دموع البلياتشو

١

وهو خارج من الباب الجانبي لوزارة المالية تذكر أمرَين لم يدرِ كيف شغلته عنهما الحسابات وكشوف المرتبات ومراجعة الأعداد والأرقام: السؤال عن مصير طلب النقل الذي سلمه لرئيسه الأستاذ محمود عبد المعين راجيًا الموافقة على تحويله بدرجته الوظيفية للعمل بالسيرك القومي، والحلم الذي رآه ليلة الأمس وما زال يتذكر، برغم الصور والأصوات المشوشة التي أخذت تفرُّ منه هاربة كصور السينما الصامتة التي كان يعشق منها أفلام شارلي شابلن وغيره من المضحكين والمهرجين، كيف تجلى له وجه أبيه كالبدر وراح يسأل عنه وعن أولاده ويوصيه بصوته المتهدج الحنون وصايا كثيرة، لم يبقَ منها إلا الحروف التي تنطق باسم بدر. واجهته ضوضاء الشارع الذي يقطعه كل يوم في طريقه على محطة الأتوبيس، والفوضى التي تصب كل شيء يراه أو يسمعه في بحرها الجهنمي المضطرب: نداءات باعة الليمون والبصل والخضروات والفاكهة والروبابيكيا، الأصوات العالية التي لا تخلو أبدًا من البذاءة، ضجيج أجهزة التخلف والغباء — كما كان يحلو له أن يسميها — التي تتقاطع وتتصادم بالأخبار والضحكات والشتائم والأغاني الهابطة ومباريات الكرة وحنجرة أم كلثوم الذهبية، ثم هذا الملل والضجر الفظيع الذي يخيم على الأرض والسماء والتعاسة التي تسيل أنهارًا من عيون الأطفال العائدين من مدارسهم ومن عيون الكلاب العجفاء الجائعة التي يطاردونها بالحجارة، توقف عند بائع الخضر والفاكهة الذي يعرفه ويألفه منذ سنين، وتدخلت بينه وبينه صورة الأب الذي رآه في الحلم وبدأت تتضح له الآن بالتدريج فلم يدرِ إلا والبائع يضع في يده وعلى ذراعه كيسَين لم يعرف بماذا ملأهما ويده التي بقيت حرة تمتد إلى جيبه وتنقده الثمن الذي طلبه.

وحمل الكيسَين في يد وضم الأخرى على الأهرام وبعض الأوراق التي تتطلب المراجعة في البيت، وسار في طريقه المعتاد وصورة أبيه وحديثه يشغلانه عن كل ما حوله ومن حوله، تذكر أنه هتف به فرحًا لا يصدق: أبي؟

– كيف حالك يا بني وكيف حال بدر؟

– بخير يا أبي يقبلان يدَيك وعينَيك.

تذكر أنه سأل نفسه في الحلم إن كان يعني ابنه بدرًا أم يقصد البلياتشو الذي اشتراه له وهو صغير ولم يزل يحتفظ به ويتطلع لوجهه المضحك كل يوم، ولم تطل حيرته كثيرًا حين تغير صوت أبيه وأدرك فجأة أنه تركه طفلًا صغيرًا يذهب إلى المدرسة الابتدائية بالمريلة الصفراء والشريط الأحمر المعقود على صدره.

– أقول لك بدر فتقول يقبلان يدي؟ هل أصبحتم تخلطون بين المفرد والمثنى؟ هل فسد التعليم إلى هذا الحد؟

قال له مكررًا أسفه: معذرةً يا أبي، نسيت أن الزمن لم يتوقف وأن الدنيا تغيرت.

قاطعه أبوه محتدًّا: ما هذا الكلام السخيف عن الزمن والدنيا؟ أسألك عن بدر فتحكي لي حكاية؟ ألم أحذرك مرارًا من الثرثرة؟

ضحك وحاول أن يسترضيه: معك الحق يا أبي، لقد كبرت وتزوجت وعندي الآن بدر وعائشة.

قال أبوه وقد انفرجت أساريره وبان الرضا في صوته الهادئ: وسميت ابنك على اسمه؟ لم تخيب أملي فيك يا بني، أوصيك أن تأخذ بالك منهما.

قال منشرح الصدر كأنما يغمره النور الذي سطع من وجه أبيه: هما في عيني يا أبي هما النور الذي أرى به والبدر الذي يضيء الدنيا المظلمة من حولي.

قاطعه الأب وهتف مرة أخرى محتدًّا: رجعت إلى الثرثرة وأنسيتني أن أسألك عن أمك، خلِّ بالك منها يا ولدي.

رد عليه وهو يحاول أن يكتم ضحكة: أمي تعيش أنت يا أبي من مدة طويلة، ولا بد أن وجهه وصوته تغيرا في تلك اللحظة وسادهما الوجوم والصمت، ولكن صورة الحلم فرت منه هاربة عندما أبصر رقم الأتوبيس الذي ينتظره فلم يذكر عندما قفز على سلالمه وأخذ يشق الزحام لينفذ منه جسده النحيل الطويل المحدودب سوى صوت أبيه الذي يكرر عليه وصيته: خذ بالك من بدر يا ولدي، خذ بالك منه.

٢

وجد نفسه في حلم آخر لا يصدق عندما أحس بيد تشده من ذراعه وصوت عابث يناديه: يا عبد الرحيم، يا رحيم.

التفت إلى مصدر الصوت الذي شق مثله الزحام، وربما عثر مثله بالحظ أو الصدفة على موضع قدم يقف فيه، وتكرر النداء بنفس اللهجة الساخرة المستهترة التي اتضحت الآن وبدأت تذكره بصاحبها.

– يا رحيم، يا رحومة، يا أخي رد عليَّ وتعالَ اقعد مكاني. أخيرًا وقعت عينه عليه بعد محاولات يائسة للنفاذ من ثلاثة أجساد تراصت وراءه ظهره كسد آدمي منيع. استأذن الجميع مرات ومرات حتى أفسحوا له حيزًا يسع قامته النحيلة المشدودة ولا يفعص حبات الفاكهة والخضر في الكيسَين اللذين يحملهما عن صدره كرضيعَين صغيرَين، وجذبته يد قوية للجلوس في المكان الذي أخلاه صاحبه الذي لم يكف عن إطلاق ضجته المرحة الصاخبة: طول عمرك محظوظ، تعالى مكاني.

قال بعد أن تعرف على ملامح زميله الأستاذ وحيد السايح ورأسه الأصلع المدور الملتصق برقبة غليظة وجسد قصير مفتول كأجساد المصارعين: وأنت دائمًا ابن حظ. أراد أن يلطف من وقع العاصفة التي أوشك زميله أن يثيرها، وأن يقول له بصوته الهادئ الخجول وإن من جاور السعيد يسعد، عندما فاجأه بضحكة مفرقعة ومد بوزه في أذنه ليقول بصوت خشي أن يكون أحد قد سمعه: من البار للغرزة ومن الغرزة للبار، خلي الجد ينفعك.

هتف به عبد الرحيم وهو يحشر نفسه في المقعد: الجد؟ الله يسامحك.

