الفصل الرابع

المعالجة المِثلية

والآن إلى جوهر الكتاب. لكن قبل أن نخطو خطوة واحدة في هذا المجال، يجب أن نكون في منتهى الوضوح حيال أمرٍ ما؛ على الرغم مما قد تعتقد، فأنا لستُ مهتمًّا اهتمامًا طاغيًا بالطب المكمِّل والبديل (عبارة تسويقية مريبة في حد ذاتها). إن اهتمامي ينصبُّ على دور الطب، ومعتقداتنا حول الجسد والشفاء، كما أشعر بالانجذاب الشديد — في عملي اليومي — بالتفاصيل الدقيقة للطريقة التي يمكننا بها جمع الأدلة لمعرفة فوائد ومخاطر تطبيق أي تدخُّل طبي بعينه.

تُعتبر المعالجة المِثلية، وسط كل ذلك، هي أداتنا.

لذا نناقش هنا أحد أهم الموضوعات في العلم؛ ألا وهو: كيف نعرف كون إحدى وسائل التدخل الطبي ناجحة؟ سواء كان هذا التدخل الطبي في صورة كريم وجه، أو نظام ديتوكس، أو تمرين مدرسي، أو قرص فيتامين، أو برنامج تدريبي في التربية، أو عقَّار مضاد للنوبات القلبية، لا تختلف المهارات المطلوبة لاختبار إحدى وسائل التدخل الطبي في أيٍّ منها. وتُعتبر المعالجة المِثلية أوضحَ وسائل تدريس الطب القائم على الأدلة لسبب بسيط: أن مُختَصِّي المعالجة المِثلية يَصِفون أقراصًا سكرية صغيرة، والأقراص هي أسهل الأشياء على الدوام في العالم في دراستها.

بنهاية هذا القسم، ستعرف عن الطب القائم على الأدلة وتصميم تجارب الدواء أكثر مما يعرفه الطبيب العادي. ستفهم كيف يمكن أن تَمضي التجارب في الاتجاه الخاطئ، وتُفضي إلى نتائج إيجابية خاطئة، وكيف يعمل أثر العلاج الوهمي، ولماذا نميل إلى المبالغة في تقدير فاعلية الأقراص. والأكثر أهمية أنك سترى أيضًا كيف يتم خَلْق خرافةٍ عن الصحة، وترسيخها، والإبقاء عليها عن طريق صناعة المعالجة المِثْلية، باستخدام جميع الخُدع نفسها التي تمارَس عليك؛ أي على العامة، والتي تستخدمها شركات الدواء الكبرى لخداع الأطباء. الموضوع هنا أكبر بكثير من المعالجة المثلية.

(١) ما هي المعالجة المثلية؟

ربما تُعتبر المعالجة المِثْلية المثالَ النموذجي للطب البديل؛ فبينما تدَّعِي المعالجةُ المثلية توافرَ سُلطةِ الإرث التاريخي الثري، فإن تاريخها تُعاد كتابته بصورة مستمرة لتلبية حاجات العلاقات العامة لسوقٍ معاصرة؛ إذ تحظى المعالجة المثلية بإطار معقَّد وعلمي الطابع لطريقة عملها، دون توافر دليل علمي على صحة هذا الإطار، ويؤكد مناصروها تأكيدًا شديدًا أن الأقراص تجعل الأشخاص أفضل صحةً، بينما جرى إجراء البحوث العميقة عليها، من خلال تجارب لا حصر لها، وظهر أنها لا تختلف كثيرًا عن العلاج الوهمي.

ابتكر المعالجةَ المثلية طبيبٌ ألماني يُدعَى صمويل هانيمان في أواخر القرن الثامن عشر. في الوقت الذي كان الطب السائد يتألَّف من عمليات الفصد، والتطهير، ووسائل أخرى غير فعَّالة، وخَطِرة، وعندما كان يجري استحضار الوسائل العلاجية الجديدة مِنْ لا شيء عن طريق أشخاص يدَّعُون سلطةَ المعرفة كانوا يُطلِقون على أنفسهم «أطباء»، وفي ظل وجود أدلة قليلة لدعم مزاعمهم العلاجية، كانت المعالجة المثلية تبدو حلًّا طبيًّا معقولًا جدًّا.

