رسالة النقد

نتساءل أولًا: هل لدينا نقد أدبي؟ يكاد يكون الإجماع: لا. وحتى الذين يحررون هذا النقد في الصحف هم أول من يعترفون بأنه لا يدخل في باب النقد ولا ينتمي إليه بصلة.

ماذا نسمي هذا العبث إذن؟

الأفضل أن نسميه «عرضًا»، ويقابلها بالإنجليزية كلمة Reviewiny لنفصل هذا الهراء عن الجد المسمى «النقد» أو Criticism. واعتقادي أن السبب الأول في ضياع حرمة النقد، هو الخلط بين الموضوعين على غير وعي، وهناك أسباب كثيرة لهذا الانهيار الأدبي، أولها أننا في عصر قلَّت فيه القراءة الجدية، والثاني النزعة المادية التي تسيطر على العصر، فحتى استعراض الكتب لم يعد استعراضًا؛ بل صار نصفه إعلانًا ونصفه دعاية، فإنك تجد في آخر الحديث عن الكتب أين طُبعت وأين جُلدت ثم الثمن، وأحيانًا وأحيانًا كثيرة جدًّا نقرأ حديثًا عن الكتاب، ونبحث عن اسم المؤلف فلا نجده؛ لأن عارض الكتب له عقلية عارض الأزياء.
والسبب الثالث: السرعة أو «اللهوجة» على حد تعبير المرحوم «المازني»، فالعارض ليس عنده وقت ليقرأ، فبالتالي ليس عنده وقت ليكتب، وإنه ليخيل لي أحيانًا أنه قرأ صفحة في أول الكتاب وصفحة في آخره، واكتفى بهذا، ومن المحزن أن عرض الكتاب لا يكون له أهمية الخبر من حيث الأهمية والحيوية، إلا حينما يكون المؤلف من الذين لاسمهم دوي في آذان الجماهير. وقد حاول أحد الكتاب الأمريكيين أن يفرق بين العرض والنقد، فقال: إن العارض متحدث متعجل، والناقد عارض مُتَّئِدٌ، وحاول آخر أن يفرق بينهما، فقال: إن العارض يعطي صورة للكتاب أو الكاتب، بينما الناقد يضع هذه الصور بين صور أخرى، حتى نتبين على ضوء المقارنة قيمة هذه الصورة، وأخذ كاتب آخر يفرق بينهما بشكل أوضح، فقال: إن العارض صاحب كلام خاص لا يعلو على الخصوصية، ولا على الغرض المباشر، ولكن الناقد يخرج من الخصوص إلى العموم، ويسمو على الهدف القريب، فهو هنا يستوي مع الفنان. ويعود كاتب آخر يقول: إنك لا تخرج من العارض إلا برأي ذاتي مبتسر، بينما الناقد يجب أن تصل عبر أحكامه الذاتية إلى ما يصح أن يكون دستورًا أدبيًّا ذا مواد شاملة وعامة وخالدة الأثر. هذا الرأي الأخير هو رأي «ريمي دي جورموز». على أن النقد هو ذلك الشيء الذي يخرجنا من عالم الثرثرة إلى عالم القيم الباقية Permauent Values، ولا أذكر مَنِ الذي قال: إن الفرق بينهما هو الفرق بين البوليس والقاضي، أو بين القسم والمحكمة، والمحنة هي في أن هذا البوليس، البوليس الأدبي جاهل أولًا، وثانيًا هو من الغرور بحيث يحتفظ بتحقيقاته في ملفاته الخاصة، بينما نحن في حاجة إلى من يحيل هذه الأوراق إلى قاضٍ تكون أحكامه بمثابة قوانين أدبية يرجع إليها بين الحين والحين. فأين هو هذا القاضي؟ هو غير موجود على صفحات الجرائد والمجلات ولا في الإذاعة، ولكنه منطوٍ على نفسه ضمن مكتبته وأسفاره يبني أحكامه الصادقة على شيئين:

الأول: الذوق الأدبي، والثاني: فهم دقيق للعملية الأدبية، وكيف تجري في أعماق الخاطر مبدأ ونضجًا ونهاية، وقد يكون هذا القاضي قد قرأ آراء القراء والشراح الذين سبقوه، ولكنه لا يتقيد كل التقيد بآرائهم ومعتقداتهم؛ لأنه يعيش في القرن العشرين ولأن النقد في هذا الجيل لا يجب أن يسير على غرار المناهج القديمة، ذلك لأن النقد المصاحب للوعي الإنساني، مساير لتطور العقلية البشرية مُمَاشٍ حتى للمعتقدات الدينية، فمن هذا يبني القاضي الحديث أحكامه على عقلية العصر منتبهًا إلى ما يلائم ذوقه وتفكيره متخلصًا من قيود القِدَم متخطيًا أسرار التقاليد البالية.

