قراءة في الأدب الصيني

لو كان صحيحًا أن براعة الروائي الصيني مويان في المزج بين الواقعية السحرية والحكايات الغرائبية المعهودة في التراث الصيني القديم، هي المسوِّغ لحصوله على جائزة نوبل في الأدب، إذن لاستحقَّها معه بالتساوي عددٌ من أهم كُتاب القصة في جيلِ ما يُعرف ﺑ «أدب البحث عن الجذور» … وهؤلاء كثيرون جدًّا، منهم ليو سولا، شوشين، تسان شيو، جاهيداوا، هونفن، يو هوا، سوتون، مايوان (قد يقترب هذا الأخير في نطقه مع مويان، أديب نوبل، فاعرِفه) والأساس الإبداعي عندهم جميعًا يقوم على فكرة الانتصار لطاقات الحياة البدائية، وكشف الجوهر العبثي للإنسان، تنديدًا بضعفه وزيف ثقافته الحديثة. والكتابة الروائية عند كثير منهم تجسِّد إحساسًا بعبث الوجود، لكن منابع إلهامهم لم تأتِ مباشرةً من نماذجَ غربية الطابع؛ صحيحٌ أنهم استفادوا من الترجمات والمدارس النقدية في الغرب، لكنها استفادةٌ دون نقل! فلم تكن القصة، حتى في التراث الفكري والأدبي الصيني القديم محلَّ احتفاءٍ أو استحقاقٍ لجدارة، وكثيرًا ما اعتبرَتْها الكونفوشية مجرد هزلٍ وثرثرة صبيانية (كذا … وبمنطوقها القديم والباقي حتى اليوم، في الصينية شياو شو؛ أي الكلام التافه، الحديث الفارغ) ولم يكن للكتابة الروائية أن تحتل مكانةً معتبرةً إلا بما اشتُقَّت من الأساطير القديمة، أقدمِ واقعٍ سحري نهلَت منه أجيال الكتابة في أوائل الثمانينيات، حتى قبل أن تجريَ أقلام المترجمين بنقل نصوص غارثيا ماركيز؛ ذلك أن الساحة الأدبية كانت وقتئذٍ تبحث عن يقينٍ ضاع منها إبَّان الثورة الثقافية … لم يكن ثمَّة أساتذة (هذه المرة حقًّا وفعلًا … دَعْ عنك ما كان يقوله أستاذنا محمد حافظ رجب، تحت ظروفٍ مختلفة، بشأن أجيالنا الأدبية في ستينيات الأدب العربي بمصر) فكانت العودة إلى الجذور الثقافية، حتى بمحتواها المتضمن لشرائحَ عريضةٍ ممتدة من التراث الكونفوشي إلى الفولكلوريات الشعبية، فتشكلَت ملامحُ يقين بالأسطورة منسجمة مع تقاليدَ باقية في المواريث، وكانت الكلمة المفتاح في فهم اتجاهات الإبداع، منذ أوائل القرن العشرين، أو هكذا قد يُقال، ثم إن تاريخ الحداثة في الصين يبدأ أيضًا مع حدٍّ زمني قاطع بين زمنٍ قديم انتهى وفات، وعصرٍ جديد بدأ يشُق طريقه إليها فيما سُمي بحركة الرابع من مايو ١٩١٩م.

لكي نحدِّد موقع مويان كروائيٍّ صيني متميز، ونقف على قيمة إبداعه، من المفيد أن نستحضر أجواء المرحلة الأدبية التي ينتمي إليها، ونعيِّن صلتها بمجمل حلقات التطور في مسيرة الأدب الصيني المعاصر.

نستطيع أن نقول، بدرجةٍ كبيرة من الثقة، مدعومة بأسانيد مؤرخي الأدب واتفاق معظم مدارس النقد الأدبي، أن مسيرة الأدب الصيني المعاصر بدأَت في الصين الأم مع تأسيس الجمهورية في عام ١٩٤٩م (والمعاصرة في الأدب الصيني جزء من اتجاه التحديث الأدبي الذي بدأ، كما أسلفتُ في ١٩١٩م)؛ حيث تبدأ المرحلة الأولى من تاريخ الأدب المعاصر (أتكلم عن محتواه في الإبداع القصصي) مع أول الخمسينيات، وتُعرف في اصطلاح تاريخ النقد باسم «مرحلة السبعة عشر عامًا» وسيقترب فيها المبدعون من معالجة التناقضات الاجتماعية الكبرى، وتثمر محاولاتهم أعمالًا ناجحة، كرَّسَت لهم وضعًا فريدًا في ساحة الكتابة الروائية؛ فعرف الناس كتَّابًا مثل: رو جي جوان، لوون فو، وانغ منغ (سيتولى وزارة الثقافة فيما بعدُ، ويؤسِّس لاتجاه تيار الوعي في الرواية الصينية، مطلع الثمانينيات) في هذه المرحلة ينجح الإبداع الروائي في أن يرصُد التغيُّرات الحياتية السريعة جنبًا إلى جنبٍ مع مظاهر الحياة النضالية للثورة الاشتراكية، وفصول رائعة من تجارب بلد في خِضَم تحولات بالعمل والبناء، ولم يغب عن باله تسجيل تناقضات البيئة الاجتماعية في حينها، وقد شهدَت مرحلة السبعة عشر عامًا فترتَين تميَّزتا بالحيوية الشديدة:

– فترة ما قبل العام ١٩٥٦م؛ حيث سيكتب الروائي «جاو شو لي» عن أحوال الريف الصيني (قبل أن يُولد مويان بنحو أربعة أعوام) ويقدِّم روائع القصة الصينية المعاصرة: تدوين الأسماء، قصة أفسدها المونتاج، زوايا الحب المنسية، العم شوماو وبناته، أهل المعجزات ينزلون القرية، على هامش سيرة الغرام، تغييرات جبلية؛ وكلها كانت تأخذ بمنحًى واقعي أسهمَت في تعميقه كتاباتُ مبدعين آخرين ساروا على نفس المنوال، مثل: ما فنغ، ولي جون، وجوليبو … فهؤلاء جميعًا أخذوا موضوعاتهم من قلب الريف الصيني، وبرغم ما حقَّقوه من إنجازاتٍ رائعة، فقد كان يؤخذ على أعمالهم عجزها عن نحت صورٍ بطولية في زمنٍ شهد ملاحم أقدارٍ ريفية، لم يرَ التاريخ الصيني مثيلَها منذ زمان، مع ضعفٍ في إبراز العالم الداخلي المعقَّد للشخصيات وترهُّل في أساليب السرد.

– أما ثانية الفترات فيُقصد بها بداية الستينيات؛ حيث سادت أجواءُ استقرارٍ عام، برغم الظروف الاقتصادية الصعبة، وتمكَّن السرد الروائي من أن يلمحَ الواقع الموضوعي لمجتمعٍ يحفل بتحوُّلات ويموج بأحوال. وهنا سيبرز دور قاو شياو شنغ (الروائي العظيم الذي سيُغفَل ذكره طويلًا، دون أن يُنكَر دوره!) حيث سيشترك مع عدد من الكُتاب، سنة ١٩٥٧م في تأسيس مطبوعة «الاستقصائيون»، لكن يتم استبعادهم من الساحة الأدبية، على خلفية اتهام بأخطاءٍ سياسية، وبعد عشرين عامًا يعود قاو شياو شنغ، بقصة «العم شون يبني غرفة»، فتبرز براعته في رسم العالم النفسي لشخصياته وتصوير تقلُّباتهم عبْر أسلوب في الكتابة كان «يمزج حقًّا بين أساليب الكتابة الروائية الصينية التقليدية، ومفاهيم الكتابة الحديثة» (قبل أن تُصدِر لجنة التحكيم السويدية قرار منح الجائزة ﻟ «مويان» بتقدير نفس القيمة، وبنصوصٍ قريبة من أحكامها، رغم صدورها عن أقلام النقاد الصينيين، للكاتب «قاو شينغ شنغ» منذ نحو خمسين عامًا تقريبًا) حتى إن كتاباتٍ نقدية كانت تقدِّر له دورًا مساويًا لأولئك الذين خرج الأدب الصيني الحديث من جعبتهم، مثل لوشون وجاوشولي.

على مدى مرحلة السبعة عشر عامًا، بلغ الإنتاج القصصي زُهاء ثلاثمائة رواية، ثم تلَتها المرحلة الثانية لتبدأ في عام ١٩٦٦م، وتستمر نحو عشر سنوات هي كل الفترة التي استغرقَتْها سنواتُ ما سُمي ﺑ «الثورة الثقافية الكبرى»، وهي الفترة التي انتُقصَت قيمة إسهامها في مواصلة تقاليد الكتابة الجديدة وتطوير سماتٍ إبداعية جرى اكتشافها في المرحلة السابقة، بل وُصمَت بأنها … «أصابت التصورات الأدبية بالجمود والانغلاق، واتخذَت موقفًا مناقضًا من ضرورة تطوير الطابع الجمالي للتنوع الأدبي وفهم دواعيه، بل عملَت على تسييس الأدب بصورةٍ متزايدة، عبْر رؤًى انغلاقية أحادية راحت تفرض على الإبداع (اقرأ: الروائي) مطالبها السطحية إيعازًا باصطناع أدوارٍ ووظائفَ سياسية، مما باعد بينها وبين مفاهيم المسعى الثقافي الذي اضطلعَت بأعبائه وعملَت تحت رايته، فأفرغَت الأدب من مضمونه لصالح تعبئةٍ أيديولوجية، وسلبَتْه وجوده المستقل وتفرُّده وخصوصية طابعه، حتى صار بعضًا من «سياسة» أدبية، أو أدب «سياسي» … ذلك هو ما آلت إليه أحوالُ الأدب أيام الثورة الثقافية … أو هكذا يقولون!»