اختلفت نظريات هانيمان عن نظريات منافسيه؛ نظرًا لأنه قرَّر — ولا توجد كلمة أفضل للتعبير عن ذلك — أنه إذا كان بمقدوره اكتشافُ مادةٍ يمكنها توليد أعراضِ أحد الأمراض في جسد أحد الأشخاص الأصحَّاء، يمكن حينئذ استخدام المادة نفسها في معالجة الأعراض نفسها في جسد شخص مريض. كان أول علاجٍ مِثْلي يقترحه هانيمان هو لحاء شجر الكينا، الذي جرى استخدامه علاجًا لمرض الملاريا. وقد تناول هانيمان نفسُه بعضًا من لحاء شجر الكينا، بجرعة كبيرة، ووقعت له أعراضٌ قرَّر أنها تشبه أعراض الملاريا نفسها:

صارت قدماي وأطراف أصابعي باردة على الفور، وشعرت بالضعف والنعاس، وبدأ قلبي في الخفقان بقوة، وصار نبضي صعبًا ومتسارعًا، وثار لديَّ شعور بالاضطراب والارتجاف غير المحتمل … إعياء … نبضٌ في الرأس، واحمرار في الخد، وظمأ شديد … حمَّى متقطعة … حالة من الذهول … تصلُّب في الجسد …

وهكذا.

افترض هانيمان أن الجميع سيتعرَّضون لهذه الأعراض إذا تناولوا أجزاءً من شجر الكينا (على الرغم من توافر أدلةٍ على أن ما مرَّ به هانيمان لم يكن يعدو ردَّ فعلٍ غير عكسي ناتجًا عن تحسُّس ذاتي لا علاقة له بأعراض مرض الملاريا). ولعل الأكثر أهمية أن هانيمان قد قرَّر أيضًا أنه إذا أعطى أحدَ الأشخاص المصابين بالملاريا الكينا، فستعالِج الكينا أعراضَ الملاريا بدلًا من أن تتسبَّب في حدوثها. وتُمثِّل نظرية «المِثل يعالج المِثل» التي ابتكرها في ذلك اليوم، في جوهرها، المبدأَ الأول في المعالجة المثلية.١

من الممكن أن يكون وَصْف المواد الكيميائية والأعشاب أمرًا خطيرًا؛ إذ إنها قد تُخلِّف آثارًا حقيقية على الجسد (فهي تؤدِّي إلى ظهور أعراض، مثلما أشار هانيمان). لكن توصَّل هانيمان إلى حلٍّ لهذه المشكلة من خلال اكتشافه المُلْهِم الثاني، الذي يُعدُّ أحد السمات الرئيسية للمعالجة المِثلية التي يعرفها معظم الناس اليوم؛ فقد قرَّر هانيمان — مرة أخرى، لا توجد كلمة إلا هذه للتعبير عن الأمر — أن تخفيف تركيز أي مادة يُفضي إلى «تقوية» قدرتها على علاج الأعراض، وهو ما «يدعم قدراتها التطبيبية الشبيهة بقدرة الأرواح»، وفي الوقت نفسه، كيفما يتفق الحظ، يؤدِّي إلى تقليل آثارها الجانبية. بل إن هانيمان قد مضى لِغَورٍ أبعدَ من ذلك، بقوله إنه كلما تم تخفيف تركيز أي مادة أكثر، زادت قدرتها على علاج الأعراض التي كانت تؤدِّي إلى ظهورها في حال كان تركيزها خفيفًا.