زعق القصير السمين بعد أن نجح في الوصول إلى باب النزول: سلم لي على بدر! بدأ يستجمع أنفاسه اللاهثة لاستقبال الصور الجديدة التي راحت تزحف عليه وتحتشد في خياله مزاحمة صور الحلم الذي جمعه مع أبيه بعد سنوات طوال من الغياب، وها هو الزميل القصير السمين يفرض نفسه عليه ويضج صوته في أذنَيه حتى بعد نزوله من الأوتوبيس، يا له من إنسان غريب: كم التقى به في المكتب أو في الطريق، وكم هرب من دعواته المتكررة لقضاء سهرة حمراء معه أو حتى سوداء، وهو فيما يدعي وما يرويه عنه الزملاء شاعر ومجدد أيضًا على الرغم من أن شكله وصوته وحركاته بريئة من كل الصور التي احتفظ بها في ذهنه وذاكرته عن الشعر والشعراء المرضى والحالمين الذين زاملهم أو عرفهم أو سمع عنهم في حياته. قال له وحيد السايح يومًا وهو يتدحرج بجواره مثل الكرة الضخمة السوداء التي رأى اللاعب القوي البارع في السيرك يرفعها من الأرض وينقلها بين يدَيه وذراعَيه وكتفيه كأنها كرة من المطاط: أكثر ما يعجبني فيك يا رحيم أنك إنسان بغير طموح.

ضحك عبد الرحيم بصوت مرتفع على غير عادته: وأكثر ما يعجبني فيك أنك وحيد وسايح أيضًا.

وقف وحيد فجأة واحتدت لهجته وهو يسأله: تقصد أنه أكثر ما يغيظك فيَّ، أن تتصور مثل معظم الزملاء أنني اسم على مسمى؛ سائح في أرجاء الأرض وسماء الشعر مع بنات الهوى وعرائس الخيال، ألم تسأل نفسك أو يسأل أحد منكم …

قال عبد الرحيم وهو ينظر من أعلى إلى الشاعر الذي يكاد رأسه لا يبلغ كتفيه: ولماذا تسأل؟ يا أخي أنت حر في نفسك.

اندفع وحيد قائلًا: كلامك عن الحرية يثبت عكس ما تقوله دائمًا.

مال عبد الرحيم برأسه ورمقه بنظرة باسمة: وماذا أقوله أو أفعله دائمًا؟ قال وحيد: إن طموحك الوحيد هو عدم الطموح، يا أخي، هل يرضيك الواقع الذي نعيش فيه كالموتى؟ ألم تفكر لحظة في تغييره؟ ألم …

ارتفعت ضحكة عبد الرحيم: البركة فيكم يا شعراء، أم أقول يا زعماء ويا … قاطعه وحيد غاضبًا: ألم يخطر ببالك أن تقرأ شعرًا؟ ألم تحركك القصائد التي قرأتها عليَّ يوم أخذتك غصبًا عنك إلى المقهى الذي أجلس فيه مع أصدقائي؟

اتسع فم عبد الرحيم بابتسامة عريضة هبطت على صاحبه القصير كحجر ينزل من فوق الجبل: أجل حركتني نحو عدم الحركة، أقنعتني بأن يكون طموحي الوحيد هو عدم الطموح.

صاح وحيد يائسًا دون أن يشعر أنه يسدد إليه سهمًا جارحًا: يا أخي ألا تحس؟ ألا تفكر؟ ألا تقرأ؟

تتطلع عبد الرحيم أمامه وقال كأنه يكلم نفسه: عندي مكتبة كاملة، ولكن كل كتبها في موضوع واحد، التهريج والمهرجين.

توقف وحيد عن السير، نظر في الوجه الصارم الذي بدا له كوجه نسر عجوز أو غراب صامت: غير معقول، لا أصدق، أنت عبد الرحيم الصامت الجاد على الدوام تحب التهريج، قال عبد الرحيم دون أن يلتفت إليه: ولا يفوتني عرض واحد للسيرك، هل تعلم أنني أذهب أساسًا للفرجة على البلياتشو؟ أقصد …

قال وحيد الذي لم يخف ذهوله: صحيح من لا يعرفك يجهلك، من يصدق أنك … قاطعه عبد الرحيم: لو قرأت عن المضحكين العظام لعرفت أنهم كانوا أكثر الناس في عصرهم حزنًا وجدية، أنت سيد العارفين ولا أريد أن أستعرض أمامك أسماء المضحكين من أرسطوفان إلى جحا والكسَّار، ولا أريد أن أصدع دماغك عن ألعاب السيرك وأشكال التهريج والمهرجين عند البابليين والصينيين والمصريين القدماء، لن يغيب عنك أنهم جميعًا يضحكون ويُضحكون والدموع تتساقط في قلوبهم أو من عيونهم، وبعضهم كان يحتضر بينما …

قال وحيد مؤمِّنًا على كلامه: مفهوم مفهوم، هل فكرت أنهم كانوا يُضحكون الناس على أنفسهم وواقعهم، هل خطر لك أنهم ثوار عظام وأن ضحكاتهم لا تزال تتردد عالية من فوق رماد حضاراتهم التي بادت أو التي في سبيلها للفناء؟

أطلق عبد الرحيم ضحكة عالية وهو يمد يده لزميله: رجعت لطموحك يا صاحبي، وأنا مجرد إنسان يريد أن يعيش مستورًا ويستر طفلَيه، سأتركك لتغيير العالم وألحق أنا بالأوتوبيس، أنت لا تعلم أن البلياتشو في انتظاري!

وقف وحيد في ذلك اليوم وقفة تمثال حجري على الرصيف المزدحم بالناس، وربما قال لنفسه وهو يرى عبد الرحيم ينحشر في الأوتوبيس مستسلمًا لقدره اليومي: كيف يخرج منك كل هذا؟ لا، لا أصدق، ولكن الشيء المؤكد أنه هتف بزميله المعلق على سلم الأوتوبيس: سلم لي على البلياتشو، لا تنسَ يا عبد الرحيم!

