الحكيم يملي دموعه المؤجلة

١

الطريق

قال الغلام الذي رافق المعلم إلى منفاه الأخير:

لا أستطيع أن أحوِّل عيني عنه منذ أن خرجنا — هو والثور الأسود السمين الذي يحمله على ظهره وأنا — من البوابة الأخيرة لولايتنا «تشو»، وتركنا وراءنا المدينة في ساعة الشفق كأنها التنين الأصفر الذي يلمع في وشاح الغروب الذهبي برغم السحب الرمادية التي تلفه في الغبار والضباب، ألمح خفية وجه معلمي الشاحب النحيل الذي لم تمحُ الخطوط والتجاعيد الصخرية قسماته الرقيقة الحنون وهو يلتفت خلفه بين الحين والحين كأنما يتلفت قلبه المهموم على أجنحة نظراته الطيبة التي تحجرت فيها الدموع منذ سنين، وكلما قطع الصمت الذي يتدثر بسواده الفاحم أكثر مما يتدثر جسده الفارع الهزيل بعباءته السوداء، كلما حرك شفتَيه أو أشار بيده الصغيرة البارزة العروق، أسرعت إليه ومقود الثور لا يغادر يدي وندائي عليه لا يتوقف: نعم يا معلمي، هل تطلب شيئًا؟ لكن ما أندر أن يفتح فمه بكلمة أو ينطق عن رغبة، حتى الزاد القليل الذي أقدمه له عندما نميل قليلًا إلى ظل شجرة أو صخرة لنستريح لا يكاد يقربه حتى ألح عليه بلقيمات قليلة أو قطعة لحم خشنة أو قضمة جبن بيضاء.

آه! ما هذه الأحزان التي سكنت قلبك كالخفافيش التي تعشش في كهف مظلم وترفرف أجنحتها السوداء دائمًا على وجهك وجبهتك وكيانك؟ وكيف أجرؤ على السؤال وأنت الذي علمتني أن الحكيم لا يتكلم وأن الذي يتكلم ليس حكيمًا؟ وإذا سمح لي طيش الصبا أن أسألك سؤالًا، فهل يمكن أن أتجاوز عتبة باب أسرارك الذي أغلقته بألف مزلاج ومنعت عنه الأيدي والأقدام والآذان؟ أقصى ما أقدر عليه أن أداعب رفيقنا الأخرس السمين الذي لا يعنيه إلا البحث عن العشب الأخضر واجترار صمته المختلف عن صمتك.

وأهتف بالثور الواسع العينَين الذي أخذ قسطه من الراحة وراح يرسل نظراته الرخية الخرساء إلى الأفق البعيد: هيا هيا، الطريق ما زال طويلًا، وأتجاسر على توجيه كلامي إلى المعلم الذي بدأ يستعد للرحيل: أليس كذلك يا معلمي؟

ويأتيني صوته الخارج من مغارة حلقه وصدره الضيق النحيل: نعم يا ولدي، طويل هو وبلا نهاية. وأعود للسؤال دون أن أتهور بالاستفسار إلى أين أو متى نصل فيقول: طويل هو وعميق بلا قرار. استطعنا أن نسميه ما كان هو الطريق، لو أمكننا أن ندل عليه ما كان هو الطريق الأبدي، وبغير أن أفهم شيئًا كما عودني المعلم وعودته أقول ضاحكًا: لكننا على كل حال على الطريق! ويقول وهو يتكئ عليَّ ويسند ذراعه إلى كتفي قبل أن يعتلي ظهر الثور المستكين: من يتبع الطريق يصبح هو الطريق، من يهتدي بفضيلته يصبح هو والفضيلة شيئًا واحدًا، ومن يضيِّعه يصبح هو والضياع شيئًا واحدًا، وأداري جهلي أمام الكلمات الملغزة التي تتردد في سمعي كأصوات أرواح غامضة ترقص في صندوق مقفل: سنتابع مهما كانت مشقة الطريق، ويستدير بقامته النحيلة: إذا تعبت فقل لي. وأواصل ضحكي وأنا أدفع الثور وأصيح به: شي، شي. وأنا أقول لك الآن ما سمعته منك مرة: إذا كان الطريق طويلًا ولا نهاية له، فهو وحده الذي يمنح القوة والكمال.

نتابع السير على الدروب الوعرة الضيقة وفي الفيافي الواسعة المجدبة إلا من الأعشاب والأشواك، نجتاز الطرق الصاعدة بين الجبال ونهبط المنحدرات الخطرة إلى الوديان، نمر على القرى المتناثرة ونعبر الجسور الخشبية الهشة الممدودة فوق الجداول والأنهار الصغيرة ونحيي الرعاة واللصوص والمهربين والهاربين من الشرطة والحراس، وتمتلئ آذاننا بنباح الكلاب وعواء الذئاب وثغاء الشياه والحملان والماشية ونرد بأدب على حراس الحدود والبوابات، وحين يهلكنا التعب وتحن مفاصلنا وعظامنا إلى الراحة نأوي إلى مكان ظليل ونربط الثور إلى جذع قديم وننام. ما أكثر ما فتحت جفني فجأة لأجد المعلم العجوز يرمقني كأم تراقب طفلها الرضيع، فإذا التقت عيوننا قال وهو يبتسم ويلف عباءته حول ظهره وصدره: هكذا الحكيم الكامل يا بني، فكمال من يجمع الفضيلة في نفسه، أشبه بكمال طفل حديث الولادة، وأفرك عيني وأتمطى وأنا أتلفت حولي: هل أحسست بخطر يا سيدي؟! فيقول وابتسامته لا تفارق شفتَيه الجافتَين ولا وجهه الصخري المملوء بالتجاعيد: الوحوش لا تعتدي عليه، والجوارح لا تنقض عليه، من يلازم الطريق يبقى في أمان. إن سقط جسده لا يتعرض لخطر.

وأثبت بصري في وجهه الطيب وأستقبل موجات الحنان المنسكبة منه على الرغم من السهر والصمت والشحوب، ثم أغمض عيني إلى الفجر وأنا أتمتم في السر بما سمعته منه مرة وهو يتحدث مع أمي: من يكرم معلمه، يكرمه الطريق، ومن لا يكرم معلمه، فقد ضل إلى أبعد حدود الضلال، حتى ولو كان أكبر العلماء.

•••

كيف أحكي قصتي معه وهي لا تعدو بضع خطوات على الطريق؟ ماذا أذكر منها وماذا أدع للتاريخ أو النسيان؟ شي، شي، أيها المتخم الثقيل الكسول! ليتك تدعو السماء أن تفتح كوة ضئيلة في رأسك المظلم المحاصر بالغياب والغباء لتعرف من هو الحكيم الذي يمتطي ظهرك وأحيانًا يربت على رأسك وعنقك وشعرك كطفل وديع!

كنت أراه أحيانًا وهو يتمشى على ضفة النهر الصغير القريب من سور قصر الإمبراطور، وبغير أن يلفت إليه أحدًا أو يلتفت إلى أحد كان ينزلق إلى أكمة ملتفة الأشجار والأغصان والأوراق الكثيفة ويختفي فيها قبل أن تلمحه العيون وهو راجع إلى ضفة النهر متجهًا إلى باب القصر الخلفي الذي يغلق وراءه في هدوء، وعندما وصفته لأمي وأخبرتها أنني أراه أحيانًا وأتتبعه إلى مخبئه دون أن يراني، ضربت على صدرها بيدها الصغيرة وصاحت: كيف تفعل هذا مع حكيم الإمبراطور؟ كيف تجسر يا ولدي على الاقتراب من طريق السماء الذي لا يسير عليه إلا الكامل القديس؟ ألم تسمع أقواله الغامضة التي يرددها الناس حائرين أو ضاحكين عن الطريق؟ قلت في لهفة لا أندم عليها: وأريد يا أمي أن أرافقه على هذا الطريق، أريد أن أكون تابعه وتلميذه. فتحت فمها من الدهشة وقالت: ترافق التنين؟! أجبتها في هدوء: وما رأيك أنني تكلمت معه أيضًا ومشيت معه خطوات؟! قالت متحسرة: ما دمت تتلف عينيك كل ليلة بالكتب المأفونة بدلًا من رعاية أمك! ضحكت قائلًا: وأريد أن تأتي معي لمقابلته حتى أستطيع بعد ذلك أن أرعاك كما تتمنين.

•••

كان اللقاء أبسط مما توقعت أو توقعت أمي. انحنت أمامه حتى كاد رأسها يلمس العشب الذي يجلس عليه تحت شجرة ضخمة سوداء وقالت: هذا الولد مفتون بك وبالطريق يا سيدي. سمع عباراتك وأخذ يدونها على الأعواد التي يكلفني شراؤها فوق ما أطيق. ابتسم المعلم وسألها: ويدونها أيضًا قبل أن يدونها صاحبها؟ ماذا كتبت يا ولدي؟ هتفت في حماس وأطلقت الكلمات من فمي كمياه متفجرة من نافورة أو شلال: الشجرة الشامخة نمت عن برعم صغير، البرج ذو الطوابق التسعة ارتفع من كومة تراب. رحلة العشرة آلاف ميل تبدأ تحت قدميك. قال ضاحكًا: كلماتي سهلة على الفهم، سهلة جدًّا على التنفيذ، لكن لا أحد في المملكة يقدر على فهمها أو العمل بها، صحت في رعونة يحسدني عليها أشجع المقاتلين: ولكنني أفهمها يا سيدي وأعمل بها أيها الحكيم الجليل، جربني وسوف ألازمك على الطريق.

