رسالة علم النفس أو الشخصية وتكوينها

لو سألت أكثر الناس وخاصة المثقفين منهم عن «الشخصية» لتضاربت الآراء تضاربًا كبيرًا، ومع ذلك ما أكثر ما نسمع «فلان له شخصية» ونسمع كذلك أن الأسد «له شخصية مهابة»، ونسمع كذلك «على الإنسان أن يعمل على تقوية شخصيته»، ونسمع كذلك من علماء التربية المحدثين أن الغرض من التربية الحديثة «خلق الشخصية»، فإذا استمعت إلى هذا ثم أخذت تفكر فيه تبين لك أن الشخصية أحيانًا هي نوع من القوة والخيلاء، وأحيانًا نوع من الخلق، وأحيانًا نوع من الإرادة الضاربة، وأحيانًا شيء غير مفهوم يوحي بالمهابة والخضوع والاحترام.

والشخصية في الواقع ليست هذا ولا ذاك، ونحن نتحدث عنها حديثًا سهلًا لينًا كما نتحدث عن العبقرية، بدون أن تعرف ما هي؛ فليس للأسد شخصية، وليس للرجل العبوس شخصية، فقد كانت زوجة «بسمارك» تقول: إنه رجل حديدي خارج بيته، وهو في داخل البيت هرة ضعيفة عجفاء.

إذن، ما هي؟ إذا اتبعنا الطريقة العلمية فأصوب الطرق أن نصعد درج المخلوقات من البسيط للمعقد حتى نستطيع أن نعرف أن الخلية المفردة البسيطة لها من البساطة ما ينفي عنها صفة الشخصية على أي صورة فهمناها، وكذلك في الحشرة البسيطة مهما حبتها الطبيعة من الجمال والألوان، فلا بد إذن عند صعود درج التطور من مرحلة نقف عندها قائلين: «هنا شيء جديد.»

إن الحياة من أولها إلى آخرها نداء واستجابة أو بعبارة أخرى: دوافع حيوية والرد عليها، وهذه الدوافع الحيوية في الخلية البسيطة هي عناصر من غذاء واستنشاق وتناسل، فإذا جاعت الخلية بحثت عن الغذاء، وإذا نضجت أخذت تتناسل.

فإذا تعقدت الحياة تعقدت دوافعها، معنى ذلك أن هذه العناصر البسيطة لم تعد تكفي للبقاء، فإن الحياة أصبحت ميدانًا للكفاح، فلا بد من أسلحة أخرى تعين على الصراع؛ لتضمن بقاء الفرد والنوع معًا.

هذه الأسلحة هي الغرائز، والفكرة العامة عن الغريزة مبهمة؛ فهي في عُرف الكتاب تعني الفطرة أحيانًا، والعاطفة أحيانًا.

ولكن التعريف الحقيقي هو أنها دافع حيوي وُجِد عندما تعقدت طرق الحياة وتنوعت وسائل البقاء، ويمكن تعريفها إذن بأنها «عادة اجتماعية»؛ أي عادة يعتادها المخلوق ليكافح في سبيل البقاء، وهي في الواقع نوع من الطاقة تُستنفد في سبيل حفظ الفرد والنوع، وقد فصل منها علماء النفس ما يقرب من العشرين، فأدى ذلك إلى خلط كبير؛ فقد مزج أكثرهم بين الغريزة والأثر الذي يسبقها أو يدعو إليها، والنتيجة التي تنتهي إليها، فالخوف ليس غريزة، والحب ليس غريزة؛ فالخوف انفعال يؤدي إلى الهرب الذي هو غريزة كالإعجاب وطلب الجنس الآخر … إلخ. يتضح من ذلك أن الغريزة دافع حيوي محض ليس فيه خير ولا شر، وهي في أبسط مظاهرها نداء واستجابة، ويمكن أن نسمي هذا كما يسميه علماء الفيسيولوجيا «منعكسًا reflex» وأهميته في علم النفس أن مدرسة «السلوكيين Behaviourists» تعد السلوك الإنساني أفعالًا منعكسة مشروطة Conditioned.