٣

نزل من الأوتوبيس في حي زينهم، واتجه مع قرطاسيه إلى شقته في المساكن الشعبية التي يعيش فيها مع زوجته الطيبة الراضية زينب وطفلَيه بدر وعائشة، وطالعته المناظر التي اعتادتها عيناه وأذناه ومسام جلده كل يوم: المساكن المتهرئة المباني القبيحة المداخل والمخارج والجدران والسطوح، والبلكونات المزدحمة بأقفاص الدجاج وقطع الأثاث البالية والأطفال شبه العراة الذين يطلون منها ولا يكفون عن النداء والصياح، عشش الصفيح والجريد العشوائية التي تحيط بها من كل جانب، جبال القمامة المتناثرة التي تزكم الأنوف بروائحها العفنة، عيون الأطفال والكلاب السارحة التي تسيل منها الأحزان، المجاري الطافحة والمياه العكرة المتدفقة من حنفية لم يستطع الزمن نفسه إصلاحها، صرخات الراديو والكاسيتات التي تتصادم وتتلاطم وتسمم الروح والأذن بدويها وإسفافها، والملل الملل الملل المخيم على كل شيء كسحابة كثيفة معلقة فوق المكان ومنذرة بكوارث الزمان، وهو ينظر كل شيء ويسمع كل إنسان ويمنِّي نفسه بالنور الوحيد في حياته الذي سيشع عليه بعد قليل من وجه البلياتشو بدر ووجه ابنه الشقي الصغير الذي سمَّاه على اسمه. ومع أنه — لطول يأسه أو لانعدام طموحه كما اتهمه زميله — قد أصبح مع مرور الأيام وتجاوزه للخمسين من عمره لا يعيش إلا كما يعيش الحي الميت أو الميت الحي، ولا يفكر إلا في الستر وصلاح الأحوال، فقد ألحت عليه فكرة النقل من وظيفته العتيدة كمحاسب دبلوم تجارة وكأنها هي الأمل الوحيد فيما بقي له من أيام على وجه الدنيا الكئيب. هل يحرم أيضًا من هذا الأمل الذي تحييه في نفسه ابتسامة البلياتشو كل يوم مع صيحات ابنه بدر في الضحك والبكاء؟ أم يطيح به طاغية الروتين والعفن الذي مكَّن لكل الطغاة أو مكَّنوا له لا يدري على وجه التحديد؟ لم تبقَ إلا خطوات ويصعد السلالم الحجرية المتآكلة إلى شقته في الدور الثالث من الوحدة السكنية رقم ثلاثة ويندفع كعادته كل يوم ليطالع النور المشرق من وجه بدر الخزفي ووجه بدر العفريت، لكن طلب النقل يلح عليه ومعه الأمل الممزوج باليأس كما تختلط الخيوط السوداء بنسيج الكتان الناصع البياض.

قال له رئيسه الأستاذ عبد المعين بعد أن قرأ الطلب ونظر في عينَيه ووجهه الطويل المستكين: وتريد أن تتركنا يا عبد الرحيم بعد العشرة الطويلة؟ غمغم دون أن يرفع رأسه خشية أن يرى رئيسه الحزن في عينَيه: العشرة لا تهون إلا على الكافر يا أستاذ عبد المعين، لكن …

سأله عبد المعين: لكن عشرة الأسود والنمور والدببة والخيول أعز عليك من عشرتنا؟ تشجع ورفع رأسه وهتف متوسلًا: أستغفر الله يا ريس، ولكن عشرة … أرجوك لا تضحك عليَّ ولا تسئ فهمي.

مد عبد المعين رأسه وقرب منه أذنه اليسرى كأنه يطلب منه أن يهمس فيها بالسر الخطير: ولكن عشرة من يا عبد الرحيم؟

هتف بصوت ارتفع مما قدر له فبان عليه الخجل: عشرة البلياتشو والمهرجين يا حضرة الباشكاتب، إنها لو علمت عشرة طويلة جدًّا.

ابتسم عبد المعين وكأنه يستمع إلى طفل أو مراهق تجاوز الخمسين ولم يبلغ مع ذلك سن الرشد: سبحان الله! وهل ولدت في سيرك؟

قاطعه عبد الرحيم وفي صوته ضراعة بأن يعذره ويقدر حالته: بل نشأت يا سيادة الرئيس وفي دمي حب السيرك، كان أبي رحمه الله …

نظر الأستاذ عبد المعين في وجهه ثم في الأوراق المكدسة على مكتبه وقاطعه بلهجة حازمة قبل أن يبدأ في رواية سيرة حياته: ما دامت هذه هي رغبتك فسوف أحول الطلب من عينيَّ إلى المدير ومعه التأشيرة اللازمة، المشكلة كما تعلم هي أن يجدوا لك درجة عندهم. وأشار بيده قبل أن يفتح عبد الرحيم فمه وقال: ولا تنسَ أنك تطلب النقل من وزارة إلى وزارة أخرى، ثم إن سبب النقل غير مقنع تمامًا.

تمتم عبد الرحيم: يكفيني أن سعادتك مقتنع وتقدِّر.

قال عبد المعين بلهجة قاطعة لينهي المقابلة: مقتنع؟ لا، ولكن يمكن أن أقدر رغبتك في الحياة والعمل بالسيرك (ثم ضاحكًا ضحكة صافية) مع أنك رجل طيب وعاقل ورزين.

حاول عبد الرحيم أن يشاركه الضحك، وأخرج الكلمات من صدره كأنه يتخلص من غصة، لا حيلة له فيها: ولكنه الأمل الوحيد في حياتي يا سيادة الرئيس.

مد عبد المعين ذراعه فسلم عليه ويده ترتجف، ولم يقل كلمة واحدة تنقذه من ارتباكه وهو يلمح الابتسامة المشفقة على وجهه وفي عينَيه.

٤

وقف أمام الباب وهو يحس بالدوار والإرهاق والسأم، وأصداء حديثه مع زميله وحيد وصور الحلم الذي رأى فيه أباه وكلمة لا تزال تتخبط في دماغه وعروقه كالوطاويط في غرفة مظلمة، أو الأسماك المرتعشة التي تهرب من شبكة الصياد لترجع إلى البحر، والتقط أنفاسه وهو يلعن الضغط وسنينه ويَعِد نفسه بالنور الطالع من وجه البلياتشو بدر ومن وجه ابنه وكأنه البلسم الذي سيداوي قروح الجلد المحترق أو جرعة الماء الزلال التي ستطفئ نيران العطش. ودق الجرس ففتح الباب وكأن زينب كانت في انتظاره بالقرب منه. وضع القرطاسين على صدرها وهو يتنفس الصعداء ويربت على كتفها بحنان كما اعتاد كل يوم، وحانت منه التفاتة إليها فهاله اصفرار وجهها الأبيض المستدير وغياب الدم عنه، ولم يغب عنه كذلك أن يلاحظ ارتباكها وارتجاف يديها فسألها منزعجًا: خير يا زينب، خير إن شاء الله.

وقبل أن يتجه إلى الصالة ويفتح باب البوفيه الزجاجي ليملأ عينيه من وجه البلياتشو، ثم يسأل عن بدر وشقاوته طول اليوم كما اعتاد أن يفعل طوال سنوات تعلمت فيها الصبر على تصرفاته ومواجهتها بحلم الزوجة التي فجرت فيها العشرة ينابيع الأمومة نحو زوجها وطفلها الكبير، قبل أن يفعل ذلك أمسكت بيده وأخذته على جنب وهي تحاول أن تتكلم فتسبقها النهنهة والدموع المتساقطة كزخات المطر: امسك أعصابك يا عبد الرحيم.

هتف منزعجًا: ما لك؟ ماذا حدث؟

جففت خدَيها وقالت: بدر، ابنك بدر.

زاد انزعاجه حتى كاد البركان يفجر حممه: ما له بدر؟ كفى الله الشر. أمسكت يده بعد أن وضعت القرطاسَين على مائدة المطبخ ومسحت صدره باليد الأخرى قائلة: اطمئن، اهدأ واطمئن، بدر بخير. قفل على نفسه الباب مع أخته خوفًا منك.

