رسالة السعادة

لا شك أن السعادة في حياتنا هي غاية الغايات.

ولكن ما هي السعادة؟

هي كلمة من تلك الكلمات الغامضة التي لا يمكن أن نعرفها تعريفًا محيطًا دقيقًا، كلمة السعادة ككلمة الشعر ككلمة الحب.

تلك أشياء يؤمن الإنسان بوجودها.

يؤمن إيمانًا لا جدال فيه، فإذا أقبل يضع يده على شيء ملموس، وجد أنه يضع يده على شيء أثيري، ولكن السعادة ما دامت هدفًا لكل إنسان، أليس من العجيب أن يكون ذلك الهدف غير واضح ولا مشترك؟ ولقد ألف «برتراند رسل» الفيلسوف الشهير كتابًا ضخمًا عن السعادة، بدأه بالبحث في أسباب الشقاء، ثم أخذ يدلل على أن السعادة هي في تجنب أسباب الشقاء، وهذا منطق معقول ولكنه غير عملي، فإننا يستحيل أن نتجنب أسباب الشقاء حتى ولو عرفناها، إذ كيف نتجنب منغصات العيش وأثقال الحياة وثقلاءها؟ كيف نتجنب الظلم المتأصل في النفوس، والنفاق العريق في الطبائع، والكذب الذي هو من مقررات العصر؟ ثم أخذ «برتراند رسل» يدلل على أن كل من طلب السعادة لنفسه لم يجدها وأنها إنما تحدث كنتيجة لإسعاد الغير؛ أي إن السعادة في رأيه ظاهرة انعكاسية، ولكنه لم يقل لنا ما هي هذه الظاهرة، ولم يقل لنا: ما هي الطريقة لإسعاد الغير، أهي السعي في منفعتهم؟ أهي إشباع مسراتهم؟ أهي منع الضر عنهم؟ ولم يقل لنا: هل مجرد القيام «بالواجب» نحو الآخرين يجعلنا سعداء لأنهم هم أصبحوا سعداء؟ ولم يقل لنا هل الجندي الذي مات في الحرب فداء «الواجب» والرصاص يفتك به أو السيوف تخترط جسده، هل ذلك الجندي مات مسرورًا أو مات سعيدًا؟ وبالأحرى، ما علاقة السرور بالسعادة وما الفرق بينهما.

وقد ألف الكاتب المشهور الشهير «كوبر بويز» كتابًا دعاه «فن السعادة»، فأخذ في مستهل الكتاب يدلل على أن السعادة «فكرة» ومن ثم هي شيء لا يعتمد على الشعور الحسي. أي إنها شيء خارج عن ملذات السمع والبصر والشم واللمس!

وإذا كانت السعادة فكرة، يرجع بنا القهقرى إلى «أرسطو»، ومن طرائفه أنك لا تقول عن حيوان أنه نام سعيدًا، ولا عن طفل؛ لأنه ليس للأول «فكرة» إنسانية، ولأن الطفل لم تنضج عنده الفكرة بعد. وقد يقول القارئ: ولكن الفكرة بمعناها الدقيق موجودة عند الحيوان وعند الطفل، فأعود إلى «أرسطو» مرة أخرى، فأراه يعني الفكرة الآتية من جوانب الروح أو بعبارة أخرى: الروح الواعية. وأعود إلى «أرسطو» فأسأله مرة أخرى، وهل كل فكرة روحانية واعية تؤدي إلى السعادة، سلمنا معك أن السعادة مسألة روحانية، وبذلك نخرجها من دائرة السرور والملذات الحسية وما أشبه، ولكن هل كل «نشاط روحي» يؤدي إلى السعادة؟ يجيبنا «أرسطو» قائلًا: كلا، بل «نشاط روحي يؤدي إلى ممارسة الفضيلة والتفوق في ذلك». وهو لا شك تعريف جامع عميق، ويكاد يقول لك: إن السعادة تتمثل في الفيلسوف الذي «انقطع» لهذه الممارسة، ممارسة الفضيلة.

