الفصل الأول

المادة

أقضي وقتًا طويلًا في الحديث مع أشخاصٍ يختلفون معي — لن أبالِغ إن قلتُ إن هذا هو نشاطي المفضَّل في أوقات الفراغ — وألتقي أشخاصًا بصورةٍ متكرِّرة شغوفين بمشاركة آرائهم حول العلم، على الرغم من «عدم قيامهم بأي تجربة على الإطلاق». فلم يختبر هؤلاء أي فكرةٍ بأنفسهم، باستخدام أيديهم، أو يروا نتائج ذلك الاختبار بأُمِّ عينهم، ولم يفكِّروا أبدًا بعناية حول ما تعنيه هذه النتائج بالنسبة إلى الفكرة التي يختبرونها، بإعمال عقولهم. «فالعلم» بالنسبة إلى هؤلاء، ليس سوى كيانٍ ضخم، وسرٍّ غامض، وسُلطةٍ، أكثر منه أسلوبًا.

يُعتبر تقويض ادِّعاءاتنا الأولى العلمية الزائفة الصارخة طريقةً ممتازة لتعلُّم أساسيات العلم، ويُعْزَى ذلك جزئيًّا إلى أن العلم يدور بشكل عام حول إثبات عدم صحة النظريات، ويُعزَى أيضًا إلى أن غياب المعرفة العلمية لدى مبتدعي العلاجات الإعجازية، والمُسَوِّقين، والصحفيين، يقدِّم لنا أفكارًا بسيطة جدًّا لاختبارها. فمعرفة هؤلاء بالعلم بدائيةٌ جدًّا؛ لذا فبالإضافة إلى ارتكاب أخطاء جوهرية في التفكير، تجدهم يعتمدون أيضًا على أفكارٍ مثل المغناطيسية، والأكسجين، والماء، و«الطاقة»، والمواد السامة؛ تلك الأفكار العلمية من المرحلة الثانوية، التي تنتمي في معظمها إلى مجال كيمياء الهُواة.

(١) الديتوكس وزَيْف المادة اللزجة

بما أنك سترغب في أن تتسم تجربتك الأولى بالفوضى، فسنبدأ بالديتوكس أو إزالة السموم. يُعتبر «أكوا ديتوكس» أحد منتجات الحمَّامات المائية لإزالة السموم من الأقدام، وهو واحدٌ من منتجات كثيرة متشابهة. وقد جرى ترويج أكوا ديتوكس بصورة غير نقدية في مقالات باعثة على الحرج البالغ في صحف «ذا تليجراف»، و«ميرور»، و«صنداي تايمز»، ومجلة «جي كيو»، وعدد كبير من البرامج التليفزيونية. وفيما يلي عَيِّنة من إعلان أكوا ديتوكس في صحيفة «ميرور»:

أرسلنا ألكس لتجربة علاج جديد يُسمَّى أكوا ديتوكس يستطيع إزالة المواد السامة من جسدك أمام عينيك. يقول ألكس: «أضعُ قدمي في إناء من الماء، بينما تصبُّ المعالِجَةُ ميركا قطراتٍ من الملح في وحدة تأيين، ستتولى ضبط المجال الحيوي النشط للماء، وتحثُّ جسدي على إطلاق السموم. يتغيَّر لون الماء مع خروج السموم. وبعد مرور نصف ساعة، يتحول لون الماء إلى الأحمر … تطلب ميركا من مصوِّرتنا تجربة المنتج. يُقدَّم للمصوِّرة إناءٌ من الفقاقيع البُنيَّة. تشير ميركا إلى ازدياد معدلات السموم في الكبد والخلايا الليمفاوية. يجب على كارين أن تشرب كميةً أقلَّ من الكحول والمزيد من الماء. يا لَلروعة! أشعر بالنقاء!»