استصرخها نافد الصبر: يا شيخة تكلمي، ولماذا يخاف هو أو أخته مني؟

ضغطت على يده وسحبته من ذراعه في اتجاه الصالة وهي تتمتم بشظايا كلمات مهشمة: قلت لك اهدأ أولًا، اهدأ حتى أحكي لك. صاح غاضبًا: تحكي لي، هل هو مسلسل من إياهم أم عرض في السيرك؟ وقالت وهي تغتصب ضحكة خافتة كالغصة من شفتَيها: السيرك، برافو عليك ومضت في ذهنه فكرة كالبرق فهتف: بدر هل حدث له شيء؟

وضعت في صوتها كل الحنان الذي تعوده منها، وقالت: العوض على الله، أصبح خمسين حتة. وقبل أن يجد فرصة لإطلاق صرخاته وتفجير بركانه الذي كانت تعرف دائمًا كيف تقابله بالصمت والتسامح. شعر بها تخلص يدها من يده وتشير إلى الأرض حيث تجمعت كومة شظايا ملونة وشقف خزفية متناثرة على فوطة مفروشة بعناية على بلاط الصالة. قلَّب عينَيه بين وجهها وبين الكومة الملقاة على الأرض كبقايا عصر قديم أو آثار حضارة دمرها البرابرة، ويبدو أنه بذل جهد وحش داهمته السهام والحراب وطلقات الرصاص وهو في زنزانته، فأخذ يحتمي بقضبانها ويسند جسده المثخن بالجراح على جدرانها، ولا بد أنه نجح في محاصرة عذابه أو نجح عذابه في إسكات غيظه فانحنى على الكومة الصغيرة وراح يقلب شظاياها في صمت كما يقلب الأب أشلاء ولده الذي دهسه قطار حديدي أو انفجرت فيه قنبلة طائشة. كل ما فعله أنه مد يده المرتجفة فأشاح كفها التي راحت ترتب عظام حدبته البارزة، ولعله لم يسمع كلماتها المتدفقة في غير نظام: عوضك وعوضنا على الله، كنت في المطبخ ولم أشعر بعبثهما في البوفيه، تصور أنهما رصَّا كرسيَّين فوق بعضهما ليطولا التمثال؟ وأفقت على صوت الارتطام بالبلاط، كأنها قنبلة دوت في بيتنا صرخت وجريت وطلعت العفاريت من عيني، وأخذت ألم الكسر والقطع المبعثرة وألعن الشقيين في كل كتاب، وقفا ورائي مذعورَين ثم انطلقا كالفأرين المذنبَين إلى حجرة نومهما.

نصب طوله كشيخ مهدود وهو يحتضن الشظايا المكومة في الفوطة على صدره ومشى في صمت إلى حجرته والغريب، وهذا شيء لن تنساه أنه ثبَّت عينَيه في وجهها الطيب وهمس: اطلعي للأولاد لا بد أنهما ميتان من الجوع، سأدخل حجرتي وأحاول أن ألحمه، لا تنسي زجاجة الصمغ معك. وفتح باب الحجرة وأغلقها عليه دون أن يرى إشراقة وجهها بعد البرق والرعد والعاصفة.

٥

لو أعثر على الفم والابتسامة التي تلوح شمسها الصغيرة منه، لو تسلم لي عين واحدة بضحكتها أو حتى بدموعها. هكذا أخذ يكلم نفسه وهو يفحص بقايا التمثال الخزفي قطعة قطعة ويقلِّبها بين يدَيه، الشظايا المهشمة الأطراف والزوايا متناثرة أمامه، والأصفر والأزرق والأحمر الفاقع والبني المبرقش متداخلة في بعضها كبقايا حطام سفينة تختلج الأمواج الزرقاء والخضراء والداكنة من فوقها وتحتها، ما أقسى الخراب الذي يدمر في لحظة خاطفة حياة كاملة مفعمة بالذكريات والآلام والخيبات والأماني والأحلام! لم تكن البقايا المكونة أمامه مجرد شظايا تمثال عادي، مهما علت قيمته أو غلا ثمنه، كانت حطام ذكرى عزيزة وأمل متجدد ومنارة صغيرة تنفذ أشعتها في بحر الظلمات الذي يهدده كل يوم بالغرق والسقوط الأبدي أو بالخرس والجنون، هذه بقايا اليدَين المفرودتَين اللتين يلوح بهما البلياتشو لجمهوره ويدعوه للضحك أو التصفيق، والذراعان أيضًا موجودتان وإن كان الكتفان المكشوفان اللذان لم تسترهما رقع الثوب المهلهل ما زالا متماسكَين ويمكن لحمهما باليدين، وأطراف السروال المتدلي إلى أعلى الساقين تختلط فيها الأحمر بالأصفر بالأزرق ولا تلتئم بسهولة، أما السترة التي كانت تميته من الضحك بسبب ضيقها من أعلى الصدر وانتفاخها فوق الكرش المتورم وأزرارها اللامعة المثبتة بتفاخر وغرور في القماش الناسل المتهرئ فقد تفتت كأنما هرستها أقدام خيول تترية آشورية متوحشة. والأنف؟ هذا المتورم البارز وسط الوجه كإصبع حلاوة حمراء تميت من الضحك قد انفلق نصفين مثل تينة شوكية ذابلة وملقاة في التراب يستنكف النمل نفسه أن يلمسها، وآه للفم الواسع الملطخ بالبودرة والأسنان تلمع من ورائه والعينان الضيقتان المغموسة رموشهما في الدقيق اللامعتان بظلال التعاسة ووهج السعادة في آن واحد كيف يلمهما وأي ساحر يعيدها للضحك المنطلق من القلب؟ ولماذا تبقى صور الذكريات دون أن تنكسر أو تتهشم أو تهوى في آبار النسيان؟ لماذا تتداعى عليَّ وتعلن عن حضورك يا أبي؟