لم تكن عمليات التخفيف البسيطة تكفي، فقرَّر هانيمان أن عملية التخفيف يجب أن تجري وَفْق طريقة محدَّدة للغاية، آخذًا في الاعتبار هُوية المنتج العلاجي، أو الشعور بالطقس والمناسبة؛ لذا ابتكر هانيمان عمليةً أطلق عليها «عملية الرَّج». فمع كل عملية تخفيف، يُرَجُّ الإناء الزجاجي الذي يحتوي على العلاج عن طريق طَرْقِهِ بعشْر ضربات قوية على «جسم صلب مَرِن». ومن أجل هذا الغرض، استعان هانيمان بصانع سروج لبناء لوحِ طَرْقٍ خشبيٍّ موصًى عليه مغطًّى بالجلد في أحد جانبيه ومَحْشُوٍّ بشعرِ خَيْل. ولا تزال هذه الضربات العشر القوية تجري في مصانع أقراص المعالجة المثلية إلى اليوم، في بعض الأحيان من خلال روبوتات معقَّدة مصمَّمة خصوصًا لهذا الغرض.

طوَّر مُختَصُّو المعالجة المثلية طيفًا واسعًا من العلاجات عبر السنين، وصار يُطلَق على عملية تطويرها، على سبيل التفخيم، «الإثبات» أو proving (المشتقة من كلمة Prufung الألمانية). فيجتمع مجموعةٌ من المتطوعين معًا، من شخص إلى عشرات، ويتناولون ستَّ جرعات من العلاج الذي يجري «إثباته»، وَفْق عددٍ من التركيزات المختلفة، على مدار يومين، مع تدوين ملاحظات يومية بالأحاسيس العقلية، والجسدية، والشعورية، بما في ذلك الأحلام، التي اختُبِرت خلال تلك الفترة. وبنهاية عملية الفحص، يجمع قائد عملية الإثبات المعلومات من المذكِّرات اليومية، وتصبح هذه القائمة الطويلة غير المنهجية من الأعراض والأحلام المستقاة من عدد صغير من الأشخاص بمنزلة «صورة العَرَض» لذلك العلاج، مكتوبة في كتاب كبير، ويجري الالتزام بها، في بعض الحالات، طوال الوقت. وعندما تذهب إلى أحد مُختَصِّي المعالجة المثلية، فسيحاول مطابقة الأعراض لديك بالأعراض التي يتسبَّب فيها أحد العلاجات التي يجري فحصُها واختبارها.

هناك مشكلات حقيقية في هذا النظام. بدايةً، لا يمكن التأكد تمامًا من كَوْن الخبرات التي يمرُّ بها «القائمون على عملية الإثبات» ترجع إلى المادة التي يتناولونها، أو إلى شيء آخر لا علاقة له على الإطلاق بعملية الإثبات. ربما يرجع الأمر إلى أثر «العلاج الوهمي السلبي»، وهو عكس أثر العلاج الوهمي، الذي يشعر الأشخاص من خلاله بمشاعر سيئة؛ نظرًا لأنهم يتوقعون ذلك (أراهن على قدرتي على جعْلِك تشعر بالغثيان حالًا بإخبارك بعض الحقائق عن طريقة صُنع الوجبة المصنَّعة الأخيرة التي تناولتَها)، وربما يرجع الأمر إلى نوعٍ من الهستيريا الجماعية (هل هناك براغيث في هذه الأريكة؟) وربما يرجع الأمر إلى ألَمٍ في المعدة لدى أحد المشاركين في عملية الإثبات كان سيحدث على أيِّ حال، وربما أُصيبوا جميعًا بنوبة برْدٍ خفيفة معًا، وهكذا.

لكن كان مُختَصُّو المعالجة المثلية ناجحين تمامًا في تسويق هذه «الإثباتات» باعتبارها فحوصاتٍ علميةً صحيحة. إذا زرت موقع بوتس ذا كيميست www.bootslearningstore.co.uk، مثلًا، والتحقتَ بالدورة التي يقدِّمها الموقع لتعليم الأطفال الذين يبلغون من العمر ١٦ عامًا فأكثر حول العلاجات البديلة، فسترى، ضمن اللغة الفنية المعقَّدة غير المفهومة حول علاجات المعالجة المثلية، أنهم يعلِّمون من خلال هذه الدورة كيف كانت إثباتات هانيمان تمثِّل «تجارب إكلينيكية». وهذا ليس صحيحًا، مثلما ترى الآن، لكن هذه المزاعم شائعة الوجود.