قالت أمي معتذرة: سامحه يا سيدي، إنه منذ أن قُتل أبوه أمام عينَيه لا يفعل شيئًا سوى تجربة الحبل المعقود، ومنذ أن أرسلته إلى ثلاثة معلمين وهو يملأ حجرات بيتنا الضيق الفقير بالريش والأقلام والمحابر وأعواد الخيزران، ويكدس أوراق الكتب القديمة في كل مكان حتى لا أجد مكانًا يتسع لأوعية الطعام أو لجلوس الضيوف القليلين، خذه يا سيدي واجعله تلميذك وتابعك وخادمك الأمين، إنني مريضة ولا أدري كم سأعيش أو متى سأذهب وأتركه بلا أحد يضع عينه عليه أو يضع اللقمة في فمه. قال الحكيم العجوز وهو يمسك بيدي: وهل ستصبر يا ولدي على مشقة الطريق؟ هل تستطيع أن تضحي بكل شيء وتتمسك به؟ قلت وأنا أشد على يده: وأعيش له ولك يا سيدي. قال وهو ينهض متجهًا وأنا معه إلى بوابة القصر القريب: ولأمك التي ستزورها لتطمئن عليها من حين إلى حين.

•••

الطريق طويل وتتسع مساحة صمتي وصمت الحكيم الحزين والثور الأسود السمين لأن أنثر على ترابه أوراق ذكرياتي الجافة، لكن كيف أرتبها وأسرد وقائعها التي تلتصق بلحمي وتزحم مجرى دمي؟ هل يمكن أن أنسى الليالي الطويلة التي قضيتها تحت قدميه وهو يقلب في الأوراق القديمة والكتب العتيقة في مكتبة القصر الملكي بحثًا عن نماذج الحكماء القدماء والحكماء الكاملين؟ هل أروي عن صمته الممتد على اتساع طريق السماء والجواهر العشرة آلاف التي تكوِّن الموجودات على سطح الأرض؟ أم أسترجع الأيام والليالي العصيبة التي رأيت أو سمعت فيها حواره الغاضب مع القواد والوزراء أو مع ذلك الشخص العصبي النحيل الذي عرفت فيما بعد أنه هو الإمبراطور، الإمبراطور الذي يقفز في كل مكان كالطاوس المثقل بالألوان الساطعة والثياب الطويلة الغنية بالزخارف المذهبة والتاج البراق الناصع باللآلئ والجواهر على رأسه الصغير؟ وحيرة الإمبراطور وغضبه وكلماته المتدافعة كالحمم الملتهبة بالغضب الأسود وردود المعلم عليه كأنها السدود في وجه السيل؟ وأسفاره التي كان يغيب فيها عن القصر وعن أوراق المكتبة وكنوز خزائنها العتيقة ثم يرجع وهو يدمدم بالكلمات اللاهثة الممزقة كقطع الدم المتجمد التي تنزف من جرح واسع: أين أنتم أيها الحكام الحكماء في الزمن القديم؟ يا من كنتم نموذج العالم ومقياس المملكة! لم يبقَ إلا المدعون الذين لا يثق الناس بهم، الذين يمجدون أنفسهم فلا يعترف بهم أحد، ويفرضون على الشعب قوتهم فلا يزداد إلا ضعفًا وبؤسًا وهوانًا، ويفرحون بالمذابح وسفك الدماء ويسمونه انتصارًا ويحتفلون به كما يحتفلون بجنازة، أين أنتم أيها الحكماء القدماء لتعيدوهم إلى البساطة والسكينة؟ وكيف أستطيع أنا وحدي أن أعيدهم إلى الطريق أو حتى أكلمهم عنه فيسمعوني؟

حتى جاءت الليلة التي رأيته فيها محتقن الوجه كصفحة جبل عابس أجرد، كانت عيناه زائغتين وتجاعيد وجهه مربدة وملابسه مضطربة ورأسه ويداه وذراعاه في حركة متشنجة، خيل إليَّ أنني أرى أمامي ذئبًا عجوزًا انقض حديد الفخ على أعضائه ولم يسمح بالحركة إلا لشعر رأسه المتوفز وذيله المرتعش المتحفز وعوائه المبهم الباكي، قال فجأة وهو يحدق فيَّ بعينين محمرتين: لم يبقَ سوى المنفى! تطلعت في وجهه الثائر مستفسرًا، فقال وهو يذرع أرض المكتبة التي اضطربت فيها أوراق التاريخ اضطراب أفكاره: سأنفي نفسي بإرادتي — الحكمة مستحيلة في هذا العالم — والحكيم منبوذ لا يطلبه أحد ولا يستمع لنصحه أحد. هممت أن أتكلم فقال: نعم لم يبقَ أمامي إلا أن أنفي نفسي بنفسي وأتابع الطريق. قلت مترددًا خائفًا: وأنا يا سيدي، أنا الذي تمسكت به وبك؟ قال وهو يطرق برأسه مليًّا: أمك في حاجة إليك. قلت والدموع تسبقني وتفلت جارية على خدي: أنا قادم من عندها، لم تعد في حاجة إلى أحد. اقترب مني وهز كتفي في عنف: ماذا تقول؟ أيمكن أن تتركها وحدها؟ قلت: إنها على وشك أن تتركنا وتترك العالم كله. صاح غاضبًا: ولماذا لم تقل هذا؟ لماذا لم تبقَ معها؟ هيا بنا.

وجرينا إلى البيت الصغير على الضفة الأخرى من النهر. عبرنا جسرين وانحدرنا على طريق مترب مليء بالحفر والبرك الراكدة، ومررنا على أطفال مهلهلي الثياب وعجائز مكوَّمات على أعتاب البيوت، ونهرنا الكلاب الجائعة الضالة أكثر من مرة، وعندما اقتربنا من البيت لمحت عجائز في الثياب البيض يتوافدن على الباب الواطئ وهن يولولن صائحات. كانت أمي في النزع الأخير، بالكاد حركت رأسها ونظرت إلى المعلم ثم إليَّ، نظراتها الصامتة تنطق في وقت واحد بالألم واليأس والطمأنينة والثقة وتقول: تركته لك، تركته لك.

انتبهت على صوت المعلم يوقظني في رفق من إغفاءتي التي طالت مع الذكريات وكادت أن تنسيني الركب الصغير، وجاءني صوته الضعيف الذي تعودت على نبرته الحادة التي طالما نفذت في أذني وقلبي كصيحة طائر عجوز: هل رأيت؟

تلفت حولي مستوضحًا فضحك ضحكته النادرة التي شبهتها بيني وبين نفسي — ولتغفر لي السماء! — بضحكة جَدْي عجوز مكتئب الوجه: إنها آخر حدود الصين، انظر إلى الكوخ والحاجز هناك!

•••

تعجبت كيف عرف هذا مع أنه لم ينفَ نفسه من قبل، ونظرت إلى حيث أشار ورأيت الحاجز الصغير الذي يقطع نهاية الدرب المنحدر بعارضة خشبية تنتهي فيما قدرت بكرة حديدية ضخمة، وتعجبت مرة أخرى من منظر الكوخ الخشبي الصغير الذي يقف وحيدًا وسط أشجار السرو العجوز كأنه متسول منهك الجسد والروح على حدود الإعياء أو الجوع، لم أرَ حراسًا يجوبون المكان، ولا فرسانًا مدججين بالسيوف والخوذات البراقة، ولم أستطع أن أكتم شعورًا بالخوف داهمني فجأة فهتفت: أهذه هي آخر حدود الوطن يا سيدي؟

فاجأتني النبرة الحادة المرتعشة بخفقات البهجة والسرور: حيث يكون الطريق يكون الوطن يا ولدي، وحيث يكون الوطن يكون الأصل والجذور.

تسرعت ولمت نفسي بعد ذلك على طيشي: إذن فسوف تجد الطريق بعد قليل.

– الطريق في كل مكان وليس له مكان، هو فيك وتحت أقدامك، ولكنهم تنكبوه وتخلوا عنه فتخلَّى عنهم، لم يفهم رأسي الصغير ما يقصده فربت بكفي على ظهر الثور وقلت: المهم أن الطرق المعوجة قد انتهت.

– المعوج سوف يستقيم، والمنحني سوف يعتدل، الأجوف سوف يمتلئ، والبالي سوف يتجدد.

لم أستطع كذلك أن أفهم كلماته التي ترددت كترنيمة كاهن أو شدو طائر أسطوري غريب، أسرعت مرة أخرى أعبر عن فرحي وصحت: المهم أننا سنتوقف هنا يا معلمي! افرح أيها الثور الإلهي فسوف تلتقط أنفاسك وتهنأ بالعشب النديِّ الوفير!

قاطعتني إشارة محذرة من يده الممتدة نحوي فأمسكت عن الهراء وأسرعت أساعده على الهبوط من على ظهر الدابة التي توقفت أيضًا عن السير وأطرقت برأسها واتسعت عيناها دهشة من هذه الكلمات التي تساقطت علينا:

– من يعرف متى ينبغي عليه التوقف لا يتعرض لأذًى، من يعرف القناعة لا يلحقه عار.

