.
– لقد خدعتُهم جميعًا … فما زالت أحلامي تُنبئ بالكثير، فاحفظي السِّر.
هزَّت رأسها بالفهم الجليل.
قرَّرنا أن نهربَ من المدرسة معًا؛ لنشهد واقعة ميلاد البغل من رَحِم أتان العم ليو سيشان.
بيت ليو سيشان هذا يقع في أقصى الطرف الجنوبي من القرية؛ فما إن تخرج من بيته حتى تجد قُدامك خلاءً بامتداد البرِّية، وحسب ما وعَتْه الذاكرة من الحُلم فقد مشَينا حتى عثَرنا على بيت العم ليو بغيرِ أدنى تعب، وبالطبع فقد كان ثمَّة أشخاصٌ كثيرون في باحة الدار يُثرثِرون، ثم إنهم تحلَّقوا في جمعٍ دائري، فأمسكتُ بيد شويا فنفَذنا إلى داخل الحلقة بعد مزاحمة سيقان الواقفين، وبدَت لنا الأتانُ العجوز السوداء مستلقيةً على جانبها، وقد فرَشُوا لها من خلفها كَومةَ حشائشَ جافَّة، بلَّلَتْها قطراتٌ من الدم.
على ماذا تتزاحمون يا أولاد؟ انهالت كفٌّ فوق رأسي.
فتحَت الأتانُ السوداء عينَيها على اتساعهما ونصبَت أذنَيها عاليًا ثم خفضَتْهما ثانية، وجعلَت تُكرِّر تلك الحركة مرارًا، وصار العرَق يسقط في عنق الأتان ويُحيل لون الشعر إلى الزرقة التامة، وكان بطنها يعلو ويهبط، وراح رجلٌ أصلع يميل بجذعه عليها ويعتصر بطنها قليلًا.
«لا يمكن يا أخانا، أن تضغط بقوة هكذا؛ فالأحسن أن تمسَّها برفق.» هذا ما قاله شيخٌ عليم للرجل الأصلع وهو ينوِّره.
قال أحد العجائز: «حكم الطبع واحد بحذافيره، سواء على الإنسان أو الحيوان؛ فهجين الحصان مع الحمير لا ينجو منه إلا واحدٌ في العشرة، اجعلوا عقولكم في رأسكم … فالحصان أكبر حجمًا من الأتان، وإذ تلد هذه بغلًا، فإنه يتبع أمه في كل الأحوال، ولأجل هذا يُقبل الناس على إخصاب الحمير من جنسها؛ أي لكل أتان ذَكَر يمتطيها؛ لأجل أن يأتي المولود بالطريقة الطبيعية والمعتادة، أما باستثناء أتان العم ليو، فلا أظن أن أتانًا أخرى يمكن أن تحمل بغلًا.»
قال ليو سيشان: «نحن نريدها أن تلد البغل بأي وسيلة، حتى لو ماتت أثناء الولادة، فلتذهب للجحيم هي وأمثالها، المهم أن يأتي البغل.»
تعرَّق رأس الأصلع وابتلَّ جلده من رشح مسامِّها، فقام معتدلًا وقال: «الألم يكاد يمزِّق الأتان، وأرى أنها تُحتضر، فابقروا بطنها حالًا واستخرجوا الوليد واسقوه ماء الأرز عوضًا له عن ضرع أمه.»
قال الكهل الأريب: «هذا كله تخريف وضرط كلام! منذ متى كانت تعيش البهائم التي تجيء من غير شق الولادة؟ منذ متى؟ وكم واحدًا منها عاش … هه؟ شقُّ الولد هذا هو باب الجحيم بعينه، منه يعبُر السلطان والأفعوان وابن الصعاليك … فما بالك ببغلٍ من بطن حمارة … فضَّ بالك من سقط الحوار هذا، وملِّس على بطنها بشدة ولا تخَف».
مال الأصلع بجذعه ثانية، وفي تردُّدٍ بالغ مدَّ كفَّين بأصابعَ غليظة كمثل مخلبَي دببة وسرح بهما مسحًا وتدليكًا فوق البطن المنتفخ كقِربةٍ ضخمة.
مال الشيخ هو الآخر، ونظر ناحيةَ مؤخرة الأتان النازفة دمًا، وهزَّ رأسه متسائلًا: «هل عندكم زيت فول؟ اسقوها جينَين كاملَين (مقدار كيلوغرام) فإذا لم تنفع هذه الطريقة، فللأسف، لا أعرف لكم حلًّا آخر غيرها، ومهما كانت الدواعي بعد ذلك، فإياكم أن تقرِّبوها لحصان يهجِّنها، ولا لابن هجين يصرعها إذ ينزو عليها، فقد أهزلها السن للغاية.»
صبَّت امرأة العم ليو سيشان طبقًا من زيت الفول ذي اللون الداكن بحُمرةٍ خفيفة، وانثنى عدة رجالٍ ليرفعوا رأس الحمارة، فأدخلوا قُمعًا حديديًّا في فمها قسرًا، فانفرجَت شفتاها الكبيرتان تبينان عن أسنان صفراء متآكلة، وفي الحال انبعثَت من بين الشدقَين المفتوحَين عن آخرهما رائحةٌ عفنة، وجاء الشيخ بمغرفة ذات مقبض ألومنيوم، وأخذ يصُب لها الزيت شيئًا فشيئًا حتى فاض وسال على جانبَي الفم فلمع في شدقَيها لزجًا كثيفًا.
تقاطرت الدموع من عينَي امرأة العم ليو، وصارت تقول للبهيمة: «هيا يا ابنتي. ابذلي جهدًا أكثر. الصعب يهونُ بعد قليل … فقط ابذلي غاية جهدك فتزول الشدة … هذه ليست أولَ ولادةٍ لك.»
أشار الشيخ العليم إلى بطن الحمارة المنفوخ على آخره، وقال في استياءٍ بالغ: «وهل يخفى عليك مقدار ضخامة الجنين المهجَّن بمجرد التطلع إلى هذا المنظر الذي أمامك؟»
وربما كان بتأثير الزيت وما يُحكى عن طاقته السحرية في حالات الوضع، أو لعلَّها توسلاتُ امرأة العم ليو وما نتج عنها من استجابة فورية؛ فقد فوجئ الجميع بعد لحظة صمتٍ قاسية كالموت، بجسد الدابة المُنهَك يتقلص فجأة والبطن المتورم يتماوج كقلع الصاري الذي تناوشَتْه الريح، ثم إذا بسائلٍ أسود دافئ مختلط بدمٍ مكتئب اللون، وقد أصبح باب الحياة أشبه ما يكون بزهرة الطان (بأوراقها العريضة المفلطحة) أوانَ تفتُّح أوراقها، ثم لم يلبث رأسٌ بيضاوي أقرب إلى الاستطالة أن شقَّ طريقه خارجًا، وفي الحال جعل يتقلص بباقي جسده حتى انفلَت من الجسد المتشنِّج.
خرج المولود!
تهلَّل الجميع فرحًا، وماجوا صخبًا في حين تشنَّج جسد الأتان وقد فارقَتْها الروح، وانكمشَ البطن الذي كان مشدودًا على آخره.
لم يعبأ الشيخ الواقف بما تكوَّم على جسد البغل الوليد من مخاط، وراح يُزيل ما علق منه بفمه وحلقه، ثم أخذ يكشط ما علق بحوافره الصغيرة من خلايا بيضاء لزجة، وطلب أن يأتوه بخرقةٍ جافَّة، فمسح عن جسده وأزال أوضاره، وبعد دقائق كان هذا الصغير الذي أودى بحياة أمه يرتعش مستندًا إلى أقدامه الأربعة يحاول الوقوف، ثم خارت قواه فوقَع فلم يلبث أن أعاد الكَرَّة فانتصَب مكانه، وثبَت على أطرافه تمامًا، وأخيرًا … أخيرًا مشى يترنَّح، فكانت تلك أول خطوة.
بينما نحن في تلك العجيبة، إذا بامرأةٍ كبيرة الأرداف قد أقبلَت لاهثةً مقطوعة الأنفاس إلى بيت العم ليو، وما إن بلغَت الفناء حتى سقطَت من طولها فعرفتُها على الفور؛ فهي امرأة السيد ماتسي شوان مساعد العمدة، كان الجميع يعرفونها في القرية، باعتبارها إحدى أولئك النسوة المتبجِّحات السليطات اللسان البذيئات الأخلاق، وقد شاع عنها أنها لا تُرزق بأولاد لظروفٍ كثيرة منها ما كان يتصل بطبيعة عملها أيام الفقر، وتردَّد في الأنحاء كافَّة أنها كذبَت على رجلها وأوهمَتْه بأنها حملَت، وصارت تقوم صباح كل يوم فتستند إلى الباب وتتكلف القيء، وبفضل ما انطلَى على الزوج من آثار تلك الخدعة، فقد استمتعَت بصنوفٍ وألوانٍ من أزكى الطعام والفطائر الشهية، وبعد عدة أشهر راحت تصُب قطراتٍ من سائلٍ أحمر اللون في بالوعة المبولة، بعد أن سلخَت فأرةً ميتة وقطعَت ذيلها وألقَت بها في دورة المياه وصاحت بالسيد ماتسي أنها أُسقط حملها، ولم تنطلِ الحيلة على الرجل وتكشَّفَت له ألاعيبُها، فعلَّقها من قدمَيها وأثخنها ضربًا حتى تشقَّق جلدها عنها وتهرَّأ لحمها.
والمرأة ذات الردفَين الرجراجَين ما إن دخلَت الباحة حتى صاحت بملء صوتها، تقول إنها تريد الكيس الشفَّاف، والمقصود به كيس المشيمة الذي تخلَّف عن عملية ولادة البغل؛ ولما كان أهل بيت العم ليو متكدِّري الحال بسبب موت الحمارة، فلم يعبَئوا بالمرأةِ أمِّ الردفَين، فسألها الرجل الأصلع عما تريد أن تفعلَ بالمشيمة، فأجابَتْه قائلة: «يا سلام! كيس المشيمة هذا له فائدةٌ كبرى في علاج اضطرابات الدورة، وأنا أريد أن أتعافى من عدم انتظامها، لعل وعسى أن أُرزَق بمولودٍ للرجل المسكين.»
قال الأصلع: «اسمعي الكلام … مشيمة البغل لن ترزُقَكِ بشيء طول حياتك.»
ثارت المرأة فجأة، وأنشبَت كفَّها في رأسه فتفرَّعَت فيها أربعة خيوط من الدم النازف، وساد الهرْج والمرْج في أرجاء الحوش، وإذ حضرنا، أنا وشويا، منظر البغل الوليد الأعجف يتقوَّى شيئًا بعد شيء ويستند واقفًا على أقدامه المتشنِّجة، فقد انسلَلْنا خارجين من حوش منزل العم ليو وقصدنا إلى المدرسة راجعين.
ورغم أني حلَمتُ بواقعة انكشاف المستور قبل حدوثها بيوم ونصف اليوم، فقد مضيتُ مع شُويَا في خطَّتنا حرفًا بحرف، كما تجلَّت لي في المنام؛ ذلك أننا سرقنا الشبكة التي كان يصطاد بها جدِّي القريدس، وجرَيْنا إلى شط النهر في موضع الصيد المعتاد، وفرَدْنا الشبكة لالتقاط الصيد، فصارت لعبة إلقاء الشبكة في الماء وخروجها مليئةً بما اقتنصَت من طعام البحور لذةً صافية ألهَتْنا عن فصول الدرس المقرَّرة في النصف الثاني من النهار، أو ربما كنا قد أزمعنا الهرب من الدرس في ابتداء الأمر.
تعكَّرَت المياه؛ لأن المطر كان قد سقط في مساء ليلة اليوم الأول، وارتفع منسوب المياه حتى بلغ مقدار ثلث المتر، حتى غطَّى الموضع الذي اعتدنا غسل وجوهنا عنده لدى الصخرة السوداء، ولم يعُد يظهر مكانه سوى كتلٍ طافية من زبَد الموج تدُل على موقعه.
