قراءة في الأدب الصيني
لو كان صحيحًا أن براعة الروائي الصيني مويان في المزج بين الواقعية السحرية والحكايات الغرائبية المعهودة في التراث الصيني القديم، هي المسوِّغ لحصوله على جائزة نوبل في الأدب، إذن لاستحقَّها معه بالتساوي عددٌ من أهم كُتاب القصة في جيلِ ما يُعرف ﺑ «أدب البحث عن الجذور» … وهؤلاء كثيرون جدًّا، منهم ليو سولا، شوشين، تسان شيو، جاهيداوا، هونفن، يو هوا، سوتون، مايوان (قد يقترب هذا الأخير في نطقه مع مويان، أديب نوبل، فاعرِفه) والأساس الإبداعي عندهم جميعًا يقوم على فكرة الانتصار لطاقات الحياة البدائية، وكشف الجوهر العبثي للإنسان، تنديدًا بضعفه وزيف ثقافته الحديثة. والكتابة الروائية عند كثير منهم تجسِّد إحساسًا بعبث الوجود، لكن منابع إلهامهم لم تأتِ مباشرةً من نماذجَ غربية الطابع؛ صحيحٌ أنهم استفادوا من الترجمات والمدارس النقدية في الغرب، لكنها استفادةٌ دون نقل! فلم تكن القصة، حتى في التراث الفكري والأدبي الصيني القديم محلَّ احتفاءٍ أو استحقاقٍ لجدارة، وكثيرًا ما اعتبرَتْها الكونفوشية مجرد هزلٍ وثرثرة صبيانية (كذا … وبمنطوقها القديم والباقي حتى اليوم، في الصينية شياو شو؛ أي الكلام التافه، الحديث الفارغ) ولم يكن للكتابة الروائية أن تحتل مكانةً معتبرةً إلا بما اشتُقَّت من الأساطير القديمة، أقدمِ واقعٍ سحري نهلَت منه أجيال الكتابة في أوائل الثمانينيات، حتى قبل أن تجريَ أقلام المترجمين بنقل نصوص غارثيا ماركيز؛ ذلك أن الساحة الأدبية كانت وقتئذٍ تبحث عن يقينٍ ضاع منها إبَّان الثورة الثقافية … لم يكن ثمَّة أساتذة (هذه المرة حقًّا وفعلًا … دَعْ عنك ما كان يقوله أستاذنا محمد حافظ رجب، تحت ظروفٍ مختلفة، بشأن أجيالنا الأدبية في ستينيات الأدب العربي بمصر) فكانت العودة إلى الجذور الثقافية، حتى بمحتواها المتضمن لشرائحَ عريضةٍ ممتدة من التراث الكونفوشي إلى الفولكلوريات الشعبية، فتشكلَت ملامحُ يقين بالأسطورة منسجمة مع تقاليدَ باقية في المواريث، وكانت الكلمة المفتاح في فهم اتجاهات الإبداع، منذ أوائل القرن العشرين، أو هكذا قد يُقال، ثم إن تاريخ الحداثة في الصين يبدأ أيضًا مع حدٍّ زمني قاطع بين زمنٍ قديم انتهى وفات، وعصرٍ جديد بدأ يشُق طريقه إليها فيما سُمي بحركة الرابع من مايو ١٩١٩م.
لكي نحدِّد موقع مويان كروائيٍّ صيني متميز، ونقف على قيمة إبداعه، من المفيد أن نستحضر أجواء المرحلة الأدبية التي ينتمي إليها، ونعيِّن صلتها بمجمل حلقات التطور في مسيرة الأدب الصيني المعاصر.
