أوراق صينية

١

أغنية الموتى

جمع الحديث بين الحكماء الثلاثة: تسي-سانج-هو، وبينج-تسي-فان، وتسي-كين-تشانج، تكلم أحدهم فقال: من يمكنه أن يوجد ومع ذلك لا يوجد؟ من يمكنه أن يعمل ومع ذلك لا يعمل شيئًا؟ من يمكنه أن يصعد إلى السماء، ويتجول بين السحب، ويغادر المكان، وينسى الوجود، دائمًا وأبدًا وبلا نهاية؟

نظر الحكماء الثلاثة إلى بعضهم وابتسموا، ولما كانوا جميعًا بعيدين عن الشك، قد أصبحوا أصدقاء، مات الحكيم تسي-سانج-هو بعد هذا الحديث بقليل، ولما علم كونج-فو-تسي (كونفوشيوس) بالأمر بعث تلميذه تسي-كونج للمشاركة في المأتم والعزاء، وعندما وصل تسي-كونج إلى هناك سمع أحد أولئك الأصدقاء وهو يغني هذه الأغنية التي راح الصديق الآخر يصاحبها بالعزف على القانون: «متى سترد إلينا نفسك يا سانج-هو؟ متى سترد إلينا نفسك يا سانج-هو؟ أنت رجعت لجوهرك بعد الحق، أما نحن فآه ما زلنا أسرى في قبضة قدر الإنسان.»

أسرع تسي-كونج بالدخول وهتف بأعلى صوته: «إنني أسمح لنفسي بأن أسألكم: هل يتفق الغناء أمام الجثمان مع القواعد والطقوس؟» نظر الصديقان إلى بعضهما وابتسما قائلين: «ماذا يعرف هذا الرجل عن القواعد والطقوس؟» رجع تسي-كونج «إلى بلدته» وروى على أستاذه كونج-فو-تسو ما رأى وسمع وسأله: «أي نوع من البشر هؤلاء؟ إنهم لا يخضعون عملهم للقواعد ويعاملون الجسد كأنه شيء غريب وهم لا يتورعون عن الجلوس أمام جثمان ميت ورفع أصواتهم بالغناء دون أي شعور أو إحساس، إنني لا أفهمهم ولا أدري من أي نوع من الناس هم، هلا قلت لي يا معلمي من هؤلاء؟» رد عليه كونج-فو-تسي قائلًا: «هؤلاء الناس يتجولون وراء قواعد الحياة، أما أنا — يا ولدي — فأتجول فيها؛ لهذا لا تلتقي الطرق التي نسير عليها، ولقد تصرفت تصرفًا أحمق عندما أرسلتك إلى المأتم. إنهم يرون أنفسهم أحباب الخالق ويعملون من خلال شعورهم بوحدة الأرض والسماء، وهم ينظرون إلى الحياة كما لو كانت ورمًا يخلصهم الموت منه، إنهم لا يعرفون أين كانوا قبل الميلاد ولا يعرفون إلى أين يصيرون بعد الموت، ومع أنهم يعترفون باختلاف العناصر بعضها عن بعض، فقد استقروا باختيارهم على وحدة جميع الأشياء، وهم لا يكترثون بانفعالاتهم، ولا يستجيبون لإحساساتهم، إنهم يجوبون الأبدية ذهابًا وجيئة دون أن يعرفوا بداية ولا نهاية، وهم يحلقون وراء حدود التراب، ويشردون في ممالك عدم الفعل، فكيف يهتم أمثال هؤلاء الناس بالعادات والتقاليد أو يحفلون برأي العامة فيهم؟» قال تسي-كونج: «إن كان الحال كما تقول، فلماذا نتقيد بالقواعد؟» أجاب كونج-فو-تسي: إن السماء هي التي قضت عليَّ بهذا، ومع ذلك فسوف أشركك فيما وصلت إليه، سأل تسي-كونج: «وعلى أي طريق وصلت؟» قال كونج-فو-تسو: «الأسماك تعيش وتترعرع في الماء، والإنسان يعيش ويترعرع في الطريق (الطاو)، وإذا حصلت الأسماك على بركة ماء تحيا فيها وجدت غذاءها، وإذا حصل الإنسان على الطريق الذي يحيا به لم يحتج إلى عمل ووجد الأمان، من هنا جاءت هذه الحكمة: كل ما يحتاج إليه السمك هو الماء، وكل ما يحتاج إليه الإنسان هو الطريق.» قال تسي-كونج: «هل تأذن لي بأن أسألك وما هو الحال مع الإنسان الأسمى والمتفوق؟» أجابه كونج-فو-تسو قائلًا: «إن المتفوقين من البشر خاضعون للسماء، من هنا جاءت هذه الحكمة: أقل الكائنات شأنًا في السماء هو أسماها على الأرض، وأرفعها قدرًا على الأرض هو أهونها شأنًا في السماء.»

