رسالة الأدب الروسي

لماذا نتحدث عن الأدب الروسي؟ هل له أهمية تقتضينا هذا العناء والتقصي؟ أجل له أهمية بالغة.

فإن الأدب الروسي — في القرن التاسع عشر — ثورة على الاتجاهات الأدبية كما عرفها التاريخ الأدبي، فإننا جميعًا نعرف أن الأدب إما جرى في ظلال العاطفة أو في ظلال العقل، أو في مزيج منهما معًا.

ولكن الانفصال بين العاطفة والعقل ظل عاملًا مُهِمًّا في أسباب الجمهور الأدبي، وقل في الشعراء أو القصاصين من أمكنة يلائم بينهما، فهما فريقان؛ إما فريق مغرق في الخيال، وإما فريق مغرق في الواقعية، وقد كان المزج بين المذاهب المختلفة ديدن المفكرين والنقاد في العصور الحديثة.

ولكن الروس أفلحوا في إيجاد هذا الانسجام، وزادوا على المستوى الوجداني والفكري مستويين آخرين؛ مستوى الروح، ومستوى الأعصاب، ويمكن أن نقول: إن «تولستوي» أضاف مستوى آخر هو مستوى الحياة؛ أي إن هناك طابعًا للوجدان، وطابعًا للروح، وطابعًا للأعصاب، وطابعًا للحياة، وهذه كلها عليها أن تلتئم لتُحدِث أدبًا جديدًا.

على أنني أقول: إن المستوى الروحي هو الطابع العام للأدب الروسي، أوجد الابتكار الجديد لذلك الأدب، وإن إضافة الأعصاب كانت من شأن «ديستوفيسكي» والحياة من نصيب «تولستوي».

وقد يقال إن هذا العالم — عالم الروح — قد سبق أن تناوله الكُتَّاب من قبل، فأجيب أنه لم يسبق أن تغلغل أحد تغلغلًا مباشرًا جريئًا صريحًا كما صنع كُتَّابُ الروس، ولذلك لا يخاطب الأدب الروسي أي إنسان، ولا أي روح، بل يخاطب الروح البسيطة الصادقة الميالة للخير، هي هذه التي تتجاوب معه والتي تفهمه والتي تحبه. والواقع أن الأدب الروسي يظل غريبًا على الذي اعتاد قراءة الأدب الغربي الخاضع للعقل والترتيب والمنطق والشكل.

والصواب أن على الإنسان أن يقرأ كثيرًا قبل أن يتمكن من فهم هذا الوعي الجديد.

هذه هي الأهمية الأولى: الأدب الروسي أدب يبحث في أسرار الروح وتفاعلها وآلامها وحسراتها.

والأهمية الثانية: هي أن الأدب الروسي يبحث مسألة السلوك الإنساني بحثًا مباشرًا صريحًا جريئًا، وكما تعود الكتاب أن يفصلوا بين العاطفة والعقل، فكذلك الأخلاقيون يفصلون بين الطبيعة العقلية والطبيعة الخلقية، بمعنى أن الإنسان يمكن أن يكون سليم الأخلاق، وهو في ذات الوقت ناقص العقل، أو العكس، فالروس يقولون أن هناك وحدة بين قانون العقل وقانون الخلق، وأن البحث على أنهما منفصلان هو أصل الخطأ ومصدر الضلال، وقد يُقال: إن هذا المذهب إغريقي قديم، نادى به «يوربيدس» ودعا إليه في مسرحياته، وهذا صحيح، ولكن تناوله على أيدي الإغريق كان تناولًا هينًا لينًا، أما تناول الروس له فكان تناولًا حارًّا عاصفًا عنيفًا، والسبب في ذلك ينطبق على الإغريق كما ينطبق على أهل الغرب اليوم، فإن الإغريق مارسوا السياسة وتطبعوا بالطابع العملي شأنهم شأن أهل الغرب، ولذلك فإن قواهم الروحية استُنفِدَت في مزاولة الناحية السياسية أو العملية، أما الروس فإن أرواحهم احتفظت بكامل قواها في تناول المسألة التي تختص بالسلوك الإنساني، وتناولتها يإيمان وحماس.

وعيب الناحية العملية أنها تجعلنا نقبل عدم الكمال كحالة واقعة، ونسلم بالفوضى الحاضرة على أنها حقيقة مؤثرة، وإننا «عمليًّا» يجب أن نرضى بهذا.

ولكن الروسي لا يقبل هذا الرأي، فهو يعتقد أن النقص علاقة على الكمال، زيادة على أن النفس الروسية لا تدين «بالانفصال»، فعندها أن السياسة والروحانيات ملتئمان لا يتجزءان، وعيب الغرب وكتَّابه محاولة التفرقة بين السياسة والروح، أو السياسة والدين، على فكرة أن السياسة شيء غير مشترك، والدين شيء فردي خاص.

ولكن الروس يرون أن الدين لا يمكن أن يكون خاصًّا بمعنى كلمة الخصوص؛ فإنه يمس الفرد وغيره بلا جدال.

ولذلك لا يعترف الروسي في قرارة نفسه بحرفية القانون، أو بالناحية العملية للقانون؛ لأن القانون يحاسب على العمل، ويفصل العمل عن الاعتقاد، بينما العقلية الروسية اللاانفصالية لا تفصل العمل عن الاعتقاد.

وإذن فمسألة السلوك الإنساني لا تعني مطلقًا قصة الفعل عمليًّا، بل قصة الرأي والاعتقاد كذلك بمعنى أن المسلك السياسي أو العملي يستند دائمًا إلى خلفية روحية.