ما زلت أجري كالنملة الدائخة لألاحق خطواتك الواسعة، يدي كعصفورة صغيرة في يدك الخشنة الطويلة الأصابع، ورأسي المدور العنيد يصل بالكاد إلى ركبتك. من أين أتيت بكل هذه الحيوية والطلاقة في الخطوة واللسان، كأن كل خلية فيك تقرقر بالضحك الصافي بعد الصمت الطويل الطويل، ونحن في طريقنا من أرض مشروع الري الذي تعمل فيه إلى خيام السيرك المنصوبة في الخلاء المجاور؟ لقد بتنا الليلة في عيد متواصل بعد أن سمعنا دقات طبول الموكب المعتاد الذي لف البلد وغمر الشوارع والحواري بدق الطبول وزعيق الأبواق وشقلبات البلياتشو وألعاب الحاوي والبهلوانات ورقصات الفيلة والكلاب والخيول المكسوة بالحرير المذهب والشراشيب التي تسلسل منها الأجراس النحاسية المجلوة كأنها العرائس في ليلة الزفاف، وأسألك يا أبي وأنظر في عينَيك المتسعتين من الدهشة والفرحة والانبهار أتحب سيرك الحلو إلى هذا الحد يا أبي؟ وتجيب وأنت تتابع الألعاب وتصفق وتضحك كطفل عجوز: لأنني أحب أن تتعلم منهم يا عبد الرحيم. وأسألك مندفعًا: وأصبح مثلهم يا أبي؟ فتقول مسرعًا لتسكتني: المهم أن تتعلم الضحك من القلب وتصبح حرًّا وسعيدًا مثلهم. وألح في السؤال: وهل هم سعداء يا أبي؟ ويسحب عينَيه من الوجوه الضامرة التي يطحنها الشقاء لأجل لقمة العيش: ربك وحده هو الذي يعلم السعيد من الشقي، المهم أنهم أحرار. وأقول كأني أكلم نفسي لانشغالك بمتابعة العروض والتصفيق والهتاف: ليتني أصبح مثلهم أدرب الأسد والنمر وأركب ظهر الفيل والحصان! فتقول وأنت تشدني إلى جانبك: كان أبوك أشطر يا بني! المهم أن تتعلم منهم كما قلت. تطلعت إلى وجهك الذي يتحول في ليالي السيرك إلى مصباح يشع بألوان البهجة والرضا والتعجب التي تتقلب عليه أسرع من ألوان الطيف، وسمعتك تقول: الحياة لعبة يا ولدي، والحر هو الذي يختار لعبته ويسعد بها، طبعًا لا يكفي أن يسعد نفسه، الأهم أن يَسعَد ويُسعِد غيره، انظر لهذا اللاعب في سقف الخيمة، لقد اختار اللعبة الخطرة وهو يعلم أنه لو سقط انكسرت رقبته، لكنه سعيد لأنه يُسعِد جمهوره من الأطفال والنساء والعواجيز والشبان. قلت لك بعد أن هدأت أنفاسي المتلاحقة من متابعة اللعبة الخطرة: البلياتشو يعجبني أكثر، أحس يا أبي أنه أسعد الجميع. وتضحك قائلًا: ربما لأنه أتعسهم يا ولدي! هل ترى حماقاته المتكررة التي تجلب عليه الصفعات من كل ناحية؟ إنه أحكم الموجودين في هذه الخيمة، وربما كان هو وأمثاله أكثر أبناء الأرض حرية على مر العصور.

لم يكن عمري يسمح بإدراك معاني كلماتك يا أبي، خُيِّل إليَّ أنك تكلم نفسك وتنفض مواجع قلبك، لكنني على الأقل أخذت عنك حب البلياتشو والانبهار بحركاته وسقطاته وآلامه وآهاته وضحكاته الدامعة كأنين القرد المحزون، وعندما خرجنا في الاستراحة إلى الساحة المكشوفة أمام الخيمة ورحنا نتفرج على سوق الهدايا والتحف والأواني والأقمشة والملابس والأدوات المعروضة للبيع تهت بينها حتى عثرت عليَّ متسمرًا أمام تمثال خزفي صغير، وقفت بجانبي وأحطت كتفي بيدك وسألتني: يعجبك هذا التمثال؟ قلتُ متضرعًا: وأتمنى أن يبيت معي الليلة يا أبي! تردد بصرك بين عينيَّ المبهورتَين وبين إشارات البهلوان المضحك الذي يصيح على يانصيب البضائع المعروضة ويهول في أصلها وفصلها ووصولها خصيصًا باسم الحلو الكبير من أوروبا والهند والصين والبلاد التي تركب الأفيال. رأيتك تذهب إلى البهلوان المرتفع الصوت وتأخذه على جنب وتشتبك معه في معركة طويلة بالكلمات والإشارات، ورجعت بوجه غاضب وعلى حدبة ظهرك المنحني ثقل الدنيا كلها، وأخذتني من يدي وأنت تدمدم لاعنًا الكفر والكفرة والقلوب التي خلت من الرحمة. لم أفهم لماذا غضبت كل هذا الغضب وانصرفت عن البهلوان الذي جرى ليلحق بك وراح يحلف الأيمان على صدقه وبراءته، مؤكدًا أن كل شيء بأمر الكبير، ولن يدخل جيبه مليم، كنت تشدني من ذراعي ورأسي وقلبي مع البلياتشو العجيب الذي بدا إليَّ أنه يواصل حركاته وحركاته ولا يعلم شيئًا عما فعله بي، كذلك لم أعلم شيئًا عما ستفعله حتى يبيت البلياتشو في حضني بعد ليلتَين لم ينقطع فيهما بكائي وإلحاحي عليك، أجل لم يعرف ابنك الغبي كم تعذبت وقاسيت حتى كشفت لي أمي السر وهي في مرضها الأخير بعد ذلك بسنين وسنين.

طرقت زوجته الباب قبل أن تدخل وعلى وجهها ابتسامة خائفة وفي يدها صينية عليها فنجان القهوة وزجاجة الصمغ. رفع وجهه من فوق الكومة التي انشقت عنها أكوام أصغر متراصة بجوار بعضها مثل أكوام حصاد الهشيم، ولمحت عينَيه المحمرتَين، فأغلقت فمها الذي انفتح قليلًا قبل أن تتوقف الكلمات على بابه الصغير. قال لها في هدوء وبنغمة لم تخلُ من الدعابة: عمرك أطول من عمري تغديت مع العيال؟ هزت رأسها لتطمئنه وعجزت عن تحريك الأصوات المتكسرة على شفتَيها كبقايا البلياتشو المطروحة أمام عينَيها، ثم استدارت خارجة ومعها الصينية وأمارات الأسى والأسف تغطي وجهها الصغير المستدير، بينما كان هو يقلب الشقفات المبعثرة وهو يقول: لو أعثر على الفم والابتسامة التي تشع منه! لو تسلم لي عين واحدة بضحكتها أو حتى بدموعها!

٦

يرحمك الله يا أمي رحمة واسعة! لولاك — وأنت في مرضك الأخير — ما عرفت كم تعذَّب أبي وشقي وتعب وأراق ماء وجهه أمام القريب والبعيد ومد يده للصغير والكبير. لا، لا، لم يكن كل هذا العناء من أجل تمثال صغير يمكن أن ينكسر في أي لحظة، فها أنا أدرك الآن أمام حطامك المبعثر أنها كانت وصية الأب الذي لا يملك من حطام الدنيا شيئًا يوصي به: حاول أن تضحك يا ولدي في بلد كُتب عليه النكد والغم.

كنت يا أمي الحبيبة قد صارعت الروماتيزم طويلًا حتى صرعك، ألزمك السرير المعدني الصغير في الحجرة الخشبية الضيقة التي أعددتها حسب طلبك في ركن مكنون من الصالة، أنت التي لا تهمدين من العمل في المطبخ والغسيل وحمل الأولاد، رغم إلحاح زينب عليك أن تستريحي، قد هزمك المرض واستقر وحشه الجليدي في أعضائك وأطرافك وعروقك حتى ورم رجليك وأسر الطبيب إليَّ: هي أيام وينتهي كل شيء ورم القدمين من القلب، تشجع يا أخي واستعد.