•••

سحبت الثور الأسود من مقوده بعد أن مررت بكفي على رأسه ورقبته وظهره، واطمأننت على المعلم الذي ترجل على مهل ووضع الكتاب الذي كان يطالع فيه بين الحين والحين والغليون الذي كان ينفث منه الدخان في جيب الجراب الجلدي العتيق المسود من لفحات الشمس وذرات الغبار، ولم نكد نهبط خطوات على المنحدر الصخري الضيق في اتجاه محطة الحدود حتى لمحنا شبح رجل طويل ونحيل يقف هناك في انتظارنا، وعندما اقتربنا من العارض الخشبي الباهت الألوان أمام الكوخ واستوى الدرب الممتد أمامنا توقف معلمي وطلب مني أن أساعده على الركوب، أخذت بيده التي استندت على كتفي وهو يرفع قامته ثم يحنيها ليستريح على ظهر الثور، وقلت منزعجًا: هل تحس بشيء يا سيدي؟ قال في هدوء وهو يثبت قدميه حول بطن الدابة: لا يا ولدي، مجرد إغماءة ستزول بعد قليل، انظر، هذا الرجل القادم كفيل بعلاجها!

وأقبل علينا الرجل الطويل الذي بدا على البُعد كجرادة كبيرة، تقدم منَّا في مشيته الحذرة وبدأنا نطالع تقاطيع وجهه النحيل الصارم، وتوقعت أن تبدأ متاعب السؤال والتفتيش وتحصيل الضريبة والشك المزمن في أعين حراس الجمارك، قال في هدوء وهو يلقي نظرة سريعة على الثور والجراب الجلدي الأجرب ثم يسلطها بغير اهتمام على المعلم وعليَّ: هل من شيء يستحق الضريبة؟

قلت بثقة لا حدَّ لها: لا شيء يا سيدي.

عاد يسألني وهو يتحسس الجراب بعناية ويثبت بصره على الوجه الصامت العجوز: بضائع مهربة؟ أشياء محظورة؟

كررت بصوت هادئ لم يخفِ رنة السخرية وأنا أتابع فحصه للزاد القليل واستخراج الغليون والكتاب من الجراب: لا تحف ولا ذهب ولا حرير؟ ما قصة هذا الكتاب؟

قلت وأنا أنظر لمعلمي الذي لزم الصمت: لقد كان يعلم.

سأل وهو يثبت بصره على الوجه الصخري الحزين: وماذا كان يعلم؟

قلت في بطء: أن لا شيء على الأرض ألين ولا أضعف من الماء، ومع ذلك لا يفوقه شيء في التغلب على الصلب والقوي.

حدَّق في وجه العجوز كأنه يعاين فعل الماء في الصخور، وسرح لحظة مع أفكاره ثم التفت إليَّ قائلًا: ماذا كان يعلم أيضًا؟

قلت متعجلًا الخروج من الموقف بعد أن حانت مني نظرة إلى السماء ورأيت السحب السوداء تتجمع على صفحتها المظلمة كقطعان متدافعة إلى مورد ماء: أن الوداعة تغلب القوة، وأن الليِّن يهزم الصلب الخشن. قلب بصره فينا وأطرق برأسه طويلًا، ويبدو أنني رفعت رأسي إلى السماء ففهم أنها تنذر بالمطر أو العاصفة، وربما فهم أيضًا أننا نتعجل السير قبل أن يحل الظلام، فقال وكأنه يكلم نفسه: الوداعة تغلب القوة، الماء يهدم الصخر، نعم، نعم، ما دام الجمرك لن يحصل عن شيء فانطلقا.

•••

استأنفنا السير بعد فتح الحاجز، ووجدنا أنفسنا نستقبل واديًا رحبًا تملؤه الأشجار وتحده الجبال الشاهقة من بعيد، وما هي إلا خطوات بعد أن استرحنا قليلًا تحت ظل شجرة سوداء كثيفة الأغصان والأوراق حتى سمعنا صوتًا ينادينا ويكرر النداء: أيها المعلم! أيها الغلام!

التفتنا وراءنا فوجدنا حارس الحدود يجري لاهث الأنفاس نحونا. أمسك المعلم باللجام وتوقفنا لنعرف ما يريد، أصبح الصوت مسموعًا واقترب الوجه الشاحب النحيل: ها! قفا! قفا! أرجوكما قفا! ماذا تقصد بحكاية الماء أيها العجوز؟!

سأل المعلم وهو يطل عليه من فوق ظهر الثور: وهل يهمك هذا يا ولدي؟

قال الرجل الذي بانت ملامح وجهه الأغبر المتعب كوجه ذئب تائه وسط رمال الصحراء: ما أنا إلا عامل جمرك بسيط، لكن يهمني أن أعرف كيف ينتصر الماء على الصخر، إن كنت تدري الجواب فتكلم.

تفرَّس المعلم في وجهه طويلًا، غابت نظراته لحظة في عينَيه الغائرتَين وسترته الباهتة المرقعة وأصابع قدميه التي تطل كالديدان الرفيعة من حذائه الرمادي المتهرئ قبل أن ينتبه على صوت الرجل الذي يستعطفه: اكتبه لي، أمله عليَّ أو على هذا الغلام، مثل هذا العلم لا يستأثر به الإنسان.

ثم بعد فترة قصيرة لمس فيها سترته ونظر طويلًا إلى حذائه البالي: ولا يضن به على أحد الفقراء.

انفرجت أسارير المعلم كأنما فُكت أغلال تجاعيد الصمت والتحفظ التي تطوق وجهه، وبدا كأن شبح ابتسامة على الوجه الحجري، فتشجع الرجل قائلًا: الورق عندنا والريش والأقلام والمداد، وعندنا كذلك طعام قليل للعشاء، إنني أسكن هناك، في هذا الكوخ الذي يتسع لك وللغلام ولحكاية الماء. تنهد العجوز وهو ينزل من على ظهر الثور الذي بدأ يهز ذيله في قلق وينفض نفسه من هبات البرد التي جعلت جلده يرتعش، وقال وهو يرمق الرجل طويلًا ثم يسحبني من يدي التي تمسك بالمقود: آه! أنت أيضًا تريد أن تعرف! نعم يا ولدي.

من يسأل يستحق أن يعرف الجواب، ومن يعرف …

قلت ضاحكًا: لا يتكلم ولا يفعل، وإنما يكتب، وضحك المعلم أيضًا ومر بكفه على خدي فقلت وأنا ألاحظ أمارات السعادة والرضا ترتسم على وجه العامل الفقير: وسوف يبرد الجو بعد قليل.

قال المعلم وهو يخطو إلى جوار الرجل ويمسك كم سترته بين الحين والحين: حسن، فلنهبط هنا إلى حين.

وتبعت معلمي إلى الكوخ، أنا تلميذه الذي دوَّن «التاو-تي-كنج» بعد أن كان حبيسًا في صدره، وربما كنت تلميذه الوحيد.

٢

الصمت

وقال المعلم العجوز الذي صحبه الغلام إلى منفاه البعيد:

ها أنا ذا غادرت البوابة الأخيرة لمدينتي المعذبة وتوجهت مع تلميذي الصغير وثوري الأسود السمين إلى منفاي البعيد، لفَّني الصمت الذي احتواني كفنه الرحيم منذ أن وعيت العالم وتجلى لي سر الطريق، والقصر الذي قضيت فيه معظم أيام كهولتي وشيخوختي تراءى لي كذلك ملفوفًا في كفن الصمت الضبابي، تلفتت عيني إليه فوجدته صامتًا مثلي، وتلفت قلبي نحو المكتبة التي شهدت سهري وعملي وتعبي فخيل إليَّ أنني أسمع كلمات الحكماء القدماء تنطلق من قبور الأوراق القديمة وتفك قيود الحبال الصينية المعقودة بالحروف والمقاطع والعلامات ثم تلوذ هي الأخرى بالصمت وترقد على فراش السكينة الأبدية، آه! كم جمعت ورتبت ونفست وحققت وتركت عبارات الأجداد تنتصب أمامي كالفرسان البلغاء مدوية بحكمتها الغاضبة التي تحذر وتنذر وتشير سهامها إلى الطريق، ومع ذلك تنهي عن الثرثرة والكلام وتعلن أن العارف لا يتكلم والمتكلم لا يعرف، كم خرجت أمامي من نبع الصمت الغائر ثم رجعت إليه وتجمعت فيه، هل أسمع من هناك أيضًا بعض كلماتي التي قلتها لتلاميذي الذين عهد إليَّ القصر برعايتهم، ولأولئك الذين تحدثت معهم من رجال البلاط ووزرائه وحراسه وحُجابه وخدمه؟ وهل كان في وسعي أن أمنع طيران هذه الفراشات التعسة إلى الفقراء والبسطاء المساكين أو همساتها في آذانهم: عانق الواحد، ولن تحيد عن الطريق، افعل عدم الفعل ولن يبقى شيء لم يعمل، أخِّر نفسك وسوف تصبح في المقدمة، تجرَّد من حب النفس تصل إلى الكمال، ارجع للبساطة القديمة تتحرر من الشهوة، وإذا تحررت من الشهوة وجدت السكينة، وإذا وجدت السكينة عرفت الأبدية، وإذا عرفت الأبدية أصبحت حرًّا، وإذا أصبحت حرًّا أحطت بكل شيء، وإذا أحطت بكل شيء صرت سماويًّا، وإذا صرت سماويًّا اتحدت بالطريق، وإذا اتحدت بالطريق أصبحت أنت الطريق.