عندما ماتت زوجة تشوانج-تسو

عندما ماتت زوجة تشوانج-تسو ذهب إليه هوي-تسي ليعزيه في مصابه، كان تشوانج تسو جالسًا على الأرض، ممددًا ساقيه إلى الأمام، وكان يغني ويوقع على طبلة، هتف به هوي-تسي قائلًا: أظن أن من أسوأ الأمور ألا يبكي الإنسان زوجته التي قاسمته حياته وربت أولاده ثم ماتت بعد أن تقدم بها العمر، أما أن يدق على الطبل ويغني فذلك من أعجب الأمور. قال تشوانج-تسي: «هوِّن عليك، ليس الأمر كما تقول، فعندما ماتت غلبني التأثر الشديد، ولكن سرعان ما تفكرت في الأمر، لقد كانت موجودة قبل أن تولد، بلا شكل ولا كيان، ثم في أثناء الزحام الأول تحولت، فصارت الروح كيانًا، واكتسب الكيان شكلًا، وانتقل الشكل إلى الميلاد، والآن قد حدث تحول جديد، ماتت في أعقابه، هكذا ينتقل الإنسان من الربيع إلى الخريف ومن الصيف إلى الشتاء، إنها الآن تنام بهدوء في البيت الكبير، ولئن بكيت أو شكوت لكان معنى ذلك أنني لم أدرك مغزى شيء من كل ما قلت؛ لهذا تخليت.»

الجمجمة

عثر تشوانج-تسو ذات يوم على جمجمة بهت لونها وإن ظلت محتفظة بشكلها، مسح عليها بعصاه وقال: «هل كنت فيما مضى من الزمان لرجل طموح أوصلته رغباته العاتية إلى هذه الحال؟ أم كنت لحاكم ساق بلاده إلى الهلاك ففُصلت رأسه بالبلطة عن جسده؟ أم كنت لوغد شرير أورث أسرته العار؟ أم لشحاذ مات بعد أن قاسى آلام الجوع والبرد؟ أم وصلت إلى هذه الحال بعد أن بلغت من العمر عتيًّا؟» لما انتهى تشوانج-تسو من كلامه أخذ الجمجمة معه وجعلها عند النوم مخدة وضعها تحت رأسه، ورأى في الحلم كأن الجمجمة قد ظهرت له وقالت: لقد برعت يا سيدي في رصف كلماتك، ولكنها كلمات لا تستمد معناها إلا من الحياة، ولا تقوم لها قائمة إلا فيما يضطرب فيه الأحياء، أما الموت فلا يعرف شيئًا من ذلك كله، أتريد أن تسمع عن الموت؟ أجاب تشوانج-تسو: نعم أريد. تكلمت الجمجمة قائلة: «ليس في الموت سيد ولا مسود، وتأثيرات الزمان شيء غير معروف، إن وجودنا التاريخي هو وجود السماء والأرض والسعادة التي ينعم بها أمير بين الناس لا تساوي شيئًا إذا قيست بالسعادة التي نحيا فيها.» غير أن تشوانج-تسو لم يصدق الجمجمة فقال: «لو استطعت أن أقنع السيد المتصرف في الأقدار بالسماح لجسدك بأن يولد مرة أخرى وبتجديد عظمك ولحمك حتى ترجعي لأبويك وزوجك وولدك وصحابك ورفاقك الأوفياء لعهدك، فهل ترحبين بذلك؟» عندها فتحت الجمجمة عينَيها على سعتهما وزوت حاجبيها وقالت: «كيف تنتظر مني أن أنبذ سعادتي الملكية وأغوص في شقاء القدر البشري وآلامه؟»

الساحر

في دولة تشينج عاش ساحر يدعى «كي هسين» كان يعرف كل شيء عن الميلاد والموت، والعمار والدمار، والسعادة والشقاء، والعمر الطويل والقصير، وكان يتنبأ بالأحداث قبل وقوعها بدقة متناهية كأنه أحد الأرواح. كان سكان تشينج يفرون كلما رأوه، ولكن لي-تسي زاره فأصابه الذعر ورجع إلى معلمه هو-تسي وهو يقول: «لقد تصورت أن الطريق (الطاو) الذي وصفته لي هو أكمل ما في الوجود، أما الآن فقد عرفت شيئًا أكمل منه.»