وإذن فالحكم على العمل لا يعطينا قضاء محكمًا، فإن الرأي والمعتقد جزء من الشخصية، والشخصية شيء نهائي وقد يكون جبريًّا خارجًا عن خيارنا، فهذا الاتحاد يجعل الحكم على ناحية واحدة حكمًا غير متين.

ولقد يُقال إن هذه هي النظرية الموضوعية العلمية غير المتحيزة، فنجيب: هذا صحيح، ولكن حكم العلم قاسٍ جامدٌ باردٌ، ولكن حكم العقلية الروسية الأدبية دافئ حنون إنساني.

الأهمية الثالثة للأدب الروسي نتيجة لما سبق، معنى ذلك أنك ما دمت لا تستطيع أن تحكم حكمًا منطقيًّا على العدل المطلق، فلا يجب عليك أن تُدين أو تعاقب.

الإنسان منا لا يحب أن يدين أو يعاقب، ومن هنا التسامح والغفران والتحمل، هذه الصفات الكبيرة الواضحة في الأدب الروسي.

لا نستطيع أن نحكم، ولا نستطيع أن ندين، إذن من الذي يدين ويحكم ويُثيب ويُعاقب؟ الذي يدرك الحقيقة. أين هو؟ موجود، فعلينا بالبحث. إننا تحت أيدٍ جبرية مخفية تحت أستار كثيفة.

هلم نكشف هذه الأستار أو بعضها، إن المسيحيين يقولون: إن الله هو الحق، والمسيح هو الخلق، وهذا قول جميل، وقد كان جميع الكُتَّاب الروس مسيحيين يدينون بهذا القول.

ولكن بصورة تأملية فلسفية جعلتهم يعترفون بأن إكبارهم للمسيح — أي للحق — «صير المسيحية عندهم أضيق من أن تتسع لهم».

ولكن ما دام الخير والشر سران في ضمير المطلق، فقد تميز الأدب الروسي بهذا الظمأ للمطلق، والهيام بالمجهول، والانطلاق وراءه انطلاقًا عنيفًا. وهذا الانطلاق الحر قد صير النفس الروسية كعالم متموج فيه احتمالات كثيرة، وفيه مجال للغفران، ومجال للتسامح، وهذه المجالات الرحبة خلقت شيئًا من الفوضى جعلت القلب الروسي حائرًا يبحث عن مستقر فلا يستطيع، فهو شارد ضائع يضرب في فيافي الأرض. ولقد قال دوستويفسكي: «إن الروسي الشريد محتاج لكل سعادات البشر لكي يعرف مستقرًّا أو هدوءًا»، ومعنى ذلك أن الذي يعلق سعادته بجميع سعادات البشر لن يجد السعادة.

هذا التسامح العجيب هو سر سحر الأدب الروسي، فإن ذلك الأدب يأخذ الدنيا على أنها «كل» لا على أنها أجزاء ينظر لكل منها نظرة خاصة.

وهو على ذلك لا يعترف بوجود «فواصل»، وعندما تنمحي هذه الفواصل يقرب الخير من الشر، والصعلوك من الملك، والنجاح من الفشل، فلا يعود الإنسان حاقدًا على الشر، ولا حاسدًا للملك، ولا يائسًا من الفشل، ولا فرحًا بالنجاح.

وإذن فهناك «أعماق» يمكننا أن نصل إليها عندما نتسامح ونضحي ونتجاوز الحدود الفاصلة، عندما نعترف بالانسجام التام بين البشر وبعضهم وبين البشر والكائنات. على أن الإنسان حين يبدأ بالاطمئنان لهذا السر، التناسي، ويأخذ في الهدوء والتآسي، يأخذ الشك في ذات الوقت بخناقه، فيقول: «أيمكن أن يكون ذلك صحيحًا؟» ولقد كان «تولستوي» يخرج وحده في الظلام، بعد أن محا الفواصل التي بينه وبين الناس؛ ليقابل العناصر مفردًا، وليسأل: «هل ممكن أن يكون ذلك؟ ولماذا يا رب شئته أن يكون كذلك؟»

•••

أما «تشيكوف»، فيعترف أولًا بالفوضى التامة في أحوالنا الدنيوية، وقلة التناسق عندنا، ثم يتغلغل من هذا الإيمان بالتناسق الكلي.

أما «دوستوفيسكي» فأبطاله فريقان؛ فريق يقبل هذا التناسق الكلي، وفريق يرفضه، ويكون محور القصة المقابلة بين القبول والرفض، وأثر كذلك في النفسيتين المتناقضتين، ويتضح ذلك على أتمه في رواية «إخوان كارامازوف»، فمن هؤلاء «إليوث المؤمن»؛ «خرج إليوث وكانت زهور الخريف حول المنزل نائمة حتى الصباح، وصمت الأرض يذوب في صمت النجوم، ولغز الأرض متصلًا بلغز الكواكب …»

وكان «دوستوفيسكي» يرى أن هذا التناسق يمشي مشيًا ملازمًا لحالات النفسية الإنسانية، وهو يرسمه رسمًا واضحًا في اقتران العواصف النفسية بالعواصف الكونية، فهنا كما هناك الإشراق والظلمة، والهدوء والعاصفة.

على أن أهم ما في الأدب الروسي هو أنه بعد هذا البحث المضني والاستقصاء المر ينتهي الأمر إلى نوع من التسليم والمهادنة، أو ينتهي إلى التنبؤ بأننا في سبيل خلق عالم يرى هذا الانسجام حقيقة ثابتة لا زائلة أو حائلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