كلمات، كلمات، كلمات لم يخطر على بالي أن أدونها في كتاب، ومع ذلك سمعها الجميع ورددها الجميع وأساء فهمها الجميع. كنت ألاحظهم أثناء جولتي اليومية على ضفة النهر في طريقي إلى الأيكة أو في عودتي منها، تقترب الأفواه من الآذان، وتشير إليَّ الأصابع الحذرة، وأسمع حتى الصغار الذين يلمحونني فيقفون خائفين وهم يتهامسون: هذا هو التنين! حلق إلى السماء وهبط في أعماق الجحيم حتى وجد كتاب الطريق، ونسجوا الأسطورة حولي وحول الكتاب الذي لم أفكر في تدوينه، وانتشرت أسطورة المعلم العجوز الذي يُعلِّم تلاميذه بغير كلام، ويهزم الأعداء بغير سلاح، ويستقر في السكينة والوداعة كطفل رضيع، ويتحد بالطريق فيجد الحقيقة والفضيلة والكمال بينما المملكة غارقة في النزاع والصراع والدماء، والحكام يدقون الطبول للحروب ويزهون بالأمجاد في خيلاء بينما الفقراء يساقون للمذابح ويشوون على نيران الضرائب والمجاعة والحرمان، وأكتم ألمي وسخطي على الناس والأوضاع والكلمات وألوذ بصمتي كما فعلت على الدوام.

•••

سر يا غلامي الطيب سر، يا من بقيت لي بعد أن تخلَّى الجميع، وأنت يا ثوري الأسود السمين، تمتع بالعشب والماء وتأهب للجوع والعطش في القفار، وعندما تصعد وتهبط الممرات الوعرة في الجبال، أتريدان أن أسليكما بالكلمات؟ اسمعا إذن أغنية الصمت التي عزفتها على أوتار قلبي الوحيد: آه ما أبعد الفجر! الناس جميعهم فرحون، كأنهم يشاركون في وليمة التضحية، كأنهم ذاهبون إلى مهرجان الربيع، أنا وحدي أرقد في سكون، أشبه بطفل صغير لم يبتسم مرة واحدة في حياته، أترنح وأتمايل، كأنني أضعت وطني، الناس جميعًا عندهم ما يكفيهم، أنا وحدي تعريت من كل شيء وفقدت كل شيء، حقًّا! إن قلبي لقلب غبي معتم مضطرب، الناس جميعهم لامعون، أنا وحدي مظلم، والناس جميعهم جادون واثقون من أنفسهم، وأنا وحدي متعب حزين القلب، ثائر ثورة البحر، مضيع كأني بغير هدف، والناس جميعهم يعملون ويسعون لهدف نافع، أنا وحدي عنيد كأني من نسل الوحوش، أدعوهم أن يعملوا بغير عمل وسوف يعمل كل شيء، وإذا أتموا عملهم فليتواروا عن الأنظار ولا يدقوا له الطبول. أوصيهم أن يعلموا بغير كلام ويكونوا فاضلين بلا كلام عن الفضائل والقواعد والأخلاق، أن يتمسكوا بطريق الآباء والأجداد ويرجعوا للأصل والجذور، أن يتحدوا بالطبيعة الأم ويرضعوا من ثديها السكينة والسلام بدلًا من أن يغتروا بالتمدن وينخدعوا بالأدوات والمخترعات، آه! وكم دعوتهم لأن يغيروا أنفسهم فيتغير كل شيء.

كانت كلمات وكلمات، قلتها ولم أدونها في كتاب ولم أصرخ بها من النوافذ والأسطح وقمم الجبال، تسليت باللعب بها ولم أضحِّ في سبيلها ولا فديتها بالدماء. أطلقت سهامها فرجعت إلى قلبي مسمومة بالسخرية والاستهزاء.

آه! الناس جميعهم فرحون وأنا وحدي غير الآخرين.

لكن من قال إن الناس الذين تركتهم ورائي فرحون؟ من قال إن شيئًا قد تغير في المملكة أو أنهم سيتغيرون؟ وما جدوى الكلمات يا من تمجد الصمت وتحذر من الكلام؟

•••

بالأمس جاء الإمبراطور لزيارتي كما اعتاد أن يفعل كلما أراد أن يستشيرني في رأي أو يسألني في معضلة أو يتحدث معي عن أحوال الرعية وشئون المملكة، لاحظت الهمَّ البادي على قسمات وجهه وجبينه والحزن المخيم على عينَيه، جلس صامتًا أمامي وأطال النظر في وجهي، حاولت أن أبحث بين أكوام الكتب والأوراق عن كتاب أقرأ عليه منه وأسمعه حكايات القدماء التي يتلهف على سماعها ويعد بأن يضعها في قلبه وعلى رأسه وعينَيه، لكنه أشار بيده أن أتوقف ثم أطرق برأسه وغرق في أفكاره، وبينما أسائل نفسي عما يضنيه وما يمكن أن يسر قلبه إذا به يبادرني بالسؤال: قلت لي مرة: إن وضعت يدك على الطريق صارت مملكة الأرض طوع يديك وتبعت ظلك، وإن تمسكت به حررتها من الشر والألم فعاشت ممتعة بالوحدة والسعادة والسلام، قلت مؤمِّنًا على كلامه: وعرفت أنت طعم الرضا والقناعة والسكينة … قاطعني: ألم تقل إن عدم الفعل هو الطريق؟ قلت محاولًا الابتسام: ليس هكذا تمامًا يا مولاي، كنت أتكلم بلسان الحاكم الحكيم الذي يخاطب نفسه أو يوصي من يتولى الحكم بعده: تعلم يا ولدي فضل عدم الفعل: علِّم بغير أن تتكلم، أنتج بغير أن تمتلك، دبر ولا تسد، اعمل ولا تعوِّل على عملك.

قال الإمبراطور الذي لم يستطع أن يخفي ضيقه: وكيف أعمل ولا أعول على عملي؟ كيف؟!

قلت في هدوء: معناه أن تتم عملك ثم تتوارى، لا تمجده ولا تزهُ به، لا تسعَ إلى الشرف ولا تخشَ العار، الحاكم الحكيم يعمل من أجل الباطن لا من أجل العين.

نهض من مجلسه وتمشَّى قليلًا بين أكوام الكتب وتلال الأوراق الطويلة الملتفة التي تملأ صفحاتها عقد الحبال السوداء، وزفر ضاحكًا:

أجبني ببساطة، كيف أحكم المملكة؟ كيف أحكم شعبي؟

قلت مرة أخرى بهدوء: تحكمه ولا تتحكم فيه، تحكمه دون أن تلجأ للقوة، وحين لا يخاف الشعب قوتك، تكون قد بلغت أقصى قوتك. توقف في مكانه وقلَّب أصابعه بين الأوراق ثم التفت إليَّ ذاهلًا: بلغت أقصى قوتي؟! قلت متحمسًا: نعم نعم، تكون قد بلغت الوداعة وأصبحت كالطفل الحديث الولادة، أخَّرت نفسك فصرت في المقدمة، تواضعت فارتفعت، أخفيت نفسك فتجليت، لأنك لم تعطِ الحق لنفسك اعترف الشعب بك، ولأنك لم تمجدها مجدك؛ لأنك لم تدَّعِ وثق بك، ولأنك لم تسعَ لشيء لم يسعَ أحد ضدك بشيء، لم تنادِ على أحد ومع ذلك لبى الجميع من تلقاء أنفسهم، لم ترزح فوق صدورهم فسكنت في القمة.

قال وقد بدأ صوته يتهدج بالغضب: القمة؟! إنك تقول هذا لأنك تدفن نفسك في حكمتك وأوراقك ونصائح أجدادك. جرب أن تنزل إليهم لتعرف غضبهم وسخطهم وثورتهم.

أصررت على متابعة كلماتي: الحاكم الحكيم الذي يعمل ولا يمجد عمله لا يغضب أحدًا، والذي يتم عمله ثم يتوارى لا يثور عليه أحد. نظر إليَّ باستخفاف وازدراء، فأسرعت أقول: ألم أحكِ لك عن القائد الحكيم «فان لي»؟ لقد ذهب لرد الأعداء وانتصر عليهم في المعركة ثم اختفى، وبقي الشعب في الشوارع واقفًا في انتظاره بالأناشيد وأكاليل النصر دون أن يعلم أنه استقل قاربًا صغيرًا انطلق به في النهر الأصفر ولم يرَه أحد حتى الآن.

اقترب مني الإمبراطور وهو يصيح في وجهي: كل هذا سمعته منك وحفظته ورددته على مسامع وزرائي وقوَّادي وعمَّالي في المدن والقرى القريبة والبعيدة، مع ذلك ثار الناس عليَّ في كل مكان وعلى الوزراء والقوَّاد والعمال.

قلت وأنا أغمض جفني كأنني أتلو صلاة للآلهة: الناس لا تثور على من يتبع طريق السماء. لأنك رجالك حادوا عن الطريق ثار الناس ولجئوا للصراع والنزاع بدلًا من الوفاق مع الطبيعة والقناعة والاتضاع.

سأل متهِمًا وهو يحاول أن يكتم غيظه: الدماء تسيل وما زلت تتكلم عن القناعة والوفاق والاتضاع؟!

قلت في غضب: لأنهم حادوا عن الطريق العظيم سالت الدماء، لأنهم ملئوا عقولهم وأفرغوا بطونهم وأثقلوا ظهورهم بالضرائب ثار الناس. كل شيء في القصر على ما يرام، بينما الحقول تملؤها الأعشاب الضارة ولا تجد من يحرثها. مخازن الغلال فارغة، والموظفون والحكام يتدثرون بالثياب الزاهية ويتحزمون بالسيوف الغالية ويتخمون بطونهم بالطعام والشراب، ما معنى هذا؟ معناه أنهم تجبَّروا مثل قطاع الطريق وليس هذا هو الطريق. قال وهو يتفرَّس في وجهه كأنه يراقب معتوهًا أصابه مس من الجنون: نعم ليس هو الطريق الذي أوصلك إلى قصري وجعلك أمينًا على تراث أجدادي. قلت متجاهلًا حراب سخريته: ادفع الشر بالخير والإحسان؛ لأن الحب ينتصر في الهجوم ولا يجرح أثناء الدفاع، والسماء تُسلِّح بالحب من لا تريد أن تراهم مهزومين.