وفي ليلة وأنا أقرأ كعادتي وأتطلع من حين إلى حين إلى وجه البلياتشو الذي يلمع خلف زجاج البوفيه سمعتك تنادين، أسرعت زينب إليك حاملة عشاءك الخفيف مع الدواء فطلبت منها أن تناديني، وحين حضرت وعلى فمي الابتسامة، وخيرًا إن شاء الله وجدتك تربتين بيدك المتورمة الأصابع على كتف زينب وتهمسين لحظة في أذنها فتتركنا وحدنا.

كنت أجلس على سريرك محاولًا أن أحافظ على الابتسامة المذنبة العاجزة أمام القدمَين المتورمتَين والأنفاس المتحشرجة وزجاجات الدواء وأقراصه وعلبه عندما سمعتك تقولين فات الكثير ولم يبقَ إلا القليل.

قلت موسعًا دائرة الابتسامة بقدر ما أستطيع: يعطيك طول العمر يا أمي، أنت بخير وكلنا، أشرت بيدك إشارة قاطعة: قلت لم يبقَ إلا القليل يا بني، والعاقل من يترك وصيته.

ضحكت وأنا أمسح ظهر يدك بكفي وأرفعها إلى فمي: وصيتك في القلب والعين يا أمي.

أسرعت قائلة وأنت تسحبين يدك وتسددين السبابة في وجهي: هي وصية أبيك أيضًا يا بني، قلت مستدركًا: فهمت فهمت يا أمي، بدر الصغير وبدر العجوز في عيني، وعيني زينب. قالت محتدة بعض الشيء: ولكنك لا تعلم كل شيء يا بني، لا تعلم كل شيء وطلبت مني أن أقترب وأفتح أذني، وتدفقت الكلمات من فمك كما تتدفق قطرات الماء الأخيرة من بئر زحف عليه الجفاف: هل تذكر يوم ذهبت مع أبيك إلى السيرك لآخر مرة قبل وفاته؟

هتفت: بالطبع يا أمي، وأذكر السوق التي اشترى منها بدر.

قالت: عمرك أطول من عمري، لكنك لا تدري كم تعب وسهر وداخ دوخة الكلاب حتى استطعت أن تأخذ البلياتشو في حضنك بعدها بيومين، قلت بصوت الشاعر بالذنب لكي أريحها: لا يا أمي. قالت مؤكدة: ولا نحن قلنا لك شيئًا، نبهني أبوك ألا أفتح فمي بكلمة، ظل يكرر عليَّ في شهوره الأخيرة قبل أن تفاجئه السكتة: المهم أن يضحك كلما نظر في وجهه يا أم عبد الرحيم، المهم أن يسعد به ولا يعرف شيئًا عما قاسيناه. بقيت ساكتًا بينما تحدق عيني في وجهها ويتابع قلبي تموجات صدرها اللاهث، وما هي إلا لحظات تشهق فيها حتى تستأنف حديثها كقطار عجوز يندفع بأقصى سرعة إلى محطته الأخيرة قبل أن ينفد منه الوقود: باختصار يا ولدي أخفينا عنك كل شيء وصممنا على إخفائه طول العمر، حتى جاءني الليلة في المنام وأوصاني.

هتفت بغير وعي: أنت أيضًا؟

نظرت إليَّ مستفسرة فأسرعت أطمئنها: لا، لا شيء، أكملي يا أمي.

لمع في عينَيها الشك لحظة، ولكن اللهاث ألح على صدرها فسعلت ووضعت يدها على قلبها كأنها تُسكِت جرس إنذار وعادت تقول:

ربما تتذكر يا ولدي أنه أخذ البهلوان الذي لم يكف عن الصياح على اليانصيب على جنب وارتفع صوتهما، وتلاحقت صيحات أبيك وإشاراته حتى كاد أن يفجر بركان غضبه فوق رأسه: خمسين جنيه يا ظالم يا مفتري؟ خمسين جنيه ماهيتي في ثلاث سنين؟! والبهلوان يتضاءل وينكمش في ردائه الفضفاض ويحلف بأغلظ الأيمان: أنا ظالم ومفتري يا عبد الرحيم؟ يخونك العيش والملح والعشرة الطويلة يا أخي؟ الظالم والمفتري هو الكبير، اسأله بنفسك يا عبد الرحيم اسأله وذكَّره بنفسك سيقول لك نفس الكلام. زأر أبوك وهو ينتفض من ساسه لراسه: كلامي معك أنت يا عوضين والعيش والملح كان معك، الولد سيموت على البلياتشو وأنت تحكي الحواديت؟ ما لي أنا وأوروبا وإيطاليا والشحن بالباخرة ومصانع الخزف الأصلي؟ قلت لك الولد متسمر أمام التمثال هدية العمر لطفل صغير مثل ابنك تصرَّف أنت يا أخي، تصرَّف.

أقسم عوضين أن هذا هو السعر الذي حدده الكبير لكل التماثيل الخزف، للأسود والبهلوانات والفيل أبي زلومة وسبع البحر، وكلها في اليانصيب لمن يدفع أكثر، هذه هي التعليمات وأنا العبد المأمور.

هدأ أبوك قليلًا وأخذ يعاتبه ويذكِّره بالعشرة القديمة، واتفق معه بحق العيش والملح والأخوة أنه لن يزيد على الثلاثين قرشًا واحدًا، وأن الله وحده يعلم كيف سيتصرف في المبلغ ويذوق المُر في جمعه، وإذا كان الأعيان والبهوات يملكون المال والأطيان فهو الآن موظف على قد الحال في المشروع، واتفق معه أن يحافظ له على البلياتشو مهما كانت الأحوال وليضرب البهوات رءوسهم في الحائط أو في العز الذي يتمرغون فيه ليل نهار، ليشتروا التحف الأخرى إذا أرادوا فلا تنقصهم التحف، المهم أن يكون البلياتشو في يد الولد وإلا قتلتك يا عوضين، أنت تعرفني من زمان ولا داعي للكلام.

طيَّب الرجل خاطره ووعده خيرًا، وانطلق أبوك كفرس الرهان في اليومين الباقيين على اليانصيب يطرق أبواب المعارف والجيران والزملاء، لا أعلم حتى اليوم يا بني إن كان قد لجأ إلى شقيقه الذي بقي له من الدنيا أو لم يلجأ إليه. كان أبوك كتومًا كالجمل الحرون، تكفي إشارة منه لكي أسكت إلى الأبد، وسمعت بعد ذلك من الكلام المتناثر هنا وهناك أنه لم يترك أحدًا لم يقترض منه، سهر وتعب ولف وداخ السبع دوخات. قَبِل كلَّ الأعمال التي عُرضت عليه في السوق ووابور الطحين وحراسة المخازن طول الليل وتنقية دودة القطن وحمل الطوب والزلط والأسمنت على ظهره النحيل، كنت ألاحظ الإرهاق على وجهه وغياب النفس عنه في الليل والشعرات البيض التي زحفت على شعره والصمت الطويل الذي يرتفع جداره بيني وبينه كل يوم ويتعذر عليَّ النفاذ منه، تعب أبوك يا ولدي، تعب أبوك.