ولأنه لا يمكن تقييم آثار الثورة الثقافية بموضوعيةٍ كاملة، حتى اليوم، فلا يمكن الوقوف عند جانبٍ واحد من تقدير أحوال الكتابة الروائية في زمانها، فهناك أيضًا (وعن نفس المصدر الذي أنقل للقارئ جانبًا من نتائج أبحاثه … نصًّا حرفيًّا) رأيٌ آخر يناظر قائلًا: «إن اللون السياسي البارز كان إحدى السماتِ الفائقة التي اتضحَت في ملامح الكتابة الأدبية؛ ذلك أن انتصارَ الثورة الشعبية هو الذي حشد المبدعين صوبَ تجمُّعٍ أدبي التأمَت به أهدافُهم، واتضحَت عنده رؤاهم، ونضجَت في خِضَمه أحاسيسُهم بالمسئولية الاجتماعية، وتلك نقلةٌ تقدمية بالتأكيد، وأمام تجربة انتصارٍ تاريخي وواقعٍ اجتماعي جديد، انبعثَت طاقاتُ الحماس السياسي لدى الكُتاب فمضَوا مدفوعين بإرادة الواجب الطوعي لاستقصاء ملامح الحياة الاجتماعية من وجهةٍ سياسيةٍ شابَّة ومنتصرة، حتى إن عددًا من المبدعين القدامى ألقى جانبًا بمساره الفكري لينخرط وسط حياةٍ مختلفة وجماهيرَ جديدة وتجربة حياة بطولية واعدة بمداخل إبداعٍ لا حدود لها، وكان زخم الحركة السياسية الاجتماعية بواقعها الهائل يُلهِم غير قليل من الأقلام المبدعة، حتى خاضت تجربة الكتابة في موضوعاتٍ ذات طابعٍ سياسي التحامًا بوسائل وأغراض التعبير عن أحوال التغيير الكبرى السائرة قدمًا.»١
المرحلة الثالثة والأخيرة في تاريخ الأدب الصيني، بدأَت عام ١٩٧٩م، ويُطلَق عليها اصطلاحًا «الفترة الأدبية الجديدة»، وهي التي ستشهد ظهور مويان ضمن أجيالٍ شابَّة. وكانت اضطراباتُ السنوات العشر السابقة إبَّان الثورة الثقافية قد شكَّلَت اتجاهًا داعيًا للخلاص الفكري، وتبلورَت عوامل تدفع نحو تبديل ملامح الإبداع القصصي، منها: انقلاب البناء الاجتماعي، اختلاف الحالة الذهنية والنفسية عند الناس، ظهور تياراتٍ فكرية جديدة، بروز اتجاهاتٍ جديدة على مختلف الأصعدة؛ أهمها — في الكتابة الروائية — هو التحول من القالب السياسي إلى الاجتماعي، من الوعظي الأحادي إلى الجمالي المتنوع، من النمط الأساسي القاعدي إلى الخلق الإبداعي المستقل؛ مما أتاح «للفترة الجديدة»، بتياراتها في التحرر الفكري والتغيير الاجتماعي، أن تُحدثَ انطلاقةً أدبية تحررية، هيَّأَت الظروف لخلق بيئةٍ مواتية لإبداعٍ متجدد؛ فتشكلَت عدة تيارات في الإبداع الروائي، توالى ظهورها من نهاية السبعينيات حتى منتصف الثمانينيات تقريبًا، منها: أدب الجراح، أدب المراجعة، أدب الإصلاح، أدب البحث عن الجذور. كان أدب الجراح مع أدب المراجعة قد … «اقتحم كلاهما المنطقة المحرمة في الموضوعات الأدبية، وعَمِلا على تكسير القالب الفكري القديم» (هنا، لاحظ جيدًا أنها بداية العودة (قل الدعوة مجددًا) إلى تقاليد الكتابة الأدبية التي دعت إليها حركة الرابع من مايو ١٩١٩م … فقد كانت تلك هي أهدافها بعينها، وإن اختلف الزمن والظروف!) وظهرَت أجيالٌ من المبدعين — الشبَّان على الغالب — انتقلَت بوجهة الإبداع من الاهتمام بالأطر الخارجية للحياة الاجتماعية (أي كتابة الحركة الحياتية ذاتها وملامح سيرورتها ومدى ارتباط وجود الشخصيات بالحركة والمسار وضرورات الأحداث) إلى كتابة مظاهر الحياة عبْر تشكُّلها بشروط أحوالها الداخلية، في أجوائها وبدلالاتها المتفردة (أي تعيين مسار أقدارها، ومدى ارتباط مصير الفرد بمجتمعه؛ حيث انتقلَت بؤرة الاهتمام من المجتمع إلى الإنسان الفرد). جيل الفترة الجديدة اختلف تمامًا عن جيل الخمسينيات؛ إذ لم تكن بداية الطريق أمامه نحو الأدب، تفرض الامتثال لقالبٍ أدبي؛ ذلك أن ما قدَّمَته حركة التاريخ من محتوياتٍ غنية في واقعها وتطوُّرها، مع أوائل الثمانينيات في الصين، منحَت أدب الفترة الجديدة جوانبَ متعددة من الوعي بواقعٍ مختلف يفرض المراجعة والتصحيح، ويلمح اتجاهات تطوُّر الحياة الاجتماعية ويدفع، من ثَم، لإحداث نقلة في الوعي الجمالي، فاتسعَت رؤية المبدعين تجاه عالمٍ بأَسْره … قل إنه انقلابٌ تجديدي، إذن، لكن في ساحة الإبداع الأدبي بخاصة، وتحديدًا في منطقة الكتابة الروائية، صحيحٌ أن بعضًا من موضوعات القصة بقي متشبثًا بالقالب والشخصيات والمنحى القديم، لكن الاتجاه الرئيسي والسمات الأساسية كانت لصالح حساسيةٍ جديدة، وخصوصًا في الكتابة القصصية القصيرة التي اكتسبَت بأساليبها الفنية وجودًا أكثر وضوحًا وثراءً من الرواية، في الفترة من ١٩٧٩م إلى ١٩٨٥م، وكان وانغ منغ، ورو جي جوان يشُقان النهر الأدبي بموجةٍ جمالية جديدة مغايرة لتيار أدب الجراح والمراجعة، فأدخلا التجريب في الخيال والرمزية والكوميديا السوداء، بإضافة «تيار الوعي» إلى أساليب الكتابة الصينية، ثم تدفقَت وراءهما موجةٌ أكثر عنفوانًا منحَت سلطة التقييم الأدبي كاملةً للقارئ، وكان المحكُّ في جِدِّية هذا المنحى يأتي مباشرة — وعبْر أشياء كثيرة — من تلك الكتابات التي استلهمَت مشاهد الريف الصيني الحديث، والمدن العمرانية والجامعات والمصانع؛ أي باختصار، كل المواقع التي تُبرز ملامح الحداثة (مرةً أخرى، استلهامًا لمبادئ حركة التحديث «الرابع من مايو»).

