رسالة الشباب

إذا تكلمنا عن الشباب اليوم، فإننا نتحدث أولًا عن أخطاء أكثرها بل جلها أخطاء المجتمع.

وأقصد بالمجتمع ما به من معلمين وقادة وآباء وأمهات، ماذا صنع المجتمع لإصلاح شبانه؟ إلينا خلاصة لما صنع إلى اليوم:
  • (١)
    التعليم: قد أدى دائمًا إلى ثقافة شخصية ولم يؤد إلى المواطن الصالح، وكثيرًا ما أدى إلى المعرفة التامة، ولكنه قليلًا ما أدى إلى خلق شخصية سليمة.
  • (٢)
    العقاب والثواب: لم يؤديا إلى شيء، فإن السجون تفرغ وتمتلئ والمشانق تُعلق، والشر لم يبتعد عن العالم، والخير لم تنزرع أصوله في النفس مطلقًا.
  • (٣)
    الوعظ والحث على الأخلاق الحميدة: هذان أيضًا لم يؤديا إلى إصلاح في الأخطاء الشائعة، فالغالب أننا نمل الوعظ ولا نتأثر به إلا إذا كان مهيئًا في قالب فني تستوعبه النفس وينفذ إلى القلب، وبعبارة أخرى: إن لم يكن ذلك الوعظ مؤديًا إلى إقناع قلبي فلا فائدة منه، وحقيقة قد يكون الكلم البليغ مؤثرًا، ولكن تأثيره لا يعدو الساعة التي ألقي فيها.
  • (٤)
    التعليم الديني: إنني أومن بالدين كعنصر عام من عناصر الإصلاح، ويكفي أن نستعرض سير الأنبياء والرسل وما لاقوه في سبيل الدعوة وما تجشموه في سبيل الإنسانية وما صادفوه في حياتهم وهم يحاولون إصلاح العالم، يكفي ذلك تقويمًا للنفوس المعوجة وهديًا للنزعات الضالة، ولكن اضطرابات العالم والكوارث المتلاحقة قلقلت الإيمان ونشرت في العالم موجة من القلق وعدم الثقة، جعلت المفكرين يفكرون في عكاز جديد يستند إليه العالم الأعرج ويكون قوة أخرى بجانب الإيمان تشد أزره وتسنده، هذا العكاز هو الإصلاح السيكولوجي، وقد فصل ذلك الأستاذ «شيلر» في كتابه «مستقبل الإنسان» تفصيلًا قيمًا فليرجع إليه من يريد؟

على أن الإصلاح السيكولوجي يجب أن يبدأ من أسفل الدرج ليصل إلى أعلاه، على أن الدراسة السيكولوجية لا شك تقتضي الإلمام التام بعلم النفس، ومن لم يستطع الإلمام التام فعليه على الأقل بالبديهيات، فلنذكر هنا أن الآلة الإنسانية تتكون من وقود وسائق وموتور، فلنبدأ بالطفل، فهو كله وقود تقريبًا، والعقل الذي عنده لا يعدو بضعة خصائص جنسية موروثة. أما الموتور لدى الطفل فشيء غشيم صغير تسيره العاطفة ويمكن أن نسميه العناد، أو التشبث أو الأنانية أو إرادة القوة، فإذا أضفنا لذلك الخيال وأحلام اليقظة اكتملت لنا صورة الهمجي الصغير المسمى بالطفل.

فيتلخص علاج الطفل — بناء على هذه الصورة — بمعالجة الإرادة الجامحة أو بالعاطفة العاصفة، وأهم ما في عواصف الطفولة الغضب والخوف والميل إلى الهدم. ولنعترف أن المرمى ميال دائمًا إلى كسر شوكة العناد، وقد اختلف المربون في هذا الباب فمنهم من أشار بالعنف ومنهم من أشار بضده، والرأي الحديث لا يميل إلى هذا العنف؛ لأنه هدم بغير بناء، ويميل بالأكثر إلى بناء شيء يقوم مقام العقل، ليقاوم ذلك التيار الجارف، إن العقل في دور الطفولة كما بينَّا لا يعدو بضع خصائص وراثية، فأي شيء نستطيع أن نقيمه مكانه، حتى يتم نموه ونضجه، «العادات»، وصدق من قال: «العادة تكون الفكر، والفكر يكون الخلق، والخلق يكون القدر»، فبناء العادات هو الذي يجب أن يجري بلا هوادة ويتم بلا رحمة ولا شفقة، وقد نصح أكثر العلماء بشأن العاصفة التي أشرنا إليها في نفس الطفل أنها من الممكن تشتيتها بتوزيعها على مجهودات مختلفة، ويمكن كذلك تحويلها، فإن الصفير في الخطر أو الخوف يمكن أن يتعود اصطناع المرح والشجاعة، فالواقع أن اصطناع المرح يُذهِب جانبًا كبيرًا من الحزن، ولا يخفى أن الصفير — أي ادعاء عدم المبالاة — يُعين على الاحتمال والشجاعة.