أقرَّ — بل أَوْصَى — هانيمان بالتجاهل الكامل للعمليات الفسيولوجية التي تجري داخل الجسد؛ فقد تعامل هانيمان مع هذه العمليات باعتبارها صندوقًا أسود، تَلِج العلاجات إليه وتَخرُج الآثار منه، ولم يدعم سوى البيانات العملية، وآثار العلاج على الأعراض (فقد قال هانيمان: «يُعتبر إجمالي الأعراض والظروف المُلاحَظة في كل حالة فردية هو المعيار الأوحد الذي يمكن أن يؤدِّي بنا إلى اختيار العلاج»).

يمثِّل ما سبق الضد لطرح مُختَصِّي الطب البديل الحديث القائل بأن «الدواء يعالج الأعراض فقط، بينما نقوم نحن بمعالجة السبب الأساسي وفهمه.» من المثير أيضًا الإشارة إلى أن هانيمان في هذه الأوقات التي يروَّج فيها لمقولة «كلُّ ما هو طبيعي طيِّبٌ» لم يذكر شيئًا عن المعالجة المثلية باعتبارها «طبيعية»، وكان يروِّج لنفسه باعتباره رجلَ عِلم.

كان الطب التقليدي في زمن هانيمان مهووسًا بالنظريات، وكان هانيمان يفتخر بشدةٍ بتأسيس ممارساته على قاعدةٍ من الفهم «العقلاني» للتشريح وآليات عمل الجسد. وكان الأطباء في القرن الثامن عشر يتَّهمون مُختَصِّي المعالجة المثلية على نحوٍ لاذِع ﺑ «التجريب الصرف»، وهو الاعتماد المفرِط على ملاحظات تحسُّن حالة الأشخاص. أما الآن، فتغيَّرت الأوضاع؛ فصارت مهنة الطب تتقبَّل بصدر رحب تَجاهُلَ تفاصيل الآليات الفسيولوجية، ما دامت بيانات التجارب تُظهِر أن العلاجات فعَّالة (نهدف إلى التخلي عن العلاجات غير الفعالة)، بينما يعتمد مُختَصُّو المعالجة المثلية بصورة حصرية على نظرياتهم العجيبة، ويتجاهلون الأدلة التجريبية السلبية الكثيرة على عدم فاعليتها. ربما تكون هذه نقطة بسيطة، لكن هذه التحولات الدقيقة في الخطاب والمعنى قد تكون كاشفة.

(٢) مشكلة تخفيف التركيز

قبل أن نمضي قُدمًا أكثر في الحديث عن المعالجة المثلية، وننظر إلى كونها ناجحةً فعلًا أم لا، فهناك مشكلة أساسية يجب أن نُزِيلها أولًا.

يعرف معظم الناس أن علاجات المعالجة المثلية يجري تخفيفها لدرجة عدم بقاء أيِّ جزيئات منها في الجرعة التي يحصلون عليها. ما قد لا تعرفه هو: إلى أي مدًى يتم تخفيف هذه العلاجات؟ تبلغ درجة التخفيف التقليدية لأيٍّ من علاجات المعالجة المثلية ٣٠سي، وهو ما يعني أن المادة الأصلية قد جرى تخفيفها بمقدار قطرة واحدة لكل مائة قطرة؛ مع تكرار هذا ثلاثين مرة. سوف يخبرك قسم «ما هي المعالجة المثلية؟» على الموقع الإلكتروني لجمعية مُختَصي المعالجة المثلية — أكبر المؤسسات التي تضم مُختَصي المعالجة المثلية في المملكة المتحدة — أن «٣٠سي تتضمَّن أقل من جزء واحد لكل مليون جزء من المادة الأصلية.»