لكن لنا هنا ملحوظةٌ مهمة للغاية، وعلى مسئولية كاتب هذه الكلمات ليس غير، وهي أن التجريب في تيار الوعي على يد وانغ منغ وآخرين غيره، شأنه شأن غيره من اتجاهاتٍ نقدية وتياراتٍ فكرية، مأخوذة من مصادرَ غير صينية، كانت (وفقط) في سطحها القشري محل استفادة — كمعطًى شكلي — باعتبارها رافعةً لعناصر تجديد صينية في روحها وجذورها؛ فقد ساد تيار الوعي بطابعه الشكلي وسماته المظهرية دون فحواه الفلسفي؛ إذ تمَّت معالجته وفق مزاجٍ صيني تقليدي؛ لذا فقد أطلقَت عليه مدارس النقد الأدبي «تيار الوعي الشرقي» (هذه ليست من عِندِيَّات كاتب الدراسة) وكانت تُسمِّي قصص وانغ منغ، وروايات الكاتبة تسونغ بو ﺑ «تيار الوعي الصيني» باعتبار أن الكتابة هنا كانت تستلهم مذاقًا محليًّا يستبعد العبث من طياته. كانت موجة الرواية تضم أسماء: ليو سولا، شوشين، تسان شيو، مويان، هونفن، يو هوا، سو تون، كايفي، وكلهم يمثلون الحداثة، ذات الطابع الصيني (كذا يُقال)، ولو أن كتاباتهم سواء في اتجاه موضوعاتها أو أدواتها السردية أو أساليبها الفنية بعيدة المدى عن الطابع الجوهري لأدب الحداثة، وربما مع بدء دخولِ مفاهيمَ جديدة إلى ساحة النقد، مع حركة الترجمة النشطة والمتزايدة، ظهر تأثيرٌ عاجل لآثار ما بعد الحداثة عبْر نصوصٍ مترجمة، فتشكَّل، بالتوازي اتجاهٌ أدبي (وفلسفي) يبحث عن قيمة ومعنى حياة الإنسان من وجوده الذاتي، ولمَّا كانت أجواء الكتابة فيما بعد الثورة الثقافية يسيطر عليها مسعَى البحث عن الحقائق وسط غابات اللامعقول؛ حيث الأجيال بلا أبٍ أو أساتذة أو حبلٍ أموميٍّ سُرِّي يربطها بالتاريخ والتقاليد الثقافية، ولم يكن ثمَّة بيتُ عائلةٍ صيني يرجعون إليه؛ فقد اضطُرَّت جحافل المبدعين الشبَّان إلى الهرب بعيدًا في أغوار الماضي السحيق (على المستوى النفسي) أو زوايا اقترابٍ مباشر من غرائبيات الفولكلور، أو حتى لدى مساقط الأنهار، والقرى البعيدة والتلال، بحثًا عن علائقَ تربطهم بجذور حياة.

وبالتالي، فقد اتضحَت ملامحُ موجةٍ أدبيةٍ جديدة في عام ١٩٨٥م، بدت غريبةً على أجواء الكتابة الروائية، أُطلق عليها «الموجة الجديدة» غمرَت الساحة وشكلَت اتجاهًا جماليًّا مختلفًا عن الواقعية التقليدية، ذلك هو «أدب البحث عن الجذور» كان من روَّادها: هان شاوكون، آتشنغ، جنغ وانلون، ليو سولان، مويان؛ حيث شقُّوا لأنفسهم مرحلةً مختلفةً في الوعي الجمالي الروائي، تنأى عن الوضوح والخط السردي الواحد، وأهملَت القالب الروائي المكثَّف المكتمل الأركان، فأخذَت بنصيبٍ وافر الدلالة الفلسفية الحديثة، وبنصيبٍ أعظم من التلوين الأسطوري، استقصاءً للاوعي الضمير الجمعي وأعماقه غير العقلانية (تأثير الاتجاهات السيكولوجية ملحوظ بقوة) في منحًى يكاد يتناقض مع منظومة الإبداع القصصي عمومًا.