هذا القاضي موجود ولكنه قليل ونادر، وهو يؤثر أن يستقر بأفكاره وأحكامه مفضلًا عزلته على الاندماج في هذا الصخب الصحفي الذي أساء إلى النقد ونزل به من حالق، ولقد دعاني للمحاضرة عن موضوع النقد أنني قد عدت إلى الكتب الحديثة في النقد — رجعت إلى «أبر كرومي وريتشاردز ومري وروبرت ليند»، وكانت عودتي بالذات لاقتناعي بأننا في زمن جديد يحتاج لوعي جديد وبالأصح زمن جديد، ذي وعي جديد، يحتاج لطراز من النقد جديد، فما يكفي أن يقال، ولو كان هذا أحسن ما يقال: إن العملية الأدبية هي تجربة شعورية تندمج في اللاشعور، وقد تدخل مفصلة الأجزاء لتلتئم في الداخل، ويضفي عليها ضباب اللاشعور وأحلامه وتدرجاته وإمكانياته ثم تنتهي إلى إفضاء.

فعندنا من ناحية تجربة شعورية ومن ناحية أخرى «توصيل Communication»، وفي الوسط مكان العملية، ونحن نعلم أن أغلبها يتم في العقل الباطن بين الفكرة والعاطفة والظلال والإيقاع، كل هذا تعميم، وقد تناوله كل الكتاب المحدثين، ولكن بالرغم من ذلك قد بدت في الحقل الأدبي ظواهر غريبة، أولها إبهام في القيم، وغموض في المقاييس. وثانيها وهو المهم اختفاء النقد بالذات من عالم الأدب، هناك إنتاج أدبي ضخم بدون شك، ولكن هذا «الترف من الفوضى» على حد تعبير «جوفري ويست»، أو بعبارة أخرى: هذه البضائع المكدسة في أسواق الأدب بلا ضابط ولا صيرفيٍّ يبين صحيحها من زائفها يدل على أننا في عصر متسم بخاصية من عدم المبالاة، وعدم الإلحاح في إيجاد روابط وضوابط.
هذا الوعي بالضبط هو الذي يجب تشريحه وتفهمه والتغلغل في طواياه، لنفهم كيف حدث وهل يُرجى له علاج في المستقبل؟ كلما فكرت في الوعي الجديد يخيل لي أن هناك متكأ أفلت منا، وسندًا قد أضعناه بإهمالنا، هذا هو التراث الأدبي Tradition أعني بهذا ذلك الحبل المتصل بيننا وبين ماضينا الأدبي، ذلك الحبل الذي تنسج خيوطه أجيال وأجيال من التجارب الأدبية الثابتة. نحن الآن ننظر نظرة نصف ساخرة إلى سفر قيم كديوان الحماسة، وأكثرنا ينظرون إلى الشعر العاطفي بنفس السخرية التي ينظر بها الآخرون إلى العقل المهيمن على ديوان الحماسة في التربية.

فنحن إذن في مزيج من الثورة والسخرية وعدم الرضا، وبين هذه الانفعالات المتضاربة لا نعرف أين نقف بالضبط، ولا ندري لنا طريقًا خلال ضباب المستقبل، ونحن في هذه الحيرة نتساءل هل أفادتنا مجهودات المؤلفين الممتازين أمثال «السحرتي» و«مندور» و«الشايب» و«سيد قطب»؟ لا أعتقد أنها أعطتنا فرصًا للمقارنة وأعطتنا فرصًا للفهم والتحليل، ولكننا لم نزل بعد في ظلماتنا؛ لأن هذه المناهج المضطربة بين الكلاسيكية والرومانتيكية لا تؤدي إلى خطوط ثابتة يمكن السير وراءها، وليت اضطرابها فقط في التردد بين هذين المذهبين؛ الموضوعية والذاتية، بين المنطق والعاطفة، بين اللفظ والمعنى.