رد عليه هو-تسي قائلًا: «إنني لم أعلمك حتى الآن غير الثوب الظاهر للطريق، ولم أعلمك حقيقته، ومع ذلك تزعم أنك تعرف عنه كل شيء، إذا خلت حظيرة الدجاج من الديكة، فهل يمكن أن يضع الدجاج بيضًا؟ من حاول أن يفرض الطريق على الناس فلن يخسر إلا نفسه، أحضر ذلك الساحر وسوف أكشف له عن نفسي.»

في اليوم التالي جاء لي-تسي ومعه كي-هسين لزيارة هو-تسي، وعند خروجهما من بيت المعلم قال كي-هسين: «آه، إن معلمك يقترب من الموت، لن يبقى على قيد الحياة أكثر من عشرة أيام، لقد لاحظت عليه شيئًا عجيبًا، لاحظت رمادًا رطبًا.»

دخل لي-تسي على معلمه باكيًا وروى عليه ما سمع، قال المعلم: «لقد أبديت له من نفسي ما تبديه لنا الأرض من سطحها الظاهر الساكن، في الوقت الذي لا تتوقف فيه عملية الخلق الدائرة في باطنها. لقد منعته فحسب من رؤية القوة الكامنة. أحضره مرة أخرى إلى.» في اليوم التالي كررا الزيارة، وعند انصرافهما قال كي-هسين للي-تسي: «معلمك محظوظ لأنه قابلني اليوم، إن حالته في تحسن، وعلامات الحياة تبدو واضحة على وجهه، لقد لاحظت أن الميزان اعتدلت كفتاه.»

دخل لي-تسي على معلمه وأخبره بما سمع، قال المعلم: «لقد أظهرت له نفسي كما تظهر السماء في صفاءها وهدوئها، ولم أسمح إلا بقدر قليل من القوة التي بدت تحت كعبي، بذلك استطاع أن يكتشف أن لديَّ شيئًا منها، أحضره مرة أخرى.»

رجعا في اليوم التالي، وعند انصرافهما قال كي-هسين للي-تسي: «معلمك لا يستقر يومًا على حال، لا يمكنني أن أستدل من مظهره على شيء، أقنعه بأن يثبت على وضع واحد وسوف أعود لفحصه من جديد.»

بعد أن سمع هو-تسي هذا الكلام من لي-تسي قال له: «لقد كشفت له عن نفسي في حال التوحد الكلي، حيث تضطرب حورية البحر، تكون الهاوية، حيث يسكن الماء، تكون الهاوية، حيث يدور الماء، تكون الهاوية، للهاوية تسعة أسماء، وما هذه غير ثلاثة منها.»

في اليوم التالي جاء الاثنان مرة أخرى لزيارة هو-تسي غير أن كي-هسين لم يقوَ على الصمود، فخرج مرتبكًا ولاذ بالفرار.

هتف هو-تسي صائحًا: «اتبعه!» وجرى لي-تسي وراءه، ولكنه لم يستطع اللحاق به؛ ولهذا رجع وأخبر هو-تسي أن الهارب قد اختفى.

قال هو-تسي: «لقد أظهرت له نفسي كما ظهر الطريق قبل أن تبدأ البداية، كنت في نظره أشبه بالفراغ العظيم الذي يستمد وجوده من ذاته، وعجز عن أن يعرف من الذي يراه ماثلًا أمامه: فقد تبدى له مرة في حالة التلاشي، وتجلى له أخرى في حالة التدفق؛ لهذا هرب بجلده.»