هذا هو رأي «أرسطو»، وهو رأي نبيل، ولكن هل يمكن أن يطبق على جميع العصور؟ هل ممكن لفيلسوف يمارس الفضيلة ممارسة مخلصة أن يعيش في القرن العشرين ويسعد في القرن العشرين؟ سيقول قوم: إنه سيكون سعيدًا ما دام فيلسوفًا عرف غايته وعاش لها وتخصص فيها، ويقول كثيرون: إن أكثر هؤلاء الفلاسفة ومن شاكلهم، إنهم لم يعرفوا السعادة في حياتهم، بل عرضتهم مثاليتهم لأقسى أنواع العذاب والاضطهاد. فلندع «أرسطو» في مثاليته، ولننظر فيما يقول علماء النفس المحدثون، فهم يقولون: إن السعادة هي غاية الحياة، بل غاية الغايات، وإن كل الأهداف الصغيرة مهما اختلت إنما ترمي إلى هدف كبير واحد، هو السعادة بأوفى معانيها. فننتقل في الحال إلى الحياة والهدف من الحياة؛ أي إن رسالة السعادة تكون مرادفة لرسالة الحياة، فهل تكون الحياة قد أدت ما يطلب منها إذا اعتزلت الناس، وعاشت في برج عاجي تمارس فيه مثاليتها؟ وكيف تتم هذه الممارسة في برج عاجي؟ ولنفرض أن قديسًا بلغ قمة الفضيلة واعتزل في رأس برج، وأخذ ينظر إلى الناس من أعلى، يراهم في أحقادهم واقتتالهم وتكالبهم على الفاني، ماذا يكون أثر ذلك في نفسه؟ أن يرفع رأسه للسماء قائلًا: «رب اهدهم»، وإما أن يدير ظهره إليهم متأسفًا حزينًا، وإما أن ينزل من برجه إليهم. والحالة الأخيرة هي التي نأمل أن يمارسها الفيلسوف بفكرة أنها فضيلة كبرى أن يختلط القديس بالعامة ليهديهم ويرشدهم.

هناك حديث نبوي رائع مؤداه: «كلكم يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها، أو موبقها.» ولا شك أن سيكولوجية الحياة السعيدة هي في كلمة «معتقها»؛ أي إن الإنسان «يتكيف» مع الوسط، فلا يبيع نفسه له، ولا يرتكب موبقة بالثورة عليه أو الهدم من كيان المجتمع.

وبعبارة أخرى: يمشي بزورقه في ذلك البحر الخضم، آونة هادئًا، وآونة مسرعًا، يماشي اللجج ويصانع العاصفة حتى يتعلم الناس الفضيلة، ويأخذوا في ممارستها، وحتى يتعلم الناس أن الفرق بين الإنسان والحيوان هو في «الشعور الروحي» فقط، وعندئذ يكون قد أدى رسالة الحياة؛ أي رسالة السعادة.

ولكن كيف يتكيف الإنسان وما هي مقتضيات هذا «الميزان»؟

إن الطريقة الوحيدة هي الطريقة العملية المبنية على الملاحظة والتجربة، فهناك بضع قواعد أساسية للسير في عباب «أقيانوس» القرن العشرين، ويجب أن نلم بها، وأن نفهمها جيدًا، من تلك القواعد أن نفهم أننا نختلط بنوعين من الناس؛ الرجال والنساء، وأن هذا المجتمع قد برز بشطريه معًا، ولم يعد مجتمع رجال فقط، ولم يعد فيه النساء مطويات في الدور محجبات في القصور، فإذن عليه أن يفهم الفرق بين العقليتين، ويدرك اختلاف النفسيتين، فإذا خاطب رجلًا خاطب عقله ومنطقه وبيانه، وإذا خاطب امرأة خاطب عاطفتها، هذا مبدأ سهل بسيط، ولكنه مجهول، وإني أدلل به على ما ذكرته سابقًا من أن هناك قواعد أساسية مستقاة من واقع الحياة والجيل الذي نعيش فيه، وقِسْ على ذلك كثيرًا من القواعد الأخرى المقررة، التي لا حاجة بنا لتفصيلها فإنها معلومة للذي يستقصي ويدقق، ويريد أن يتكيف مع الحياة بدون أن يفقد شخصيته وبدون أن يبيع نفسه.

لنكن عمليين إذن، نؤمن أن السعادة «نشاط روحي» وأن هذا النشاط له علاقة كبرى بالخير والحق، وأن هذا النشاط يستلزم لممارسته عقلية مرنة تعطي وتأخذ، وفي ذات الوقت تحتفظ بطابعها.

هذه هي السعادة لمن أراد السعادة، والواضح أن ممارسة السعادة بعد ذلك تصبح عادة، على شرط أن يتوفر الإيمان ويتيسر التدريب الطويل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