تعتمد هذه الشركات على فرضية واضحة تمامًا؛ ألا وهي أن جسدك ممتلئ «بالسموم»، أيًّا ما كان نوعُ هذه السموم، وقدمَيْك تمتلئان ﺑ «مسامَّ» خاصة (اكتشفها العلماء الصينيون القدماء بجلال قدرهم). تضع قدميك في الإناء، فتُستخلَص السموم منهما، ويتحول لون الماء إلى البُنِّي. هل اللون البُنِّي في الماء سببه السموم؟ أم أن ذلك مجرد خُدعة؟

إحدى طرق اختبار ذلك هي أن تخضع بنفسك للعلاج باستخدام أكوا ديتوكس في أحد المنتجعات الصحية، أو في صالون تجميل، أو في أيٍّ من آلاف الأماكن المتاح فيها على الإنترنت، ثم ترفع قدمَيْك من الإناء عندما يغادر المعالج الغرفة. إذا تحوَّل لون الماء إلى البُني دون أن تكون قدماك في الإناء، فإذن لم يكن تحوُّل لون الماء بسبب قدمَيْك أو السموم في جسدك. هذه تجربةٌ عناصرها محكومة بدقة؛ فكل شيء متماثل في كلتا الحالتين، فيما عدا وجود قدمَيْك في الإناء من عدمه.

هناك عيوبٌ في استخدام هذا الأسلوب التجريبي (وهناك درسٌ مهمٌّ هنا، يتمثَّل في ضرورة موازنة الفوائد وتفاصيل الصور المختلفة للبحث، وهو ما سيصبح مهمًّا في الفصول التالية). من وجهة نظر عملية، تتضمَّن تجربة «القدم خارجًا» خداعًا، وهو ما قد يجعلك لا تشعر بالراحة. لكن هذه التجربة مكلِّفة أيضًا؛ فتكلفةُ جلسةِ علاجٍ واحدة بأكوا ديتوكس تفوق تكلفةَ العناصرِ اللازمة لبناء جهاز أكوا ديتوكس خاصٍّ بك، بحيث يكون نموذجًا مثاليًّا للجهاز الحقيقي.

•••

ستحتاج إلى الآتي:
  • شاحن بطارية سيارة.

  • مسمارين كبيرين.

  • ملح طعام.

  • ماء دافئ.

  • دُمية باربي.

  • معمل تحليل كامل (اختياري).

fig1
شكل ١-١

تتضمَّن هذه التجربة استخدام الكهرباء والماء. في عالم يوجد به أشخاص يعشقون مطاردة الأعاصير، وآخرون متخصِّصون في دراسة البراكين، يجب أن نقبَل أن كلَّ شخص يحدِّد مستواه الخاص لتحمُّل الخطر. ربما تُصاب بصاعقةٍ كهربيَّةٍ رهيبةٍ إذا أجريتَ هذه التجربة في المنزل، وربما تؤدِّي إلى احتراق الأسلاك في منزلك. وبينما لا تُعتبر هذه التجربة آمنة، فإنها تعتبر مهمةً لفهم خدعة التطعيم الثلاثي، والعلاج البديل، وانتقادات ما بعد الحداثة للعلم، وشرور شركات الأدوية الكبرى. لا تحاول بناء هذا النموذج في المنزل.

عندما تشغِّل ماكينة باربي، سترى أن لون الماء يتحوَّل إلى البني، وهو ما يرجع إلى عملية بسيطة جدًّا يُطلَق عليها التحليل الكهربي؛ إذ تصدأ الأقطاب الكهربية الحديدية بشكل أساسي، ويتسرَّب الصدأ البُني اللون إلى الماء. لكنْ هناك شيء آخر يحدث هنا في هذه التجربة، شيء ربما تتذكَّره جزئيًّا من دراستك لمادة الكيمياء في المدرسة؛ يوجد مِلحٌ في الماء. والمصطلح العلمي الصحيح لملح الطعام هو «كلوريد الصوديوم»؛ وهذا يعني في عملية الانحلال وجود أيونات كلورايد طافية في الماء، وهي أيونات ذات شحنة سالبة (وأيونات صوديوم، ذات شحنة موجبة). يُعتبر السلك الأحمر الواصل في بطارية سيارتك «قطبًا موجبًا»، وهنا يجري استقطابُ الإلكترونات السالبة الشحنة بعيدًا عن أيونات الصوديوم السالبة الشحنة، وهو ما يؤدي إلى إنتاج غاز الكلور الحر.