يمثِّل «أقلُّ من جزء واحد لكل مليون جزء»، فيما أظن، شيئًا من التقليل لقدرِ تخفيف التركيز؛ فتمثِّل قيمة ٣٠سي لأحد مركَّبات المعالجة المثلية نسبةَ تركيز واحد لكل ١٠٠٣٠، أو بالأحرى ١٠٦٠؛ أي واحد متبوعًا بستين صفرًا. ولتجنب أي سوء فهم، تبلغ نسبة التخفيف هذه واحدًا لكل ١٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠، أو بصياغتها باستخدام عباراتِ جمعيةِ مُختَصي المعالجة المثلية: «جزء واحد لكل مليون مليون مليون مليون مليون مليون مليون مليون مليون جزء»، وهو ما «يقل» قطعًا «عن جزء واحد لكل مليون جزء من المادة الأصلية.»
وحتى يتسنَّى وضع الأمور في منظور ملائم، هناك ما لا يزيد على ١٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠ جزيء ماء في حمام السباحة الأوليمبي. تصوَّرْ دائرةً من الماء قطرها ١٥٠ مليون كيلومتر (أي فيما يعادل المسافة بين الأرض والشمس). يستغرق الضوءُ ثماني دقائق حتى يقطع هذه المسافة. تخيَّلْ دائرةً من الماء بهذا الحجم، بها جزيء واحد فقط من مادة ما فيها، هذا هو ما يساوي تخفيف ٣٠سي.٢
عند نسبة تخفيف ٢٠٠سي لأحد علاجات المعالجة المثلية (يمكنك شراء تخفيفات أعلى من أي موردٍ لمواد المعالجة المثلية)، يُخفَّف تركيز المادة المعالجة بنسبة أكثر من إجمالي عدد الذرات في الكون، بل بفارقٍ في غاية الضخامة أيضًا. بالنظر إلى العملية من وجهة أخرى، يحتوي الكون على حوالي ٣ × ١٠٨٠ أمتار مكعبة من مساحة التخزين (وهي مساحة مثالية لتأسيس عائلة). فإذا جرى ملء هذه المساحة بالماء، وإضافة جزيء واحد من المكون النشط، فستنتج عن ذلك نسبةُ تخفيفٍ زهيدة تبلغ ٥٥سي.

لكن يجب أن نتذكَّر أن عدم احتمالية تحقُّق ادِّعاءات مُختَصِّي المعالجة المثلية فيما يتعلَّق «بطريقة» عمل الأقراص التي يصفونها، تظلُّ مسألةً غير مهمة إلى حدٍّ ما، ولا تعتبر أساسية بالنسبة إلى ملاحظتنا الأساسية؛ ألا وهي أن أقراص المعالجة المثلية هذه لا تؤدِّي إلى نتائج أفضل من العلاج الوهمي. وبينما لا نعرف «طريقةَ» عملِ مواد التخدير العام، فإننا نعرف أنها «تؤتي» نتائج، ونستخدمها على جهلنا بآلية عملها. ذات مرة قمتُ بنفسي بشق جرح عميق في معدة أحد المرضى، وظللْتُ أتجول بمِبْضعي في أحشائه في إحدى غرف العمليات — عليها إشراف لصيق، يلزم الإشارة إلى ذلك — في حين كان غائبًا عن الوعي جراءَ مواد التخدير، ولم يزعجني أو يزعج المريض في ذلك الوقت وجود فجوة في معرفتنا بما يتعلَّق بآلية عمل مواد التخدير.

بالإضافة إلى ذلك، في الوقت الذي ابتُدِعَت فيه المعالجة المثلية لأول مرة على يد هانيمان، لم يكن أحدٌ يعرف بوجود هذه المشاكل بالمرة؛ نظرًا لأن عالِم الفيزياء الإيطالي أماديو أفوجاردو ومن جاءوا بعده لم يكونوا قد عرفوا بَعْدُ كمَّ الجزيئات في كمية محدَّدة من مادة معينة، فضلًا عن عدد الذرات في الكون. فلم نكن نعرف حتى حينِها ما هي الذرات.