أحد مجالات «البحث عن الجذور» راح يتخذ موضوعاته من الحياة البدائية، بينما انصَب اتجاهٌ آخر على الاهتمام بثيمات الكتابة عن القوميات الصينية وقبائل الأحراش والمراعي وقوافل الخيول؛ أبرز الأعمال في هذا المجال، رواية «رومانسية ملء الأرض والسماء» للكاتب آتشنغ، أما السمة الأخرى لهذا الاتجاه، فتتمثَّل في نهل موضوعاته من التراث الصيني القديم، بما فيه المأثور الشعبي، بما تضافر معه من مواريث التقاليد الكونفوشية والطاوية. قصص هذا الجيل كانت تجسِّد في معظمها إحساسًا بعبثية الوجود، لكنها كانت تختلف عما يقابلها في الغرب؛ إذ كان الكتاب الصينيون يحاولون التمرُّد على ما يعترض طُرقَهم الخاصة في التعبير عن ذواتهم … ومن ثَم كانت محاولتهم الدائبة في استكشاف أشكالٍ جديدة للسرد، تقوم على تنوع أساليب الحكي، وهكذا نجد عند مويان وهونفن ويو هوا، وسو تون، وكايفي — وكلهم يشكِّلون اتجاه ما بعد الحداثة — سمات تتجاوز المنحى الحداثي، خصوصًا وقد تحوَّل مرتكز الكتابة عندهم من «ماذا نكتب؟» إلى «كيف نكتب؟» حيث وضعوا القصَّ فوق القصة في انقلابٍ جذري على أساليب ورؤى الإبداع الروائي الصيني، وحسب تعبير إحدى القراءات النقدية المعتبرة لإنتاجهم … «فإن ذلك قد يمثل نقلةً نوعية في الوعي بنمطٍ جديد في الكتابة، ولو أن خلخلة الحدث الحياتي أضعفَت دلالة الواقع الاجتماعي في الرواية، وهو ما أتاح لإنجاز الحداثة وما بعدها أن يُسهِم في تحطيم جمود القالب الأدبي؛ ليفسح الطريق أمام طاقات الكتابة، ويضيف مددًا لمجموع السمات اللغوية والحس الروائي.»

تأثَّرَت عبثية هذا الجيل من الكُتاب بفلسفة الحياة عند برغسون، وتحليلات فرويد وأبرز من يمثلون هذا التأثر اثنان؛ هونفن، ومويان، علمًا بأن الأساس في إبداعهم يقوم، في بعضه، على فكرة الانتصار لطاقة الحياة البدائية (الليبيدية) وكشف الجوهر العبثي للإنسان.