معنى ذلك أن السلوك يُستثار إذا وجد ما اعتاد استثارته، فإن الغذاء إذا اقترن برنة جرس فإن اللعاب يسيل إيذانًا بميعاد الطعام، فإذا رن الجرس بدون وجود الغذاء فإن اللعاب يسيل على كل حال، وهؤلاء السلوكيون يقولون: إن الحيوان المعقد الجوانب ما هو إلا منعكسات معقدة الجوانب. على أننا لا نستطيع أن نوافقهم على هذا؛ فإن المنعكسات في الحيوان آلية محضة، ولا يمكن أن تكون المنعكسات البشرية من هذا الطراز. فيجيبون أن الاختلاف إنما وُجد لأن الدروب تشعبت والمسالك التوت، ولأنه صارت هناك موانع تقف في سبيل الآلية المحضة.

ولكننا نجيب أننا إذا صعدنا الدرج نحو الإنسان نجد أن هذه الموانع التي تشيرون إليها إنسانية اجتماعية؛ أي إن المنعكس لم يعد بعدُ آليًّا؛ فقد صار شيئًا عاقلًا، وزيادة على ذلك فقد صار شيئًا مبنيًّا على «الشعور»؛ أي على إحساسنا بوجود آخرين غيرنا لهم ما لنا من حقوق وواجبات. وزيادة في الشرح أقول: إن الحيوان حين يجوع يفترس، وحين تلوح له الأنثى يقتل في سبيل الحصول عليها، أما نحن الذين نرتدي ثياب الآدمية فنحن نتمهل قبل أن نختطف اللقمة من فم غيرنا، ونحن نستحي أن ننظر إلى زوجة الجار كأنها مجرد هدف للتناسل مهما بلغت قوة الجمال عندها، وقوة العاطفة عندنا.

على أننا لا شك نرتد إلى الحيوانية في أحوال خاصة؛ كالحرب والغضب، فنفترس غيرنا في سبيل اللقمة، وندوس حقوق الجار، ونصنع ما لا يُحصى مما لا يليق.

وعلى كل حال، ما الذي حدث في سلم التطور حتى صار المنعكس الآلي منعكسًا عاقلًا مدركًا؟

إن الإنسان لم يعُد إنسانًا إلا حين أخذ يعرف أن هناك «علاقة» بينه وبين غيره، وبينه وبين المجتمع على العموم.

هذه «العلاقة» العاقلة الشاعرة المحسة المدركة هي فجر الشخصية.

فلا يمكن أن نتكلم عن «شخصية» إنسان لا يعاشر الناس.

ولا يمكن أن نتكلم عن شخصية إنسان يتفاعل بخاصية متغيرة من مجموع خصائصه.

فالإنسان ذو الشخصية إذن هو آدمي علاقته بالبشر ثابتة من حيث إنها تفاعل ثابت، أو غالب في أكثر الأحوال.

ولقد أنكر علماء النفس عن شخص يقال إنه مرح وطيب، بل يقال مرح طيب، يُفهم من ذلك أن الخصائص التي تكوِّنُ الشخصية هي وحدة متماسكة كالسبيكة.

ومن جهة أخرى نجد السبيكة في طرف، والوسط في الطرف الثاني، فأيهما أهم في تكوين الشخصية؟

فلننظر في محتويات الطرف الأول.