إذن يَصدر غازُ الكلور الحر من خلال حمَّام دمية باربي ديتوكس، ومن خلال غسول القدم أكوا ديتوكس، وقد جعل الأشخاصُ الذين استخدموا هذا المنتج رائحةَ الكلور المميزة جزءًا من قصتهم على نحوٍ رائع. فحَسَب هؤلاءِ، يرجع السبب في وجود السموم في الجسد إلى المواد الكيميائية، والكلور الذي يخرج من الجسد، وكل مواد التعبئة البلاستيكية الموجودة في الطعام، وسنوات الاستحمام في أحواض السباحة الممتلئة بالمواد الكيميائية. ووَفْق إحدى الشهادات حِيَال منتج إميرالد ديتوكس المُشابِه: «كان من المثير رؤيةُ لون الماء يتغيَّر وشَمُّ رائحة الكلور أثناء مغادرته جسدي.» وعلى أحد مواقع البيع الأخرى، «عندما جرَّبَتْ كيو٢ «إنيرجي سبا» لأول مرة، قال شريكها في العمل إن عينَيْه كانتا تحترقان جرَّاء كثرة غاز الكلور المنبعث منها؛ ما تبقى من طفولتها وشبابها المبكر.» هذا هو غاز الكلور الكيماوي الذي تراكم في جسدك عبر السنين. يا لها من فكرة مخيفة!

لكن هناك شيء آخر يجب أن نتأكَّد منه. هل هناك مواد سامة في الماء؟ ها نحن نواجه مشكلةً جديدة: ما المقصود بمواد سامة؟ سألتُ مُصَنِّعي العديد من منتجات الديتوكس هذا السؤال مرارًا وتكرارًا، لكنهم دومًا يُبدون اعتراضهم؛ فهم يُلَوِّحون بأيديهم، ويتحدَّثون عن الضغوط في أساليب الحياة الحديثة، ويتحدثون عن التلوث، ويتحدثون عن الوجبات السريعة، ولكن لم يذكروا لي اسم مادة كيميائية واحدة أستطيع قياسها. فأتساءل قائلًا: «ما المواد السامة التي تُستخلَص من الجسم عن طريق العلاج الذي يُرَوَّج له؟ أخبِرْني عما في الماء، وسأتحرَّى عنه في أحد المعامل.» ولم أتلقَّ أي إجابة على الإطلاق.

وبعد كثير من المراوغة والخداع، اخترتُ مادتَيْن كيميائيَّتَيْن بصورة عشوائية تمامًا؛ هما الكرياتينين واليوريا. فهاتان المادتان من نواتج التحلُّل الشائعة التي تصدر عن عملية التمثيل الغذائي، وتتخلَّص منهما الكُلى عبر البول. ومن خلال أحد الأصدقاء، أُجريت تجربةُ معالجةٍ حقيقية باستخدام أكوا ديتوكس، وأُخذت عيِّنةٌ من الماء البُني اللون، واستُخدمت التجهيزات التحليلية الفائقة التطور في مستشفى سان ماري في لندن للبحث عن هاتين المادتين الكيميائيتين «السامتين». ولم أجدْ أي مواد سامة في الماء، فقط الكثير والكثير من الحديد الصَّدِئ البُنِّي اللون.

ربما يتريَّث العلماء قليلًا، مع وجود نتائج كهذه، ويراجعون أفكارهم حول ما يجري في منتجات حمَّامات الأقدام المائية. وبينما لا نتوقع أن يقوم المُصَنِّعون بذلك، فإن ما يقولونه ردًّا على هذه النتائج مُشَوِّقٌ جدًّا، على الأقل بالنسبة إليَّ؛ نظرًا لأنها إجابات تؤسِّس لنمطٍ سنراه يتكرَّر عبر عالم العِلم الزائف؛ فبدلًا من الردِّ على الانتقادات، أو استخدام النتائج الجديدة في نموذج جديد، يبدو أن أصحاب هذا العلم يُغَيِّرون أسسَ ادِّعاءاتهم وينسحبون، بصورة لافتة، إلى «مواقف غير قابلةٍ لاختبار حيثياتها».

ينكر بعض هؤلاء الآن أن المواد السامة تخرج في حمَّام القدم (وهو ما من شأنه أن يردعني عن قياس هذه المواد)؛ فوَفْقَ هؤلاء، يجري إبلاغ جسدك بطريقةٍ ما أنَّ الوقت قد حان لإفراز المواد السامة بالطريقة العادية — أيًّا ما كانت هذه الطريقة، ومهما كانت هذه المواد السامة — بحيث يجري إفرازها بمعدل أكبر. ويقرُّ بعض هؤلاء الآن بأن لون الماء يتحوَّل إلى البني دون وجود القدم فيه، وإن كان «لا يتغيَّر كثيرًا» مثلما تكون القدم فيه. ويمضي كثيرٌ من هؤلاء في سرد قصص مطوَّلة حول «المجال الحيوي النشط»، الذي يقولون إنه لا يمكن قياسه إلا من خلال درجة شعورك، فيما يتحدَّث جميعهم عن كثرة الضغوط في الحياة العصرية.

