رسالة الحياة

هل نتحدث عن الحياة ورسالتها أم عن الحياة ورسالة أبنائها؟

إن كان الأول فنحن أمام حديث بيولوجي هامٍّ.

نحن أمام الوجود وأسراره، أمام ميلاده ونهايته.

أمام السؤال المحير؛ كيف جاءت الحياة ولِمَ؟

وأمام سؤال محير آخر: هل الحياة جاءت صدفة أم هي من عمل عاقل مبصر مدبر؟

وسؤال آخر: هل الحياة على هذه الأرض حياة خاصة بأهل هذه الأرض أم هي جزء من نظام عام، وبعض من كل؟

نتحدث عن القسم الأول من موضوعنا؛ أي الحياة وطبيعتها ومنشئها، فلا شك أننا إذا فهمنا شيئًا ولو قليلًا من ذلك اللغز الكبير الخفي، أمكننا أن نُجيب في شيء من اليقين عن رسالة أبنائها.

إذا أقررنا نظرية داروين من حيث آليتها وميكانيكيتها اعتقدنا أن الحياة «ترس» ساعة أدارتها يد، ثم تركتها بشأنها دائرة أبدًا، وتتلخص هذه النظرية في أن الحياة أسباب ومسببات وضرورات.

ولكن برجسون الفيلسوف الفرنسي الشهير، تتلمذ أولًا على داروين، ثم ثار على عرشه وزعزعه. وكانت ثورته بالأخص على هذه الآلية التي بنيت عليها الحياة، وأخذ يدلل في قوة ومنطق وبيان قويم على أن وراء الحياة «وثبة» تدفعها لهدف بعينه وهو الكمال، فمن هنا يلتقي هدف داروين وهدف برجسون، ألا وهو «الكمال»؛ فالحياة تنتخب الأصلح وتدفع الأنسب إلى الأمام، وتطوي الضعيف وتهدم المتخاذل المزعزع، ولكن كلمة «انتخاب» إذا تدبرناها، عرفنا أن هذا لا يمكن أن يحدث جزافًا، وإلا فأي قوة آلية يمكنها أن تميز بين الأصلح وغير الأصلح، وبين الأحسن والأسوأ، وبين الأقوى والأضعف؟

فهذه القوة العاقلة المنتخبة، إذن تُعنى بالحياة لأنها تسير بها من حسن لأحسن، وتتخطى بها عقبة بعد عقبة، وتساعدها على النمو باطراد.

فهي إذن قد كفلت لها أسباب البقاء، وإلا فما معنى المحافظة على شيء زائل؟

فالمسألة ليست إذن مجرد خلق، ولا مجرد شعلة لمعت اعتباطًا! وإلا انهار «المخلوق» ابن الصدفة وخبت الشعلة وليدة الأقدار! ولكن الذهن المدبر الذي خلق هذه الحياة، تفنن في الطرق التي تكفل استمرار الحياة، والتي تضمن لها البقاء.

فرسالة الحياة إذن استمرار الحياة.

وقد ضمن للحياة أن تستمر شيئان:
  • (١)

    قطبها ومحورها، وهو الجنس.

  • (٢)

    ضدها ومفنيها، وهو الموت.

أما أن يكون الجنس محورها وعمادها وضامن استمرارها، فليس بعجيب، فقد تفننت الطبيعة في ذلك تفننًا ما عليه من زيد، والمطلع على كتب علم الحياة يرى كيف تتهافت المخلوقات البدائية على التناسل تهافتًا جنونيًّا، ونحن اليوم وإن تغيرت صور الحياة وأوضاعها، لا نزال نؤمن أن الحياة تقوم على نوعين من الحاجة، الحاجة إلى الطعام، والحاجة إلى الجنس.

أما تحصين الحياة بضدها، وهو الموت، فهذا هو المعجزة التي ما بعدها معجزة، للتدليل على أن هذا الخلق وليد قوة خارقة؛ فإن الموت يمنع الحياة من التكاثر المطلق الذي يؤدي إلى إفنائها بتطاحن أبنائها وتقاتلهم على الحطام، وبذلك يصونها.

والثاني أن تحديد دورة الحياة بحتمية الموت، هو السبب في الاختراعات بأنواعها، وفي الإتيان بأروع الأعمال في تلك الحقبة الصغيرة من عمر الزمن، وفي الجري وراء الرزق، وفي طلب النسل؛ أي في كل ما هو قيم ونافع وجميل، يمكننا من هذا أن نستشف رسالة أبناء الحياة، فالحياة تسعى إلى البقاء، وتهدف للكمال، فرسالة أبنائها أن يتعاونوا على البقاء والكمال.

وحين أقول: «أن يتعاونوا» أعني كلمة التعاون بأوسع معانيها، رسالة الحياة الكبرى هي في هذا التعاضد والتكاتف لبلوغ الغاية.

إن المجهود الفردي مهما عظُم لا يقيم إلا حجرًا واحدًا في البناء الضخم، ولكن أبناء الحياة متكاتفين يمكن أن يبنوا كل يوم هرمًا خالدًا.

إن العمل من جانب واحد يخل الميزان، ويهوي بكفة منه على حساب الأخرى، فاستقرار هذا «الميزان» هو الغاية التي يجب أن ننشدها حيثما التفتنا.

فإذا نظرنا إلى علاقة الفرد بباقي الأفراد علمنا قيمة هذا التوازن في العلاقات الآدمية.

وإذا نظرنا لداخل النفس وجدنا أن سكينة النفس وصلاحيتها تتوقفان على توازن القوى الداخلية، وفي المجموع، يتضح لنا أهمية التوازن الاقتصادي، فهذا هو أساس الرخاء وأصل الأمن، ومنشأ الحضارات الزاهية، ولا سبيل إليه إلا بتكاتف الأفراد معًا على استقرار الميزان.

تلك رسالة الحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