كيف تعامَل مُختَصُّو المعالجة المثلية مع هذا النوع الجديد من المعرفة؟ من خلال القول إن الجزيئات الغائبة غير مهمة؛ نظرًا لأن «الماء يمتلك ذاكرة.» يبدو هذا الأمر معقولًا إذا تصوَّرت إناءً أو، على الأقل، أنبوبَ اختبار ممتلئًا بالماء. لكن إذا تأمَّلتَ، على أبسط مستوًى ممكنٍ، مقاييسَ هذه الأشياء، فلن يجري تشويه شكل جزيء ماءٍ صغير جراء جزيءٍ ضخم لنبات زهرة العطاس، بحيث يبقى «أثرٌ طفيف مُوحٍ»، وتلك هي الطريقة التي يتصوَّر بها الكثير من مُختَصي المعالجة المثلية العمليةَ بأسرها. فلن تستطيع قطعةٌ صغيرة من المعجون في حجم حبة البازلاء تغيير شكل أريكتك.

دَرَس علماء الفيزياء بِنْيَة الماء باستفاضةٍ لعقود طويلة، وبينما يظل صحيحًا أن جزيئات الماء ستشكِّل بُنًى حول جزيءٍ ذائبٍ فيها عند درجة حرارة الغرفة، تشير الحركة العشوائية اليومية للماء إلى أن هذه البُنَى قصيرة العمر للغاية؛ حيث يُقاس عمرها بواحد على ألف مليار من الثانية، أو حتى أقل، وهو ما يُعتبر فترةَ صلاحيةٍ قصيرة جدًّا.

يستمد مُختَصُّو المعالجة المثلية في بعض الأحيان نتائج غير اعتيادية من تجارب الفيزياء، ويشيرون إلى أن هذه النتائج تُثبت فاعلية المعالجة المثلية. تحتوي هذه التجارب على أخطاء مذهلة يمكن اكتشافها في مواضع أخرى (إذ يجري إعداد مادة المعالجة المثلية العلاجية عادة — وهي المادة التي يَثْبُت بناءً على اختبارات معملية دقيقة جدًّا اختلافُها الطفيف عن مادة علاجية مخفَّفة لا تُستخدم في المعالجة المثلية — بطريقة مختلفة تمامًا، من مكوِّنات مخزَّنة مختلفة، يجري رصدها بعد ذلك من خلال مُعَدَّات معملية فائقة الدقة). وكمثال سريع على ذلك، تجدر الإشارة أيضًا إلى أن الساحر الأمريكي و«داحض الادِّعاءات الكاذبة» جيمس راندي عَرَضَ جائزةً قدرها مليون دولار أمريكي لأي شخص يختبر صحة «الادِّعاءات غير الاعتيادية» وَفْق ظروف معملية، وأشار بوضوح إلى أن أي شخص يستطيع الفوز بالجائزة عن طريق التمييز بطريقة موثوقة بين مستحضرٍ للمعالجة المثلية ومستحضر آخر تقليدي باستخدام أي أسلوب يختاره. ولم يتمكن أحدٌ حتى الآن من الفوز بالجائزة.

حتى إذا تم قبول الأمر على معناه الظاهري، فلا يزال في ادِّعاء «ذاكرة الماء» فَجَوات مفاهيمية كبرى، تستطيع اكتشاف معظمها بنفسك. إذا كانت للماء ذاكرة، مثلما يزعم مُختَصُّو المعالجة المثلية، وكانت نسبة التخفيف واحدًا لكل ١٠٦٠ مناسِبة، فلا بد أن الماء جميعه الآن بالتأكيد عبارة عن محلول مخفَّف مانح للصحة يُستخدم في المعالجة المثلية يتألَّف من جميع الجزيئات في العالم. فبالرغم من كل شيء كان الماء، ولا يزال، يتدفق حول البسيطة منذ أمد بعيد، والماء الذي في جسدي، وأنا أجلس هنا أكتب في لندن، كان موجودًا في أجسام أشخاص آخرين كُثُر قبلي. وربما تجري بعض جزيئات الماء التي في أصابعي في حين أكتب هذه الجملة في مقلة عينك. وربما توجد بعض جزيئات الماء التي كانت تجري في عصيباتي وأنا أقرِّر هل سأكتب wee أو urine (بمعنى «بول») في هذه الجملة في مثانة الملكة — حفظها الله — الآن؛ فالماء يُعَدُّ عاملًا مساويًا بين البشر؛ فهو ينتقل في كل مكان. ما عليك سوى النظر إلى السُّحُب.