ربما يكون ذلك صحيحًا، ولكن لا صلة لذلك بحمَّام الأقدام الذي يقدِّمونه، والذي يُعتبر عمليةً زائفة كليَّةً، وهو ما يعد السمة المشتركة في جميع منتجات الديتوكس مثلما سنرى. لننتقل إلى المادة اللزجة البُنِّيَّة.

(١-١) شموع الأُذُن

ربما تعتقد أن شموع الأُذُن «هوبي» تُعتبر هدفًا سهلًا للانتقاد. على العكس، فلا يزال يُروَّج لفاعلية هذه الشموع من خلال صحيفتَي «ذي إندبندنت» و«ذي أوبزرفر» ومحطة «بي بي سي»، على سبيل المثال لا الحصر لبعض المصادر الإخبارية المحترمة. ولما كان هؤلاء الناس أصحاب السلطة في نشر المعرفة العلمية، فسأفسح المجال للبي بي سي لتفسير طريقة إزالة هذه الأنابيب الشمعية المجوفة للسموم من الجسد:

تعمل الشمعات من خلال تبخير مكوِّناتها بمجرد إشعالها؛ مما يتسبَّب في تدفُّق تيار هوائي إلى التجويف الأول في الأُذن. تُسفِر عملية احتراق الشمعة عن عملية شفط بسيطة تجعل الأبخرة الناشئة عنها تَدْلُك طبلةَ الأذن والقناة السمعية. وبمجرد وضع الشمعة في الأذن، يتشكَّل غطاءٌ محكَم يسمح بخروج شمع الأذن والشوائب الأخرى منها.

يأتي الدليل عند شقِّ إحدى هذه الشمعات، واكتشافِ أنها ممتلئةٌ بمادة شمعية مألوفة برتقالية اللون، لا شك في أنها شمع الأذن. إذا أردتَ التأكد من ذلك بنفسك، فستحتاج إلى: أُذُن، مِشجَب ملابس، مادة لاصقة، أرضية مغبرة، مقص، وشمعتَيْ أُذن. وأرشِّح لك استخدام شمعات أوتوسان؛ نظرًا لشعارها المثير (الذي يقول: «الأذن بوابة الروح»).

إذا أشعلتَ شمعةَ أُذن واحدةً، وحملتَها فوق بعض الأتربة، فلن تجد أي آثار لأي عملية شفط. لكن قبل أن تسارع إلى نشر النتيجة التي توصَّلت إليها في دورية أكاديمية تخضع لمراجعة الأقران ستجد أن أحدهم قد سبقك إلى ذلك؛ فقد استعانت ورقةٌ بحثية نُشرت في الدورية الطبية لارينجوسكوب بأجهزةٍ باهظة لفحص الأذن، ووجدت — مثلما وجدتَ أنت — أن شموع الأذن لا تُجري أي عمليات شفط. فلا صحة للادِّعاء بأن الأطباء يستبعدون أساليب العلاج البديلة دون أدنى تفكير أو مناقشة.

لكن ماذا لو كان شفط الشمع والمواد السامة إلى شموع الأذن يجري عبر ممرٍّ آخر خفيٍّ، مثلما يُدَّعَى كثيرًا؟ حتى تتمكن من الإجابة عن هذا السؤال، ستحتاج إلى إجراء ما يُطلَق عليه تجربةً تتضمَّن مجموعةً ضابطةً، من خلال مقارنة نتائج حالتَيْن مختلفتَيْن، تمثِّل إحداهما الحالة التجريبية، بينما تمثِّل الأخرى الحالة «الضابطة»، ولا يوجد أي فرق إلا في الشيء الذي ترغب في اختباره؛ ولهذا السبب تستعين بشمعتَيْن.