هنالك أدرك لي-تسي أنه لم يكن قد بدأ بعد في اكتساب المعرفة؛ ولذلك قفل راجعًا إلى بيته وقضى فيه ثلاث سنوات دون أن يغادر بابه، أخذ يساعد زوجته في طهو الطعام لعائلته، وفي تغذية الخنازير وكأنها مخلوقات بشرية، ونفض يديه من أعمال الحفر على الخشب والتصوير التي اعتاد ممارستها ورجع إلى البساطة الخالصة.

بدا لكل من يراه كأنه طود من الطين الثابت في الأرض وسط الاضطراب كان رابط الجأش ثابت الجنان، هكذا بقي إلى النهاية.

الأنقياء

من يعرف شأن السماء، من يعرف شأن الإنسان، فقد بلغ الغاية، وهو إذا عرف «السماوي» فقد عرف الأصل الذي جاء منه، وإذا عرف «الإنساني» فقد استقر في معرفة المعروف، وتوقع معرفة المجهول، إن الوصول بالحياة المقسومة إلى الكمال، وتجنب الهلاك في منتصف الطريق هو نضج المعرفة، بيد أن ذلك ينطوي على نقص، فالمعرفة مرتبطة بالنضج، والنضج غير مؤكد، ومن أين لي أن أعلم أن ما أتصور أنه هو السماوي ليس في الحقيقة هو الإنساني، وأن ما أعتقد أنه هو الإنساني ليس في الحقيقة هو السماوي؟ لا بد أن يكون لدينا أناس أنقياء، عندئذ يمكننا أن نحوز العلم النقي.

ولكن من هو الإنسان النقي؟

لقد كان الأنقياء في العصر القديم يعملون بغير أن يحسبوا حسابًا لشيء، وكانوا في سعيهم لا يحرصون على ضمان النتائج، ولا يشغلون أنفسهم بتدبير الخطط، إذا أخفقوا لم يجدوا في الإخفاق ما يدعو للندم، وإذا أصابوا النجاح لم يروا فيه ما يدعو للزهو، بذلك استطاعوا أن يتسلقوا الذرى دون أن يشعروا بالخوف، وأن يغوصوا في الماء دون أن يحسوا بالبلل، وأن يخطوا في النار دون أن يهابوا لسعها، هكذا قربتهم معرفتهم من الطريق (الطاو).

كان الأنقياء في العصر القديم ينامون بلا أحلام، ويصحون من نومهم بلا قلق، كانوا يأكلون بلا نهم، ويتنفسون بعمق، ذلك أن تنفس الأنقياء يأتي من أعمق الأعماق، أما أنفاس العامة والوضعاء فتأتي من الحلوق.

والأنقياء من أبناء العصور القديمة لم يكونوا يحبون الحياة، ولا كانوا يكرهون الموت، كان البدء لا يوقظ فيهم الفرح، وكان المنتهى لا يثير فيهم نوازع الصراع، إنهم يأتون في ثبات، ويذهبون في ثبات: وكان في ذلك الكفاية، لم ينسوا ذلك الأصل الذي انحدروا منه، ولم يشقوا أنفسهم بذلك المصب الذي سينتهون إليه، لقد أخذوا نصيبهم عن طيب خاطر، وانتظروا داعي الموت في سلام، هذا هو الذي يوصف بعدم مقاومة الطريق، ولا محاولة استبدال ما هو من شأن الإنسان بما هو من شأن السماء، هذا هو طبع الأنقياء.

إن أرواح هؤلاء الناس أرواح حرة، ومواقفهم تتسم بالوداعة، ووجوههم مرحة مستبشرة، برودهم من برودة الخريف، وحرارتهم من دفء الربيع، وتقلب دوافعهم يتم بوحي من قانونهم الخاص كما هو الشأن مع تقلب الفصول، إنهم يعيشون في تجانس مع كل شيء، وما من أحد يحيط علمًا بحدودهم.

لذلك يمكن أن يدمر «الحكيم» الكامل مملكة دون أن يخسر قلب الشعب، وبغير أن يتعمد «حب البشر» تجده قادرًا على إسعاد عشرة آلاف جيل.

من يفرح بالناس ليس هو الكامل. من يشعر بالميل ليس هو المحب. من يراقب «تحول» الأزمنة ليس هو الحكيم. من لا يتلقى الخير والشر بقدر متساوٍ ليس هو القدوة. ومن لا يضحي بنفسه تضحية مطلقة فلن يصلح للحكم.