إلى آخر ما هنالك من هذه الدروس الملتوية بلا انتهاء ولا غاية.

ولقد يلتفت الباحث نحو الماضي فيجد عهدًا من العهود، عهدً قديمًا في الواقع كان النقد فيه مبنيًا على الفطرة، ولكنه على كل حال كان سليمًا ومعقولًا ومحترمًا، وكانت هذه الفطرة تشبه الإيمان الديني في الاقتناع والقوة، ولذلك جرى النقاد المحدثون على مذهب جديد، هو أن يقارنوا عندما يستعرضون تطور المجتمع، بين تطور الوعي وتطور الاعتقاد الديني، ففي العصر الذي تشير إليه كان الإنسان يستمد وعيه كما يستمد قواه الدينية من مصدر خارجي، وكان هذا المصدر الخارجي من القوة والسلطان والإقناع بحيث يجعل الوعي الأدبي والوعي الديني متماسكين في ظل النظم والقوانين والتقاليد التي شرعها ذلك المصدر الخارجي، لم يكن هناك انقسام في الوحدة النفسية، لم يكن هناك عقل وعاطفة، بل هناك عقل محض تختبئ في ظله العاطفة وتستدفئ الروح، وكان هذا العقل يستمد جبروته من عقل شامل محيط يملي ولا يناقش، في حماية هذا العقل كان النظام موطدًا والاستقرار سائدًا والدروب مشتركة والمسالك موحدة.

سار هذا النظام في القرون الوسطى حينما كان أرباب الديانات يستعينون بقوة الفلسفة — أي بقوة المنطق والعقل — في إجبار الناس على قبول المناهج الدينية أو الأدبية، أما في عهد النهضة وبعدها فقد استيقظت «الروح» الإنسانية واستيقظت الذاتية الفردية، واستيقظ الوعي الداخلي في النفس البشرية، كل هذا لتحد الروح من سلطان العقل، ولتثبت أنها جديرة عن طريق البصيرة Insight بوعي مستقل كامل لا يعتمد على إمداد خارجي هذا الانفصال في شبكة الوعي، هو بالضبط ما جرى في النفس البشرية فأثر بدوره في المجتمع والدين والأدب، أما في المجتمع فهذا معناه الثورة على الدكتاتورية وقيام الديمقراطية، وأما في الدين فقد جعل الناس أقرب إلى التشكك واللادينية؛ لأن الإيمان المبني على مجرد التأمل العميق يختلف عن الإيمان المبني على المنطق والواقع، فالأول أقوى وأعمق، ولكن الثاني أكثر سطحية وأعم اتساعًا وشمولًا.

أما في الأدب فمعناه خلع سلطان الكلاسيكية ومبايعة الرومانتيكية في الأدب.

ولكننا في وقت التحام العناصر النفسية كنا أقوى وأشد نظامًا وترتيبًا، ولكننا اليوم — بانقسام الوعي — شطرنا هذا الوعي، ولكننا لم نفلح في إعادة الالتئام إليه مرة أخرى. من ذلك نتبين أن هذا التصدع جرى في انتظام، التئام جديد، التئام بين دعاة العقل، دعاة الروح، دعاة الموضوعية، دعاة الذاتية، دعاة الطاقة الخارجة والطاقة الداخلة Trasscendant and Immanent.
يقول «بوناميه دوبريه»: لم تر الدنيا عصرًا من العصور ظهرت فيه الحياة تافهة، والوجود سخيفًا والقيم زائلة كما يتبين اليوم، إن قوى هائلة من الإرادة الإنسانية والتساؤل تنبت في محيط كان يسوده الاعتقاد الأعمى المطلق. فنحن في الواقع لا نزال في عصر تَحَوُّلٍ Transition يتميز بالشك والقلقلة، وطابعه الاستخفاف بكل شيء وإنكار كل شيء. قال «تولستوي»: إن أول مراتب الفن والنقد الإحساس الكامل بالحياة بقسميها العقلي والاجتماعي، فمن أين يتيسر لنا الفن والنقد ونحن في عصر تحول، مفطور على تجاهل الحياة والقيم على أنه يبدو للذي يقرأ الروايات والسير أنها تلخص في بضع كلمات، فلان الفلاني في سن السابعة عرف القيمة الحقيقية لوالديه فأنكرهما، وفي البلوغ عرف قيمة التعليم فحقد عليه، وفي الشباب عرف قيمة الأخلاق فثار عليها، ثم تغلغل في المجتمع فاتضح له فساده فتمرد على أوضاعه، وفي سن الخامسة والعشرين انتهت القصة بهذا النظام الأسود المتشائم، هذا ملخص عام لجميع روايات هذا الجيل بدون استثناء، والنتيجة الجدية أن نرى ولا نزاع أن الأدب الأبتر فرع من الشجرة البتراء.