ضع شمعةَ أُذنٍ في أُذنِ أحد الأشخاص، وفق إرشادات المصنِّع، واتركها حتى تحترق بالكامل.١ ضَعِ الشمعةَ الأخرى في مشجب الملابس، واجعلها تقف مستقيمةً باستخدام المادة اللاصقة. تُعتبر هذه الشمعة «الذراع الضابطة» في التجربة. والهدف من وجود عنصرِ ضبطٍ بسيطٌ؛ فنحن بحاجةٍ إلى تقليص الفروق بين النموذجين، بحيث يتمثَّل الفرق الوحيد الحقيقي بين النموذجين في العامل الوحيد الذي تُجرَى التجربة عليه، وهو ما يجب أن يتمثَّل في هذه الحالة في السؤال: «هل هذه أُذني التي تُفرز المادة البرتقالية اللزجة؟»

خُذْ شمعتَيْك إلى الداخل وقم بشقِّهما. في شمعة «الأُذن» ستجد مادةً برتقالية لزجة، وفي «شمعة الضبط» ستجد مادة برتقالية لزجة. لا توجد سوى طريقة واحدة متعارَف عليها دوليًّا لتحديد هل هذا الشيء يُعتبر شمعَ أُذُنٍ أم لا. التقِطْ بطرف إصبعك بعض الشمع، ثم المسه بطرف لسانك؛ فإذا كانت نتيجة تجربتك مطابقة لنتيجة تجربتي، فسيشبه مذاقُ شمع الأذن مذاقَ مادة الشموع اللزجة.

هل تزيل شموعُ الأذن الشمعَ من الأذن؟ في حين لا يمكنك التأكُّد من ذلك، رصدتْ دراسةٌ منشورة حالةَ المرضى أثناء برنامجٍ كاملٍ لإزالة الشمع والشوائب الأخرى من الأذن، فلم تجدْ ما يدلُّ على حدوث أي انخفاض في مستوى الشمع في الأذن. لكن رغم ذلك ربما تكون قد تعلَّمتَ شيئًا مفيدًا هنا حول الأسلوب التجريبي؛ فهناك شيءٌ حيويٌّ يجب أن تكون قد تعلَّمتَه: يُعتبر إجراءُ اختبارٍ لكل فكرةٍ عابرة يبتدعها معالجون يبيعون علاجات إعجازية من لا شيء مسألةً مكلِّفة ومُمِلَّة ومستهلِكة للوقت. لكن لا تزال عملية الاختبار ممكنة، ويجري تنفيذها بالفعل.

(١-٢) لاصقات إزالة السموم و«عائق ضد المساءلة»

تأتي أخيرًا في ثلاثية الديتوكس البُنِّية اللزجة لاصقاتُ إزالة السموم للقدم. تتوافر هذه اللاصقات في متاجر الطعام الصحي الرئيسية، أو في أحد متاجر «آفون ليدي» المحلية (نعم، هذا صحيح). تشبه هذه اللاصقات أكياس الشاي، وتحتوي على غلافٍ معدنيِّ اللون في الخلف يجري لصقه في القدم من خلال طرف لاصق قبل الذهاب إلى الفراش. عندما تستيقظ في صباح اليوم التالي تجد مادةً لزجة بُنِّية اللون، غريبة الرائحة، ملتصقة أسفل قدمك، وداخل كيس الشاي. ويُقال إن هذه المادة اللزجة — ربما تلاحِظ وجود نمط متكرِّر هنا — ما هي إلا «مواد سامة»، لكنها ليست كذلك. تستطيع الآن على الأرجح إجراء تجربة سريعة للتأكد من ذلك، وسأطرح عليك خيارًا في هذا الشأن في التعليقات الختامية في نهاية الفصل.٢

يُعتبر إجراءُ تجربةٍ إحدى طرق تحديد ما إذا كان أثرٌ قابلٌ للملاحظة — المادة اللزجة — له صلة بعملية محدَّدة أم لا. لكن يمكن تحليل الأمور على مستوًى نظريٍّ أكثر. فإذا فحصتَ قائمة مكونات هذه اللاصقات فستجد عناية بالغة في اختيارها.

أوَّل المكونات في هذه القائمة «الحمض الناري الخشبي»، أو خلُّ الخشب، وهو عبارة عن مسحوق بُنِّي اللون عالي الجذب والامتصاص؛ مثل أكياس السليكون في صناديق الأجهزة الإلكترونية. فإذا كان ثمَّة أي رطوبة، يقوم خلُّ الخشب بامتصاصها، وتظهر مادةٌ رخوة بُنِّية اللون دافئة الملمس على الجلد.