اتخذتُ وضعًا أُحاكي به هيئة جدِّي، فمدَدتُ مرفقيَّ على استطالتهما وأنا قابضٌ على العصا الخشبية، ثم رفعتُها بكل قوتي وصوَّبتُها إلى الخلف بميلٍ خفيف إلى اليسار، وعندئذٍ ألقيتُ بها عكس اتجاه التيار، عامدًا أن أغوص بها في قلب الماء، وأنا أتحرَّك بطيئًا جدًّا للخلف، وصارت المياه المعكَّرة تفور وتتقلَّب فيما وراء الشبكة، وكنتُ أحوم بها وأسحبها مليئةً عيونها بأغشية من ماء، فألحظ في قاعها عشراتٍ من القريدس الشفَّاف يتقافز فيلتئم ويشتمله لونٌ داكن، والبهجة في قلبي تدور دوائر فرحٍ راقص، وشويا ذاهلة وطافرة بالمرح تقول: «بهذا القَدْر … اصطدت كل هذا!»
قبضتُ بيدي على أول الصيد، وحشوتُ به حلقي، وأعطيتُ الباقي لشويا، فلم تَحِد عن مثالي، فألقمَت جوفَها الحفنة التي نفحتُها إياها.
كانت ملامحنا نثار عبثٍ كالحُلم، لم نسائل أنفسنا عن شيء، حتى شويا كانت تزدرد القريدس كأنها سَكْرى من لذة الشعور بما يتقافز، حيًّا، في حلقها.
وكأن الطعم اللذيذ في جوفي قد ضاعف من طاقتي الجسمانية، فلم أكُف عن الصيد، وفي كل مرة تبرز الشبكة من الماء، تتهلَّل شويا مرحًا، لكنها لم تكن لتُجاريني في التهام طعام البحور، وبعد أن سرى في دمها طعم القشريات وامتصَّت خلاياها عصارته، إذا بها تكتسبُ طاقةَ نموٍّ هائلة، أمكن ملاحظتُها بالعين المجردة، بينما لم أكن أكتسب أيَّ مقدار من النمو، سوى ما انصبَّ في حجم رأسي، ليس غير.
ظهور المعلم مالاو بقامته الطويلة وقوامه النحيف ووجهه المليء ببثرات الشباب لم يُثِر فينا الفزع؛ لأننا كنا قد قرَّرنا كل شيء ولا مفر، ثم إن لوائح المدرسة تم توسيع نطاقها لتشمل بنودًا كثيرة، في حين تولَّت المعلمة يوي إدارة المدرسة، وأمدَّتها إدارة الحكم المحلي باثنَين من المدرِّسين، أحدهما هو ذلك المالاو المذكور آنفًا.
نزل من سدِّ النهر في منتهى الحذر، واقترب حتى صار قبالتنا بالضبط، وابتسم ابتسامةً باردة بفمٍ معوجٍّ، وقد عبق جسده برائحة نوعٍ من الكولونيا النفَّاذة الخانقة، أما قميصه الأبيض فكان خلاصة بياضٍ ناصع، هذا بالإضافة إلى شعره الكثيف اللامع بالدهان، حتى صار يبرق ألقًا في الأعالي.
في لمْح البصر كانت عُقلاتُ أصابعه المنثنية تنقر رأسي بقوة كمثل نويات شجرةِ خوخٍ صلبةٍ صلابةَ الحديد، بلغ من طقطقتها فوق دماغي أني شعرتُ في الحال بصُداعٍ دوارُه دوارُ عش نحلٍ طنَّان، وسرعان ما توالت في مخيِّلتي مناظرُ عجيبة من مشاهدَ نادرة المثال، تكاد لا تُوصف من غرابتها، كأن كنزًا من لوحاتٍ شتى انفتحَّت لي أطواقه، فتدفقَت طياته، طبقات فوق طبقات، ثم ارتجَّت أذني بصناجٍ حاد غُشي منه على سمعي.
كمثل ذئبة برِّية، اندفعَت شويا نحو مالاو فاصطدمَ رأسها بفخذه، فتراجع رغمًا عنه عدة خطوات، فإذا بحذائه الرياضي الأبيض الناصع ينغرس في مستنقعٍ صغير ويغوص فيه ويعلق به شوب قاذورات، فلمَّا تحقق المعلم مما وقع لحذائه رفع رأسه بوجهٍ أوقدَه الغضب نيرانًا، فاشتعلَت بثراتُ الشباب البيضاء في بشرته بحُمرةٍ قانية، وما هي إلا ركلة قدمٍ واحدة أطاحت ﺑ شويا بعيدًا، وبالقدم الثانية ركلَني فتشقلَبتُ، ولم تنجُ منه شبكة جدِّي؛ إذ هوى عليها فحطَّمها، وأمرني أن أحمل الشبكة المحطَّمة وأتوجَّه بها إلى المدرسة، ومن ثم أُحبطَت محاولة الهرب على قدم مالاو الطويلة، السريعة التصرُّف في المُلِمَّات.
أصدر مالاو أمره بأن نقف أنا وشويا تحت جرس المدرسة على سبيل العقاب، ووُضعَت الشبكة المسكينة على الأرض مستوية تحت ناظرَيْنا، والتمَّ حولنا التلاميذُ يتأملوننا وقت الراحة بين الدروس، فشعرتُ بأن كرامتي انتُهكَت، بينما ألقت شويا على الزملاء وجهًا متجهًا جهامةَ عفاريت الغضب، وبصوتٍ خفيض أطلقَت فيه أردأ الصفات وخاضت في سيرته، قالت:
«أم المالاو هذا عِبارة عن حمارةٍ سوداء، وولدَت بغلًا.»
انتهى اليوم الدراسي، ولم يُعفنا المعلم مالاو من العقاب، بل جعل يدور حولنا وهو عاقدٌ كفَّيه خلْف ظهره، يحوم حولنا وبسخريةٍ مريرة يضحك.
في دخول المساء من أركان الدنيا الأربعة، عادت المديرة يوي من مشوارها الخارجي، فاستفسرَت عما حدث بالضبط، وألقت باللوم علينا معتبرةً أن العقاب انتهى عند هذا الحد، وأنه لا بد من العودة الآن إلى البيت لنأكل ونستريح.
هذه الواقعة التي قد تبدو لي الآن مجرد حدثٍ عارض يتواشج بأيامٍ هانئة بعيدة، ارتبطَت للغرابة بحادثٍ كبيرٍ يصعب نسيانُه فيما مضى من حياتي الدراسية الأولى … لماذا … ما السبب تحديدًا؟ مهما حاولتُ أن أغوصَ في دفائن الأفكار وأعماق الرؤى بحثًا عن توضيح، فسيبقى هذا الأمر أبعد من أن يملك سمةً أدبية، أو أن يُدرج ضمن تفاصيل قصةٍ قصيرة، وإذ يصل بي التفكير إلى هذا الحد تنهار ثقتي الأدبية الإبداعية، حتى إنني أتردَّد في مواصلة كتابتي هذه التي يُقال بأنها روايةٌ قصيرة، بَيْد أنه ينبغي عليَّ أن أخالف إرادتي وأمضي في الكتابة، حتى لو كانت الحوادث التالية أكثر تشظيًا وانفراطًا وافتقادًا للتشويق.
أول هذه الحوادث أن المعلم مالاو والمديرة يوي صارا زوجَين، ثم لم يلبثا أن شهدا بدء عصر «القفزة الكبرى للأمام»، و«صهر الحديد»، و«الانطلاق نحو الفضاء»، وذلك في العام ألف وتسعمائة وثمانية وخمسين؛ وأصبحنا نتبع خُطَى المعلِّم في زياراتٍ إلى محطة التنجيم بقرية ماكيجوانغ، وبيدِ كلٍّ منا قدومٌ لتقطيع الصخر، وكم ذهبنا إلى السهول الخريفية الواسعة نتفرَّج على المحاصيل الوافرة ملء المزارع والحقول، ولم تكن أعداد الحصَّادين في وفرة الزرع، فكانت أعواد الذرة مطروحةً تذوي في فتور، بينما نبتَت في هدباتها الحمراء براعمُ كثيفة الاخضرار، أما نوار القطن فكان خمائل شتى منها ما تساقطَت به الأوراق أكوامًا تقبع في الانتظار، وفوق رءوسنا أسراب إوزٍّ برِّي تُحلِّق صوب الجنوب، وفي الدروب الضيقة بين الغيطان جماعاتٌ من الناس المجهولي الهوية، والكل ساعٍ جيئةً وذهابًا. وجوههم متربة ومجهَدة، وتحت أقدامهم تثور أطنان الغبار. جموعٌ من الناس تروح وتغدو ولا أحد يرفع بيده تحيةً أو سلامًا لهذا أو ذاك، ولا مَن يسأل زميله إلى أين يمضي.
كان المعلم مالاو يقودنا، نحن تلاميذ الصف السادس، خلال الزيارات فبقينا نتبعه يومًا بأكمله، وقُبيل المساء أشار ناحية قرية يلفُّها الظلام قائلًا: «هي ذي ضيعة ماكيجوان قُدامنا، فتطلَّعنا إليها وسحاباتٌ داكنة تطويها، وبين حين وآخَر تنطلق شراراتٌ لامعة بعنفوانٍ يقهر جنباتِ الظلمة الحالكة، ثم انطلقَت صفَّارةٌ بخارية لقاطرةٍ سوداء مرقَت أمامنا بقلبٍ جامد، فارتجفَت الأرض من تحتي.»
عبَرنا قضبان السكة الحديدية وأقبلنا على رصيفٍ مهجورٍ لشحن البضائع، وكان ثمَّة أحجارٌ يميل لونها إلى البُني المحترق مكوَّمة في أحد الأركان، فأشار إليها المعلم مالاو وقال بمنتهى الانفعال: «هذه هي الخامات المعدنية … أيها الرفاق!»
أمرَنا بالجلوس ريثما يذهب باحثًا عن أحد القادة المعاونين، وراح ينظر من خلال الثقوب الكثيرة في جدران الغرف الخربة، دون أثرٍ لأحد، فلما نال منا الملَل، قعَدنا فوق كتلة الخامة المعدنية، فأوجعَت مؤخرتي وانتقلتُ إلى الأرض المتربة، وكان الليل قد أرخى سدوله، فلمعَت الشرارات المنطلقة من وراء الدخان الكثيف ببريقٍ أشد وهجًا، وفيما وراء ساحة الرصيف كنا نرى ألسنةً من اللهب تبزغ في بعض الزوايا، وقيل إنها ذؤاباتُ أفران الصهر العالي، لكن الجوع لم يدَعْ لأحد صبرًا، ولم يكن المعلم قد عاد حتى الساعة، فوقف تلميذٌ ضخم الجسد وانهال بالسب المُقذع، وقال: لنذهَبْ ونرَ أين ذهب المعلم، وأي داهية أخذَتْه؛ لأنه لا بد أن يتصرف ويأتي بطعام للرفاق الجوعى، فقام معه عددٌ من البُدَناء أمثاله، وقالوا إنهم يمشون معه، الخطوة وراء الكعب، فمرَقوا خلفه وذهبوا، ولم يظهر لهم أثرٌ بعدها، وصارت أصواتُ ارتطام الحديد بعضه ببعض تهدر في جنبات الضيعة بين وقت وآخَر، وقد عبق الجو برائحة القشِّ المحترق، وبكت الفتيات فزجرتُهن وقلتُ الساعة يأتي الفرج، وكنتُ وقتذاك ابنَ عشرين سنة، صحيحٌ أني لم أكن طويل القامة، لكن بِنيتي الجسمانية اكتملَت بعنفوان الشباب؛ كما أن شويا بسني عمرها البالغة ثلاثةَ عشرَ عامًا كانت قامتُها تتوثَّب إلى ما فوق المتر ونصف المتر، بقوامٍ لطيف أتاح لها المشاركة في أنشطة التمثيل بالفصل، فوقفَت ذات مرة على المسرح لتمثِّل دورَ فتاةٍ روسية تشارك بمرح وسعادة في الكولخوز، وهي المزارع الجماعية في قرى الاتحاد السوفيتي، لكنها أيضًا كانت تُدرِك مأساتها، فينتابها الشعور بالخزي؛ فلطالما ظلَّت نشأتها، على نحو ما بدا لها، كجلمودٍ من صُلب ترزح تحته روحُها وأنفاسُها، يكتُم في جوفها صوتَها العذب، فيشقُّ عليها أن تغنِّي أو أن تُنشد بيتًا من الشعر؛ مما يعني أن فكرة المنبت الشريف والأصل الماجد ظلت قائمة حتى وقتئذٍ، ولم تندثر تمامًا؛ فما كان منها إلا أن جلسَت، بملامح تنضحُ قلقًا وحَيرةً فوق سطح الأرض المتربة، وبريقُ اللهب البعيد يتخايل فوق وجهها الغائم في سحابات غبار، وقد جفَّت في غضونه حبَّات عرَق.