قلت مغتصبًا ابتسامة باهتة: وأنا وبدر لا نحس ولا نشعر!

واصلت كلامها كأنها تشد حبلًا أوشك أن ينقطع قبل أن تصل إلى بر الأمان: وفي اليوم الموعود رسا اليانصيب عليه ونجحت حيلة عوضين، ربما تعمد اللعب بأوراقه فحجز الورقة الخاصة بالبلياتشو في جيبه ولم يستطع أحد أن يكشف اللعبة، وربما تصرف تصرفًا آخر لا أدريه، المهم أنه جاء في يومها كالصياد الذي يحمل على ظهره غزالًا يفوح منه المسك وهو يهتف من الفرح: خالت اللعبة على الجميع يا أم عبد الرحيم، الولد عوضين أثبت أنه ولد شهم وأن العشرة لا تهون، لو رأيت عيون البهوات والأعيان الزائغة وهي ترمق التمثال الذي وضعته على صدري وأحتضنه بيد وسلمت الخمسين جنيهًا باليد الأخرى لعوضين! المهم أننا نجحنا يا تفيدة وفاز بدر باليانصيب.

قلت له: وتعبك أنت يا عبد الرحيم؟ والبيت والولد وطلباته؟ هل نسيت أن المرتب لا يصل إلى أربعة جنيها …

قال منفجرًا بالضحك كالبحر الذي يدفع أمواجه العالية لتنطح الصخور: تعب العمر يهون يا أم عبد الرحيم، ماذا يساوي العمر أمام ضحكة بدر؟ اطلبي منه أن يحافظ عليه، علميه أنت أيضًا كيف يصونه ويكتفي بالنظر إليه كلما صحا من نومه، ما رأيك أن نسمي البلياتشو على اسمه؟ قلت وأنا أضرب كفًّا بكف: بدر؟ نسميه بدر؟

قال كأنه يرقص: ولمَ لا؟ المهم أن يلمع في سمائه على الدوام، المهم ألا تنطفئ كسمائي من الكواكب والنجوم.

وفهمت الوصية يا أمي ونفذتها ووضعتها في عيني طول العمر، وعشت أصونها بعد رحيلك إلى رحمة الله وقبل أن أرى أبي في المنام في نفس الليلة التي رأيته فيها، لكن كلماتك سرت في دمي كالأشواك التي لا تتوقف عن الوخز بالأسئلة التي لا تريد أن تهدأ قبل أن تجد الجواب رحت ألوم نفسي بعد أن غادرت غرفتك لتستريحي: كيف تركتك تتحمل كل هذا العذاب يا أبي؟ وكيف غاب عني أن أعرفك وأسأل أمي عنك؟ آه فلأتركك الليلة يا أمي، وليأذن الله بلقاء آخر فهو جل علاه الرحمن الرحيم الذي سميتماني على اسمه الكريم، وآه يا أبي ويا أمي لو رأيتماني الآن وأمامي حطام بدر المسكين!

٧

كان قد شرب فنجان القهوة حتى آخره ويئس — كما يقولون — حتى الثمالة من تجميع أشلاء البلياتشو ولحمها بالصمغ، فبقيت متناثرة أمامه كأطلال بيت منهار، والذي زاد من يأسه أنه لم يستطع أن ينقذ عينًا واحدة من الوجه المهشم، وحتى عندما أفلح في لمِّ الحاجب المقوس والرموش الطويلة المعفرة بالبودرة والجفن الأبيض المدور لم تطل عليه ابتسامة ولا لمح أثر دمعة واحدة من الدموع التي كان بريقها يخلب لبه كل صباح ومساء كلما تسلل إلى البوفيه ليطمئن عليه، لم يحس بجوع ولا عطش، ولم يجد في نفسه رغبة في النوم ليغرق فيه أحزانه الرائحة الغادية كالأطفال المشردين، لقد شعر بأنها تتضاعف مع كل نظرة إلى الشظايا المحطمة أمام عينَيه، ولا يدري كيف خطر على باله أن التمثال المهشم ليس إلا صورة من أبيه الذي تعذَّب بسببه وربما ذهب كذلك ضحيته، وانهمرت عليه الأسئلة كالعقارب التي يخرجها المطر من بين الشقوق. لم تكن تلك الأسئلة في الحقيقة جديدة عليه، فقد سبق أن طرحها على أمه المسكينة وهو يعلم أنها على شفا النزع الأخير، يا لك من وحش غبي قاسٍ يا بدر! كيف لم ترحم أمك المريضة من تلك الأسئلة التي رحت تلقيها عليها كالمحقق العنيد الذي ينتزع أطراف الاعتراف الأخير من إنسان يُحتضَر؟ هل تصورت أن عذابك بالإحساس بالذنب نحو أبيك يمكن أن يبرر تعذيبك للعجوز الطريحة اللاهثة الأنفاس؟ وماذا كنت تنتظر من الذاكرة المنطفئة والوعي الذاهل واللسان المتلعثم بفتات لا يشبع جوعك؟

غابت شمس اليوم الذي تحدثت فيه بالحديث السابق مع أمك، وانطوى ليله وأنت مؤرق الجفنَين مشغول بالأسئلة التي راحت تلدغ جسدك وروحك ولم تتركك لحظة، ولم تطلع شمس اليوم التالي وكان يوم جمعة لن تنساه! حتى أسرعت إلى حجرة أمك وعلى فمك ابتسامة المتظاهر بالاطمئنان عليها بعد تناول الإفطار والدواء، نظرت إليك زينب وهي خارجة من عندها نظرة أسف وتحذير، لكنك لم تأبه لها ولم تستطع أن تقاوم جنون السؤال:

أمي كلمتني أمس عن أبي، ولكني لم أعرف كل شيء.

ابتسمت بدورها وهي تتأوه وتطلب منك أن تسند ظهرها على المخدة: وهل عرفت أنا كل شيء عنه يا بني؟ أبوك كان جملًا كتومًا كما قلت لك.

قلت محاولًا أن تجرها في الكلام:

أرجوك يا أمي، من حقي أن أعرف كل شيء عن أبي.

قالت كالهاتف من شط آخر: الآن يا ولدي؟ ادع له بالرحمة والثواب، وادع لي وله يوم اللقاء بوجه رب كريم.

قلت بعد أن طاف بصرك على ملامح الوجه المجهد والجبين المتغضن والعينَين اللتين تضيقان وتتسعان وتلمعان وتنطفئان:

لن أتعبك أبدًا، سأسألك أنا وعليك أن تقولي نعم أو لا.

ضحكت ضحكة خافتة وقالت: العرَّاف لا يعرف يا ولدي، اسأل يا حبيبي.