نفض يديه يائسًا: ولذلك أرسلت الجنود والأسلحة الكافية لقمع الثوار، وحين تأتيك أنباء الانتصار ستكون في طريقك إلى المنفى بإرادتك قبل أن أرسلك إليه بإرادة جنودي وقيودي وحراس سجوني.

قلت وأنا أجمع كل حكمتي وغضبي في عبارات سريعة يمكن أن يسمعها قبل أن يخرج من الباب: الأسلحة أدوات الشر؛ لذلك لا يسكن الحكيم بالقرب منها، إنه إذا انتصر لم يجد في الانتصار جمالًا؛ لأن من يجده جميلًا هو الذي يفرح بقتل غيره من البشر، ومن ينتصر في المذبحة ويحتفل بانتصاره فهو في الحقيقة يحتفل بجنازة. الأسلحة والجنود أدوات الشر، أدوات الشر، لا يقترب منها سيد المملكة الذي تمسَّك بالطريق، لا يستخدمها الحكيم الذي يرعى أبناء شعبه كأنهم أطفاله، لا، لا، لا.

•••

لم تكن هذه هي أول مرة تخرج فيها كلماتي من كهف الصمت فتُقطَع ألسنتها وتعود إليه كالخفافيش المشلولة العمياء، ولم تكن أول مرة تنطلق من بئر الصمت فيجرها الأوغاد في وحل العالم وأحاول بعد ذلك أن ألملم أشلاءها وأطهِّرها في ماء من جديد. نعم يا ولدي الذي يسير أمامي على الطريق كالطفل الكامل الذي يرضع من ثدي الأم ولا يعرف الكلام، وأنت يا ثوري الحر الصبور الذي ربما كان أقربنا للأصل والجذور، نعم لم تكن أول مرة تخرج فيها الكلمات عن الطريق فتعضها الأنياب وتوصد في وجهها الأبواب وتهيم جائعة ضالة كالكلاب. آه ما أتعسها وأبشعها حين تسرق منها الأنوار وتفرغ من سر الأسرار وتصبح مضغة في فم الدجال والسمسار والثرثار، وآه من هذا الثرثار!

•••

دخل عليَّ بعد أن أبلغني الحاجب أنه قادم من مملكة «لو» وأن اسمه هو الحكيم المشهور «كونج-فو-تزو». دخل صومعتي المكدسة بأكوام الكتب والوثائق والأوراق والعتمة والغبار كأنه مارد قوي اغتسل لفوره في ماء البحر وخرج نظيفًا لامعًا صبوح الوجه تسبقه ابتسامة عريضة يشهرها في وجهي كالسيف الناصع أو كالقنديل الساطع. كان قصيرًا ممتلئ البدن كبير البطن، له شفتا ثور وفم أشبه بالبحر، انحنى أمامي في أدب شديد، وكرر الانحناء حتى تصورت أنه قضى حياته في تعلم فروض الطاعة وأداء طقوس الواجب والاحترام من الأبناء للآباء ومن البشر للآلهة والملوك والحُكام، وبعد أن أذنت له بالجلوس وتطلَّع طويلًا إلى جسدي الطويل النحيل ووجهي الصخري الذي لم يفارقه التقطيب والعبوس بدأ في حذر يخرج الكلمات من فمه الواسع كأنه صرَّاف يعد النقود: يسمونني في بلدي المعلم والحكيم، لكنني سمعت عنك فجئت أسألك كالتلميذ الصغير وأتعلم منك ما يتعلمه العصفور من النسر الكبير.

قلت في حذر وأنا لا أُخفي إعجابي ببشاشته وحذقه وذلاقة لسانه وثقته في نفسه: النسر الكبير يرقد عاجزًا في عشه وهو يتقلب في الصمت وينتظر الموت، ماذا تريد أن تعرف يا بني؟

قال وهو يوسع من ابتسامته المشرقة فتسطع الأنوار من جبينه وتطارد الظلال الهاربة أمامها: سمعت من يقول على لسانك إن العارف لا يتكلم، والمتكلم لا يعرف، وأنا عشت حياتي حتى اليوم لأعرف وأعلِّم وأحاول أن أصلح بالكلمة والاسم، علمني يا سيدي عن الطريق.

– الطريق يا بني لا اسم له، لو كان له اسم ما كان هو الطريق — عميق هو وبلا قرار — هو المنبع والأصل وسر الأسرار.

– لكنه تجلَّى يا سيدي وكشف عن نفسه للحكماء القدماء، وأنت تجلس بينهم وتعرفهم وتنطق بكلامهم وتتقن طقوسهم وشعائرهم ومواعظهم.

– هذا صحيح يا بني، ولكن الذين تسأل عنهم قد تعفنوا وصارت عظامهم ترابًا، لقد اتحدوا بالطريق فكانوا هم الطريق، تمسكوا به وحققوه بالسكينة والبساطة والوداعة، لم يتكلموا عنه بالخطب والمواعظ ولم يقيموا له الطقوس والشعائر، كانوا هم الطريق ولم يدقوا بالطبول ليدعوا الناس إليه.

– لكنهم علموا مواطنيهم يا سيدي وأفادوهم، حببوا إليهم الفضيلة وعملوا على تهذيبهم بالخير والإحسان والمحبة، أنا أيضًا أريد أن أفيد مواطنيَّ ولا أضرهم.

– إذا أردت أن تفيدهم فتخلَّ عن غرورك الذي يزيِّن لك أنك تفيدهم، وإذا أردت أن تغيرهم فابدأ بتغيير نفسك قبل أن تطمح لتغييرهم.

– وهذا هو الذي قادني إليك يا سيدي، علمني ماذا أعلم وأعلِّم كي تصلح المملكة والحاكم والمحكوم.

– سمعت أن التاجر الناجح يخفي ثروته في حرص، وأن الرجل العظيم ينهض للعظمة عندما تحين ساعته، لكن قبل أن تحين هذه الساعة توضع العراقيل أمامه. اسمع نصيحتي يا ولدي، لا تضع العراقيل أمامك.

– لم أفهم يا سيدي، أرجوك أن توضح ما تريد.

– الحكماء القدماء الذين تتكلم عنهم قد عملوا بغير عمل، وعلموا بغير علم، وأصبحوا القدوة والمثل لأنهم لم يدعوا الناس إلى الفضيلة والعدالة والإنسانية، لقد تمسكوا بالطريق فسار الناس على الطريق، رجعوا إلى الأصل والبداية فأحب الناس السكينة والسلام ورجعوا مثلهم للأصل والجذور، تخلَّوا عن أنفسهم وتخلصوا من شهواتهم وتعففوا عن التعالم والظهور، فكف الناس عن التنازع والصراع والتظاهر والادعاء والحذلقة والتفاخر والنصب والخداع. لا تنسَ ما قلته لك، إنهم لم يعرفوا الطريق ولم يسموه، ولكنهم اتحدوا به وكانوه؛ لذلك لم يفقدوا أنفسهم ولم يفقدوه.

لكنهم اليوم يتصارعون حتى أصبحت المملكة أشلاءً ممزقة، ويغرقون في الشهوة والرذيلة حتى احتاجوا لمن يصلحهم ويدعوهم للمعرفة والفضيلة.

خرجت كلماتي غاضبة كالإعصار وصحت: أتريد أن تغيرهم قبل أن تتغير؟ أن تعظهم بالطريق قبل أن تسير عليه؟! تخلَّ يا بني عن تكبرك! تخلص من تظاهرك وطموحاتك العريضة! ارجع إلى البساطة والسكينة قبل أن تنهض يومًا من مرقدك وتتهدم كالجبل العظيم وتنكسر، اذهب يا ولدي وغيِّر نفسك! اذهب يا ولدي.

•••

آه! ما كان أحراني أن أحبس كلماتي ولا أخرجها من بئر الصمت، لقد انتشر صيت هذا الرجل السمين الواسع الفم والابتسامة وذاعت شهرته هو وتلاميذه. أسس مدرسته ومذهبه وطبع وجهه على أرض مملكة الوسط الشاسعة، وها أنت أيها العجوز تسمع الجميع يتحدثون عن الفضيلة والإنسانية والخير والإحسان والعدالة والاعتدال بعد أن اختفت جميعها وعمَّت المذابح والضوضاء واليأس من الماضي والحاضر والمستقبل، آه! ليتني ما أطلقت الكلمات ولا تركتها تخرج من نبع الصمت! ليتني ما عنَّفت المسكين ولا طردته، ولقد رجع فيما سمعت إلى تلاميذه فقال لهم إنه رآني فرأى التنين، وعرفني ولم يعرف كيف اعتليت الريح وصعدت فوق السحب إلى السماء. سأصبح أسطورة وسيصير هو إلهًا ومؤسس مذهب وديانة، ستتردد كلماته وتُحفَظ قواعده وتقام طقوسه وتعاليمه وشعائره ويكثر تلاميذه وتعلن الحكومات الاعتراف به، لكن من يدري ماذا يخبئ له القدر؟ ربما أدرك في النهاية أن الحكمة مستحيلة على الأرض، أن كلماتها سهلة وبسيطة، ولكنها عصية على الفهم والتنفيذ، ربما تخلَّى عنه تلاميذه كما تخلَّى عني تلاميذي، وربما تهدَّم في النهاية كما يتهدَّم الجبل المنهار، وذبل كما تذبل الشجرة العظيمة حين تجف وتتيبَّس قبل أن تميل وتتحطم، أليس هذا هو قدر الكلمة حين تخرج من نبع السر وتدخل في زحام البشر؟