ساعة أن انتصف الليل، تقريبًا، ومع هبوب رياحٍ خريفية باردة جمدَت منها أطرافنا، أقبل علينا المعلم تشو ذو القتب متسللًا، فسألناه: «ألم تكن موكلًا بمراقبة بوابة المدرسة يا أستاذ تشن؟» فأشاح بيده آمرًا بالسكوت، وجعل يُزيح طبقات الصخر المعدني الخام كأنه يبحث عن شيءٍ مفقود، ولم نَدرِ إن كان عثَر على ضالته، بَيْد أنه رفع قتبه واعتدل ماشيًا، لكنه ما إن غاب في الأفق حتى جاءنا المعلم تشن شنغ ابن العطاء الرباني الأقدس، وقد علق الطميُ الأصفرُ بقميصه القديم، كأنه اخترق اللحد وقام يسعى بين الأحياء، اختصَّني بالودِّ وسألَني عما آل إليه مصير السيد مورويا، فقلتُ مات، والبنتُ هذه — وأشرتُ تجاه شويا — هي ابنته لحًا؛ أي ابنته من صلبه، فانفعل المعلم وثارت نفسه وانتابته نوبة سُعال، فتقيَّأ دمًا، وصار وجهه كمثل صحيفةٍ من نحاس. قال: «اصدقيني القول يا ابنتي وانطقي بالحق … أما زالت نعجة أبيك للوقت باقية؟» فأشاحت عنه البنتُ شويا ولم تُعِره انتباهًا، قلتُ: «امضِ الآن؛ فالوقت لا يسعفك، وأستعيذك من أن تقلق بالنا وتقلِّب علينا المواجع.» فمشى في الحال. ولم يلبث مالاو أن عاد والأسى يقطر من ملامحه، وهو يغمغم بقولٍ خفي لا يستبين مقصده، وقد زالت عنه رهبة الطلعة التي عهدناها في مُحياه، ثم إنه أخرج من حقيبته حفناتٍ من البطاطا الحمراء وقد علق بها التراب والطين، وناول كلَّ واحدٍ يدًا بيد، فلم نشأ أن نُزيل عنها وضرها، فالتقمناها وضرَّسناها بأسنان لها صرير فنظرتُ إلى شويا فإذا أسنانها البيضاء تلمع كالفضة في وميضٍ واهن من نور.
بادرنا إلى العمل في اليوم التالي مباشرة؛ المهمة كانت عبارة عن تكسير أحجار الخامات المعدنية، بالقدائم والشواكيش، حتى يتحول الجلمود البنِّي إلى حصواتٍ مقدارُ حجم الواحدة منها لا يزيد على نواة الخوخ، لكن الأحجار كانت من الصلابة بحيث شطفَت رأس القدوم وقصفَت منه مواضع بدت كندوبٍ غائرة في الكتلة الضاربة منه، وبنهاية الفترة الصباحية لم تكن تكفي حصيلة العمل من الحصى المجروش لملء سلةٍ كبيرة، فلم تأتِ الظهيرة إلا وكان وزملاؤنا الذين تركونا بالأمس قد عادوا يحملون أحد الجرادل المعدنية بعد أن علَّقوه متدليًا من عمودٍ خشبي متين جيء به من غصن صفصافة، وإذا الجردل مليءٌ بفطائرَ ساخنة، يتصاعد منها البخار، فتقافز الجميع فرحًا، وأشرق وجه المعلم مالاو بامتنانٍ عظيم، وتزاحمَت الايدي تقتنص وتتفادى، فما أشهى فطائرَ محشُوَّة بالملفوف الصيني!
بينما نحن منهمكون في الأكل، إذا بشابٍّ داكن البشرة يحمل بيده قضيبَ حديدٍ مخروطًا بدوائرَ حلزونية قد أقبل علينا وهو متأجِّج غضبًا، وتساءل متوعدًا عمَّن جاء بنا إلى هنا، فأجابه المعلم مالاو بما يفي بالغرض، فاتضح أن ذا البشرة السمراء ساخطٌ على مستوى إنتاجنا وأسلوب عملنا، وبدا لنا وهو يلوِّح بالقضيب الصلب كأنه يداعب المعلِّم، فإذا هو يهوي به على خاصرته، فصرخ أستاذنا صرخةً عظيمة وتعثَّر وسقط يتأوَّه، وتلاميذه مأخوذون بصمتٍ مطبق كمثل جرادِ حقول تجمَّد تحت شتاء زمهرير.
امتدت الأيدي تساند الأستاذ مالاو، لكنَّ صموده وكبرياءه كانا يستدرَّان الدمع في الأحداق … ابن الكلاب … كيف يطيش عقله ويضرب الناس هكذا؟
كلمةٌ قيلت لكنها دفعَت مالاو ليجهشَ بالبكاء، فتحلَّق حوله تلاميذه يُهدِّئونه كما يُهدِّئون طفلًا مرتاعًا، يخفضون من رَوْعه، ثم إذا بضعفِه يغلبه فينتحب؛ فيُرتَج علينا ولا ندري ما نفعل، وتأتي شويا من السطل بفطائر باردة وتقدِّمها له، وتدفعها في فمه، فيمسح عينه ويتمخَّط ويقضم قطعةً قطعة، وهو يتأوهُ ويستكنُّ بين كل قضمتَين، وينتفخ خدَّاه ثم ينكمشان في هيئةٍ بغيضة. ثم فوجئنا به يصيح عاليًا، فأجفلنا وشدَّ أنظارَنا إليه لا نعرف ما أصابه، فإذا به يتقيأ مضغة الفطائر في كف يده، وراح يتفحص شيئًا لم يستسِغ ابتلاعه، وأشار لنا بما رآه، فهالنا ما طالعنا تحت ضوء النهار الذي يغشى الأبصار؛ إذ رأينا إصبعًا آدمية تلمع لمعانَ أصدافٍ بحرية، فأخذ يقلِّبها في يده ويُديرها بين أصابعه وهو تائهٌ حيران كمثل فرخ دجاجٍ ارتطم رأسه بحجر قال: «ما هذا بالضبط … هه؟ ما هذا الذي أراه؟» قال لي دونغتساي: «لا بد أن الطاهي قطع إصبعَه غافلًا، أمعقولٌ أن يكون هناك احتمالٌ آخَر؟ … صحيح.» قال: «صحيح … ممكنٌ جدًّا.» لكنه ظل يتقيأ حتى انقلبَت أمعاؤنا.
قُبيل المساء، حدث أن أجفل الحصان الذي كان يجرُّ عربة ويجري على الطريق العام المحاذي لشريط السكة الحديدية، وقد استمات الحوذيُّ الكهل في السيطرة على اللجام بكل قوَّته، وبُح صوته وهو يزجُر حصانه الذي كان طافرًا، تكاد حوافره لا تمسُّ الأرض من شدة جريانه، وهو منطلق ككرةٍ مطاطية انطلقَت ولا مثبِّت لها؛ فكان حصان السبق القديم يعدو، رأسه ذاهب في السماء، وعُرفه يتماوج طائرًا مع الريح، وعيناه المدوَّرتان تبرقان بالنور الوهَّاج، وأخيرًا أطاح بالحوذي، وفي لمحة بارقٍ قلبَ العربة وطار منها رامحًا، وصار الحوذي يتقلَّب في التراب، عدة دوراتٍ سريعة أول الأمر، ثم تباطأَت حتى خمدَت، فبات في النهاية منبطحًا على وجهه، كمثل مضطجعٍ أخذَته سِنةٌ من نوم أو شبه كَومة من تراب، وفي الوقت نفسه كان عريش العربة مرتفعًا كرأسٍ عالٍ ماضٍ في السماء، كان عريش الحصان أسود اللون بينما عريش العربة شديد الحمرة، ككرة من لهب تطير وراء سحابة سوداء، فذكَّرني المشهد برمز العجلة الثورية الدوَّارة، التي لا يصُد حركتها أحد. كان بالعربة بضعة أشياء متكومة، لونها ضارب إلى الأصفر الذهبي، أخذَت ترتطم بالمنحدرات وتتقافز حتى تطوَّحَت على بسيطٍ من الخلاء، ولمَّا يثبُتْ دورانها، وإذ تدحرجَت العربة هاج على الطريق مثارُ الغبار. ولم يسَعْنا إلا أن نعبُر الشريط الحديدي صوبَ الطريق العام، ففوجئنا أثناء عبورنا بصرخةٍ من زميلة لنا كانت تجري بجوارنا، فإذا هي ليسوي وقد تعثَّرت أقدامها بعوارض السكة الحديدية، التي هي الفلنكات الخشبية بين القضبان، وسقطَت فانكسرَت سِنَّتاها الأماميتان فأسرع من أنهضها. وأنا جريتُ مع الباقين إلى الطريق العمومي لاستقصاء حال الحوذي الكهل ذي اللحية الكثة والوجه المألوف، وناديناه فلم يُجبنا، فجرَّب الأريب منا أن يدلِّكَ قلبه، فكان القلب خامدًا لا ينبض، واتضح أن الأشياء الساقطة من العربة عبارة عن حفناتٍ من خبز الذرة الطري الطازج، الذي تصاعد من سطحه البخار، فتهالك الجمع عليه وحشَوا به أفواهَهم، وجعلوا يجمعون منه كَومةً كبيرة، أما البنتُ ليسوي فقد جلسَت تحمل قاطعتَيها المخلوعتَين وتبكي، فقال لها المعلم مالاو:
«لا تحزني، ولتتخذي بعد عودتك إلى البيت سِنَّتَين صناعيتَين.»
هدأَت ليسوي وكفكفَت الدمع ووضعَت القواطع في جيبها كأنهما لقيةٌ ثمينة، ورفعَت خبز الذرة إلى فمها وعضَّت عليه بأسنان الشدقَين.
وفي أول الليل قال مالاو: عُودوا الآن يا زُمَلاءُ إلى بيوتكم، وامشُوا رفاقًا غير فرادى، ولسوف أتحمل مسئوليتي في هذا الموقع.
لكنا لم نَنتهِ من تكسير صخور الخامات المعدنية … كذا سأله بعضهم.
– تكسير ماذا؟ … اضحكوا على عقولكم بهذه الكلمة، قال المعلم مالاو … كل واحد وطريقه، ليت بعضَكم يذهب إلى المعلمة يوي مديرة المدرسة ويُوصِّل لها رسالةً قصيرة … قولوا: المعلم بخير، ولا داعي للقلق.
تحسَّسنا طريقنا في الظلام، فلما انتصف الليل باتت كعوبنا متورمة وعجزنا عن المشي، ونزلنا على قرية تُئوينا حتى انبلاجِ الصبح، وفي غرفةٍ قديمةٍ متهالكة انحشرنا على الأرض كل عشرة على حصير من قَشِّ القمح، الأولاد في ناحية، والبنات في الناحية الأخرى، ونظرتُ فإذا شويا على شمالي، فكانت المسافة بيننا هي الحد الفاصل بين الذكور والإناث، ومع ذلك فقد بلغني أن سقطاتٍ ماجنةً وقعَت أثناء المبيت تلك الليلة، تسبَّب في معظمها الزملاء البالغون؛ ذلك أن الفصل السادس كان يضُم من بين تلاميذه أعدادًا من المراهقين، فكان هناك مثلًا كوباوفا البالغ من العمر أربعةً وعشرين عامًا، بل إن الفتاة ليسوي التي ارتطمَت بالعوارض ففقدَت أسنانها الأمامية، كانت في العشرين؛ وبالمناسبة فإن هذَين الأخيرَين تزوَّجا فيما بعدُ وأنجبا حَفْنةً من الأولاد، بيد أنهما تُوفِّيا أثناء مجاعة الستينيات.