بهذه الخلفية دخل مويان إلى الساحة الأدبية، لأول مرة، عام ١٩٨١م، عندما نشرَت له مجلة lian Chi قصة بعنوان «قطرات مطر في ليلة ربيعية»، وكان وقتها يقضي مدة الخدمة العسكرية بمدينة باوآن بمقاطعة «هيبي»، قبل ذلك بعدة سنوات كان قد كتب عدة مسوَّدات لقصصٍ قصيرة وأرسلها لمطبوعاتٍ أدبية مختلفة، لكنها لم تُنشر. ولطالما كان يؤرِّقه الحنين إلى قريته «كاومي» بإقليم شاندونغ شمال شرق الصين (حيث وُلد في ١٩٥٥م)، وذلك على الرغم من سنوات طفولته البائسة في أجواء فقيرة لم تُتِح له سوى القليل من فرص التعلُّم والقراءة، حتى إذا فرغ من قراءة أعداد الكتب الضئيلة، لم يجد إلا قاموسَ «شينهوا» فأخذ يطالعه مرارًا ويحفظ بعض مواده! ضاقت سبل العيش به حتى عمل أجيرًا في مصنع للزيوت وهو شابٌّ في الثامنة عشرة من عمره (ضائقته لن تنتهي حتى بعد حصوله على المكافأة النقدية لجائزة نوبل؛ إذ لن تسمح له إلا بشراء ما لا يزيد عن مائة وعشرين مترًا فقط من أرض بناء لا تكاد تكفي مساحة فيلَّا كان يحلم بها!). عمل لفترة في رئاسة أركان جيش التحرير الشعبي (قسم التوجيه السياسي) والتحق في ١٩٨٤م بالقسم الأدبي بكلية الفنون الجميلة التابعة للجيش الصيني، وفي ١٩٨٥م نشر روايته «الفجل الأحمر»، ثم انتهى من رواية «الذرة الرفيعة الحمراء» في ١٩٨٦م، لكن كتابة الرواية كانت تتطلب وعيًا واطِّلاعًا مدروسًا؛ فبادر إلى مواصلة دراساته التكميلية ملتحقًا بمعهد لوشون للدراسات الأدبية في ١٩٨٩م، وفي تلك السنة نفسها كانت مجلة «رنمين ونشيو» (أدب الشعب) قد أجرت استطلاعًا بين القُراء حول معدَّل القراءة التي يحظى بها الأدباء الشبَّان، ففاز بالمركز الأول باعتباره «الكاتب الحاصل على أكبر نسبة قراءة». لم يتخلَّ عن أمله في فرصةِ تعليمٍ راقٍ، وواصل دراساته العليا في جامعة «شيفان» ببكين (إحدى المؤسسات التعليمية المرموقة حينئذٍ).
كان لوشون، عميد الأدب الصيني الحديث، يقول في دراسةٍ مهمة له عن تاريخ القصة الصينية إن أهم ملمحَين يلفتان نظر الدارس المدقِّق في أحوال الرواية الصينية، على مَرِّ التاريخ، هما: «النكوص» … أي تشبُّث مسار الإبداع بنمطٍ أو مثالٍ أو أسلوبٍ قصصي انتهى زمنه، و«الدمج»؛ فأنت تجد لونًا من الكتابة القصصية قد عفا عليه الزمن لكنه يعاود الظهور، تحت قناعٍ مختلف، بل يُوجِد لنفسه طرائقَ خاصة يتخلَّل بها نسيج الكتابة القائمة ويندمج في طيَّاتها منسجمًا مع ذائقة العصر الجمالية … شيء من هذا، تقريبًا، نلحظه في رؤية مويان للاتجاه التاريخي في الرواية (خصوصًا في كتابات جيل البحث عن الجذور، وهو يُعيد كتابة فصولٍ منسية من تاريخٍ قديم بحسبانه جذرًا ملهمًا لاستقصاء الحقائق) حيث يعتبر أن القصة التاريخية الجديدة ليست نفيًا لتراث القصة الثورية — كما عهدناها في المراحل السابقة — بل هي استمرارٌ طبيعي لها، مؤكدًا أن إبداعاته الأولى تأثَّرَت بالقصة الثورية؛ ذلك أن قصة «القنبيط المُر» للكاتب «فنغ ديين» Feng De ying تركَت آثارًا عميقة في كتابته لرواية «الذرة الرفيعة الحمراء»؛ فبعد قراءته لها في شبابه أحسَّ أن وصفَها للحب واقعيٌّ جدًّا ووحشي للغاية أيضًا، فلما قرأَها ثانية تأكَّد من أن هذه الكتابة لا يُبدِعها إلا عبقري رواية، وأضاف أن جوانبَ من وصف مشاهد الحرب في روايته المشار إليها تكاد تتماثل مع أسلوب قصة القنبيط المُر في كثيرٍ من فصولها، وهي روايةٌ ثورية بمعنى الكلمة، ومع ذلك فقد وجد في الكثير من وقائعها عناصرَ تقبل الاندماج في أسلوبه الإبداعي.

مويان جزءٌ بإبداعه وعبقريته من مرحلةٍ أدبية تُعرف ﺑ «المعاصرة» (ولو أني أجد من بين الدراسات، تحت يدي، رسالة دكتوراه بالصينية غير منشورة، يؤكِّد فيها الباحث الصيني المجتهد خطَل الرأي القائل ﺑ «المعاصرة» على نحوٍ مطلَق في اصطلاحات النقد الأدبي … «فالمعاصرة» فكرةٌ أدبية نقدية تُلاحق خطوات الحياة، وليست مجرد توصيفٍ جاهز لمرحلة ضمن تاريخٍ أدبي؛ فلكل زمنٍ تعريفه المحدَّد والخاص لأدبه «المعاصر»؛ تلك ليست صفةً مطلقة، بل مرهونة بخصائصَ موقعية في زمنٍ معلوم، ولمنطقة ثقافية محددة …)

ما علينا، لو قلنا إن مويان — بأي معنًى — أحد أبناء جيلٍ له سماتُه المشتركة وموقعه وتاريخه؛ فالفكرة أن الكثير من الدوائر النقدية (غير الناضجة)، بحق، وللغرابة، قد رأت في استفادة كاتبٍ صيني من عنصرٍ جمالي عالمي مجرد نقلٍ تام لبضاعةٍ جاهزة ومعتبرة؛ فالذهنية الإبداعية عند مويان أروع كثيرًا من إيحاءات الفهم حسب هذا التقييم؛ فإبداعه يملك ملامحَ وسماتٍ متفردة بشكلٍ واضح، وهو إذ يحاول مثلًا أن يجرِّب تقليد كاتب من أمريكا اللاتينية متأثرًا بكتابة «سحرية»، فهو يلجأ، على غير وعيٍ أحيانًا، إلى النهل من معين الحكايات الشعبية، وتبقى «السمة السحرية» بالنسبة له، رغم أي شيء، مفهومًا غريبًا يستوجب الاطِّلاع الدراسي بهدف التعرُّف والتعريف، لا أكثر، ولمَّا كان عددٌ من الكُتاب البارزين ينضَوون تحت هذا اللون من الكتابة المتأثرة بمصادرَ شعبية، فقد حرَص مويان على تأكيد انتمائه لكتلةٍ إبداعية يعرف تمامًا، وبوعيٍ شديد، موقعه ضمن حدودها.