وأعود فأقول: إن الطاعة العمياء في تكوين العادات أثناء الصغر، نوع من العبودية يؤدي إلى حرية عجيبة فيما بعد، فلو أننا استعرضنا العقل البشري كطريق لوجدنا أنه مكون على الأكثر من طرق محفورة، نقشتها يد المربي أو البيئة، هذه الطرق هي العادات. ولو أنني وثبت من الكلام عن الطفولة إلى الشباب فذكرت بعض أخطائه، كقلة ضبط المواعيد وعدم الثبات والكذب وغير ذلك، لوجدتها لا تخرج عن أنها «عادات» ساء تكوينها في الصغر.

حسبنا هذا القدر عن الطفولة فلنمر إلى مرحلة خطيرة جدًّا، ألا وهي اليفاعة أو المراهقة، فهي الدهليز الذي يؤدي توًّا إلى الشباب، ولكنني قبل أن أمضي في هذا الدهليز أريد أن أتحدث في الأثر الناشئ من معالجة إرادة القوة بالعنف والإخضاع، أو بضد هذا وهو الملاينة المتطرفة، إن الحالة الأولى تؤدي إلى صراع Conflict، والحالة الثانية تؤدي إلى التدهور والفساد Delinquency. الطفل في الحالة الأولى ثائر منطوٍ على نفسه وإن يكن هادئًا في الظاهر، وفي الحالة الثانية ينشأ الطفل اتكاليًّا ويشب عالة على المجتمع، ولما كانت تربية الطفولة تتلخص في أمرين: إعداد شخصية خالية من العُقَد وإعداد شخصية غيرية، فكثيرون من الأطفال يخرجون من الطفولة بالنقيصتين فيتعرضون لكل الكوارث النفسية الممكنة.
هذا هو الدهليز، ولكن لدي ما أسميه دهليز الدهليز؛ أي المرحلة التي تسبق المراهقة، وهي التي يتكون فيها الحكم Reasoning، المرحلة التي نُعلِّم فيها أولادنا كيفية استعمال العقل، ولما كان أكثر المنطق الذي نستند إليه متحيز، فإن الخطأ يجيء من هذا الباب أكثر من أي شيء آخر. والغالب أننا نخطئ في حل مشاكلنا العقلية بسبب هذا المنطق المتحيز، وهذه مسألة عميقة الأثر في تكوين عقلية الشباب، ففي هاته المرحلة التي ندعوها دهليز الدهليز، على المربي أن يكوِّنَ في الشباب العقلية التي تنظر إلى الأشياء نظرة مجردة، بعيدة عن أهوائنا ونزعاتنا، ولقد يكون من المرانة أن يعقد مجلسًا عائليًّا لحل مشاكل الأسرة، ويكون رائد أفراد العائلة المناظرة المجردة عن الهوى والنزعات الشخصية، بهذه العقلية يجب أن يدخل الصبي إلى المراهقة.

في المراهقة يكون الفتى أو الفتاة في عالم جديد، فالغدد ناشطة والحياة الجنسية أخذت تزدهر، والدنيا مليئة بالمفاتن التي تغري بالسيطرة عليها، ومن هنا تكثر المخاوف المبهمة التي يأبى المراهق التصريح بها، فهو يرى كل شيء في جسده جديدًا ناميًا فيتعثر، ويلوح عليه عدم الانسجام، والواقع أنه يرى صورتين في المرآة، صورته الحقيقية وصورة رجولته في مرآة ذهنه، والصورتان تتعارضان وتتداخلان في تصرفاته.

هذه الصورة التي تبدو في مرآة الذهن لها أثر بعيد في نفسية المراهق، فإنها تخلق ثورة دفينة، وخاصة في المنزل؛ حيث تتعارض الصورة الذهنية مع الصورة التي يرى بها أهل المنزل فتانا أو فتاتنا، فالمراهق في المنزل ثائر متبرم ولا يجد راحة إلا في المدرسة حيث يساعد جو النمو على اطراد النمو الحقيقي.

فعلى ذلك يجب الالتفات إلى هذه الثورة الدفينة، وعرفان مصورها وحسن ترجمتها.

فإذا اتفق أن يكون المراهق قد خرج من الطفولة بعقدة وصراع، فإن الشباب سيكون جحيمًا تامًّا، وهنا يجب أن نقف قليلًا لننظر إلى معنى الجنس في المراهقة، إن الجنس في المراهقة خيال وتأليه وتقديس ومثالية، على أن الفتى بقدر ما يتخيل عن الفتاة فبينه وبينها نفور؛ لأنه خارج من سيطرة أم ونفوذها فهو يخشى الدخول تحت نير جديد، ومن هنا يتبين سر النزاع بين الشقيق وشقيقته في المنزل بغير داع؛ ولهذا السبب دعا المربون إلى منع اختلاط الجنسين في هذا الدور من التعليم، لا من أجل المسألة الجنسية فقط؛ لأنه قد اتضح أن كل ما يذكره المراهق عن معرفته بالمسألة الجنسية افتراء وادعاء، وأنه قادر على الكلام فقط، أما العمل ففي دور الشباب حين يكون الذكر قد نظر إلى الأنثى من زاوية جديدة خيالية وعملية، على أن لدور المراهقة هذه النواحي على العموم: عدم الاستقرار، تعدد الأهداف، التحرر من القيود لدرجة الاستهتار، تشتت الفكر، الاستغراق في أحلام اليقظة، التعرض لمركب «أوديب» أو على الأقل لتثبيته.