ما المُكَوِّن الآخر الرئيسي الموجود في القائمة تحت اسم «الكربوهيدرات المتحلِّلة بالماء»؟ مركَّب الكربوهيدرات هو عبارة عن سلسلة طويلة من جزيئات السكر الملتصقة معًا. النشا كربوهيدرات، وفي جسد الإنسان يتحلَّل مركَّب النشا تدريجيًّا إلى جزيئات السكر المفردة من خلال إنزيمات الهضم؛ بحيث يمكن امتصاصها. ويطلَق على عملية تحلُّل أي جزيء كربوهيدرات إلى سكريَّاته المفردة اسم «عملية التحلُّل بالماء». لذا يشير اصطلاح «الكربوهيدرات المُتحلِّلة بالماء» أساسًا — كما فطنتَ الآن — إلى «السكر»، على الرغم من الوقع العلمي للاصطلاح عند سماعه. وبداهة، يصبح السكر لَزِجًا في العَرَق.

هل هناك شيء آخر يتعلَّق بهذه اللاصقات بخلاف ما سبق؟ نعم. هناك جهاز جديد يجب أن نُطلِق عليه جهاز «العائق ضد المُساءلة»، وهو موضوع متكرِّر آخر ضمن صور الحماقة الأكثر تطورًا التي سنناقشها لاحقًا. هناك أعداد هائلة من الماركات المختلفة، وتقدِّم الكثير منها وثائق ممتازة ومطوَّلة مليئة بالمواد العلمية لإثبات نجاحها. تحتوي هذه الوثائق على مخطَّطات ورسوم بيانية، فضلًا عن مظهر العِلمية في طريقة عرضها، ولكن دون وجودٍ للعناصر الأساسية. فبحسب مُصَنِّعي هذه الماركات، هناك تجارب تُثبت أن لاصقات إزالة السموم تؤدِّي إلى نتيجة … لكن لا يقول هؤلاء ممَّ تتألَّف هذه التجارب، أو أي «أساليب» جرى اتِّباعها؛ فهم لا يَعْرِضون سوى مخططات بيانية مُنَمَّقة «للنتائج».

لا يُفضي التركيز على الأساليب إلى بلوغ الهدف من هذه «التجارب» الظاهرية؛ فهذه التجارب لا تدور حول الأساليب، بل حول النتائج الإيجابية، والرسوم البيانية، ومظهر العلمية في العَرْض. فهذه التجارب في ظاهرها أقرب لطواطم أو رموز مقدسة مقبولة ظاهريًّا لإبعاد صحفي متسائل، أو «عائق ضد المساءلة»، وهذا موضوع آخر متكرِّر سنراه — في أشكال أكثر تعقيدًا — في كثير من المجالات الأكثر تطورًا للعلم الزائف. ستُحِبُّ تفاصيل ذلك.

(٢) إذا لم يكن ذلك علمًا، فما هو إذن؟

اعرف بنفسك إذا ما كان شُرب البول، والوقوف متوازنًا على حواف الجبال، وحَمل الأثقال عن طريق الأعضاء التناسلية قد غيَّر حياتهم إلى الأبد أم لا.

برنامج «إكستريم سِلِبرتي ديتوكس»، القناة الرابعة

بينما يمثِّل ذلك الجوانب المتطرفة العبثية للديتوكس، تخاطب هذه الرسالة سوقًا أكبر، سوق أقراص مضادات الأكسدة، وجرعات الدواء السحرية، والكتب، والعصائر، و«برامج» الخمسة أيام، والبرامج التليفزيونية الكئيبة، وهو ما سنتعرض له بالنقد الحاد، خاصة في فصل لاحق حول الفوائد الغذائية في مكونات الطعام. لكن هناك شيء مهم يحدث هنا، مع الديتوكس، ولا أعتقد أن القول «كل هذا مجرد هراء» كافٍ على الإطلاق.

تعتبر ظاهرة الديتوكس مُشَوِّقة؛ نظرًا لأنها تمثِّل أحد أكثر الابتكارات المُبالَغ فيها للمُسَوِّقين، وخبراء أساليب الحياة، والمعالجين بأساليب الطب البديل؛ ألا وهو: ابتكار عملية فسيولوجية جديدة تمامًا. بالنظر إلى الكيمياء الحيوية الإنسانية الأساسية، لا يُعتبر الديتوكس مفهومًا ذا معنًى على الإطلاق؛ إذ لا يَمَسُّ عَصَبًا حيويًّا في جوهر الأشياء. فلا يوجد أي شيء عن «نظام الديتوكس» في أيٍّ من الكتب الدراسية الطبية. وبينما تعتبر فكرةُ أن الهمبورجر والجِعَة يمكن أن يؤثِّرا تأثيرًا سلبيًّا على الجسد صحيحةً بالتأكيد، لأسباب متعددة، فإن الفكرة القائلة بأنهما يتركان أثرًا محددًا في الجسد — وهو الأثر الذي يمكن التخلُّص منه من خلال عملية محددة تتمثل في نظام فسيولوجي يُسمَّى ديتوكس — ليست إلا اختراعًا تسويقيًّا.