السبيكة الإنسانية: هذه السبيكة مكونة من عقل وعاطفة وخصائص موروثة وأمزجة، ولقد عرفنا من أمر هذه السبيكة الكثير، ولكنه بقي الكثير أيضًا، وهذا المحصول الكثير هو ما انحدر إلينا من أسلافنا وما لا نملك من أمره خيارًا؛ أي إننا لا حكم لنا عليه. فهل تستطيع باخرة نصف بحارتها ظاهرون معروفون والنصف الثاني أشباح، أن تخوض في عباب الحياة سالمة؟ بعبارة أخرى: هل يستطيع النصف المعلوم التماسك والقوة حتى يقود السفينة بصرف النظر عن الأشباح الأخرى التي تعمل عملها في الظلام؟ لقد انصرف العلماء فريقين، فريق يقول بأن الوسط هو كل شيء، وفريق آخر يقول: إننا نستطيع بالنصف المعلوم إذا سهر١ على تكوينه وتنميته وتوحيد أهدافه أن نتغلب حتى على الوسط، وفريق — كالأستاذ «برج» — يقول: «إن شعورنا بهذه الأشباح والمحتملات والخصائص الوراثية هو الذي يجب أن يجعلنا نشعر بالنقص فنبغي الكمال.» ومن ثم كان تعريفه للشخصية أنها ذلك التعامل بين الوسط وبين «إمكانيات وراثية Hereditary Orentialits»، يعني بذلك أننا لا نرث شيئًا محددًا، وإنما ترث اتجاهًا وإمكانًا واحتمالًا.

فمن أجل تكوين الشخصية يكون من الأسلم أن نفترض وجود هذا الضعف قائمًا، على شرط أن لا نعده مهانة بل حافزًا، ولا تحسبه قيدًا بل دافعًا للثورة على القيد.

قد نكون مغالين إذا افترضنا هذه المجهولات والإمكانيات كأساس لبناء الشخصية، وقد يسألنا عالم من علماء النفس: وأين أثر البنية؟ وأين أثر الغرائز؟ وأين أثر الغدد؟ وأين أثر الهرمونات؟ وأين أثر العقل بخصائصه الثلاثة «الاطلاعية والتأثرية والتنفيذية»؟ وأين أثر العقل بقسميه الواعي والباطن؟ فأجيب: وماذا نملك نحن من تكوين البيئة؟ وماذا نعلم نحن من أمر الغدد والهرمونات إلا القليل؟ وماذا نعلم نحن عن حقيقة العقل؟

أليست هذه كلها إمكانيات ومحتملات ومجهولات؟ إن الذي نستطيع أن نؤكده هو أن للجسم الصحيح القوي أثرًا في بناء الشخصية ولكن حتى هذا التأكيد معرض للنقد، فكم من أجسام هزيلة يكمن خلفها شخصيات فذة جبارة! والذي نستطيع أن نؤكده عن الغرائز أننا نستطيع كبحها أو تحويلها ولا نستطيع تغييرها ولا خنقها، والذي نستطيع أن نقوم به نحو خصائص العقل هو أن نُجيد استعمالها.

فالأسلم إذن أن نفترض أننا بين طرفين: احتمالات ووسط، أما الاحتمالات فهي اتجاهات علينا تحديدها وتوحيدها وتبين معالمها، وأما الوسط فما يستطيع أكثر من أن يلون طبائعنا ويكسونا بثيابه ويُسبغ علينا ظلاله.

ولقد يكون من المفيد حقًّا أن نعترف بالنقص لنسير في طريق الكمال، لقد يكون من المفيد حقًّا أن نعترف أننا نستطيع أن نجعل من اللاشيء شيئًا ومن المجهول معلومًا، ومن الأشباح أجسادًا، ومن الأسس المتناثرة بناء واضح المعالم، ولقد يكون من المفيد حقًّا أن نعترف أن الصراع مكتوب علينا ونحن أجنة، فحتى أعضاؤنا الداخلية الكبرى تتقاتل في سبيل الاحتفاظ بأمكنتها، والطفل معرض للزجر والنهي في كل آونة، وإننا لو أصغينا إلى أي نفس بشرية حتى أكثرها هدوءًا لأصغينا إلى صوت مدوٍّ، ولكن الفرق بين الشخصية واللاشخصية أن الصراع الداخلي في الأولى يؤدي إلى نتيجة موحدة كمجاذيف المركب سواء بسواء قد تختلف اتجاهًا، ولكنها تتحد اتجاهًا، وفي الحالة الثانية تتصارع أجزاء النفس معًا صراعًا يؤدي إلى تبعثر الأهداف وفشل المساعي.