٢

الطريق

أنا الباحث عن المعرفة، هذا هو الاسم الذي أطلقه الناس عليَّ، هل عرفوا أن معرفتي لم تزدني إلا جهلًا وشقاءً؟ جبت جميع الطرقات ولكني لم أجد الطريق، تجولت نحو الشمال، عبرت الماء الأسود وصعدت جبل الأسرار المجهولة، هنالك التقيت بذلك الناسك الذي طالما سمعت عنه، وكل من سألته كان يهمس قائلًا: إنه الناسك الذي لا يعمل شيئًا ولا يقول شيئًا، دخلت عليه كوخه في أعلى الجبل، ركعت وعفرت جبهتي بالتراب وقلت: أريد أن أسألك: فيم أفكر؟ ماذا أتأمل أو أعمل لكي أعرف الطريق؟ أين أضع قدمي لكي أقترب منه؟ من ذا يمكنني أن أتبع، وعلى أي سبيل أخطو، حتى أصل إلى الطريق؟

ظل الناسك صامتًا لا يتكلم، ساكنًا لا يتحرك، أخذ ينظر في الفراغ الممتد أمامه وحوله دون أن يقول كلمة أو يحرك إصبعًا، هل كان أخرس لا يقدر على النطق؟ هل كان يعرف الجواب ولم يرد أن يتفوه به؟ هل أراد أن يقوله فلم يستطع؟

انحنيت الإنحاءات الواجبة، عفرت جبيني بالتراب، كررت السؤال فلم يجرح السكون صوت، وأدرت ظهري وخرجت، يممت وجهي نحو الجنوب، عبرت الماء الأبيض وصعدت جبل الأنوار المشرقة، هنالك لقيت زاهدًا نحيلًا خفيف الحركة بادرني بالتحية من وجهه الطلق وابتسامته العذبة وسألني قبل أن أفتح فمي: آه! كنت تبحث عن دوامة الوهم.

تحيرت وارتج عليَّ القول، كان أسرع مني فقال: هذا هو الاسم الذي يدعونني به، أعرف، أعرف ما تبحث عنه، أريد أن أقول لك، أريد …

توقعت أن أسمع منه فلم يتكلم، شعرت أن الأفكار تصل إلى باب فمه وتتوقف، قلت لنفسي: ربما نسي ما أراد أن يقول، ربما كان الناس على حق عندما سموه دوامة الوهم، إن الدوامة تجرفه وتدور به في كل اتجاه، هلا سموه دوامة النسيان؟

كنت قد سمعت بالقيصر الأصفر أثناء طوافي بالقرى والبلاد، والجبال والوديان، ظللت أسأل عنه كل من ألقاه على الطريق حتى عثرت عليه، ولم أكد ألمح أسوار قصره من بعيد حتى اندفعت نحوه بقوة نسر جائع، لم ألتفت للحراس والحجاب والجنود، بل دخلت عليه قاعة العرش ورحت ألقي أسئلتي قبل أن ينتبه إلى وجودي، ابتسم القيصر الأصفر واعتدل في جلسته وأشار إليَّ أن أقترب وقال: لا شيء هنالك لتفكر فيه، لا يجدي أن تتأمل أو أن تعمل، لن ينفع علم أو قول، والمعرفة لن تعرفك به.

أردت أن أعترض، حاولت أن أحتج، كنت على وشك أن أهتف به: وإذا لم تعرفني المعرفة به، فكيف أعرفه؟ عندئذ دخل صوته الهادئ في سمعي كتيار ماء بارد: لا أرض لتقف عليها، لا شيء تقبض عليه لكي تقترب من الطريق، لا شيء ولا أحد تتبعه، لا درب تسير عليه لكي تصل إلى الطريق.

رويت له ما كان من أمري مع الناسك الذي لا يتكلم ولا يعمل، ومع دوامة الوهم الذي أوشك أن يتكلم فلم يستطع، ثم رفعت يدي كأني أشير إليهما على البُعد وقلت: حسن! أنت وأنا نعرف هذا، لكن الناسك والواهم لا يعرفان. من منا على حق؟

اتسعت ابتسامة القيصر الأصفر، ضحك وقال: الصامت الذي لا يعمل على حق، والواهم في دوامته قريب من الحق، أما أنت وأنا فمخطئان، أنت وأنا …