وصلنا بيوتَنا في صباح اليوم التالي، وكان ثمَّة إناءٌ فخَّاري يغلي وبداخله عددٌ من ثمار البطاطا الحمراء، وجدَّتي جالسة مطأطئة تؤجِّج الوقيد، وقد احمرَّت عينُها ودمعَت إثر الدخان الأسود المتصاعد من خلال أخشاب شجر الصفيراء، فبدَت كعينَي أرنبٍ عجوز، وكنتُ أنظر إليها وأضحك وشويا إلى جانبي تشاركني لحظة المرح الساخر، وللتوِّ دخل أبي قادمًا من خارج البيت وبيده فأسٌ قديمة، ودون أية مقدِّمات قال: «رأس الفأس الحديدية لا تثبت في الشقِّ الخشبي … ماذا أفعل؟ حاولتُ أكثر من مرة، ولا فائدة.» قاطَعه جدِّي قائلًا: «ماذا؟ هل انكسرَت فأسك؟» وفجأة اقتحم المعلم مالاو المكان وصاح زاعقًا: «ما هذا الذي تطبخونه؟ … هه؟ أيُّ طعام ذاك الذي يثير كل هذه الرائحة؟» ثم إنه واصَل قائلًا: «لكم التهنئة من كل قلبي.»
منتصبًا كعودِ بامبو ممشوقٍ وجافٍّ قدَّم لنا المعلم مالاو رسالةً من إدارة الإقليم، تفيد بأنه تم قَبولُنا وتسجيلُ أسمائنا ضمن طلاب المرحلة الإعدادية. في ذلك الحين، وبعد انتهاء التجربة الشاقَّة في مهمة تكسير الخامات المعدنية، يمكن القول بأن كل ما كان عالقًا بيننا وبين المعلم مالاو من عداوة وسوء فهم تمَّت تصفيتُه تمامًا، ولم يعُد له أي أثَر؛ حتى إنه بعد زواجه من المعلمة يوي وإنجابها طفلَهما الأول أهديناهما، أنا وشويا، أسماك الكراكي المبرقشة، ذات الخطم الطويل، وكانت من صيد جدِّي، لكنه كان وضَعها في حوضٍ كبير دون أن يضعَ لها شيئًا تأكله، فبادلناها منه بخمسة جينات (كيلوغرامَين ونصف) من فول الصويا السوداء، بيد أنا كنا عثَرنا عليها مصادفةً في أحد مخابئ فئران الحقول.
كانت أيام شدَّة وعسر، حتى تقرَّح وجه جدَّتي بسبب ما كانت تتناوله من النباتات البرِّية، وأنواعٍ من الحشائش غير المستساغة للأكل، فأُصيبَت بالتسمُّم وانتفَخ وجهُها واستحال شبيهًا بكرة البالون الطائر، أما جدِّي فبفضل انتمائه لفئة آكلي طعام البحور، فقد بقي يتمتع بصحةٍ طيبة، ولو أنها تدهورَت بعضَ الشيء عما كان عليه في وقتٍ سابق.
جلس المعلم مالاو على عتبة بيتنا، وأخذ يُفضفِض عن مكنون صدره وأوجاع أيامه، فقاطَعه جدِّي قائلًا:
«بالنسبة للمزارع الجماعية، أو كما تقولون عنها … الكومونة الشعبية، فعلى رأي من قال ذيل الأرنب مهما أرخيتَ له العنان، فلن يطول … أي، باختصار، أيامها لن تدومَ كثيرًا!»
كان رأي الجد أشبه بنبوءةٍ مريرة أو لعنةٍ موبوءة ارتعدَت لها فرائصُ أبي، فأسرع يقول: «يا والدنا العزيز … أَعطِ أحفادك الأمل … لا تسوِّد الدنيا في عيونهم.»
بعد عدة همهماتٍ ساخرة، قام الجدُّ وسحب شوكة السلاحف البحرية، وكانت له مهارةٌ عجيبة في غرسها في جسم الصيد بضربةٍ واحدة.
كانت جدَّتي تُسهِم بطريقتها في مساعدة فريق الإنتاج؛ فكانت تقوم بطحن القمح له، خصوصًا وقد نفقَت الخيولُ والدوابُّ التي كانت تُدير عجلات دولاب الطحن، علمًا بأنها نفقَت جوعًا.
جلسَت الجدَّة قبالة الفرن صامتة، ولم يعُد في نيَّتها أن تفتح معنا موضوع الدراسة وما إذا كنا سنواصل المرحلة المتوسطة، التي هي المدرسة الإعدادية.
قام أبي واقفًا وراح يرافق المعلم مالاو مودعًا إياه عند البوابة، ثم عاد وقال لنا: «بقاؤكما وسطنا في البيت لن يُعفيَكما من الجوع، فاذهبا لشأنكما، وعمومًا، فوصولكما إلى هذه المرحلة الدراسية لم يكن بالأمر السهل.»
قالت شويا: «أقول لك بصراحةٍ يا أبي، المستحق للدراسة هو شوكن، فدعه يذهب وحده، وسأبقى أنا هنا أجمع الزرع أو أساعدكم في الصيد؛ فالأيام صعبة، ولا بد أن تكون يدي معكم.»
نظر إليها أبي وقال: «شويا، ذهابك إلى المدرسة أهم من ذهاب شوكن نفسه، وإلا فماذا أقول لنفسي إذا خالفتُ وصية السيد مورويا؟!»
شويا قالت: «انظر، شوكن وُلد، ورأسُه كبيرٌ يجعله ذكيَّا، ومؤكَّد أن مستقبله سيكون أحسن.»
لم ينطق أبي ولم يرُدَّ عليها بشيء.
قُبيل بدء الدراسة بعدة أيام، ذهبَت مع شويا إلى الأحراش والمرعى البعيد لنقطف الحشائش والأعشاب الجافَّة؛ إذ كان يمكن بعد تعريضها للشمس لبعض الوقت أن تُخبز للأكل، ولحُسْن الحظ فلم تحُلِ المجاعة دون سماءٍ مشرقة وشمسٍ قادحة، لكن ثبَت أن موسم الجوع كان بشريًّا أرضيًّا فقط وليس جويًّا؛ أي مختصًّا ببني الإنسان دون الطير؛ ذلك أن الجيفة المطروحة والجثث المتحللة ملء الحقول البائرة والبراري القاحلة كانت نعيمًا ما بعده نعيمٌ لأسرابٍ من الطير والجراد؛ فمن ثَم تزايدَت أعدادها حتى لم يكن الماشي يمشي عدة خطواتٍ وسط الحشائش دون أن تتناثر عليه وحوله عشراتٌ من فصائل الجراد كأنها ندفٌ أو شظياتٌ مارقة؛ لأنها كانت في انطلاقة فزعها تحوم عاليًا فتظهر بواطنُ أجنحتها حمراء لامعة، فما تكاد تبرق حتى تنطفئ خفيةً دون دبيب، تلمحها العين فتبهر الحدق لوقتٍ محدود. وصار والد زميلنا لي دونغتساي يمشي في الحقول وهو يُمسِك ثمرة القرع المعروفة باسم «هولو» وقد قطعها نصفَين وحمل نصفًا واحدًا على هيئة الطبق المدوَّر، وأخذ يجمع فيها ما يستطيع من الجراد الطائر، لم يكن في القرية كلها أحدٌ يجاريه في استساغته لطعم تلك الأشياء. صحيحٌ أننا تذوَّقناها في بعض المرات، لكن بطوننا انتفخَت وأصابنا إسهالٌ شديد كادت أرواحُنا تزهق بسببه، فكانت مرَّة ولم تتكرر، ولعل أمعاء الرجل ومعدته تآلفَت مع عصارتها فاكتسب من جرَّاء ذلك قوةً ما، كان من أثرها أنه وبينما راح الجميع يتضوَّرون جوعًا، إذا بذلك الكهل الأشيب يمضي بينهم ببشرةٍ لامعة ووجهٍ يفيض حيوية، وروحه دائمًا هادئة مطمئنة، عالمها براح ومداها آفاقُ مَسرَّة، وأينما ذهب كان صفير فمه شَدْو أنغام، رأيناه فقلنا له: تُرى كم جينًا (وزنة) من الجراد اصطدتَ أيها العم ليجيا؟ صوَّب فينا عينَيه، ثم فرَد ذراعه كأنه يطير به، فالتقط جرادةً طائرة، وفصَل عنها رأسها وألقاه بعيدًا، وأسقط الجسم في نصف ثمرة القرع التي تشبه الطبق المدوَّر. ومن بين كَومة حشائش اعتدل السيد مورويا واقفًا بعد انحناءة بنصف جسد، فأتى العم ليجيا ورجاه أن يعطيه جرادة، فأبى عليه وامتنع عن إعطائه وقال له ساخطًا: ما لك؟ أليس لك ذراع تصطاد بها؟ ومع ذلك، فلم يرُدَّه خائبًا، وانتقى له أضخمَ جرادةٍ في الطبق وأعطاه إياها، فالتقَمها بفمه، وصار يمضغ.
هبَّت الريح فتماوجَت ذؤابات الحشائش، كمثل أمواجٍ تقلَّبَت، فمشينا أنا وشويا نبحث عن أعشابٍ جافَّة، وقد تعلَّق بطرف فم البنت وردةٌ صفراء، ثم إنها أفلتَت الوردة من ثغرها فجأة، وسألَتْني: أصحيحٌ أن أبي كانت تربطه بأمنا علاقةٌ غير شرعية؟ احمرَّ وجهي، وأحسستُ بأني تلقَّيتُ أبشعَ إهانةٍ في حياتي، قلتُ: سُدِّي أذنيك عن كلام ضُراط الكلب هذا!
شويا قالت: واضحٌ أني أغضبتُك، لكن حتى لو كان الأمر هكذا فعلًا، أليس هذا تأكيدًا لحميميةٍ زائدة بيننا؟
تجاهلتُها وطوَّحتُ السلة بعيدًا، وجعلُت أقلِّب الأرض بالشوكة، فاقتلعَت بضعة أعشاب من جذورها.
«أخي»… قالت. «لا تغضب أرجوك … وعمومًا فسواءٌ طالت الأيام أو قصُرَت فسأكون امرأتك، ففيم غضبك؟»
«ما هذا التخريف؟ من قال إنكِ ستصيرين امرأتي؟ طالت أو قصُرَت الأيام؟» بقيتُ ألمحُها وهي تتكلم، فتكشَّف لي أنها أبهى جمالًا.
«أمنا هي التي قالت.» … كذا حدثَتْني بهدوء.
من بعيدٍ تردَّد صدى طلقاتِ رصاص، فأطلَلْنا ننظر ما الأمر، فإذا الرجل الأعرج، الذي أصبح الآن أحد كوادر الحزب، يصطاد البط البرِّي ببندقية.
طفقَت شويا تقتلع الأعشاب … قالت: حلَمتُ في الليلة الفائتة حُلمًا.
– فماذا رأيتَ في الأحلام؟
– رأيتُ أمنا تسرق حبَّات الخواندو (الصويا) فضبطَها العم وانغ ماتسي، وأجرى عليها العِقابَ بأن تركع، فتحلَّقت حولها ثُلةٌ من الناس تتفرَّج عليها.
– وهل تحققَت الرؤيا؟
– من الخير ألَّا تتحقق.
ثبَتَ ببرهان الحقائق الدامغة أن رؤيا شويا تمتثل لشاهد الواقع. ونحن لم نقتلع عشبًا، بل جرَينا نلهثُ صوبَ مطحن فريق العمل.