في عالم مويان الروائي، الخلفية والحدث وفصول الكتابة وطبائع الشخصيات والتعيين الوصفي للبيئة، كل ذلك يتحول إلى سيرورةِ استجابةٍ عفوية لأحاسيسَ ذاتية. الفرق بينه وبين باقي الكُتاب يتمثل في عدم وقوفه طويلًا أمام جذوره الثقافية القديمة يتأملها بلا نهاية، حرصًا على اكتشاف ونشر وتعميم طاقة الحياة المستمدة من الجدود الأقدمين؛ لذلك فهو يجعل من تاريخ حياة الذين مضَوا منذ زمانٍ بعيد، لحظةً بينية تنقضي سريعًا في حاضر من يتناولهم السرد؛ مما يخلق توترًا حادًّا بين الشخصية في القصة والراوي في الحكاية؛ ومن ثَم فالوعي يمثل جسر انتقال، عبْر الرؤية السحرية، بين الموتى والأحياء، بين الأولاد المعاقين والأبطال الراحلين؛ فيتخلَّق عالمٌ رابط بين نقيضَين … ومثلًا، ففي رواية «الذرة الرفيعة الحمراء» لا يسعى الكاتب إلى حكاية وقائع الحرب التاريخية، بل يحكي آماله وسط الفراغات البينية التي تخلِّفها حوارات الفلاحين.

قيل إن لقب «مويان» يعني الزجر بالصمت، امتثالًا لفضيلة استحسان السكوت في «زمن المتاعب الجاهزة لمن يتكلمون»، وأظن أن الزجر يرجع إلى تلك الفكرة القديمة عن صُنَّاع القصة القصيرة، بأنهم ثرثارون بما لا يفيد؛ فالكتابة أوقع، والرواية أبقى، ولئن كان لقبه بهذا المعنى يفيد احتفاءه بكتابة الرواية، فإن أحدا لم يقُل لنا ماذا يعني اسمه الأصلي … «كوان مو يا»؟!

ذاك عن الكاتب والأجيال والزمان، ولمحة إلى الأدب الصيني الحديث، فماذا عن الترجمة؟
بأمانةٍ أقول إننا، دارسي الثقافة واللغة الصينية من الباحثين العرب، مقصِّرون في ترجمة الأدب الصيني الحديث، ولن ألتمسَ غفرانًا من ثنايا التعلَّات. لكنْ أُلمح بجدِّية إلى أن الثقافة الصينية وآدابها، بقديمها الباقي وجديدها الطامح، أضخم وأصعب من أن يضطلع بترجمة آثارها (قل الأدبية فقط) عددٌ لا يتجاوز بضعة الدارسين القريبين من فهم اللغة والخصائص الثقافية، حتى لقد أشرتُ — وأعود للتأكيد — على أهمية الاعتداد بالترجمات التي تتم عبْر لغاتٍ وسيطة، بل تشجيعها ودعمها كلما أمكن، وإليك مثلًا، وبصدد ما نحن فيه، تلك الإحصائية التي تشير إلى أن مجموعَ ما صدر في الإنتاج الروائي الصيني المعاصر، منذ نهاية الثورة الثقافية حتى أوائل الفترة الجديدة؛ أي في المدة من ١٩٧٦م إلى ١٩٨٥م، بلغ نحو ألف رواية، مقابل ما نُشر طوال زمن الثورة الثقافية، ومجموعه نحو ثلاثمائة رواية، في حين كان العدد منذ تأسيس الجمهورية حتى عام ١٩٥٩م لا يزيد كثيرًا عن اثنتَين وثلاثين رواية. أتظن أن ستة أو سبعة مترجمين على الأكثر، ممن يعرفون لغة الأصل بطول العالم العربي وعرضه، يقدرون على الوفاء بترجمة أهم خُلاصة من هذا الرصيد، مما قد لا يقل عن ثمانين روايةً بالتقريب؟ هذا في حين أن عملًا إبداعيًّا واحدًا قد يستغرق سنواتٍ من المترجم الواحد.
أعي ما أقول جيدًا، بالرغم مما هو معهود (ومفهوم) فيما يعتور النقل عن لغاتٍ وسيطة؛ وهذا واحدٌ من أشهر مترجمي مويان في الإنكليزية هوارد غولدبلات Howard Goldblat، وهو، أيضًا، أحد خبراء الدراسات الصينية المرموقين، يُجيد الصينية كأهلها بحكم أنه قضى سنواتٍ من الخدمة العسكرية في تايوان، بالإضافة إلى دراسته الجامعية المتخصِّصة، بل معرفته الشخصية بالكاتب مويان وصداقته الطويلة له، ومع ذلك فهو عندما يترجم رائعته «الذرة الرفيعة الحمراء» إلى الإنكليزية، يسمح لنفسه — متذرعًا بمفاهيم متداولة حديثًا في نظريات الترجمة المعاصرة — بأن يُلحِقَ بالنص المصدر تغييراتٍ تلائم سياسات نشر ومزاج قارئ وشروط مقروئية قائمة في ثقافة المتلقي الأمريكي، دون الاعتداد كثيرًا بما قد يلحَق الأصل من تشوُّهات (كذا) حتى إنه حذف كثيرًا مما كان يرد من ذكرٍ لألفاظٍ وتسميات تتعلق بالحزب الشيوعي الصيني، متعللًا بضيق صدر القارئ الأمريكي من ذكر «تلك الأشياء»! … ويلجأ في مثالٍ آخر إلى تعديل سن إحدى الفتيات من الشخصيات الرئيسية في الرواية، إلى خمسةَ عشر عامًا بدلًا من ثلاثةَ عشر؛ بزعم أنه قد حسب عمرها بالنسبة إلى عمر ابنتها، طبقًا لما ورد في النص الأصلي، فوجد أنه من الأوفق تعديل السن تصحيحًا لسقطةٍ حسابية وقع فيها الكاتب الصيني، تجعل الأم حاملًا في سنٍّ أصغر كثيرًا من المعقول (!). لستُ بالأساس أو بالتخصُّص دارسًا للأدب الصيني (أو أي أدبٍ آخر، معذرة)، ولستُ إلا باحثًا لغويًّا، أحاول التخصُّص في مجال التراث الصيني القديم، ولم يكن لي أن أخوضَ بقلمي في مجالٍ لا أملكُ فهمَ قواعدِه ومنهاجِه وخصائصِ موضوعاته؛ فأعتذر لقارئي في ترجمات التراث الصيني، وأرجو أن يتفضَّل متسامحًا كريمًا بتقدير ظرفٍ لم يكن فيه مفرٌّ من ضرورة التعريف بكاتب، كان إلى وقتٍ قريب غير معروف، حتى لمعظم قُرائه الصينيين، على أن أعود، لاحقًا، إلى مواصلة ترجمة المصادر التراثية الأساسية في الحضارة الصينية.