كيف يستطيع جزيء ماء أن ينسى كلَّ جزيء آخر رآه من قبل؟ كيف يعرف جزيء الماء التعامل مع جُرحي من خلال تذكُّره لزهرة العطاس، بدلًا من تذكُّر براز إسحاق عظيموف؟ كتبت ذلك في صحيفتي ذات مرة، وتقدَّم أحد مُختَصي المعالجة المثلية بشكوى إلى لجنة شكاوى الصحافة. لا يتعلق الأمر بتخفيف المادة العلاجية، وفق ذلك المُختَص، بل بعملية الرَّج. كل ما عليك هو أن تضرب إناء الماء عشرَ مرات بسرعة على سطحٍ جلديٍّ محشُوٍّ بِشَعر الخيل، وهذا ما سيجعل الماء يتذكر أحد الجزيئات. وأوضح الرجل أنني نظرًا لأنني لم أذكر ذلك، فقد «جعلتُ مُختَصي المعالجة المثلية يبدون أغبياء عَمْدًا.» ولا تمثِّل هذه العبارة إلا عالَمًا آخر من الحماقة.

وعلى الرغم من حديث جميع مُختَصي المعالجة المثلية عن «ذاكرة الماء»، يجب أن نتذكَّر أن ما يتناوله المرء بشكل فعلي، عمومًا، لا يعدو كونه أقراصًا سكرية صغيرة، لا ملعقة صغيرة من ماء علاجي مخفَّف على طريقة المعالجة المثلية؛ لذا يجب على مُختَصي المعالجة المثلية الشروع في التفكير في ذاكرة السُّكَّر أيضًا. وذاكرة السُّكَّر هي عملية تذكُّر شيءٍ كان قد تذكَّره الماء (بعد إجراء عملية تخفيف أكبر من عدد الذرات في الكون)، لكن جرى تمريره إلى السُّكَّر عند جفافه. إنني أحاول أن أكون واضحًا؛ لأنني لا أريد شكاوى أخرى.

بمجرد دخول هذا السُّكَّر الذي تذكَّر شيئًا كان الماء يتذكَّره إلى الجسد، لا بد أن يُفضي هذا السُّكَّر إلى تأثير ما. ماذا عساه أن يكون هذا التأثير؟ لا أحد يعرف الإجابة عن هذا السؤال، ولكن يجب أن تتناول الأقراص بانتظام، فيما يبدو، وفق نظام جرعات محدَّد يشبه جرعات العقاقير الطبية التقليدية (التي تُعطَى على فترات متباعدة يتم تحديدها وفق مدى سرعة تكسُّرها وتخلُّص الجسد منها).

(٣) أطالب بتجربة عادلة

بينما تُعتبر هذه الفرضيات النظرية مشوِّقة، لن تستطيع من خلالها أن تسجل انتصارًا في أي نقاش؛ فقد أشار السير جون فوربس، طبيب الملكة فيكتوريا، إلى مشكلةِ تخفيف التركيز في القرن التاسع عشر، ولم يتحرَّك النقاش قِيد أنمُلَة بعد مرور ١٥٠ عامًا. إن السؤال الحقيقي في مجال المعالجة المثلية في غاية البساطة: هل ينجح؟ في الواقع، كيف نعرف أن «أيَّ» علاج مُعيَّن يُؤتي ثماره؟