نستطيع أن نقول، بدرجةٍ كبيرة من الثقة، مدعومة بأسانيد مؤرخي الأدب واتفاق معظم مدارس النقد الأدبي، أن مسيرة الأدب الصيني المعاصر بدأَت في الصين الأم مع تأسيس الجمهورية في عام ١٩٤٩م (والمعاصرة في الأدب الصيني جزء من اتجاه التحديث الأدبي الذي بدأ، كما أسلفتُ في ١٩١٩م)؛ حيث تبدأ المرحلة الأولى من تاريخ الأدب المعاصر (أتكلم عن محتواه في الإبداع القصصي) مع أول الخمسينيات، وتُعرف في اصطلاح تاريخ النقد باسم «مرحلة السبعة عشر عامًا» وسيقترب فيها المبدعون من معالجة التناقضات الاجتماعية الكبرى، وتثمر محاولاتهم أعمالًا ناجحة، كرَّسَت لهم وضعًا فريدًا في ساحة الكتابة الروائية؛ فعرف الناس كتَّابًا مثل: رو جي جوان، لوون فو، وانغ منغ (سيتولى وزارة الثقافة فيما بعدُ، ويؤسِّس لاتجاه تيار الوعي في الرواية الصينية، مطلع الثمانينيات) في هذه المرحلة ينجح الإبداع الروائي في أن يرصُد التغيُّرات الحياتية السريعة جنبًا إلى جنبٍ مع مظاهر الحياة النضالية للثورة الاشتراكية، وفصول رائعة من تجارب بلد في خِضَم تحولات بالعمل والبناء، ولم يغب عن باله تسجيل تناقضات البيئة الاجتماعية في حينها، وقد شهدَت مرحلة السبعة عشر عامًا فترتَين تميَّزتا بالحيوية الشديدة:
– فترة ما قبل العام ١٩٥٦م؛ حيث سيكتب الروائي «جاو شو لي» عن أحوال الريف الصيني (قبل أن يُولد مويان بنحو أربعة أعوام) ويقدِّم روائع القصة الصينية المعاصرة: تدوين الأسماء، قصة أفسدها المونتاج، زوايا الحب المنسية، العم شوماو وبناته، أهل المعجزات ينزلون القرية، على هامش سيرة الغرام، تغييرات جبلية؛ وكلها كانت تأخذ بمنحًى واقعي أسهمَت في تعميقه كتاباتُ مبدعين آخرين ساروا على نفس المنوال، مثل: ما فنغ، ولي جون، وجوليبو … فهؤلاء جميعًا أخذوا موضوعاتهم من قلب الريف الصيني، وبرغم ما حقَّقوه من إنجازاتٍ رائعة، فقد كان يؤخذ على أعمالهم عجزها عن نحت صورٍ بطولية في زمنٍ شهد ملاحم أقدارٍ ريفية، لم يرَ التاريخ الصيني مثيلَها منذ زمان، مع ضعفٍ في إبراز العالم الداخلي المعقَّد للشخصيات وترهُّل في أساليب السرد.
على مدى مرحلة السبعة عشر عامًا، بلغ الإنتاج القصصي زُهاء ثلاثمائة رواية، ثم تلَتها المرحلة الثانية لتبدأ في عام ١٩٦٦م، وتستمر نحو عشر سنوات هي كل الفترة التي استغرقَتْها سنواتُ ما سُمي ﺑ «الثورة الثقافية الكبرى»، وهي الفترة التي انتُقصَت قيمة إسهامها في مواصلة تقاليد الكتابة الجديدة وتطوير سماتٍ إبداعية جرى اكتشافها في المرحلة السابقة، بل وُصمَت بأنها … «أصابت التصورات الأدبية بالجمود والانغلاق، واتخذَت موقفًا مناقضًا من ضرورة تطوير الطابع الجمالي للتنوع الأدبي وفهم دواعيه، بل عملَت على تسييس الأدب بصورةٍ متزايدة، عبْر رؤًى انغلاقية أحادية راحت تفرض على الإبداع (اقرأ: الروائي) مطالبها السطحية إيعازًا باصطناع أدوارٍ ووظائفَ سياسية، مما باعد بينها وبين مفاهيم المسعى الثقافي الذي اضطلعَت بأعبائه وعملَت تحت رايته، فأفرغَت الأدب من مضمونه لصالح تعبئةٍ أيديولوجية، وسلبَتْه وجوده المستقل وتفرُّده وخصوصية طابعه، حتى صار بعضًا من «سياسة» أدبية، أو أدب «سياسي» … ذلك هو ما آلت إليه أحوالُ الأدب أيام الثورة الثقافية … أو هكذا يقولون!»