المطحن كائنٌ بساحة بيت الثري الأمثل السيد ليو، وعند مدخل البيت أقعى وانغ ماتسي، وإذ أقبلنا عليه قام واقفًا وانتهرنا متوعدًا: ما لكم؟ ماذا تريدون بمجيئكم هنا؟
– نريد أن نرى أمنا … قالت شويا.
– ممنوع … المطحنة موقعُ عملٍ مهم … ممنوع الدخول لغير العاملين فيها.
– ممنوعٌ أن نرى أُمَّنا؟
– ومن يضمن ألا تسرقَا الحبوب … أو تضعَا السم في الدقيق؟
– نحن طلبةٌ متفوقون … وسيلتحق أخي بالمدرسة المتوسطة.
ضحك وانغ ماتسي ساخرًا وبدَت في وجهه الحاقد علاماتُ كراهيةٍ مريرة، قال: «أي ثورة هذه بالضبط؟! … أنتم في المجتمع البائد عِشْتُم رغدًا وملأتم بطونكم … وفي المجتمع الجديد تدخُلون المدارس العالية … هل هذا عدل؟»
شويا رفعَت صدرها في تحدٍّ قائلة: «الكلب لو دار في الدنيا بطولها وعرضها فلن يأكل إلا خراء، والذئب لو طاف بالعالم فلن يطعم إلا جيفة … موتوا بغيظكم أيها المخلطون الأوباش.»
عجيبة! هل هذا يعني أن الأوباش والمخلطين هم نحن؟ كنتُ أظن أنهم معروفون للكل! أشار ماتسي بإصبعه المفرودة قائلًا: اسمعوا يا أوباش، مهما كنتم ومهما كنا، فلن يبقى ابنُ العز عزيزًا، ولن يبقى الوردُ ريحانًا … لكل فاجرٍ يوم، وسوف نرى ما يأتي مع الأيام.
جذبَتْني شويا من ذراعي، ومضت بي تشُق الطريق بصدرٍ نافر، فاضطُرَّ وانغ ماتسي أن ينتحي جانبًا.
دخلنا غرفة الطحين، فكان الضوء شحيحًا جدًّا، وأزكمَت أنوفنا، في الحال رائحة الدقيق وقد شابتها زنخةُ نتنٍ كثيفة، كان صوتُ الماكينة يهدر في جنبات المكان … لونغ لونغ لونغ … والتفَتنا فرأينا عددًا من الأفراد الذين احتجبَت عنا ملامحهم بسبب العتمة، وكانوا يحرِّكون معًا حَجَرَي الطحن الكبيرَين، بلونهما الأحمر الداكن، وببطءٍ شديد كانت تتم لهما دورةٌ كاملة بين حينٍ وآخر. ثم إن صوتًا أجشَّ صاح قائلًا: «يا … يا امرأة أخي … أولادك هنا يبحثون عنك.»
تقدمَت شويا وهي تتصنَّع الإعياء، فكانت تتحسَّس رأسها وتسأل بعضهم: هل تعرفون أين أمي يا حضرات؟
– أمك دخلَت جُحر الفأرة. كان الكلام لامرأة العم وانغ، بصوتها الفظ الخشن.
قالت شويا: ما هذا الصوت البهيمي المشقوق الحلق؟!
وسط ضجة من الضحك، جاء صوت أمي: عيبٌ … تأدَّبي يا قبيحة وأنت تكلِّمين امرأة مثل أمك.
في تلك الساعة، كانت عيونُنا قد عركَت الظلمة، فبدأَت تتضح ملامح الأشياء، ولاح لنا منظر أمي وهي تميل بجسدها تُدير عمود المطحن، وقد تفرَّق الشيب في شعرها، وشَحبَ وجهُها، وهي تُدير عَجلة الطحين الدوَّارة، أخذتِ النسوة يمتَدِحن جمالَ الابنة شويا والولد النابه. قالت أمي: «لستُ أخشى عليهم سوى غَدْر الأيام.»
بقينا واقفين حتى انتهت النساء من نوبة عملهن، فخرجنا بصحبة والدتنا، ونحن نفكر في طريقة لتكسير الحُلم وإبطال آثاره.
سألتُ الأم بهدوء: «لا تنزعجي إذا سألتُك يا أمي إن كنتِ تُخفين في ثيابك الآن شيئًا من الحبوب! … أقولِ لكِ من دون لفٍّ أو دوران … لا داعي أن تخرجي من هنا اليوم وأنتِ تحملين شيئًا من الطحين.»
بطرف عينها نظرَت لي شزْرًا، قالت: «اخرس.»
كان وانغ ماتسي واقفًا يسُد طريق المارِّين بالباب، يفتِّش كل عاملة تخرج من المطحن، واحدةً بعد أخرى، ولاحظتُ أنه تساهل مع كل من كُن في أول الطابور، فلما جاء الدور على أمي لمعَت عينُه بالشر فأدركتُ أن المصيبة واقعةٌ لا مفَر.
من جيب أمي أخرج ماتسي بكلتا يدَيه حفنتَين من فول الصويا، فامتُقع وجهها وكلمَتْه بصوتٍ خفيض تستعطفه: أنت مثل أخي الأكبر … لم يكن بيننا دائمًا إلا الودُّ … ولن يكون إلا كل خير …
تأمَّلَني ماتسي، ونظر مليًّا إلى شويا، ثم قال: «لكن من ناحيتي أنا، فلم يكُن بيننا إلا البغضاء، ولن تكون هناك سوى الكراهية … اركعي من دون مناقشة.»
وحدث أن جاءنا، فيما بعدُ، أحدُ الموظَّفين العاملين في المجلس القروي، وأبلغنا أن العقوبة المقرَّرة علينا من جرَّاء تلك السرقة، هي خصمُ عددِ عشرة جيناتٍ من الحبوب المخصَّص صرفُها لنا، فبكت أمي، وإذ عدنا إلى البيت فقد انهالت عليها الجدة تأنيبًا وأفرغَت فينا حشد صدرها من المرارة، فلم تسكُت شويا، وأجابتها في غيظٍ قائلة: «لماذا كل هذا التحامل غير المفهوم؛ خصوصًا أنكِ كنتِ أكثر من ملأ بطنه بكمياتٍ هائلةٍ مما جاءت به والدتي إلى المنزل من الحبوب؟»
قالت الجدَّة: «لكن العقوبة جاءت غليظةً جدًّا؛ إن عشرة جينات ليست بالأمر الهيِّن، والمشكلة أنها سوف تقتطع من مصروفنا الشيء الكثير.»
قال والدي وقد بلغ به السخط غايته: «كم تمنَّيتُ ألا يُقْدِمَ أحدُنا على هذه الفعلة الشنيعة، وكم حذَّرتُكم من مغبَّتها، لدرجة أن الواحد منا يفضِّل أن يموت جوعًا دون أن يفضح وجهه أمام الناس.»
قالت شويا: «لو قلنا الحق … فالكل يسرق.»
أجابها أبي: «لا تقاطعيني … عيبٌ على طفلة أن تقاطع أباها.»
احتدَّت شويا: «لكني سوف أقاطعك.»
قالت الجدَّة: «مَن تكونين أنتِ يا طالعة من البيضة حتى تتبجَّحي وتقفي لنا بالمرصاد هكذا؟ ليكن في علمك أننا لو لم نأخذك في رعايتنا منذ يومك الأول لكُنتِ الآن مجرد شبحٍ من أشباح الموتى.»
ردَّت عليها شويا، قائلة: «أعرف دون أن تخبريني … لكن أريد أن أذكِّرك بأن أحدًا لم يأخذني في رعايته سوى أمي فقط … ولا أحد غيرها.»
قال أبي: «انتهينا … لا داعي للشجار».
كذلك أضاف جدِّي: «اهدَءوا … ليس من محبة إلا بعد عداوة!»
بقيَت جدَّتي تُثرثِر فيما بينها وبين نفسها، فالتقط جدِّي عصًا طويلة كانت بجانبه وصوَّب ناحيتها كما يصوَّب الرمح في ألعاب الرماية بالعِصِي، وأطلَقه عليها، فتفادَته الجدة، وسكتَت بعدها فلم تنطق بكلمة.
راحت الأم لتُواصِل عملها في تدوير الطاحونة، ففُوجئَت بوانغ ماتسي يصدُّها عن الدخول ويطردُها، فعادت دامعةَ العين وجلسَت بجانب الفرن شاردة الذهن. قالت شويا: سأذهبُ عنكِ أنا يا أمي. وصارت شويا منذ يومئذٍ تنوبُ عن الوالدة في المطحن، فلم تمضِ على ذلك عشرةُ أيامٍ كاملة حتى كنتُ أقصد إلى المدرسة الأولية المتوسطة، على مستوى الإقليم، لكي أسجِّل اسمي في جداول القيد الرسمي؛ فما إن دلفتُ من باب المدرسة حتى لقيتُ المعلم تشن شنغ ين، وكان يسعلُ بشدَّة، فانحنيتُ له تبجيلًا، فلم يكترث، وأشار عرضًا بتحيةٍ بيده الملوَّثة بالدم، ثم استدار منصرفًا. وكان أن قابلتُ وجوهًا مصفرَّة بأجسادٍ نحيفةٍ مهزولة، سواء من الطلبة أو الأساتذة، وأثناء الدرس كان صوتُ المعلم خفيضًا للغاية، فيما غامت أعين الطلبة وانتاب معظمَهم النُّعاس، وأبلغنا أن المدرسة قرَّرَت إلغاء حصص التربية البدنية؛ بزعم الحفاظ على الطاقة قَدْر الإمكان، وقد تخلَّى الأساتذة عن الوقار المعتاد فصاروا أحيانًا يسألون الطلبة أن يُعطوهم بعضًا من الفطائر أو الخبز اليابس، وكانت الفطائر التي أحضرتُها من البيت مختلطة بالحبوب، فكان كثيرٌ من أساتذتي، بل زملائي أيضًا، يتهافَتون عليها، وقال المعلم دان: «من المؤكَّد أن والدك يا شوكن يعمل مراقبًا للحبوب.» فهزَزتُ رأسي بالنفي، فقال: «هذا أغرب شيءٍ سمعتُه في حياتي … إذا كان والدك لا يعمل مراقبَ أغذية، فمن أين لك بفطائر من هذا النوع؟» فقلتُ له ولهم: «أختي تعمل في مطحنة القرية … ولشدة ذكائها، فقد ابتكرَت طريقةً يصعُب على الجن إتيانُها في سرقة الحبوب … طريقة مختلفة كليًّا عما اعتادته العاملات هناك من إخفاء الحبوب في الجيوب أو أعناق الجوارب، وهو ما لا يفلت من رقابة العين الساهرة واليد المتفحِّصة للسيد ماتسي، فكانت أختي تقصد مكانًا معتمًا قبيل انتهاء نوبة عملها، فتلتهم في معدتها كميةً معتبرةً من الحبوب، ثم تمضي في طريق العودة، تتبختر كطاووس، وإذ تدخُل البيت تُسرِع إلى إناءٍ مليء بمياهٍ نقيةٍ وتلتقط عصا الطعام الخشبية الرفيعة، فتضعها في جوفها لتهيِّج المعدة، وسرعان ما تلفظُ حمولتَها، وكانت الكمية الملفوظة تتفاوت في النوع والكم، حسب طاقة الابتلاع والمصادفة الطيبة، فمرةً تكون هناك بازلاء، أو ربما بعض القمح أو الذرة؛ المهم في كل الأحوال أن الكمية الملفوظة تمُر بعملية شطفٍ جيدة ثم تُسحق في هاون الثوم تمهيدًا لخلطها بالخضار وطبخها في نهاية الأمر، ولكثرة ما تعرَّض جوف البنت لتهييجٍ عنيفٍ بالعصا، فقد التهبَ وبقي ينزف في كثيرٍ من الأوقات، حتى كانت الحبوب الملفوظة من معدتها تنزل مختلطةً بآثار دماء … فما رأيكم أيها الزملاء والأساتذة