•••

نعم يا ولدي الكامل كالطفل الراضع من ثدي الأم، يا ثوري الحر الصبور الذي يحمل الجبل المهدم والشجرة الذابلة، ماذا تقول يا ولدي؟! اقتربنا من نهاية الطريق؟ ليت البداية الأزلية تعرف النهاية! ليت الطريق يدري كم يتعذب السائر على الطريق؟ اقتربنا من الحدود وظهرت الحواجز، وحارس الجمرك يقترب أيضًا وسوف يطالبنا بالضريبة ويفحص الأمتعة؟ وتقول سيسألنا ولا بد أن نجيب؟ ماذا نملك يا ولدي غير الكلمات الخرساء؟ فقير هو وطويل ونحيل كالجرادة؟ ومتى استغنت الجرادة عن الأخضر والخضرة بالكلمات؟ أقلت له إنني كنت أعلِّم أن الماء وهو أضعف الأشياء يفتت الصخر ويهزم أقوى الأشياء؟ وهو يسأل ويريد مني أن أجيب؟ أجل أجل يا ولدي، من يسأل يستحق أن نقدم له الجواب، لكن ماذا تنفعه الكلمات وهل أشبعت الجائع أو كست العاري؟ ليكن يا ولدي ما دمت تريد، ولتخرج كلماتي من فقر الصمت إلى صمت الفقراء!

٣

أحد الفقراء

وقال حارس الجمرك الفقير عند آخر مخفر للحدود:

وقفت أمام الكوخ الذي ضمهما سبعة أيام وليالٍ ورحت أتابعهما وهما يصعدان الطريق الحجري المؤدي إلى الممر الغائر في جوف الجبل، في يدي الأوراق التي سلمها لي الصبي ومعها ابتسامته الحبيبة الخاطفة التي لمعت على وجهه الصغير المستدير مثل الزهرة التي تلمع الآن في السماء الصافية، ما تزال كلماته الهامسة المرتجفة التي أسرها إليَّ وقد سبقه المعلم إلى مربط الثور الأسود تتردد في سمعي: هذه هي كلمات الحكيم، واحد وثمانون حكمة أملاها عليَّ ثم سكت، حفظها في جوفه طوال عمره، وعليك أن تحفظها في جوفك، قلت له وأنا أقرب فمي من أذنه: تأكد أنني سأحفظها في قلبي وأدوِّنها على لوح صدري، إذا ضاعت الأوراق التي تعبت في كتابتها من يدي فلن تضيع أبدًا من عقلي ودمي.

قال ضاحكًا: ولكن كل واحدة منها تزن جبلًا.

قلت وأنا أزنها في كفي: ومع ذلك فهي أخف من جناح عصفور!

قال وهو يمر بيده على عينيه: أو من دموع طفل.

وانطلق وراء معلمه ليساعده على الركوب على ظهر الدابة، وتبعته لأودعهما وأتمنى لهما رحلة طيبة إلى الغرب البعيد، لم أغادر مكاني الذي وقفت فيه رافعًا ذراعي ومحيِّيًا حتى اختفى طرف ظلهما الباهت المرتعش مع انبلاج الفجر الزاحف، كطفل سماوي يحبو على مهل وهو يطوي سجادة الليل مع كل خطوة.

•••

دخلت إلى الكوخ الذي بقيت فيه رائحة الضيفين وأنفاسهما وأصداء كلماتهما كأنها أرواح طيبة تجتر ذكرياتها، وبدأت أيضًا في اجترار ذكرياتي القريبة والبعيدة التي انهالت عليَّ كأسراب طيور جائعة أو سيول أمطار عاصفة فاجأت كوخي الصغير الآمن فطردت النوم من جفوني، ومسحت على وجهي وعيني وأنا أفكر فيما قاله الصبي، وأخذت أقلب صفحات الذكريات وأغوص في دموع الطفل العجوز كأني أغوص في بئر عميقة الغور.

قلت لنفسي عندما رأيتهما ينحدران على الدرب الحجري المترب: لا شك أنهما عجوز وابنه الذي رزق به على كبر، ضاق بهما العيش كما ضاق بالكثيرين الهاربين من الاضطراب العظيم في إحدى الولايات البعيدة أو القريبة من مملكة الوسط، وعندما اقتربا حتى وقفا أمام الحاجز تطلعت في العجوز الجالس فوق الثور كأنه صنم منسيٌّ، فتح الصبي فمه وقال متعثرًا: إنه المعلم العجوز لاو-تزو، وأنا تلميذه، قلت وأنا أتطلع في وجه العجوز وأحاول في نفس الوقت أن أفتش عن شيء يستحق دفع الضريبة: وماذا كان يعلِّم؟ ودرت حول الثور والشيخ الصامت فوقه وأنا مشغول عن رد الصبي: إن الماء يفتت الصخر والليِّن الضعيف يهزم الصلب القوي، قلت وقد تاهت يدي في الجراب الجلدي العتيق فلم تجد فيه غير أرغفة الخبز الجافة وعلبة من الصفيح تفوح منها رائحة الجبن وكتاب وغليون طويل: لا ذهب ولا مال ولا تُحف ولا حرير! أهذه هي كنوز معلمك؟ ابتسم الصبي كأنه يعتذر، وأشار إلى رأسه فلم أفهم ما يقصده بإشارته، وعدت أتطلع إلى وجه العجوز وأحك شعر رأسي من الحيرة: ترى ماذا يدور في رأسه؟ ولماذا يذهب إلى المنفى بعد أن شاخت شجرة العمر وكادت أن تسقط مع أول هبة ريح؟ ورفعت صوتي قائلًا: اذهبا، يبدو أن حظ الصندوق الأسود معكما قليل، وافتحا عيونكما جيدًا في الليل حتى لا تفترسكما الذئاب ويضر بكما قُطاع الطرق إذا خاب أملهم فيكما.

•••

ساق الصبي الثور في هدوء وسحب المقود ناحية الطريق الصاعد نحو الممر الجبلي، ولفَّ العجوز عباءته السوداء على جسده الطويل النحيل ليتقي ريح المساء الباردة التي بدأت تلسعه كما أخذت تلفح جمرات أفكاري الحائرة فتزيدها اشتعالًا، وما هي إلا خطوات قطعاها على الطريق، وقبل أن يتوارى ظلهما الزاحف وراءهما حتى أسرعت أجري خلفهما، كانت الجمرات قد توهجت في عقلي، فرحت أنادي بأعلى صوتي: أيها الغلام! أيها العجوز! توقفا! وعندما وجدت نفسي أمامهما قلت لاهث الأنفاس: ما هي حكاية الماء؟ قل لي أيها العجوز ما هي حكايته؟ أريد أن أعرف كيف ينتصر الضعيف على القوي!

تفرس العجوز في وجهي كأنما أفاق من غفوته، همس في صوت خفيض نقله إليَّ الغلام بكلمات واضحة: أنت أيضًا تريد أن تعرف؟

لم أدرِ سر هذا السؤال، ربما أثارني أن يكون قد استهان بموظف صغير ومجهول مثلي أو ازدرى رثاثة هيئتي وسترتي، فقلت في غضب لم أستطع كتمانه: إنني كما ترى إنسان فقير ووحيد على الحدود القصوى للصين، لكنني أريد أن أعرف، أرجوك تكلم! تدخَّل الغلام مداعبًا: سمعت المعلم وهو يردد على الدوام: من يعرف لا يتكلم، والذي يتكلم لا يعرف.

قاطعه العجوز بصوت رفيع حاد: ولكن من يسأل من حقه أن يسمع الجواب، أجل يا ولدي، هذا هو فعل الطريق.

قلت مندهشًا: الطريق؟ إن كنت تعرف الجواب فتكلم، أَمْلِه عليَّ أو على هذا الصبي. عندي الورق والمداد، وأستطيع أن أقدم وجبة العشاء، نزل المعلم من على الثور بصعوبة وأسرع الصبي لمساعدته، وعندما رآه يتقدم في صمت نحو الكوخ قال الصبي وهو يسحب الثور: ويمكننا أن نتقي برد الليل وخيبة أمل اللصوص وقُطَّاع الطريق.

•••

دخل العجوز من باب الكوخ بعد أن انحنيت له الانحناءة اللائقة، ظل صامتًا طوال رحلة العودة وعذَّبتني أسئلتي: لماذا يغادر عجوز في مثل سنه أرض المملكة؟ أتراه ناسكًا سئم وحدته وأراد أن يسافر ويرى العالم؟ أم تراه قد حاول وحاول مع الحكام الكبار والصغار ولما يئس اختار الخروج؟ هل نفاه أحد منهم وطرده من مملكته أم تركه واقفًا أمام بابه كالكلب الضال فعاد أدراجه إلى الصومعة التي كان يعيش فيها؟ وهل جرَّب ما جرَّبه المعلمون والحكماء القدماء من ألوان التعذيب والعقاب، أم لقي الحفاوة والتكريم وآثر الاعتكاف في أيامه الأخيرة؟ وإذا كان أحد قد كرمه فلماذا يخلو جرابه إلا من أرغفة يابسة وغليون وكتاب وحيد من تراث الآباء والأجداد؟

أسرعت إلى المصباح الصغير المعلق على الجدار فوضعته على المائدة وأشعلته، ونبَّهني صوت الحكيم الذي رنَّ في أذني أقوى مما تصورت: الورق يا ولدي، الورق والريشة والمداد، هيا فالوقت يمر!