ولكننا في الحق يجب أن نقف موقفًا جديدًا إذا أردنا أن نخلق عالمًا جديدًا، يجب أن نقف موقفًا متفائلًا بدل هذا الموقف المتشائم القاتم، وأول خطوة لذلك أن نعترف أن التساؤل هو مدخل النقد.

وعلينا أن نذكر دائمًا ما قاله «ماتيو أرتولد» في هذا الباب، وهو بالحرف: «النقد هو ما يخلق موقفًا ذهنيًّا، تستفيد منه القوى الخالقة.» وعنى ذلك أن الفن يبلور القيم الإنسانية، أما النقد فيجلو هذه القيم المتبلورة للأنظار.

وقد يتساءل متسائل وما علاقة الذوق الفني أو الأدبي بالنقد؟ أليس لهذا أهمية؟ فنجيبه أن الذوق هو بالطبع أساس النقد والفن، وقد يكون النقد التعبير التلقائي للذوق، ولكنه في الواقع أعلى من ذلك، فإن الذوق شيء باطني «على كيفه» أما النقد فهو وعي الفن، ويمكن أن يقال كذلك أنه وعي الذوق، أعني بذلك أنه الفن الواعي المنظم أو الذوق الواعي المنظم كما تشاءون Criticism is the consciousness of art and test.

وخطوة أخرى في سبيل تفهم موقفنا الحاضر هو أن لا نجزع من تنوع واختلاط المقاييس، ويجب أن لا نفزع من سيل الفوضى الذي يغمرنا، فإن الحقيقة الكبرى أن لكل سيل اتجاهَه ولكل انتقال هدفه، وإن هذا التنويع في الاتجاهات والمذاهب، يحمل — على رغمه — خطوطًا رئيسية، فإذا فهم الناقد هذه الاتجاهات فعليه أن يكون محصنًا ضد التأثرات العابرة، أعني أن يكون محيطًا بميول نفسه وميول جيله، وملمًّا بالميول والاتجاهات الإنسانية الماضية ومستعدًّا للمقارنة واستخلاص القيم الثابتة، وأزيد ذلك شرحًا أن على الناقد أن تكون وظيفته «كاتب حسابات الفن»؛ عليه أن يدون الحسابات، ويرصد الدخل والخرج ويعين الرصيد، ويمحو من العملة القديمة ليبدلها بعملة جديدة، فهو من ثَمَّ يكون حافظ التراث، حافظ التراث القومي والتراث الإنساني، فإن لم يكن هناك تراث فعليه خلق تراث، هذه وظيفة هامة جدًّا للناقد، وهو في أثناء عمله هذا يجب أن يدرك أننا لم نعد في عصر يؤمن بقيم مطلقة لا تناقش، فإن القيم المطلقة مستحيلة، وإنما الذي نبغيه هو الاختلاف في ظل وحدة قابلة للنمو والتحسين.