لكن لنا هنا ملحوظةٌ مهمة للغاية، وعلى مسئولية كاتب هذه الكلمات ليس غير، وهي أن التجريب في تيار الوعي على يد وانغ منغ وآخرين غيره، شأنه شأن غيره من اتجاهاتٍ نقدية وتياراتٍ فكرية، مأخوذة من مصادرَ غير صينية، كانت (وفقط) في سطحها القشري محل استفادة — كمعطًى شكلي — باعتبارها رافعةً لعناصر تجديد صينية في روحها وجذورها؛ فقد ساد تيار الوعي بطابعه الشكلي وسماته المظهرية دون فحواه الفلسفي؛ إذ تمَّت معالجته وفق مزاجٍ صيني تقليدي؛ لذا فقد أطلقَت عليه مدارس النقد الأدبي «تيار الوعي الشرقي» (هذه ليست من عِندِيَّات كاتب الدراسة) وكانت تُسمِّي قصص وانغ منغ، وروايات الكاتبة تسونغ بو ﺑ «تيار الوعي الصيني» باعتبار أن الكتابة هنا كانت تستلهم مذاقًا محليًّا يستبعد العبث من طياته. كانت موجة الرواية تضم أسماء: ليو سولا، شوشين، تسان شيو، مويان، هونفن، يو هوا، سو تون، كايفي، وكلهم يمثلون الحداثة، ذات الطابع الصيني (كذا يُقال)، ولو أن كتاباتهم سواء في اتجاه موضوعاتها أو أدواتها السردية أو أساليبها الفنية بعيدة المدى عن الطابع الجوهري لأدب الحداثة، وربما مع بدء دخولِ مفاهيمَ جديدة إلى ساحة النقد، مع حركة الترجمة النشطة والمتزايدة، ظهر تأثيرٌ عاجل لآثار ما بعد الحداثة عبْر نصوصٍ مترجمة، فتشكَّل، بالتوازي اتجاهٌ أدبي (وفلسفي) يبحث عن قيمة ومعنى حياة الإنسان من وجوده الذاتي، ولمَّا كانت أجواء الكتابة فيما بعد الثورة الثقافية يسيطر عليها مسعَى البحث عن الحقائق وسط غابات اللامعقول؛ حيث الأجيال بلا أبٍ أو أساتذة أو حبلٍ أموميٍّ سُرِّي يربطها بالتاريخ والتقاليد الثقافية، ولم يكن ثمَّة بيتُ عائلةٍ صيني يرجعون إليه؛ فقد اضطُرَّت جحافل المبدعين الشبَّان إلى الهرب بعيدًا في أغوار الماضي السحيق (على المستوى النفسي) أو زوايا اقترابٍ مباشر من غرائبيات الفولكلور، أو حتى لدى مساقط الأنهار، والقرى البعيدة والتلال، بحثًا عن علائقَ تربطهم بجذور حياة.
أحد مجالات «البحث عن الجذور» راح يتخذ موضوعاته من الحياة البدائية، بينما انصَب اتجاهٌ آخر على الاهتمام بثيمات الكتابة عن القوميات الصينية وقبائل الأحراش والمراعي وقوافل الخيول؛ أبرز الأعمال في هذا المجال، رواية «رومانسية ملء الأرض والسماء» للكاتب آتشنغ، أما السمة الأخرى لهذا الاتجاه، فتتمثَّل في نهل موضوعاته من التراث الصيني القديم، بما فيه المأثور الشعبي، بما تضافر معه من مواريث التقاليد الكونفوشية والطاوية. قصص هذا الجيل كانت تجسِّد في معظمها إحساسًا بعبثية الوجود، لكنها كانت تختلف عما يقابلها في الغرب؛ إذ كان الكتاب الصينيون يحاولون التمرُّد على ما يعترض طُرقَهم الخاصة في التعبير عن ذواتهم … ومن ثَم كانت محاولتهم الدائبة في استكشاف أشكالٍ جديدة للسرد، تقوم على تنوع أساليب الحكي، وهكذا نجد عند مويان وهونفن ويو هوا، وسو تون، وكايفي — وكلهم يشكِّلون اتجاه ما بعد الحداثة — سمات تتجاوز المنحى الحداثي، خصوصًا وقد تحوَّل مرتكز الكتابة عندهم من «ماذا نكتب؟» إلى «كيف نكتب؟» حيث وضعوا القصَّ فوق القصة في انقلابٍ جذري على أساليب ورؤى الإبداع الروائي الصيني، وحسب تعبير إحدى القراءات النقدية المعتبرة لإنتاجهم … «فإن ذلك قد يمثل نقلةً نوعية في الوعي بنمطٍ جديد في الكتابة، ولو أن خلخلة الحدث الحياتي أضعفَت دلالة الواقع الاجتماعي في الرواية، وهو ما أتاح لإنجاز الحداثة وما بعدها أن يُسهِم في تحطيم جمود القالب الأدبي؛ ليفسح الطريق أمام طاقات الكتابة، ويضيف مددًا لمجموع السمات اللغوية والحس الروائي.»