هذا، ولم تكن ترجمة قصة «الحلم والأوباش» ﻟ مويان بالأمر اليسير؛ فكتاباته محتشدة بعامية فجَّة وأمثلة سائرة وبلاغات فولكلورية يجد قارئ النص الأصلي نفسه صعوبةً في فهمها. ولم يكن المعجم اللغوي ليُسعِف في شيء؛ لأن اللهجات المحلية الصينية متنوِّعة للغاية؛ ومن ثَم تعقَّدَت مداخل ترجمته. ثم إن مويان ذاته صرَّح في لقاءاتٍ ومناسباتٍ كثيرة قائلًا إنه يهتم بكيفية الكتابة أكثر من موضوعاتها؛ وبالتالي فالصياغة هي مربط الفرس — كما قد يُقال — ولن يستقيم أبدًا أن أترجم النص، في مثل هذا اللون من الكتابة إلى الفصحى المضبوطة (بافتراض أني أستطيع) … فهذا هو المؤلف يؤكِّد موقفه من تعيين اللغة قائلًا: «إن لغة الناس التي لم تتخللها مصفاة المماحكة هي اللغة التي تستحق الاهتمام من جانب الساحة الأدبية؛ ذلك أن استبعاد تلك الأساليب الحيوية المتجدِّدة، يشبه قطع تيارٍ متدفق نحو بحيرة؛ فالإنصات إلى لغة العامة والبسطاء هو الذي يحفظ على أساليب الكتابة حيويتها وتدفقها.» هكذا إذن، أراد هو العامية وابتغيتُ الفصحى العربية، وقد قيل إن الترجمة في الأصل خيانة، ولم أكن أريد أن أشتطَّ بها إلى حدِّ اقتراف الجريمة، لكن …

في الفصحى ما قد يصلُح أيضًا لملاءمة مذاق التعبير بالعامية المخففة، باستدعاء عبارتها كما عهدناها في كتابات مؤرِّخي مصر المملوكية والعثمانية، سواء عند ابن إياس وابن تغري بردي، أو حتى عند ابن زنبل الرماح وأبي السرور البكري أو ابن يوسف القرماني والأمير الشهابي، وشيخ العربية الدارجة «الجبرتي» وكان لديهم جميعًا المدَد الوافر، على أني لم أجد معالجةً أخرى للنص المترجَم يمكن أن تكافئ صياغة النص المصدر أفضل مما تصوَّرتُه وأخذتُ به، فقط، في بعض الأحوال التي استدعت ذلك، وعلى الوجه الذي كنتُ أراه معبرًا عن اتجاه الكاتب ومبينًا لخصائص نزعته الروائية، لكن دون أن أبدِّل شيئًا من المحتوى، فلا اسمًا حذفتُ ولا حسابًا عدَّلتُ، بل حرَصتُ أحيانًا، وعلى نحوٍ قد يتاخم حدَّ الهزْل، أن أنقلَ معنى ألقابٍ مُعطَاةٍ لشخصياتٍ بعينها، أراد الكاتب لها دلالةً مقصودةً في ظلال الكلمات.

محسن فرجاني
القاهرة في نوفمبر ٢٠١٢م
١  “Dang dai zhong guo wen xue gai gaun” «الأدب الصيني المعاصر» (بالصينية)، جانغ تشون وآخرون، عن Beijing chu ban she، بكين، ١٩٨٦م، ص٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