الأفاضل، في هذا التصرف، وبهذه الروح المناضلة؟» قال الأستاذ: «فصولٌ مؤثِّرة من واقعٍ حي … لكن الروح ليست نضالية ولا تمثِّل السوفييت، التي هي وحداتٌ تتبع منظومةَ سلطةٍ سياسية، يُفترض فيها الشعور بالمسئولية … هذي فصولٌ يمكن أن تُكتبَ في نصٍّ مسرحي … نص إبداعي يستدر الدموع. لكن قل لنا … متى تستطيع أن تعرِّفنا على أختك هذه؟» هذا ما قاله أحد الزملاء. قلتُ: «غدًا ستأتي لي بالطعام.» على ظهرها كيسٌ يحوي خبزًا من ذرة وقمح، كذا رأيتُها منذ زمانٍ في الحلم تأتي، عند باب المدرسة كانت تقول بابتسامةٍ أشرقَت بها ملامح الوجه: حلمتُ بك يا أخي وأنت تقف موضعك هذا … المدرسة شكلها في الحُلم كما في اليقظة … انطباق صورةٍ على أصل. كانت نحيلةً بعض الشيء، لكن البهاء قديمٌ والإشراق معهودٌ عهدَ الزمان. قلتُ: «كفاكِ يا شويا … لا يمكن أن تبقي تجرحين حلقك هكذا.» قالت: «كيف عرفتَ أن حلقي مجروح (هكذا)؟» جعلتُ أربِّت على رأسها قائلًا: «أنسيتِ أني أُجيد رؤى الأحلام؟» وهي ضحكَت وقالت: «أنا لا أريد لنفسي هذه المقدرة … فالأشياء الطيبة لا تأتي في الحلم … ليس سوى الدواهي … فكأني أحمل ذنبَيْن ليس لي فيهما يدٌ.» قالت: «حلمتُ البارحة بأبي وأمي … منظرهما في المنام كان مخيفًا.» قلتُ: «ليتني تُفارقني الأحلام … فقد توالت حلمًا إثر حلم حتى ما عدتُ أعرف آلحقُّ ما أرى أم الزيف.» عرف الزملاء أن أختي قد جاءت فهُرعوا إلى البوابة جميعهم، وقالوا إنهم يريدون أن يتعرَّفوا إلى تلك التي انطوت روحُها على مشاعرَ أصيلة، وإن لم تكن ضمن عناصر السوفييت. رأيتُهم يقفون أمام بهاء طلوعها، واحدًا واحدًا، بوجوههم المغبرَّة وشعورهم المشعَّثة، لا ينطقون كلماتٍ تامة، واجمين كانوا، حتى أستاذي سو لاوشي الذي درَّسني اللغة الروسية، وكثيرًا ما شاركَني فيما كان يجيئني من خبز الذرة؛ أقبل هو الآخر، وما إن رآها حتى صاح مبهورا: «يااااه!»، ثم واتاه الشرود فشرد، مفتوح العين كان، والوجه منه تائهٌ متاهةَ بُلَهاء. تضايقتُ من منظره الذي كان يسيء كثيرًا إلى وقار المهنة، لكزْتُه في ذراعه، قلتُ: «تفضل اجلس يا أستاذ سو لاوشي.» قال سو لاوشي … «يا للجمال الفتَّان … يا لقرب الشبه بينها وبين كثيرٍ من نجمات الفن في «روسيا!» أشار ناحية أختي قائلًا لها: «ما أجملَكِ وأنت تسيرين في شوارع موسكو، تُفتتن بك عيون الناظرين. شيء لا يمكن احتماله أو تصوره!» بالمناسبة، فالمعلم سو لاوشي، أصلًا، من إقليم هاربين، الذي هو الإقليم الصيني المتاخم لروسيا، وكان سيادته قد علقَ واحدةً من فتيات روسيا البيضاء، وعاش معها علاقة حب؛ ولذلك جرى اتهامه بالموالاة لاتجاهاتٍ يمينية، وأيًّا ما كان فقد تبيَّن أن عاداته وسلوكياته أعصى من أن تنصلح؛ فمن ثَم لم يكن غريبًا أن تنتشر بسبب أمثاله، أفكار تَصِم دارسي اللغات الأجنبية بالتصعلك والانحلال. وكان أن المعلم سو لاوشي جعل يُلاحِق شويا بالحديث، فسألها عن سبب عدم مواصلتها الدراسة، فلم تُجِبه بشيء وأشاحت عنه. قلتُ إن أختي تنازلَت عن حقها في الدراسة؛ تضحيةً نبيلةً منها لكي أواصل مسار التعليم. هنالك تنهَّد المعلم بملء مشاعره، وخلع نظَّارته ليمسح عن زجاجها غبشته، قال: «قلبٌ شفاف … قلبٌ صافٍ كمثل روحٍ طاهرة.» وجاء وقت مجيء التلميذات لمقابلة شويا، فكان اللقاء تمييزا، بين ضدَّين؛ حيث كان منظرهن وهي شاخصة إليهن كمقابلة بين عنقاء الحُسن وديوك البراري، ولم يتبادل الطرفان كثيرَ حوارٍ سوى ما يُقال عادة من أن الغد سيكون أفضل، وأن شويا ينتظرها مستقبلٌ رائعٌ أمام كاميرات السينما يومًا ما، وأن ظهورها على الشاشة الكبيرة، كفيل بأن يُطفِئ لمعان نجوم الفن … مثل يانغ تشينآي أو وان دانفن. وبينما الجميع في ذلك، إذا وكيل المدرسة الأستاذ سون داتزوي (سون الثرثار) يحضر إلينا بنفسه بعد انتهاء الغداء، وكان يُمسِك بطرفَي إصبعه عودَ حطبٍ مفلوقًا ينظِّف به بين أسنانه، قال: اسمع يا شوكن يا بني … قل لأختك أن تنصرفَ حالًا وكفى إلى هذا الحد … هذه مُنشَأة تعليمية … وليست ناصية شارع الزهور (شوارع دعارة، قديمًا).» ردَّت أختي عليه قائلة: «في دُبر أهلك أجمعين … هل تفهم ما تقول حتى تشبِّهني بساقطات نواصٍ؟»
لسانها ذو السب الجريء الفاحش أفزع الأستاذ سون، فذهل وانكتَم، أما التلاميذ الحاضرون فقد انبسطَت ملامحهم وانفتحَت أشداقهم من السرور، غالبًا، إثر سماعهم عبارة الشتم الخالدة، وكانوا يُبغضون هذا السون داتزوي لما كان يُبديه من بهيميةٍ في سلوكه معهم؛ فلم يسلَموا من قيامه بالتهجُّم عليهم للاستيلاء على مأكولاتهم، بما كان يستتبع ذلك من اعتدائه المباشر على أجسادهم بالضرب والركل؛ حتى إذا بدا لخيالنا أن يتصور منظر جواسيس مكتب الاستخبارات التابع لقوات الكومينتانغ، ببشاعتهم ورذالة تصرفاتهم، فقد كنا نستدعي صورة سون داتزوي، بوصفه أقربَ تمثيلٍ حي لذلك المثال البغيض.
في تلك الأثناء كان الأستاذ سون قد استعاد انتباهه، بعد الذهول الذي انتابه للحظات، فصاح قائلًا: «امضِي حالًا … امشِي إلى أي داهية بعيدًا عن هنا. ليس بعيدًا أن تكوني جاسوسةً علينا.»
زعق فيه المعلم سو لاوشي، غاضبًا:
«لا يا سيادة الوكيل … أنت تجاوزتَ حدودك.» جاء رد الأستاذ سون: «وأنت أيضًا شكلك ليس بعيدًا عن الجواسيس.»
خرجتُ ويدي بيد شويا، أُوصلها إلى خارج المدرسة، قالت:
«مدرستكم هذه هي أوسخ مدرسة في العالم.» قلتُ: «هي بالفعل كذلك.»
قالت: «جدُّك نسج شبكةً قفصيةً جديدة؛ أي شبكةً مربعة تشبه القفص، عيونها ضيقة كمثل فتحات الناموسية، وقد عملَها خصوصًا لأجل صيد القريدس، أما زلتَ تحب القريدس النيء؟ يا لقفزاته وهو بعدُ حيٌّ يتنطَّط في الحلق! أنا أيضًا يأتيني مثل هذا الشعور.» قلتُ: «طبعًا أحبه، لكني عزمتُ ألا أقربه ويخطر ببالي أن أحلُم حُلمًا ينزع من أعماقي هيامي به.»
قالت شويا إن العم ماتسي وهو يفتِّشها لم يكن طيِّب النية، كما قد يُقال، فعبث بها فسبَّتْه سبًّا منكرًا.
قالت: «أُحس أني نضجتُ كما تنضَج الفتيات، وصرتُ مثلهن أفهم تلك الأشياء، فتعالَ يوم الأحد لنعجِّل بالزواج، فتدخل بي وتتخذني امرأتك.»
قلتُ: «مُحال، هذا عين المُحال، فأنتِ بعدُ في السادسة عشرة.»
قالت: «أنا أكبر حتى من فتاة العشرين.»
قلتُ: «ما زالت أمامنا عدة سنوات، وحين يجيء وقت دخولي الجامعة، نتكلم.»
وبصوتٍ حزين قالت «نبقى، إذن، ننتظر طويلًا … عدة سنوات نقعد وأيدينا على الخدود، وعندما يجيء الوقت تكون أنت قد زهدت بي ورأيتَ لك رأيًا آخر.»
قلتُ: «شيء من ذلك لن يكون، أنا وأنت منذ سنوات الصبا، براعم خضراء فوق جياد من أغصان البامبو لعبنا، علقتِ بي وعشقتكِ عشقَ طفلٍ طاهر القلب كان، من ثدي أمٍّ ارتوينا وكبرنا.»
قالت: «في المرة القادمة آتيك ببعض القريدس أُعِده لك بيدي».
قلتُ: «أقسمتُ ألا تفعلي، فلن أذوق منه بتاتًا.» ومشيتُ حتى أُوصلَها إلى الطريق الكبير … أقول لها: «ارحمي حلقك من العذاب … كفاك ابتلاع خبيء المطحنة من كميات الحبوب.»
لما رجعتُ إلى نُزل المبيت الداخلي بالمدرسة، وجدتُ المعلم سو لاوشي يقول لي: «أنت فعلًا جلَّاب خير، وبناصيتك معقودةٌ كل الأماني الحلوة.» ها قد عرفَني إذن. في تلك اللحظة عينها، جاء لي جينسان ليُبلغَنا أن زميلنا تاي جيانكوا، المقيم بالقرية الشمالية، تناول كمياتٍ هائلةً من خبز الصويا فانتفخَ بطنه ومات، وأضاف لي جينسان أن الولد لم يكن يصحُّ أن يلتقم في وجبةٍ واحدة ما مقداره جينان (كيلوغرام) من الخبز، والمشكلة أنه شرب كميةً هائلة من الماء بعد الأكل، فانتفخَ بطنه وبقي مثل جرة امتلأَت حتى بطنَت، وهنالك أجهشَ الجميع، والأستاذ سو لاوشي قال:
«كُفُّوا يا زملاء، هل سنظل هكذا … نموت واحدًا بعد الآخر، ويبكي بعضنا بعضًا … هل تقبع في انتظار الموت جوعًا كل يوم؟ كلَّ يوم ننتظر ولا نجد ما نقتات من الحبوب، والأرض مترعة بكل هذا الخصب والجو هو أكثر الأجواء مناسبةً لزراعاتٍ وفيرة؟ إلى متى ندع فتاة في رقة الورد تضطرُّها الظروف أن تجترَّ كيمامة خبيء حواصلها؟ انظروا، قد نموت جميعًا، لكن ليو شوكن لا يجب أن يموت … أنت إذا متَّ فقد ضاعت أمنياتُ العمر الصادقة التي كانت تؤملها فيك أختك.» أطرق المعلم سو لاوشي وقد سبقَتْه دموعه ومن خارج الممرات تردَّدت الصيحة كزئير غيلان: «إلى النوم!»