إذا نظرتَ إلى مخطَّطٍ يوضح تدفُّقاتِ عمليةِ التمثيل الغذائي، وإلى الخرائط الهائلة بحجم الحائط لجميع الجزيئات في جسدك، التي تفصِّل طريقة تكسير الغذاء إلى مكوناته الأساسية، وطريقة تحويل هذه المكونات فيما بينها، ثم تجمُّع هذه الوحدات البنائية الجديدة في صورة عضلات، وعظام، ولسان، ومرارة، وعِرق، وجمجمة، وشعر، وجلد، وحيوانات منوية، ودماغ، وكل شيء يجعلك أنت، فمن الصعوبة بمكان العثور على شيء واحد يمثِّل «نظام ديتوكس».

ونظرًا لعدم وجود معنًى علميٍّ له، يمكن فهم ديتوكس بصورة أفضل كثيرًا باعتباره منتَجًا ثقافيًّا. فمِثْلَ أفضل الابتكارات العلمية الزائفة، يمزج الديتوكس بين المنطق السليم المفيد، والخيال المطبَّب الجامح. من بعض الجوانب، يعكس مدى اقتناعك بما يروِّجُه ديتوكس قدْرَ المبالغة الذاتية التي ترغب فيها، أو بعبارة أقل قسوة: مقدار استمتاعك بالطقوس في حياتك اليومية. عندما أمُرُّ بفترات انشغال في الحفلات، والشراب، والحرمان من النوم، والأكل المُتْخِم، أُقرِّر عادة — في نهاية المطاف — أنني بحاجة إلى قليل من الراحة؛ لذا أقضي بعض الليالي في الداخل، أقرأ في المنزل، وآكُل سَلَطةً أكثر من المعتاد. في الوقت نفسه، تَستخدم عارضات الأزياء والمشاهير «الديتوكس».

يجب أن نكون في منتهى الوضوح بشأن شيءٍ واحد؛ نظرًا لأن ذلك موضوع متكرِّر في عالم العلم الزائف بأسره: لا خطأ في فكرة تناول الطعام بصورة صحية والامتناع عن جميع عوامل الخطر التي تُفضي إلى المرض؛ مثل الإفراط في تناول الكحول. لكن لا يُعتبر أيٌّ من ذلك هو جوهر عملية الديتوكس؛ فما تلك سوى بواعث صحية سريعة، جرى إنشاؤها من البداية للاستخدام القصير الأجل، بينما تؤثِّر عوامل الخطر المقترنة بأسلوب الحياة المفضية إلى المرض تأثيرًا يمتد مدى الحياة. لا أُمانع قَبولَ أن يُجَرِّب بعضُ الأشخاص نظامًا لإزالة السموم لمدة خمسة أيام، وتذكُّر (أو حتى معرفة) شعور تناول الخضراوات، وهو سلوك لا أنتقده.

بل الخطأ يكمن في التظاهر بأن هذه الطقوس قائمة على أساس علمي، أو حتى أنها جديدة. فكل دين وثقافة تقريبًا يحظيان بصورةٍ ما من صور طقوس التطهر أو التقشف، عن طريق الصوم، أو التغيير في النظام الغذائي، أو الاغتسال، أو أي عدد من التدخلات الأخرى، التي يتخذ معظمها شكل طقوس لا طائل من ورائها. لا يجري تقديم أيٍّ من ذلك باعتباره علمًا؛ نظرًا لأنها طقوس جاءت من عصرِ ما قبل دخول المصطلحات العلمية المعجمَ اللغوي؛ إلا أنَّ كلًّا من يوم الغفران في الديانة اليهودية، وشهر رمضان في الدين الإسلامي، وجميع صور الطقوس المشابهة في المسيحية، والهندوسية، والبهائية، والبوذية، واليانية؛ كلُّ ذلك يتمحور حول مبدأ التقشف والتطهر (ضمن أشياء أخرى). فهذه الطقوس، مثل نُظم الديتوكس، دقيقةٌ بصورة لافتة ومغلوطة — بالنسبة إلى بعض المؤمنين بها، مثلما أنا متأكد — فالصوم في الديانة الهندوسية، على سبيل المثال، إذا جرى الالتزام به بصرامة، يبدأ من مغرب شمس اليوم السابق حتى «ثماني وأربعين دقيقة» بعد شروق شمس اليوم التالي.