ولما كانت الفلسفة والفن على اتفاق في أنهما يحددان ويخلقان القيم الإنسانية فإن الناقد يجب أن تكون له ذهنية الفيلسوف والفنان معًا، ولو أن «مري» و«إليوت» يعطيان الأهمية للعقل الفلسفي، ولكن كما شرحت سابقًا قد بينت علاقة النقد بالفن، وفي الواقع يهمني أن أجد الناقد فنانًا ذا نشاط ذهني قوي، على الناقد إذن أن يكون له عقل فيلسوف وإحساس فنان، وهنا نقف على عتبة الموضوع الكبير، عقل أم عاطفة؟ موضوعية أو ذاتية؟ معنى أم لفظ؟ كلاسيكية أم رومانتيكية؟ إنه مهما تعددت المذاهب وانقسمت لا تنقسم أكثر من مذهبين؛ الكلاسيكية والرومانتيكية، فتصور تحرر الروح والتمرد على الأوضاع والانطلاق الشعوري التام، ففي الأولى الاستقرار في ظل النظام، والثانية في ظل فوضى لذيذة، وإذا استعرضنا العمل الفني على الأجيال خُيِّل لنا أن هناك جهدًا موصولًا للخلاص من الكلاسيكية، ولكن هذا غير حقيقي؛ فإن كل جيل يخيل له أن الجيل الذي سبق مُثْقَلٌ بالقيود، فعليه الخلاص من قيوده، وهو في الواقع لا يمكنه أن يحطم تلك القيود؛ لأنها قيود أصبحت جزءًا من الهيكل الأدبي والاجتماعي يود الذي يسكنه — وهو لا يدري — أن يخلق متنفسًا من الهواء الطلق في أبهاء قصر عابس الحجرات متجهم المعالم، ولكنه قصر يقف رمزًا للمجد ولا يزال أثره باقيًا وسيظل.

فالخلاصة أن الأجيال المتعاقبة عاملة على إعطاء الزمام للروح بدل العقل، وللشعور بدل المنطق الصارم، هذا هو الاتجاه الرئيسي للجيل الحاضر، فالكلاسيكية كما يريدها ناقد مثل «إليوت» لم تعد صالحة مطلقًا، والرومانطيقية كما يريدها ioya كذلك لا يمكن أن تنطلق على هواها!

فما هي القيمة التي يتوخاها الناقد الحديث — ناقد المستقبل — في العمل الأدبي؟ يجب أن يحاول الناقد وضع العمل الأدبي في مكانه من القيم الإنسانية الثابتة، بعبارة أخرى: يتعدى الخصوص للعموم، وهو لن يصل إلى هذه النتيجة إلا إذا اعتبر النقد وعيًا للحياة الإنسانية.

قال «تشيكوف» لأحد أصدقائه الذين يكتبون من برج عاجي: «تعال، اختلط، استغرق في الزحام، تنفس أدبًا، لكي تعرف أن تنقد أدبًا!»

فقيمة العمل الأدبي أو الفني هو القيمة التي نسجلها في درج الحياة الإنسانية، فإذا فهمنا ذلك ذهبنا إلى صورة العمل الأدبي، العمل الأدبي غرفة ذات بابين: باب يطل على الحياة، وباب يوصل إلى الحياة.

من الأول نستمد تجربتنا الشعورية، ومن الثاني نوصلها للناس.

أما الغرفة الداخلية ففيها الفكرة والعاطفة واللفظ والمعنى والصورة والظلال، والموسيقى والانسجام والإيقاع؛ أي إنها «المطبخ» التي تُطهى فيه التجربة لتخرج ناضجة.

وأهم ما في التجربة قيمتها الإنسانية، وأهم ما في المطبخ الانسجام والتوازن والسبك، وأهم ما في الباب الخارجي سهولة التوصيل ويسر التفاهم، وكيفية الإقناع والتأثير، وبث الإحساس بالقيم التي أوحت بها إلينا التجربة، وكشف مواضع الجمال والأهمية في الحياة والوجود، وقد يكون للشعر طبخ غير النثر، وللنثر طبخ غير الغناء أو الموسيقى، ولكنها في اختلاف النسب والمقادير بينما تبقى الأصول على حالها من حيث التوازن والانسجام.

فالعمل الفني يجب أن يحدد في عين الناقد بمقدار الشعور الإنساني المنبت فيه، والتوازن الجاري بين المتناقضات من عقل وعاطفة وفكرة ومعنى.

وأخيرًا، هل أفاد هذا العمل اتصالًا؟ فما قيمته وما أثره في الأدب الحاضر والمجتمع الحاضر؟ وما قيمته وأثره بالنسبة للتراث الأدبي العام، هذا هو نقد المستقبل أو مستقبل النقد والسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