هممت أن أقاطعه فلم أجد ما أقوله، أحسست كأن الصامت يقف هناك ويحذرني من الكلام، أو كأن دوامة الوهم قد أعداني بالنسيان، واستطرد القيصر الأصفر قائلًا: إن الذين يعرفون لا يتكلمون، والذين يتكلمون لا يعرفون. قلت للقيصر الأصفر: لقد سألت الصامت الممتنع عن العمل فلم يجبني، هل كان يريد أن يتكلم فلم يقدر؟ وسألت دوامة الوهم وأحسست أنه يوشك أن يتكلم، غير أنه لم يقل شيئًا، هل رفض أن يتكلم، أم نسي ما أراد أن يقوله، والآن أسألك فتجيبني بأنك مخطئ وأنني مثلك في الخطأ، ماذا تقصد بقولك هذا؟

قال القيصر الأصفر وكأنه يجذب ستارة كثيفة أمامه وأمامي: «كان الصامت الممتنع عن الفعل على حق؛ لأنه لم يكن يعرف، وكان دوامة الوهم قريبًا من الحق لأنه نسي ما كان يعرف، أما أنت وأنا فعلى خطأ لأننا نعرف»، قلت محتجًّا: لأننا نعرف؟! وماذا نعرف؟ ألم أحضر إليك لأعرف؟ وإذا كنت تعرف فلماذا لم تعلمني، لماذا لم تروِ ظمئي وتشبع جوعي؟ لماذا؟

لكن القيصر كان قد أشار برأسه إشارة شدَّني بعدها الحراس والحُجاب إلى خارج القاعة، ثم إلى خارج القصر.

عدت أطوف البلاد والقرى، وأعد المياه والجبال، حدثني الفلاحون والصيادون في المناطق النائية على حدود المملكة عن حكيم يدعى تشينج، سألتهم: هل يعرف هذا الحكيم؟ هل يمكنه أن يدلني على الطريق؟ كانوا يلزمون الصمت كلما سمعوا اسم المعرفة أو فعل يعرف. اكتفى أحدهم بعد الإلحاح عليه بقوله: إنه يملك الطريق. ذهبت إليه في كوخه المتواضع على شاطئ النهر الأخضر وقلت: هل يمكنني أن أملك الطريق؟

قال تشينج: جسدك ليس ملكًا لك، فكيف تريد أن تملك الطريق؟

سألت: إذا لم يكن هذا هو جسدي، فجسد من هو؟

قال تشينج: جسدك ليس ملكًا لك، إنه الصورة التي طبعتها عليك الأرض والسماء، وحياتك ليست ملكك، إنها تجانس الأرض مع السماء قد حل فيك، والنسل الذي انحدر منك ليس هو نسلك، إنه تجدد الأرض والسماء من خلالك، أنت تسير ولا تعرف من يدفعك على السير، تسكن أو ترقد ولا تعرف من الذي يحملك على السكون أو الرقاد، تأكل وتشرب ولا تعلم ما الذي يجعلك تتذوق ما يطعمك ويرويك، تلك هي قوة السماء والأرض، قوتها التي تفعل فعلها فيك، كيف تريد إذًا أن تحصل على الطريق، كيف تطمع أن تملكه؟!

لم يزدني تشونج إلا حيرة على حيرة، كدت أن أغير اسمي، وهو الباحث عن المعرفة، وأسمي نفسي: من لا يبحث ولا يريد أن يعرف. وبينما كنت جالسًا تحت ظل شجرة عبر بي رجل شعرت أنه يمكن أن يحمل في صدره الجواب، كنت قد انجذبت لمرآه وشعرت نحوه بالهيبة الممزوجة بالحب والتعاطف والاحترام، واقترب مني وجلس إلى جواري وقال قبل أن أوجه السؤال: تريد أن تجد الطريق، أليس كذلك؟ ما من شيء لا تجده فيه.

سألت: اعطني مثلًا على ما تقول.

قال: إنه في هذه النملة.

هتفت: النملة!

قال: وفيما هو أقل، في هذا العشب.

صمت: هذا العشب؟

قال: وفيما هو أدنى في هذه النبتة.

سألت: هذه النبتة الضئيلة؟

قال: وفيما هو أسفل وأحط، في هذا الكوم من الفضلات.