تأثَّرَت عبثية هذا الجيل من الكُتاب بفلسفة الحياة عند برغسون، وتحليلات فرويد وأبرز من يمثلون هذا التأثر اثنان؛ هونفن، ومويان، علمًا بأن الأساس في إبداعهم يقوم، في بعضه، على فكرة الانتصار لطاقة الحياة البدائية (الليبيدية) وكشف الجوهر العبثي للإنسان.
مويان جزءٌ بإبداعه وعبقريته من مرحلةٍ أدبية تُعرف ﺑ «المعاصرة» (ولو أني أجد من بين الدراسات، تحت يدي، رسالة دكتوراه بالصينية غير منشورة، يؤكِّد فيها الباحث الصيني المجتهد خطَل الرأي القائل ﺑ «المعاصرة» على نحوٍ مطلَق في اصطلاحات النقد الأدبي … «فالمعاصرة» فكرةٌ أدبية نقدية تُلاحق خطوات الحياة، وليست مجرد توصيفٍ جاهز لمرحلة ضمن تاريخٍ أدبي؛ فلكل زمنٍ تعريفه المحدَّد والخاص لأدبه «المعاصر»؛ تلك ليست صفةً مطلقة، بل مرهونة بخصائصَ موقعية في زمنٍ معلوم، ولمنطقة ثقافية محددة …)
ما علينا، لو قلنا إن مويان — بأي معنًى — أحد أبناء جيلٍ له سماتُه المشتركة وموقعه وتاريخه؛ فالفكرة أن الكثير من الدوائر النقدية (غير الناضجة)، بحق، وللغرابة، قد رأت في استفادة كاتبٍ صيني من عنصرٍ جمالي عالمي مجرد نقلٍ تام لبضاعةٍ جاهزة ومعتبرة؛ فالذهنية الإبداعية عند مويان أروع كثيرًا من إيحاءات الفهم حسب هذا التقييم؛ فإبداعه يملك ملامحَ وسماتٍ متفردة بشكلٍ واضح، وهو إذ يحاول مثلًا أن يجرِّب تقليد كاتب من أمريكا اللاتينية متأثرًا بكتابة «سحرية»، فهو يلجأ، على غير وعيٍ أحيانًا، إلى النهل من معين الحكايات الشعبية، وتبقى «السمة السحرية» بالنسبة له، رغم أي شيء، مفهومًا غريبًا يستوجب الاطِّلاع الدراسي بهدف التعرُّف والتعريف، لا أكثر، ولمَّا كان عددٌ من الكُتاب البارزين ينضَوون تحت هذا اللون من الكتابة المتأثرة بمصادرَ شعبية، فقد حرَص مويان على تأكيد انتمائه لكتلةٍ إبداعية يعرف تمامًا، وبوعيٍ شديد، موقعه ضمن حدودها.
في عالم مويان الروائي، الخلفية والحدث وفصول الكتابة وطبائع الشخصيات والتعيين الوصفي للبيئة، كل ذلك يتحول إلى سيرورةِ استجابةٍ عفوية لأحاسيسَ ذاتية. الفرق بينه وبين باقي الكُتاب يتمثل في عدم وقوفه طويلًا أمام جذوره الثقافية القديمة يتأملها بلا نهاية، حرصًا على اكتشاف ونشر وتعميم طاقة الحياة المستمدة من الجدود الأقدمين؛ لذلك فهو يجعل من تاريخ حياة الذين مضَوا منذ زمانٍ بعيد، لحظةً بينية تنقضي سريعًا في حاضر من يتناولهم السرد؛ مما يخلق توترًا حادًّا بين الشخصية في القصة والراوي في الحكاية؛ ومن ثَم فالوعي يمثل جسر انتقال، عبْر الرؤية السحرية، بين الموتى والأحياء، بين الأولاد المعاقين والأبطال الراحلين؛ فيتخلَّق عالمٌ رابط بين نقيضَين … ومثلًا، ففي رواية «الذرة الرفيعة الحمراء» لا يسعى الكاتب إلى حكاية وقائع الحرب التاريخية، بل يحكي آماله وسط الفراغات البينية التي تخلِّفها حوارات الفلاحين.