قلت في أدب وأنا أنحني باحترام شديد: ليس قبل أن تتلطف بشرب الشاي الأخضر أو طبق الحساء.

أشاح بيده قائلًا: وليس قبل أن نستحق كرم ضيافتك يا بني. وبينما رحت أعد الأوراق والدواة والريشة الطويلة، كان هو يتجول بعينيه في أرجاء المكان، لم يسأل عن شيء ولم يفتح فمه بكلمة، أدركت من نظراته إليَّ وإلى الكتب والأوراق والرسوم المتناثرة على المائدة الصغيرة والجدران الخشبية الواطئة أنه فطن إلى حالي وفهم أنني أسلي وحشتي بالكتابة والقراءة وملء الفراغ بالعصافير والأشجار والأزهار والبشر والأسماك والحيوانات في خطوط وانحناءات وأشكال ودوائر ورسوم غير دقيقة ولا معبرة بصورة مرضية. ورفت الأسئلة في فضاء رأسي كالفراشات المضطربة وأنا حائر بأيها أبدأ، وهل يسمح العجوز بالحوار معه؟ ورحت أنظف المائدة وأرتب مقاعد القش المتناثرة، بينما المعلم يتكور على نفسه وينكمش في جلسته مثل قط عجوز يتأهب للانقضاض، لم أجد الفرصة مواتية فانسللت إلى الكنَّة الملاصقة التي يفصلها عن الحجرة الوحيدة ستارة عليها رسم تنين مطرز بخيوط صفراء باهتة، وأخذت أعد للضيفين طبقَي الحساء بالأعشاب ومعهما قطع من الجبن والزبد الذي أهدانيه آخر العابرين من الحدود، ولم أنسَ أرغفة الخبز وبعض الأرز الذي تبقى من غداء الأمس، قدمت الوجبة الهزيلة في صمت وخرجت دون أن أجسر على النظر في وجه العجوز أو ملامسة وحدته وصمته.

•••

قبل أن أغلق الباب ورائي وأفتح صدري لأنسام المساء الندية سمعت الصوت الرفيع النافذ الذي انغرز في جلدي كشوكة حادة: «إنه التاو، ولأنه لا يوصف ولا يسمى، فقد سميته الطريق.» واشتقت أن أعرف كنه هذا الذي لا يوصف ولا يسمى فتوقفت قدمي على العتبة، وانساب الصوت كأنه يهبط من السماء داخل غمامة بيضاء، واستطعت أن أتبيَّن بعض كلماته وأميِّز رنين دقاته دون أن أفهم ترابط عباراته أو أرى تسلسل حلقاته المدوية: «ولأنه بغير اسم، فقد سميته الطريق الأبدي، طريق السماء هو، مبدأ السماء والأرض، منبع كل الأشياء وكل الأسرار.»

تطلعت إلى أعلى فرأيت الزهرة ترمقني كدمعة كبيرة ناصعة وقاسية، تجمدت في عين السماء الصامتة، أنا الذي أقف على الأرض وأشقى عند آخر حدود المملكة يأتي هذا العجوز المتدثر بالسواد والصمت فيحملني كشيطان أخرس إلى سماء الأسرار، وأنا الذي كتبت الشعر وألهبت به مشاعر الغضب والثورة في القلوب أستمع الآن إلى شعر يرفعني فوق الأرض ويلفني في ردائه الضبابي؟ وقبل أن أهبط العتبات الثلاث لأراقب ركبًا صغيرًا بدأت أصداء ضوضائه وروائح الغبار الذي يثيره تتخلل أذني وتسري في رئتي، لم أشعر إلا وقد أنزلني العجوز على الأرض وأصدر لي أمرًا حازمًا ارتعشت له مفاصلي: تخلص من الشهوة، وسوف ترى سر الأسرار، إذا بقيت محكومًا بالشهوات، فلن ترى طرف ثوبه. وسألت نفسي قبل أن أخطو إلى حاجز الحدود: وهل يستطيع فقير مثلي أن يشتهي شيئًا؟!

•••

كان الركب الصغير ينحدر نحو حاجز الحدود كأنه كتل صخرية متباعدة تتساقط عليها نقط الضوء والخيوط الحمراء الباقية من الشفق المنطفئ الذي داهمته السحب السوداء الزاحفة من جانب الأفق الغربي، وبقى لديَّ متسع من الوقت للتفكير في هذا الشيطان الصامت الذي بدأ يفتح فمه بكلام لا أفهمه، من هو هذا العارف الذي لا يتكلم ومع ذلك يستجيب لسؤالي بكلام لا يقل سوادًا عن ردائه الأسود؟ كيف أعرفه أو يعرفني وهو يأبى الحوار بيني وبينه؟ أتراه أحس بي وبحاجتي إلى معرفة سر الماء الذي تحدث عنه الصبي ففتح نبع أسراره وأخذ يمليها على غلامه لأتملاها فيما بعد؟ من أنت أيها الزائر الأسود؟ ومن أي ليل خرجت؟

ألحت عليَّ الأسئلة وانقلبت الفراشات التي اضطربت في رأسي الغبي قبل قليل إلى خفافيش تتصادم في عتمة جهلي ودهشتي ووحشتي الممتدة بغير نهاية كالطريق الذي سمعت وصفه له، وحدثتني نفسي أن أسترق الخطى إلى الباب وأنصت لعلي أسرق شعاعًا من النور يضيء الظلام المخيم حولي وفيَّ، وضعت أذني على الباب فرنت كلمات أخرى أحسست أنها تطلق من داخلها خفافيش جديدة: أنا لا أعرف اسمه، أخاطبه بالطريق حتى يكون له اسم، إذا اجتهدت في تسميته قلت العظمة، والعظمة معناها أن تفقد نفسك كي تجده، أن تفقد نفسك معناه أن تبتعد وتتخلى، أن تبتعد وتتخلى معناه أن ترجع لنقطة البداية، وأن ترجع لنقطة البداية معناه أن تعود إلى الأصل، وأن تعود إلى الأصل معناه أن تجد السكينة، وأن تجد السكينة معناه أن تكون أبديًّا، وأن تكون أبديًّا معناه أن تكون متجليًّا، حقًّا! من لا يعرف الأبدية يوجِد الشر بغير عقل، ومن يعرفها فهو صبور، والصبور هو الحر، والحر هو الذي يعرف كل شيء، ومن يعرف كل شيء هو السماوي، والسماوي هو الذي يلزم الطريق ويحافظ عليه فيحفظه.

•••

كانت ضجة الركب الصغير قد بدأت تعلو وتجذبني إليها، ومع أن الكلمات المظلمة ظلت تتردد في سمعي وتدق كالأشباح المزعجة أبواب عقلي بلا فائدة فقد كان من الضروري أن أباشر عملي، ومضيت إلى الكشك الملاصق للحاجز وأعددت العدة للقيام بالتفتيش على الأمتعة وتحصيل الضريبة وتدوين كل ما يلزم تدوينه، وهاجمتني صورة المفتش الأعور الذي يُنتَظر حضوره بين يوم وآخر لمراجعة الأوراق وتحصيل العوائد وإفراغ الصندوق الأسود مما فيه قبل أن يغادرني شبحه الكريه إلى مخافر الحدود المجاورة.

كان العمل بسيطًا لا يحتاج إلى عناء التفتيش والمساومة والاستعطاف التي تعودت عليها كل مرة، وكان الركب مؤلفًا من أسرة صغيرة من الفلاحين المعدمين الذين هربوا أمام الغزاة الذين أغاروا على ولاية هان. وكان المشهد مألوفًا لا يحتاج إلى الأسئلة والتفاصيل، والأب والأم اللذان افترسهما الجوع والرعب واحتضنا طفلتين شاحبتين لا يفتحان شهية موظف الجمرك لفحص متاع أو طعام لا وجود لهما. وكان عقلي وسمعي متجهين ناحية الكوخ الذي أخذت تتسرب منه بعض الأصوات المختلطة عندما مال عليَّ الأب قائلًا: في محافظة هان اضطراب عظيم، وفي المحافظات الأخرى بؤس وكرب وجوع ودماء، هذا يا ولدي هو الاضطراب العظيم. لا تظن أنك بعيد عنه يا ولدي، لا تظن أنك عنه بعيد.

نظرت للرجل الصغير الذي يحتضن طفلتَيه وإلى زوجته الملتصقة به، ورأيت كيف يمسخ الخوف من الجوع والمجهول الغامض وجه الإنسان إلى وجه كلب جائع أو أرنب صيد مذعور. تأملتهم طويلًا وسمحت لهم بالعبور إلى المجهول وراء الحدود، ولم أقل شيئًا، وما فائدة الكلمات لجوف خالٍ لا يملؤه إلا اللحم مع الخبز مع الأرز؟ وطلبوا جرعة ماء فسقيتهم وتمنيت لهم السلامة والنجاة من اللصوص وقُطَّاع الطريق، وأدركوا من سخريتي وقلة حيلتي أن لا داعي لسؤال آخر فتحرك موكبهم الصغير في اتجاه الوادي الأخضر الذي ينبسط للناظر بعد عبور الممر الجبلي الوعر.