جاءت عطلة الصيف، فعُدتُ إلى البلدة، ولقيَني جدَّاي بترحابٍ ودعاباتٍ ساخرة:
«مرحبًا بعودة حضرة الأستاذ شوكن … شرَّفتَنا بعودتك بعد غيبةٍ طويلة يا «خواجة»!»
كان جدِّي في تلك الساعة يتأهب للخروج وقد حمل شبكته الصندوقية ذات العيون الضيقة، ومشى ناحية البوابة الكبيرة، وقد شمَّر عن ذراعَيه فظهر جلده داكنًا في لون الفحم الأسود بعد أن لوَّحَتْه الشمس، أما شويا، وبجسمها الممتلئ أكثر من ذي قبل، فقد طارت نحوي وتعلَّقَت بذراعي وصارت تهزُّها كأرجوحة.
أخيرًا … هي ذي العطلة قد أحضرَتْك وسطنا ثانية، اليوم دوري في نوبة العمل بالمطحن، لكني سأصحبك إلى شط النهر وأنت تصطاد القريدس.
قلتُ إني قرَّرتُ بشكلٍ نهائي، بل أقسمتُ، ألا أتناولَ منه شيئًا ولو بطرف لساني.
قالت شويا: «فقط هذه المرة، لأجل خاطري، وبعدها أنت حر، لا تأكل منه، كما تريد … حتى أنا أيضًا لن آكله مثلك.»
وقال جدِّي: «إذا قالوا إن الكلب لن يأكل حُثالة الأرض، فيمكن أن أصدِّق هذا القول، أما إذا قيل لي إن اثنَين نَهِمَين مثلكما لن يقربا القريدس فهذا ما لن يدخل عقلي أبدًا.»
قلت: «ولماذا تظلم الناس يا جدِّي؟»
وقالت شويا: «حاضر … متفقون على ذلك … لكن كل ما نرجوه هو أن تُسلفَنا الشبكة لمدة يومٍ واحد فقط.»
قال الجد: «مستحيل … من أبعد المستحيلات.»
قالت شويا: «تسلفها لنا يومًا واحدًا فقط … وسأُهديك بالمقابل غَليونًا نحاسيًّا.»
قامت شويا ومدَّت يدها في كوة بالجدار والتقطت غَليونًا، عبارة عن أنبوبةٍ نحاسية طولها نحو ثلث المتر، تنتهي في طرفها بمبسم للتدخين.
قالت: «الغَلْيون هذا غالٍ جدًّا، وهو أنظف أنبوبةٍ للتدخين يمكن أن يقتنيها المدخنون … هه … قل بسرعة … تريده أم لا؟» مد يده وتناول الغليون، ثم قرَّبه من عينه، ورفعه تجاه ضوء الشمس يتفحَّصه في وضوح النهار الباهر.
قال: «طيب … لأجل خاطركم هذه المرة فقط.» ثم إنه دسَّ الغَلْيون في حزامه، وقام واقفًا وتناول الشبكة المعلَّقة فوق قصبة البامبو، فأنزلها، قال: «الزما الحذَر والدقَّة في استخدامها، إياكما أن تنقطع وإلا فلن أسامحكما.»
قالت شويا: «هدِّئ قلبك … وإذا مُسَّت الشبكة بأي أذًى، فسأعطيك كل ما أهدانيه أبي من أطقم الفضة.»
قال جدِّي: «إذا كان الأمر هكذا، فأتمنى أن تثقباها مائة ثقب.» وقالت شويا: «انظر يا أخي كم هو شقيٌّ هذا الكهل!»
قلتُ ضاحكًا: «المثل السائر يقول: «كل شيخٍ وغد، وكل شاةٍ إذا كبرت تثعلبَت، والأرنبُ العجوز لا تقدر أن تخطفَه النسور».»
قالت أمي: «الناس إذا لقوا طعامًا يشبعهم، فلن يعود العجوز، مهما شاخ، عجوزَا، ولا الصغير، مهما طاش، صغيرًا.» أما جدِّي فقد أخذ يقول:
«كل هذا بسبب الرجل الأجنبي مورويا … هذه كلها أفاعيل روحه وتدبيرها … خصوصًا هذه الأيام … والغريب أني كلما أغمضتُ عيني، ولو للحظة، أراه واقفًا قُدامي … يأتي بنعجته ويحلب لبنها الزنخ ويصُبه على وجهي … وأجدني عاجزًا عن الحركة، وحتى عندما أحاول أن أتذكَّر شيئًا من النصوص المقدسة (النصوص الثلاثة عشر الكونفوشية) فإنها تهربُ من رأسي.»
قلتُ: «أسمعتِ هذا يا شويا؟ حتى جدنا يحلُم كتلك الأحلام … لكنها أحلام لا تُنبئ بمقدور … فالسيد مورويا لن يعود حيًّا.» وشويا قالت: «وأنا كذلك أراه في منامي كثيرًا هذه الأيام … يجيئني ساحبًا نعجةً عجفاء تبرز منها عظامُها … ويظل يروح بها ويغدو لدى سد النهر … ثم تظهر لي أمي واقفةً وسط الغيطان، تناديني باسمي.»
قلتُ: «ذلك كله بسبب أفكارنا في اليقظة أو أحلام النهار؛ بدليل أنها لا تتحقق دائمًا بعد ذلك.»
«لا … بل لأن رءوسنا ليست كمثل دماغك في ضخامتها …» كذا قالت شويا.
«حتى أنتِ تسخرين من ضخامة رأسي؟» ذاك «ما قلتُ» لها.
«وهل أجرؤ على السخرية منك … قُم بنا نمشي … قُم سريعًا عسى أن نلحق بصيد الليلة؛ فالقريدس يغزر هذه الأيام. منذ لحظاتٍ كنتُ واقفةً بجانب النهر، فرأيتُ الماء معتكرًا ولمحتُ أسرابًا منه تتقافز فتهيِّج القاع وتُثير الطين الراكد في الأعماق.» كانت جدَّتي تميل بجسدها قريبًا من جرَّة الماء، بيدها مجرفةٌ صغيرة تقلب بها الأرض، كأنها تريد أن تبذر شيئًا من الزرع، ففكرتُ أن أقصد إليها وأسألها عما تريد، فنهرَتْني شويا، قالت: «أقسمتُ عليك إلا تركتها وشأنها … لقد أصبحَت عصبيةً جدًّا، في الفترة الأخيرة، وأيًّا ما كان موضوع كلامك معها، فهي سرعان ما تتفُل عليك وتشتمُك … كلما كبرَت وشاخت ازداد مزاجها حدَّة … هاتِ الشبكة وأسرِع معي إلى شط النهر.»
كانت الأزقَّة الضيقة غائمة تحت الدخان الكثيف، وكأن أحدهم أوقد نارًا في حطب، وفكرتُ أن أستوضح شويا في هذا الأمر، قالت: «اسمع … لا تقُل أي شيء الآن … فهذه عمة جارنا سوين تخلط وصفة شياندان (خلاصة أكسير الحياة) … وأي كلمة تقولها بالقرب من منزلهم ستُفسِد المفعول، وتجعل الثعالب تأتي ليلًا لتسرقَ كيس الدواء.»
لا أعرف بالضبط مَن الذي رشَّ كميةَ المياه الهائلة عند حافة النهر؛ لدرجة جعلَت الماشي يكاد يتزحلق بسهولة. إذا لم يسند طولَه جيدًا، فحاولنا أن نصعد مطلع السد بكل جهدنا، فما كدنا نبلغ موطئًا نرى منه مياه النهر، حتى انزلقَت أقدامنا وارتدَّت بنا للوراء، فجاهدنا ثانيةً للطلوع، ثم انزلقنا عائدين، وبقينا هكذا كلما تقدَّمنا لأعلى الطريق وثبتَت خطانا في موضع، زلقَت أقدامنا ثانية فنكصنا إلى مزالق المسير، ولم نَدرِ كم تعاقبَت بنا تقلُّبات الدرب صعدًا وزلقًا، حتى بلغنا، في النهاية، أعلى موطئ من سد النهر، ولمَّا أردنا أن ننزل عن هذا المكان أقعَيْنا كأننا نستعد للتزحلق على جليد، فما هو إلا أن انزلقنا سريعًا حتى أسفل المطلع، وكنتُ وقتئذٍ أشعر ببرودة الحصى والنباتات البرِّية الكثيفة بجانب النهر، وإذ جهَّزنا الشبكة لإنزالها في الماء، فقد حاولنا أن نفكَّ عُقدها الملتفَّة، لكنها كانت متداخلة الخيوط، وكلما حلَلْنا ربطةً تعقَّدَت أخريات، وفي وقدة غضبي أخذتُ ألعن جدِّي … ذاك الذي لا يدع فرصة إلا ويضع العُقد في طريقنا، بذنبٍ أو بغيره. وقتها قالت شويا:
«اهدأ قليلًا ولا تشُد الخيوط قسرًا، انظر … هو ذا أنت ولد ولا تقدر أن تحلَّ عقدةً في شبكة صيد! نحِّها عنك وهاتِ أجرِّب أنا، وتأمَّل كيف أصنع … أغمِض عينَيك قبل كل شيء.» قلتُ:
ها أنا ذا أغمضتُها. فلما واربتُ جفنيَّ وفتحتُهما رأيتُ الشبكة الكبيرة مفرودةً تحت النهار الذي انطرح بضوئه الساطع ملء اتساعها، والقريدس تحت غمر النهر كان يتقلَّب ويدور في فوران النهر كأنه حبَّاتُ سيلٍ غامر تتقلَّب في لُجج الموج بيد ألف شيطانٍ عابث. قلتُ في شويا كلمةً من عبارات الإطراء بلغَت حد المغالاة، قالت:
«هل طلب منك أحدٌ أن تتجاوزَ بي حدود الوصف؟ لك عليَّ أن أتبع كلماتك لو استطعتَ أن تتخذني لك بيتا.» قلتُ:
«فماذا لو طلبتُ أن تعوي عواء كلب؟» قالت:
«وحياتك أفعل … أنصِت.»
وفي الحال برقَت عيناها كعينَي كلب، وأنصبَت أذنَيها عاليًا وهي تمطُّ فمها، وطفقَت تستنبح صوتها فيطاوعها النباح، وكان ثمَّة كلب يجاوبها عُواء وهو جاثمٌ لدى سد النهر، فكان العواء في صوته لا يستقيم إلا بما تكافأ من نباحها، فصفقتُ لها إعجابًا، وجعلتُ أربِّت على مؤخرتها، وهي تقول:
«كُفَّ عني يدك … فسيُوافيك وقتك والوقتُ ابنُ براح.» ثم كانت تميل بالشبكة في الماء على مهل وتسقط بها في غماره، وتسحب بيديها الحبل خفيفًا فتعود بجسدها إلى الوراء … لانت في يدها الدُّربة وبلغَت بالمران الحدَّ الفائق، فكانت الحركة موقوتة ببراعة وجمال وكثيرٍ كثيرٍ من الرشاقة. والشبكة غاصت في الماء عميقًا جدًّا، وعندما انشَق عن عيونها الموج، كانت تضطربُ بكائنات البحر التي كانت تتزاحم لدى فتحاتها؛ قلتُ:
«اجذبي لأعلى، ارفعي إليك الصيد، أريد أن أجد في فمي طعم القريدس ثانية.» قالت:
انتظر، لا تعجل، سأدعك تأكل الليلة حتى الامتلاء بعد أن طال نهمك إليه نصف زمان، لم تذُق فيه قَدْر ما يكفيك، فما أشقاك حقًّا! … خصوصًا والبحر مليء، والتقاط القشريات بالغ السهولة.» ثم إنها جذبَت الشبكة وهي تدوس على الحامل الضخم الغليظ، وترجع بجسمها كله للوراء وهي تجمع الخيط الرئيسي وتلفُّه دوائر دوائر؛ حتى برزَت الشبكة بعيونها الضيقة وهي تشُد وراءها فقاعاتِ هواءٍ كثيفة، سرعان ما انفثأَت مادتها على سطح الماء، وانكشفَت الشبكة مثلما تنكشف قِدْر طبخٍ عامرة، فرأيتُ أعدادًا لا حصر لها من الجمبري تضطرب وتحتشد في كَومةٍ هائلة، فتحرق حلقي شوقًا إليه، بل شمل التحرُّق كل موضع للهضم، بدءًا من المريء والمعدة. قلت:
«أسرعي برفع الشبكة؛ فكلَّما جذبتِها ارتفعَت عاليًا وأصبحَت خارج الماء بكامل كتلتها.»