يُعتبر التطهر والغفران من الموضوعات المتكرِّرة في الطقوس؛ نظرًا لوجود حاجة واضحة وواسعة الانتشار لهما؛ فنحن جميعًا نرتكب أفعالًا تدعو للأسف بسبب ظروفنا، ودائمًا ما تُبتدَع طقوس جديدة في استجابة للظروف الجديدة. ففي أنجولا وموزمبيق، نشأت طقوس التطهر والتطهير للأطفال الذين تأثروا بالحرب؛ خاصة الأطفال الذين كانوا جنودًا سابقين. وتُعتبر هذه الطقوس طقوسًا استشفائية، يُجرَى تطهيرُ وتنقية الطفل من خلالها من الخطيئة والذنب، ومن «دَنَس» الحرب والموت (يعتبر الدنس مجازًا متكرِّرًا في جميع الثقافات، لأسباب واضحة)، كذلك تحمل هذه الطقوس حمايةً للطفل من العواقب المترتبة على أفعاله السابقة، وهو ما يعني حمايته من ثأر الأرواح المنتقمة للأشخاص الذين قَتَلَهم. ومثلما أشار تقريرٌ للبنك الدولي في عام ١٩٩٩:

تَتَّخِذ طقوسُ التطهير والتطهر هذه للأطفال الجنود مظهرًا ما يُطلِق عليه علماء الأنثروبولوجيا طقوسَ الانتقال. بعبارة أخرى: يمرُّ الطفل بتغيُّرٍ رمزي في مكانته من شخص كان يعيش في عالمٍ من التجاوز المقبول للمعايير أو تعليقها (أي القتل، الحرب) إلى شخص يعيش الآن في عالم المعايير السلوكية والاجتماعية السلمية، ويُذعن لها.

لا أظنني أبالغ كثيرًا هنا؛ ففيما نُطلِق عليه العالَمَ الغربي المتقدِّم، نسعى إلى الغفران والتطهر من الأشكال الأكثر تطرفًا للانغماس في الأمور المادية، فنتعاطى العقاقير والمُسْكِرات، والطعام المضر، والملذات المادية الأخرى، على علمنا بأن ذلك خطأ، ونسعى إلى الحماية الطقوسية من العواقب؛ نوعٌ من «الطقس الانتقالي» العامِّ الذي يُذَكِّرنا بعودتنا إلى المعايير السلوكية الأكثر صحَّةً.

كان تقديم وجبات وطقوس التطهُّر هذه نتاجَ الزمان والمكان دومًا، والآن بما أن العلم أصبح الإطار التفسيري السائد للعالم الطبيعي والأخلاقي، للصواب والخطأ، فمن الطبيعي بمكان أن يكون علينا الإمعانُ في تبرير غفران آثامنا من خلال تبريرات علمية زائفة فاسدة. ومِثْلَ كثير من الهراء في العلم الزائف، لا يُعتبر علم «الديتوكس» الزائف شيئًا يجري عمله «لنا»، من خلال دُخَلاء مرتشين، مستغلِّين، لا ينتمون إلينا، بل هو أحد النتاجات الثقافية — موضوع متكرِّر — ونحن من نصنعه بأيدينا لأنفسنا.

هوامش

(١) كن حذرًا؛ فقد أجرت إحدى الأوراق البحثية استطلاعًا بين ١٢٢ طبيبَ أنف وأذن وحنجرة، ورصدت إحدى وعشرين حالة من حالات الإصابة الخطِرَة جرَّاء سقوط الشمع المحترق على طبلة الأذن خلال عملية معالجةٍ بشمع الأذن.
(٢) إذا أخذت أحد هذه الأكياس ورشَشْت بعض الماء فوقه، ثم وضعتَ كوبَ شاي ساخنًا فوقه وانتظرتَ عشرَ دقائق، فستجد المادة اللزجة البُنِّية اللون تتكوَّن. لا توجد مواد سامة في البورسلين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