إن هذا الصراع موجه وجهتين، داخل النفس وخارجها، فعلينا مواجهة النفس، وثانيًا مواجهة الحياة، إن الذي لا يواجه نفسه يغشها أو يدللها أو يهرب منها، فإذا استطعنا أن نواجه أنفسنا بصراحة قررنا قبولها بعيوبها ونقائصها، كما يرث الإنسان قطعة أرض ملتوية الدروب، كلها أخاديد ومرتفعات ومنخفضات، فعليه وعلى المهندس معًا أن يبنيا فوقها منزلًا بطريقة تحجب هذه العيوب وتخلق من القبح جمالًا، ولا نشك أن قبول النفس يمحو الشعور بالنقص، وليس الشعور بالنقص عيبًا، بل العيب تغطيته بطرق غير لائقة، أو النظر إليه بجزع سرعان ما ينقلب حقدًا على العالم، أو التفنن في مداراته بطرق تكشفه وتجعله سخرية، ويمكن لكل إنسان أن يخلق من نقصه شيئًا نافعًا، فالفضولي يستطيع أن يكون مخبرًا ماهرًا، ومُحب العزلة يستطيع أن يكون عالمًا أو شاعرًا أو فيلسوفًا، وهكذا، وقبول النفس كذلك يضمن انصرافنا عن إدمان النظر فيها وفي عيوبها، إنه من المؤلم حقًّا أن يدور الإنسان في غرفة ممتلئة بالمرايا وأن يدور بها كل يوم، إن هذه المرايا لو تحولت إلى نوافذ؛ لوجدت النفس آفاقًا جديدة وظلالًا جديدة، وهذه الآفاق والظلال هي العثور على العمل والصديق، فهذان يصرفان النفس عن التفكير في همومها، ويجعلانها تعتقد أن هذه الهموم أشياء طبيعية عارضة كالغمامة في السماء، فنحن لا ننظر إلى الغمامة كحالة ثابتة دائمة، بل ننظر إليها كما ننظر إلى حجر يعترض طريقنا فننحيه برفق أو ندور حوله، ثم نمضي قدمًا نحو أعمالنا وأصدقائنا، ولا أعتقد أن هناك مؤثرًا في شخصيتنا كأصدقائنا؛ ففيهم من هم أعظم منا وفيهم من هم أقل منا، الأولون يجعلوننا ننسى غرورنا، والآخرون يجعلوننا نحمد الله تعالى على نعمه، وإذا أحببنا صديقًا نعترف بتفوقه، فقد رضينا بالمكان الثاني بالنسبة له، وهذا هو الإيمان في أبسط صوره، هذه هي مواجهة النفس فلننظر في مواجهة الحياة.

يرسم لنا Menneken في كتابه «العقل البشري» صورة فذة لهذه المواجهة؛ فهو يسمي الوسط «بالموقف»، ليُشعرنا بأننا لا نواجه موقفًا بعينه كل يوم situation. فالناس ثلاثة أصناف: صنف يواجه، وصنف يهرب، وصنف يدمر. أما المواجه فهو الذي يحسن الملاءمة والانسجام، وأما الهارب فعصبي أو مجنون، وأما المدمر فهو شخص يدمر نفسه أو يدمر الوسط ليتخلص منه، وهذا هو المجرم أو المتمرد الثائر أو العبقري. على أن هنالك صنفًا لا يقوى على المواجهة، بل يحول هروبه إلى عمل فني يداري به فشله، ذلك الشخص هو الكاتب أو الشاعر أو الفنان.
١  من هذا يتضح أن الشخصية صفة إنسانية محضة، ويمكن تعريفها إذن أنها: «الأثر الناشئ من تفاعل الخصائص الآدمية مع الوسط.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