فالأخطاء التي يمكن أن يخرج بها فرد ما إلى الشباب هي: (١) أنانية ممتدة من الطفولة. (٢) صراع مبني على العقد. (٣) استهتار وميل للهدم والتحدي. (٤) اندفاع عاطفي خيالي.

هذه هي بالذات أخطاء الشباب التي يجب الالتفات إليها ومحاربتها، وأهمها في رأيي الصراع بمسبباته ومختلف ألوانه، فهذا الصراع هو السبب في الشقاء الذي يخيم على نفوس الشباب في هذا الجيل، وهذا الصراع مقترن أشد الاقتران بتنوع الأهداف وتشتت المطامع والميول، والضباب المتكاتف حول المرامي.

يبدو مما ذكرت أن الرجولة الناضجة هي الرجولة الخالية من الأخطاء السالفة؛ أي هي سلامة من العقد، وإيجابية واتزان وغيرية، أما سلامة الشاب من العقد، فمعناها أن لا يكون الصراع عنده مرضيًّا مبنيًّا على قوى متضاربة مكبوتة، وقد فصلت المؤلفة «كوسجريف» ذلك تفصيلًا واضحًا في كتابها «سيكولوجية الشباب»، فذكرت أن الصراع قد يكون بين الحقيقة والواقع، وبين ما نتخيله وبين ما نحن عليه في الحقيقة، وبين فكرتين وبين عاطفتين، وبين الرغبة والطلب وبين الروحانية والمادة، وبين ما هو إنساني وغير إنساني، وبين الذاتية والطاعة وبين القيود والحرية، وبين فكرتنا عن نفسنا وفكرة الناس عنا.

وهذا الصراع مع الأسف ينتهي إلى أمرين: (١) الشقاء الملازم. (٢) تمزق الشخصية.

وقبل أن أصف العلاج لهذه الأخطاء أضيف كلمة عن الحب عند الشباب، فأقول: إنه شيء جدِّي جدًّا في حياة الشاب والشابة، والعلاقة التي بين شاب وأول فتاة يعرفها قوية جدَّا وعميقة، وهو يبني على تلك العلاقة أهمية كبرى ويصاب بحزن بالغ يوم تنفصم.

على أن الإنجليز يسخرون منه ويسمونه Calf Love أي الحب العجول! ولست من هذا الرأي ولا أميل إلى السخرية بالحب في دور الشباب، فإن آمال الحياة وما تتطلبه من الاستقرار تتركز عند الفتاة في شاب يمثل أحلامها، وعند الشاب في فتاة تطابق أمانيه المتخيلة، فيجب أن لا نتسرع بعدِّها نزوات، ولكن المهم هو أن نميزها من سطحيات المراهقة.

أما العلاج، فهو: (١) على الشاب أن ينظر نظرة صادقة مجردة عن التحيز لنزعاته وأهوائه. (٢) عمل «ميزانية» للمطالب وتصفيتها بين حين وآخر؛ لنعلم بالضبط ماذا نأخذ وماذا ندع. (٣) على الشاب أن يتسم بطابع من المرونة ليس فيه ميوعة ولا تخنث، حتى يمكنه أن ينسجم مع الوسط؛ لأن الشخصية تماسك وهدف وفي الوقت ذاته تفاعل بين الفرد والوسط. (٣) على الشاب أن يعلم أن النجاح في كيفية الوسيلة لا في بلوغ الهدف، وأن كثيرًا من الإخفاق أنبل وأشرف من هدف متحقق. (٤) على الشاب أن يعلم بأن هذه الأخطاء طبيعية ومتوقعة ولا يجب أن تعتبر مهانات نعاب عليها ونخجل منها ونداريها ونطليها بطلاء خادع كاذب.

هذا ما يجب على الشاب، أما ما يجب على المربي فهو أن يعلم أن من الأخطاء ما يمكن أن يُستغل فيصير كمالًا، أو أرفع من الكمال، فمن صفات المراهقة المثالية والحماسة وعبادة البطولة، فيمكن أن تُستغل هذه الصفات استغلالًا كاملًا على شرط أن لا تتحول المثالية إلى صراع، والحماسة إلى اندفاع عاطفي جامح، وعبادة البطولة إلى هدم وموت ضمير ووصولية.

هذه هي أخطاء الشاب وواجبات الشباب، وقد وجدنا أن أكثرها من صنع المربي، وقد وضح لنا أن أغلبها امتداد لظل سابق، فلنبدأ بتلافيها قبل وقوعها، وهذا هو العلاج الواقي الناجع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