قيل إن لقب «مويان» يعني الزجر بالصمت، امتثالًا لفضيلة استحسان السكوت في «زمن المتاعب الجاهزة لمن يتكلمون»، وأظن أن الزجر يرجع إلى تلك الفكرة القديمة عن صُنَّاع القصة القصيرة، بأنهم ثرثارون بما لا يفيد؛ فالكتابة أوقع، والرواية أبقى، ولئن كان لقبه بهذا المعنى يفيد احتفاءه بكتابة الرواية، فإن أحدا لم يقُل لنا ماذا يعني اسمه الأصلي … «كوان مو يا»؟!
هذا، ولم تكن ترجمة قصة «الحلم والأوباش» ﻟ مويان بالأمر اليسير؛ فكتاباته محتشدة بعامية فجَّة وأمثلة سائرة وبلاغات فولكلورية يجد قارئ النص الأصلي نفسه صعوبةً في فهمها. ولم يكن المعجم اللغوي ليُسعِف في شيء؛ لأن اللهجات المحلية الصينية متنوِّعة للغاية؛ ومن ثَم تعقَّدَت مداخل ترجمته. ثم إن مويان ذاته صرَّح في لقاءاتٍ ومناسباتٍ كثيرة قائلًا إنه يهتم بكيفية الكتابة أكثر من موضوعاتها؛ وبالتالي فالصياغة هي مربط الفرس — كما قد يُقال — ولن يستقيم أبدًا أن أترجم النص، في مثل هذا اللون من الكتابة إلى الفصحى المضبوطة (بافتراض أني أستطيع) … فهذا هو المؤلف يؤكِّد موقفه من تعيين اللغة قائلًا: «إن لغة الناس التي لم تتخللها مصفاة المماحكة هي اللغة التي تستحق الاهتمام من جانب الساحة الأدبية؛ ذلك أن استبعاد تلك الأساليب الحيوية المتجدِّدة، يشبه قطع تيارٍ متدفق نحو بحيرة؛ فالإنصات إلى لغة العامة والبسطاء هو الذي يحفظ على أساليب الكتابة حيويتها وتدفقها.» هكذا إذن، أراد هو العامية وابتغيتُ الفصحى العربية، وقد قيل إن الترجمة في الأصل خيانة، ولم أكن أريد أن أشتطَّ بها إلى حدِّ اقتراف الجريمة، لكن …
في الفصحى ما قد يصلُح أيضًا لملاءمة مذاق التعبير بالعامية المخففة، باستدعاء عبارتها كما عهدناها في كتابات مؤرِّخي مصر المملوكية والعثمانية، سواء عند ابن إياس وابن تغري بردي، أو حتى عند ابن زنبل الرماح وأبي السرور البكري أو ابن يوسف القرماني والأمير الشهابي، وشيخ العربية الدارجة «الجبرتي» وكان لديهم جميعًا المدَد الوافر، على أني لم أجد معالجةً أخرى للنص المترجَم يمكن أن تكافئ صياغة النص المصدر أفضل مما تصوَّرتُه وأخذتُ به، فقط، في بعض الأحوال التي استدعت ذلك، وعلى الوجه الذي كنتُ أراه معبرًا عن اتجاه الكاتب ومبينًا لخصائص نزعته الروائية، لكن دون أن أبدِّل شيئًا من المحتوى، فلا اسمًا حذفتُ ولا حسابًا عدَّلتُ، بل حرَصتُ أحيانًا، وعلى نحوٍ قد يتاخم حدَّ الهزْل، أن أنقلَ معنى ألقابٍ مُعطَاةٍ لشخصياتٍ بعينها، أراد الكاتب لها دلالةً مقصودةً في ظلال الكلمات.
القاهرة في نوفمبر ٢٠١٢م