قلت: هو في هذا كله؟

أشار بيده المفتوحة كأنه يمدها إلى كل شيء في الأرض والسماء ويطويه في قبضته وابتسم قائلًا: هو فيه وليس فيه، لا تبحث عن شيء بعينه، فما من شيء يخلو منه، ولا تتوقف عند شيء بدأته، فما من شيء ينفرد به، إننا ننطق كل لحظة بكلمات وكلمات، هل سألت نفسك يومًا عن الكلمة الأصيلة من بينها؟ إنها هي التي تعني الكل، هي التي تدل على الواحد، كذلك الطريق إنه الكل، الواحد، لقد بحثت كثيرًا فيما يبدو.

قلت وأنا أطرق برأسي إلى الأرض وأراقب نملة تتحرك على جلدي: لقد عبرت المياه السوداء والمياه البيضاء، وتسلقت جبل الأسرار وجبل الأنوار، سألت الناسك الذي لا يتكلم ولا يعمل، والتقيت بالزاهد الذي سمَّوه دوامة الوهم، ثم ذهبت إلى القيصر الأصفر في قصره … قاطعني قائلًا: إذًا فجرب أن تذهب معي إلى قصر اللامكان. رفعت حاجبي وفتحت عيني وسألت: قصر اللامكان؟ وأين أجده؟ قال وهو يرمقني بنظرة متسامحة: ألا تريد أن تعرف إلا لتجد؟ إنه لا يُعرَف ولا يُعثَر عليه، هنالك وسط جميع الأشياء والكائنات، في وحدة كل المخلوقات، هنالك تجد الكلمة معناها، تصبح هي الكل والواحد واللامحدود.

سألت: وماذا نفعل في هذا القصر الذي لا يوجد في أي مكان؟

قال: ماذا نفعل؟ سنحاول ألا نفعل شيئًا، أن نتقن عدم الفعل.

سألت: وماذا نفعل حتى نتقن عدم الفعل؟

قال: نسكن، لا نتحرك.

قلت: وإذا تحركت الرغبة فينا بالحركة؟

قال: نخلي أنفسنا من أية رغبة، وهنالك تنطلق الروح، تسكن دون أن تدري أنها ساكنة، تتجول، تذهب وتجيء، تتقدم، تتراجع، لكن لا تشعر بالهدف ولا تسعى له، هل عرفت لماذا؟!

قلت: لأنها استراحت في قصر اللامكان.

قال: وتخطت كل حدود الأشياء.

قلت: بحيث لا تبدأ ولا تنتهي؟

قال: وتكون نهايتها في بدايتها، كما تكون البداية في النهاية، إنها الآن وراء البداية والنهاية، وراء الحياة والموت، وراء الجسد والروح.

سألت: في الأبدية؟ هل هذا ما نقصده بتخطي كل الحدود إلى اللامحدود؟ هل هو طريق الحقيقة؟

قال وهو يفتح ذراعيه كمن يحتضن الكون بأسره: لا تنسَ أنه ليس هو الحد ولا اللامحدود، إننا نتكلم عن الملاء والخلاء، كما نتكلم عن التجدد والفساد، طريق الحقيقة هو الذي يكوِّن الملاء والخلاء، لكنه ليس ملاء ولا خلاء، وطريق الحقيقة وراء التجدد والفساد، ولكن ليس هو التجدد ولا الفساد، وهو الذي يبدع الجذر والتاج، غير أنه ليس هو الجذر ولا التاج، ويحدث التجمع والشتات، دون أن يكون هو التجمع والشتات.

تلبدت قسمات وجهي بالحيرة المفاجئة، فتحت فمي فخرجت لفحة حارة ولم تخرج كلمة واحدة، قال في هدوء: إن سؤالك لا يجاب عليه، وبحثك لا يؤدي للوصول، لا تسأل عن الطريق ولا تحاول أن تعثر عليه، كن أنت الطريق ودعه يكونك.

سألت بائسًا: كيف؟ كيف؟

قال: ما زال سؤالك يلقيك بعيدًا عنه، حاول أن تتوحد به، هل رأيت الصغار وهم يتحدون في حضن الأم؟ هل شعرت بالأم وهي تتحد بالصغار؟ كن أنت الواحد والوحدة، وكن الأب والأم، عندئذ تتخطى كل حدود الأشياء لتصبح أنت الوحدة والواحد والكل، عندئذ تتخطاني حتى أتمنى أن أتبعك وأمشي في أثرك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