وإذا بالصيد ينساب متدفقا في صفحة النهر ويسقط كله من الشبكة، فلا يبقى شيء منه بدخلها، فصُعقتُ إذ رأيتُ كل تلك الأعداد المهولة من جَنى البحر قد سقطَت دفعةً واحدة، دون حتى أن يبقى منها شيء! قالت شويا.
«المسألة واضحةٌ وضوحَ الشمس لا تحتاج لكثير شرح؛ فعيون الشبكة واسعة أكثر من اللازم. لكن، إذا كان الأمر كذلك، فكيف استطاع جدِّي أن يصطاد بهذه الشبكة نفسها كميات من الصيد؟» ردَّت شويا، وقد حمي غضبُها بعض الشيء، ما أسهلَ أن توجِّه أسئلتك إليَّ، فلِمَن إذن أتجه بأسئلتي أنا؟!
قلتُ: «انظري لنا مخرجًا من هذه المشكلة بأي طريقة.» قالت: «تُرى أي فكرة تصلح في هذا الموقف؟ أقول لك … اذهب فاقتطِف بضع حشائش برِّية وارمِ بها في عيون الشبكة عسى أن تضيق فلا ينسرب منها الصيد.» فذهبتُ على الفور أقتلع بعضًا مما نبت عند حافة الماء وانتقيتُ ما لانت سيقانه ونضرت به الخضرة، فهالني أن رأيتُ جذوره مليئة ببويضات النمل الأبيض، ثم إذا أسرابُ نمل طالعةٌ من جحورها، فتسلَّقَت حشودُها أطرافي وتعلقَت بقدمي وساقي وذراعَيَّ، وهززتُ قدمي علَّني أنفضُها عن جسمي، فكنتُ كلما هززتُ أطرافي ازدادت الأسراب الزاحفة فاستولى عليَّ الأسى، وقلتُ: «ماذا بيدي أن أفعل يا شويا؟ … انظري إلى ذلك النمل الموبوء باللعنة، هو ذا يسعى لافتراسي!»
قالت شويا: «ليس أمامك إلا الجري بما أُوتيتَ من سرعة … بكل ما في عزمك اجرِ … ألقِ الآن بما في يدك من حشائش إلى قعر الشبكة، ثم اسبقِ الريح عدْوًا إلى سد النهر، واتفُل بصاقك في وجه الشمس ثم أطلق بفمك الصفير؛ لينفضَّ عنك النمل ولا يعود يكبِّلك في إساره.» ففعلتُ مثلما نصحَت لي، فصرتُ أرمي بالنبت الأخضر في الشبكة، وأخذتُ أجري تجاه سد النهر وأنا أتفُل قبالة الريح وأصفِّر صفيرًا عاليًا، فانزاح عني النمل وما عُدتُ أجد له أثرًا، والتفتُّ خلفي فإذا شويا تُلقي بالشبكة مرةً أخرى إلى قاع النهر، فقلتُ لنفسي:
«لو لم تخرج هذه المرة من قلب الماء، ولو بقشريةٍ واحدة من القريدس، فلن أعود لأجرِّب الصيد عند سد النهر، ولا عزمتُ إلا على المضي عائدًا إلى البيت أستذكر دروسي.»
لكنها راحت تمازحني وتتصنَّع وجه المرأة الكبيرة، ابنة الزمن الضروس، تنظر لي كأني ابن عمرها، تقول:
«تعال يا شوكن … لا تأسَ على ما فات، ها أنا ذي أضمن لك أن تأتي الشبكة، هذه المرة، بصيدٍ وافر، فإن لم تأتٍ بشيء فسوف أرمي بنفسي في خِضَم النهر وأموت غرقًا.» قلت:
«هل ينقصنا هذا الكلام؟ إذ حتى لو افترضنا أن الشبكة خرجَت خاليةً من القاع، فلن أدَعكِ تُغرقين نفسك، فما لحياتي بعد موتك؟ هو ذا أقول لك الآن كلمةً خفيضة الوقع وأُقسِم عليك ألا يثور غضبك: ألسنا إذا تزوَّجنا، يجيئنا أطفال يجمعون في خصالهم بين الذكاء والجمال؟ أليس من المضمون أن ينتج عن اندماج صفاتك المهجَّنة ورأسي الضخم أولاد أذكياء يمتازون بمسحة من جمال؟»
أخذَت تُقهقِه عاليًا، قالت: «هجين النبات حصدٌ غزير الجودة … وهجين الإنسان نتاجٌ وافر الجمال (كذا يقولون).» جمعت الخيط وهي تضحك، وكانت العيون وافرة الصيد تضطرب بملء أثقال، ولمَّا فارقَت الشبكة الماء، رأيتُ كمياتٍ من القريدس قد تعلَّقَت بالنباتات المنبثَّة في قاعها، وكانت غائصة فيها حتى كأن الخضرة قد فارقَت أهداب الحشائش، ثم انثنَت الذراع التي تحمل الشبكة؛ كمثل قوسٍ انثنَت، وصارت أدنى إلى أن تنقصف، فأسرعَت يدُها تنقل حمولة الذراع إلى ما بين سد النهر وخِضَم الماء، لدى الشط الرملي المنبسط، وكنتُ أهتف جذلًا وأندفع صوبَ الصيد فأجمع منه ملء كُفوفي وأحشو جوفي، واليد بقنصها مثقلة والقلب طافر فرحًا فوق فرح. كنتُ أرتعش، يا للسماء! من السعادة الغامرة … أرتعش بجنازير مصلصلة وسلاسل تصطفق حول حلقي وتدور حول رأسي دوائر، وجُمْعُ شعر رأسي الناعم القصير، بذؤاباتٍ صفراء تلذعه قُشَعريرة كأنها تيار كهرباء يتخلل ثنايا دماغي. ألتقمُ طعامَ البحر فيحتشد في حلقي وتطفر عيني بدموع، وأسألها لماذا لا تأكل هي الأخرى، فتكتفي بالنظر نحوي باكية.
أقول: «مدِّي يدكِ يا شويا … واحفني قدْر الكَفِّ واملَئي حلقك.» لكنها لا تقرب شيئًا، فأقبض على قشريات فيها الروح تتقلَّب بنبض حياة وأحشو به فمها قسرًا، فتتراجع وينثَني جذعها، ويعلو صوتُ نحيبها حتى تتقيأ طعامها الذي طاب لها آنفًا، ويسقط القريدس في ماء النهر مختلطًا بأثر دماء، فيبقى في حال السكون ثوانيَ معدودة، ثم ينتفض ويتفرَّق في الماء جماعاتٍ شتَّى، ولا يلبث أن يختفيَ عن الأنظار تمامًا، ولا يبقى منه سوى دواماتٍ كمثل الغمازات الطفيفة في وجه النهر.
قلتُ: «مالك؟ ماذا جرى لك الساعة؟»
قالت: «ما عاد يستقر شيء في جوفي منذ أن لجأتُ إلى تكديس معدتي بالحبوب المسروقة واجترارها مرارًا، فوصلَت بي الحال الآن إلى أن أصبح الطعام يندلق من معدتي بمجرد أن أميلَ برأسي، أو أفتح فمي على اتساعه، دون حاجة على الإطلاق إلى استثارة حلقي بالعصا الخشبية.»
اغتممتُ واشتملني حزن، فما العمل إذن؟ وكيف إذا بقيتِ هكذا؟ أنتركك تهلِكين جوعًا؟ وما هي إلا أن انتابَتْني نوبة بكاء، وتقلَّبَت معدتي وطفق القريدس ينثني ويدور ويقبض على جدار أمعائي حتى جاشت نفسي، وما كدتُ أميل برأسي حتى انفتحَت طاقة فمي غصبًا عني، وتدفقَت من جوفي قشرياتُ البحر أسرابًا وراء أسراب، تتقافز وتندلق من فمي فتسقط في صفحة الماء تشوبها خيوطُ دماء، بقيَت كذلك فوق وجه النهر ساكنةً لثوانٍ ثم هاجت بها روحُها فراحت تُهرع طافرةً في كل اتجاه، وغلبَني القيء فأفرغتُ من حلقي ما طعمتُه في يومي هذا وفيما انقضى من سابق الأيام، ألقيتُ به كله في خِضَم بحرٍ جارٍ، لكن انظر … هل صحيحٌ أنها كانت قشريات طعمتها في أيامٍ خوالٍ؟ نعم، فقد رأيتُني ألفظ منه أسرابًا لوَّحَتها مياهٌ فائرة تغلي، فاستحال لونه إلى الحمرة الناضجة، فكان إذ يسقط في النهر تلقفه الأسماك السابحة في غمار الجريان. ووقتئذٍ، انقطع القيء فزالت عن جسمي أثقاله، وافتضَّ رأسي خواءٌ ما رأيتُ له من قبلُ مثيلًا، حتى تهيَّأ لي أن دفقة رياح قد تطويني وتُلقي بي في خمود الزوابع. وهتفَت شويا بي: «تعالَ أمضِ بك إلى البيت.» فطوَّحنا بالشبكة من أيدينا وصرنا نمشي صُعُدًا، وهي تتأبَّط ذراعي، وكنا نغذُّ السير كأنا نطير، ومرَرْنا بالشجر والبيوت، نمرقُ مروقَ البرق عبْر الدروب، حتى باب بيتنا مرَقْنا به كمثل سهمٍ طائرٍ طرنا ووراءنا كانت تعدو أمُّنا وتنادي، تلهث كانت وهي تدعونا بأسمائنا، ولم يكن في مقدورنا أن نتريث، وبقي الوقوف ضربًا من مُحال. ثمَّة جسدان ذوب عناق، فكنتُ أجد في رهافة الندى الرطب فوق جلدها نداي، ومرارة العشب الطازج في فمها أيقظَت لي ذكري ما انقضى وفات؛ كل ما انطوى طيَّ الرقاد وتوارى في رحيل الأيام عاد وتجلَّى أمامي، أُبصِره كأنه مشهدٌ تمثيلي، وكأنني أعيش أدواره وأحنق على كل صاحب دورٍ ارتكب فوق المسرح ولو هفوةً أو سقطةً من نص الحوار، أو حتى حركة قدم في غير موضعها، أو تعابير وجه أفسدَت روعة المشهد، وكل ما لم ينفلت من ربقة الذكرى، وكانت عيني وأذني عليه رقيبًا يُحصي الهفوات …
دقَّت ساعة الفجر، فاعتدلتُ أريد الوقوف، وانتبهتُ إلى صرير الفِراش العلوي، وداخلَتْني الحيرة فمددتُ يدي أتحسَّس خصري، فإذا كتلةٌ لزجة لصق جسمي قد انطرحَت مع البلل والبرد.
حملتُ الحقيبة فوق ظهري وغادرتُ المدرسة دون أن أُلقي على أحدٍ تحية وداع، وقلتُ لنفسي إني ماض كي أدخل بشويا وأتخذها امرأتي، وكل ما دون ذلك مجرد عبثٍ وتُرَّهات.
فوق سد النهر تحلَّقَت مجموعةٌ من الواقفين، ومن بين جموعٍ محتشدة تردَّد بكاءٌ موجع، وكان ثمَّة أمٌّ مرتاعة، نجيبها كمثل ثُغاء شاة. فشققتُ طريقي وسط زحام المتحلِّقين، ورأيتُ بعينَي رأسي جثمان شويا مطروحًا فوق حصيرة وقد انتفخ لكثرة ما بقي في مياه النهر.
قالت واحدةٌ من الناس: «يتهيَّأ لي أن لها الآن ثلاثة أشهر … ثلاثة أشهر مرَّت عليها، بالتمام.»