•••

بقيت وحيدًا تحت قبة السماء، مستندًا إلى الحاجز الخشبي حينًا ومتمشيًا على العشب وشجيرات الشوك المتناثرة مع الحصى في المكان، نظرت إلى الزهرة المتألقة في الأفق وقلت أخاطبها: أيتها اللؤلؤة الباكية فوق أرض الوسط المضطربة! هل شعرت بهذا الناسك الذي يبكي في كوخي وربما يذرف مثلك دموعه المؤجلة من زمن بعيد؟ وماذا تنفعني دموعه أو تنفع بدلي ورفاقي وبقايا أهلي المشردين في ولاياتها الممزقة؟ إنه لا يعرف شيئًا عن حياتي وقد لا يعرف عنها شيئًا، وكيف أروي عليه قصة سجني سنوات بتهمة ترويج الأشعار الملتهبة كشواظ الجمر المحترق، ثم الحكم عليَّ مع بعض رفاقي بالإعدام ونجاتي بالصدفة، ولماذا أحكي له هذا وماذا يستفيد أو أستفيد منه؟ ما الداعي لأن أخبره بحضور الإمبراطور نفسه يوم تنفيذ الحكم وأمره بإنزالي من فوق المشنقة ونفيي إلى الحدود حتى أتعلم كتابة شعر آخر تتألق فيه النجوم وتتنفس الأزهار وتطير الفراشات والعطور وأنسام الربيع وأحلامه وأحزان الخريف والشتاء؟ وماذا يملك أن يفعل لو قلت إنني عشت هنا في المنفى وحين صدر الإذن بسفري إلى «سونج» لرؤية أهلي عرفت أن الغزاة الجُدد قد قتلوا الإمبراطور الذي كان يحب الشعر كما قتلوا أمي وأبي؟ حتى قبرهما لم أستطع الاهتداء إليه ولا تقبيل حفنة من ترابه والسجود على بابه، وإخوتي الصغار لم يكن أحد منهم في بيتنا القديم؛ لأن بيتنا القديم كان قد اختفى ولم يبقَ منه حتى الهشيم المتفحم، ورفاق ثورتنا الذين نجوا من الشنق ولم ينجوا من الجوع والضياع والشتات لم أعثر لهم على أثر ولا على من يدلني على أنبائهم، وفيمَ السؤال وقد شاع الاضطراب العظيم وانطلق الموت وفي يده المنجل يحصد سنابل الأعمار الباقية، وفي ركابه الطغاة الكبار والصغار والسفاحون والقواد المنتصرون الفرحون بالدماء والأشلاء؟ أيها الناسك الإلهي الذي سألته عن الماء الذي يغلب الصخر فأخذ يملي على صبيه المسكين عن التمسك بالطريق والحفاظ على السكينة والفضيلة والاعتدال وتجنب التهور والخيلاء!

•••

وتوالت الأيام والليالي السبعة، كنت أفتح الباب همسًا، وأتكلم وأسير همسًا على أطراف أصابع قدميَّ، وأسب المهربين والهاربين بصوت هامس حتى لا أحرج السكينة ولا ألامس وعاء الصمت، وكان صوت العجوز يعلو شيئًا فشيئًا ويرتفع في كل يوم عن اليوم الذي سبقه، وخُيِّل إليَّ أنه كان يوجهه إلى داخله عندما كان يتكلم عن الحكيم الذي يعمل للباطن لا للعين، وكان يسقطه في أعماق بئره كلما ذكر التخلي عن النفس والعالم والتخلص من كل الشهوات إلا شهوة عدم الاشتهاء، والتواضع للحضيض للارتفاع إلى القمة، والبدء بتغيير النفس قبل التفكير في تغيير العالم، والتأخر عن الصفوف لإحراز التقدم، وترك العمل لكي يُعمَل كل شيء من نفسه، كانت صورة الماء الرقيق الضعيف تؤكد حضورها في صوره المتلاحقة عن الوداعة والسكينة والسر والصمت والرضا والقناعة، وكذلك لم تغب عن حكمه التي سمعت منها كلمات متناثرة أو قرأتها بعد أن تسلمت الأوراق من يد الغلام ذي الوجه الأبيض المستدير والابتسامة الساحرة الساخرة، حتى كانت ليلة زُلزلت فيها الأرض تحت كوخي الصغير وتفجرت الحمم من البركان الراقد في قلب الجبل المتجهم الصامت. كنت قد أغمضت عيني في الكنَّة المجاورة للحجرة التي يملي فيها كلماته على الغلام بعد أن قدمت لهما طبقَي الحساء مع الأرز في هدوء الأشباح الحيِّية، وكانت عيني قد غفلت قليلًا بعد أن تساقط عليها تعب النهار كما يتساقط المطر من السحاب على شجرة ذابلة أو بحيرة راكدة، ودوَّى صوت المعلم في أذني كأنه أبواق النذير التي يطلقها قائد جبار على مدينة أطبق عليها الحصار، تحول الصوت الرفيع النحيل إلى زمجرة وتتابعت قذائف النار من البركان المتفجر وانقلب جدول الماء الوديع إلى شلال يصب سيلًا من الحمم، كان الحكيم يتكلم عن الحاكم الحكيم ويحذره وينذره ولا يكتفي بنصحه وتعليمه: ما يعلمه الناس أعلمه أنا أيضًا، المتجبر لا يموت ميتة طيبة، افعل بغير أن تتدخل بالفعل، احكم بغير أن تلجأ للقوة، أتريد أن تغزو العالم وتصنع منه ما تشاء؟ أبدًا لن تفلح في ذلك أبدًا، العالم وعاء الله، من يلامسه بالعمل يفسده، من يتشبث به يفقده، تجنب التطرف! تجنب التهور! تجنب الخيلاء! الأسلحة أدوات الشر، لا تسكن بالقرب منها! إن أردت أن تكون الحاكم الحكيم للبشر فلا تفكر في أن تهزم غيرك أو تغزو مملكته بالسلاح، هذا السلاح سوف يعود فينقلب عليك، وحيث تكون الجيوش تنمو الأشواك والأحراش، حيث تزحف الجيوش تزحف السنون العجاف، تقول وماذا أفعل لو غزا الأعداء؟ تتم عملك ثم تتوارى، تحارب معركتك ولا تحتفل بالنصر، تحقق هدفك ولا تمجد نفسك، لأن من يجد الانتصار جميلًا هو الذي يفرح برؤية الدماء، من يفرح برؤية الدماء فقد خالف الطريق، وكل من يخالف الطريق فلا بد أن ينتهي ولما يزل في شبابه، إذا كان الشعب يجوع فلأن حكامه يرهقونه بالضرائب التي تزيد عن طاقته. إذا كان اللصوص وقُطَّاع الطرق يتزايدون، فلأن القوانين التي يضعها الحاكم قد زاد عددها، احكم بغير أن ترزح فوق صدر الشعب! قُده بغير أن تضر به! كن خيرًا مع الأخيار ومع الأشرار كذلك خيرًا! اجعل قلب الشعب هو قلبك والق الجميع كأنهم أطفالك! لا تشتهِ أن تبرق كالجوهرة ولا أن ترن كالمعدن الرنان! تذكر أن الحكام القدماء الذين كانوا نموذج المملكة سموا أنفسهم باليتامى والعجزة والفقراء. كن كالماء، كن كالماء، عندئذ تغسل قذارة العالم وتصبح سيد المملكة، عندئذ تحمل ذنوب العالم وتغدو ملك العالم.

•••

كان الحكيم قد تعب وأتعب الغلام فوق طاقته، قال له الآن يمكنك أن تخلد للنوم وتجفف المداد يا ولدي، أما أنا فقد جفت دموعي التي أمليتها عليك، حاول أن تغمضهما قليلًا قبل أن نستأنف رحلتنا، وفي الصباح سلمها للحارس الفقير وسيعرف أنها وصيتي التي كتبتها بدموعي المؤجَّلة.

•••

في الصباح وبعد أن قضيت ليلة لم يغمض لي فيها جفن سلمني الصبي الأوراق وهمس في أذني بما قلته في البداية، وانكفأت بعد ذلك ليالي أخرى على الأوراق ولم أكتفِ بأن أبللها بدموعي، كنت قد صممت منذ تلك الليلة العاصفة على أن أحملها للعالم وأوزعها على الناس وأعلمها وأحفظها في قلبي لو حدث أن انتزعها مني أمثال المفتش الأعور، وكان لا بد أن أهجر المخفر والمنفى وأرجع إلى مساكن البشر وفي قلبي هذا الكتاب العجيب. أما أنتم يا من ستقرءونه بعدي فاذكروا، حين تشاهدون اسم الحكيم يسطع على غلافه، ذلك الغلام الصغير الذي دوَّنه في سبعة أيام وليالٍ لا تتكرر، واذكروا أحد الفقراء الذي انتزع من الحكيم وصيته التي ملأها بدموعه المؤجَّلة.١
١  النصوص الواردة عن كتاب الحكيم الصيني «لاو-تزو» (مؤسس الطاوية، من حوالي ٥٧١ أو ٦٠٤ إلى حوالي ٥٢٠ قبل الميلاد)، وهو «تاو-تي-تنج» كتاب «الطريق والفضيلة»، وترجمته العربية التي قام بها الكاتب (القاهرة، سجل العرب، الألف كتاب، ١٩٦٧م)، وفي الخلفية قصيدة «بريشت» الشهيرة، حكاية كتاب تاو-تي-تنج الذي ألفه الحكيم لاو-تزو وهو في طريقه إلى المهجر (تجد ترجمتها في كتاب قصائد من برخت، القاهرة، دار الكاتب العربي، ١٩٦٧م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