قلت: أعرف أن أبي لم يكمل تعليمه، كان جدي يرحمه الله يريد أن يصبح واعظًا يشرِّفه في البلد، ولكنه حفظ القرآن بقدرة قادر وسقط سنين في ابتدائية الأزهر، هل صحيح أنه رجع خائبًا للبلد وواجه أباه بالحقيقة؟

فتحت فمها بابتسامة مغتصبة وتحسست ساقها وصدرها قبل أن تقول:

سمعت من الإشاعات أنه رجع للبلد فجأة من البندر، ووقف أمام أبيه كالجدي النافر الشرس وقال: لا أريد أن أكمل تعليمي! أنا لا أصلح للوعظ، ولا يصلح لي. سأله الجبار: فماذا تريد أن تكون يا فالح؟

قاطعتها به بسرعة: الجبار؟

قالت أسرع منه كأنها تقبض على صورة أو عبارة هاربة: نعم، جدك، كان الجميع يسمونه الجبار.

رجعت إلى سؤالك: أكملي، أكملي، وماذا قاله له؟

قالت ضاحكة: رد عليه وهو يتأهب لصفعة أو ركلة: أن أكون بلياتشو! زأر الجبار كأسد يستعد للوثوب على المدرب الذي لسعه بالسوط: إذن فتوكل على الله واخرج من بيتي، لست ابني ولا أعرفك حتى تتوب عما في دماغك. قلت لتخفف عنها عبء الكلام الذي كاد أن يتحول إلى أنين:

وتصادف وجود السيرك في البلد في تلك الأيام، وانضم إليه وألبسوه ثياب البلياتشو، وراح يقدم عروضًا، ثم بحثوا عنه يومًا فلم يجدوه، كان قد هرب مع الغازية وضاع في بلاد الله.

أغمضت عينيها وأطرقت برأسها وتمتمت مستغفرة داعية قبل أن تقول: العلم عند الله يا ولدي، كان هذا قبل أن نتزوج ويرضى الله عليه وعليَّ. مددت ذراعك وأخذت تداعب خدها وتربت على رأسها: وكنت حبه الأول والأخير. اطمئني فلن أسألك، لم يكن هو وحده الكتوم كما تقولين. ولما لم تجد منها رغبة ولا قدرة على الكلام، ولما تجلى وجهها أمامك كأنه شمس أشرقت فجأة بنور ربها وبالنور الطالع منها، رحت تتدفق بالثرثرة كالتلميذ الذي يسمع درسًا أمام معلم صبور وعطوف.

ورجع إلى البلد خائب الأمل دون أن يدري أحد ودون أن يفكر في أن يطرق باب البيت، أخذ يتجول مع بعض أصحابه في العزب والكفور لإحياء الأفراح وحفلات الميلاد والطهور بتقديم العروض الصغيرة المضحكة، وبعد شهور أو سنوات جاءت الإشاعة بأن المباحث تفتش عنه في كل مكان، ثم جاء المرسال إلى بيت أبيه بأن يحضر للنقطة للتعرف عليه وسؤاله عنه قبل ترحيله للمديرية، وزاد غضب الجبار وارتفع زئيره وأنكر أن له ابنًا بهذا الاسم، وبعد ذلك …

قالت أمه بعد أن استردت أنفاسها ومرت السحب التي غطت وجهها أثناء كلامك: زمان وراح يا ولدي، زمان الله لا يرجعه، من يوم أن أُغلق الباب علينا وعشنا تحت سقف واحد لم يذكر اسم الإخوان ولا الشيوعيين.

سألت نفسك ذاهلًا: الإخوان والشيوعيين؟ هذا شيء لم أسمع عنه من قبل، كل ما لملمته من أخباره أن عم عبد الفضيل زاره في السجن الذي لم يبقَ فيه سوى شهرين، ثم أفرج عنه بحجة اختلال عقله، أو ربما لعدم ثبوت أي تهمة عليه، وسمعت أمك تقول وهي تثبِّت عينَيها في وجهك: كانت نزوة شباب وراحت، كالغازية الله يسامحها قبل زواجنا، ورجع لعمله وقراءاته.

سألت متلهفًا: قراءاته؟ هل ظل حريصًا على القراءة يا أمي؟

قالت كأنها تعتب عليك أيضًا: طول الليل يا ولدي … ثم وهي تبتسم: كأنه داء بالوراثة. سألت بصوت لم يخلُ من الندم والاعتذار ولم تغب عنه اللهفة: وهل كان يكتب أيضًا يا أمي؟ ألم تلاحظي أنه كان يمسك القلم أحيانًا ويسود صفحات بيضاء؟

قالت كأنها تتمنى أن ترحمها من كثرة الكلام التي أتعبت قلبها:

لم ألاحظ يا بدر، إلا أنه ترك السيرك والتمثيل وسيرته وانصرف لعمله في المشروع، أحيانًا كنت أراه يقرأ أو يكتب طول الليل وأحذره من البرد وأحضر له البطانية ليغطي ساقيه، وأذكره بأن يلبس الشراب في قدميه، لكن بعد حضورك للدنيا لم يعد يشغله إلا العمل والجري عليَّ وعليك، حتى أصحابه الذين كانوا يزوروننا أحيانًا من جيراننا في المشروع، كانوا يتندرون على استقامته وتفانيه في عمله وإخلاصه أحيانًا.

انتبهت فجأة وسألت مشجعًا رغم فداحة إحساسك بالذنب ويقينك بأن السقف لو انهار ووقع البيت فستكون أنت المسئول عما حدث: أحيانًا ماذا يا أمي؟ هل حن مرة للتمثيل أو السيرك؟

قالت في صوت ضعيف كأنه يخرج من أغوار مغارة في الجبل:

التمثيل؟ لا لا، ولكنه لم ينقطع أبدًا عن الذهاب للسيرك كلما نصب خيامه في البلد حتى انقطع تمامًا بعد أن أخذته الحكومة. قلت ملهوفًا: مفهوم مفهوم، لكنك ذكرت أنه أحيانًا …

قالت وفي صوتها رنة الشكوى من تعذيبك: نسيت يا بدر، نسيت يا بني. تشبثت رغم كل شيء بالسؤال كأنك تلسع بسوطك الحصان العجوز الذي برك على الأرض من شدة التعب: ألم يكن يواصل الكتابة كما قلت طول الليل؟ كان بالطبع يقطعها أو يمزق ما كتبه أو يقول لك شيئًا.

قالت لك مصممة على إنهاء الحديث الذي طال: نعم نعم، أحيانًا كان يردد كأنه يكلم نفسه: أنا النديم الفاشل، أكتب مذكرات لن يقرأها أحد ولن يسمعها أحد.

سألت كالملسوع وقد هزك الشوك الذي لم تقوَ على كتمانه: النديم؟ هل قال النديم؟ أين هذه المذكرات يا أمي؟ أرجوك تكلمي، أين هذه المذكرات؟

لكنها كانت قد دخلت الغيبوبة، أفلتت منها كلمة المذكرات ثم غابت عنك وعن الدنيا بكل ما فيها، وأخذ السؤال يلح عليك في تلك الليلة كما ألح عليك سنوات بعدها.

أين أجد هذه المذكرات؟ كيف أعثر عليها؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