تُعتبر الأعراض مسألة ذاتية جدًّا؛ لذا يجب أن تبدأ أي عملية ممكنة لترسيخ فوائد أي علاج من خلال الفرد وتجربته الفردية الخاصة، والانطلاق من هذه النقطة. دعنا نتصوَّر أننا نتحدث — بل ربما نتناقش — مع شخص يَعتقد أن المعالجة المثلية تؤتي أُكُلَها، شخص يشعر أنها تجربة إيجابية، ويشعر أنه يتحسَّن، على نحوٍ أسرع، مع المعالجة المثلية. سيقول مثل هؤلاء: «كلُّ ما أعرفه أنني أشعر كأنَّ العلاج ناجعٌ. فأنا أشعر بتحسُّن عندما أتناول علاجًا مثليًّا.» يبدو الأمر واضحًا وبدهيًّا لهم، وهو كذلك بالفعل إلى درجة ما. إن قوة هذه العبارة، وأوجُه عَوَارِها، تكمن في بساطتها. ومهما حدث، تظل العبارة صحيحة.

لكن ربما تنتفض قائلًا: «حسنًا، ربما لم يكن ذلك سوى أثر العلاج الوهمي.» ويرجع ذلك إلى أن أثر العلاج الوهمي أكثر تعقيدًا وتشويقًا مما يظن معظم الناس، بل يتخطَّى مجرد تناوُل قرصٍ سكري؛ ففكرة أثر العلاج الوهمي تتمحور حول الخبرة الثقافية الكاملة لإحدى الوسائل العلاجية، والتوقعات المسبقة، وعملية الاستشارة الطبية التي يمر بها المريض أثناء تلقيه العلاج، وأكثر من ذلك.

نحن نعلم أن قرصين سكريين أكثر فاعلية في العلاج من قرص واحد، على سبيل المثال، ونعرف أن عمليات الحقن بالماء الملحي علاج أكثر فاعلية للألم من أقراص السكر، لا لأن عمليات الحقن بالماء الملحي تؤثر تأثيرًا بيولوجيًّا على الجسد، لكن لأن عملية الحقن تبدو تدخلًا علاجيًّا أكثر تأثيرًا. كذلك نعرف أن لون الأقراص، وطريقة تعبئتها، وثمنها، بل ومعتقدات من يصفون الأقراص كعلاج، كلها عوامل مهمة. ونعرف أن أثر العمليات الوهمية قد يكون فعَّالًا لعلاج آلام الركبة، بل حتى الخناق الصدري. كذلك يؤتي أثر العلاج الوهمي مفعوله على الحيوانات والأطفال. فالعلاج الوهمي يعتبر قويًّا جدًّا، ومخادعًا جدًّا، ولن تعرف كثيرًا عنه حتى تقرأ فصل «العلاج الوهمي» في هذا الكتاب.

لذا عندما يقول أحد المؤيدين للمعالجة المثلية إن العلاج بالمعالجة المثلية يجعله يشعر بحال أفضل، ربما نجيب قائلين: «لا أمانع قبولَ ذلك، لكن ربما يرجع تحسُّن حالتك إلى أثر العلاج الوهمي.» ولا يستطيع عندها الإجابة ﺑ «لا»؛ نظرًا «لعدم توافر طريقة ممكنة لديهم لمعرفة» هل التحسُّن جاء من خلال أثر العلاج الوهمي أم لا. إنهم لا يستطيعون تحديد السبب حقًّا، ولعل أقصى ما يمكن أن يفعلوه هو أن يكرروا، في الإجابة عن سؤالك، عبارتهم الأصلية: «كلُّ ما أعرفه أنني أشعر كأن العلاج ناجعٌ. فأنا أشعر بتحسُّن عندما أتناول علاجًا مثليًّا.»

ربما تقول بعد ذلك: «حسنًا، أتفق مع ذلك، لكن ربما أيضًا تشعر بتحسُّن حالتك بسبب «النكوص إلى المتوسط»»، وهو ما يُعَدُّ واحدًا فقط ضمن كثير من «الأوهام الإدراكية» المذكورة في هذا الكتاب، التي تمثِّل أوجه القصور الأساسية في طريقة تفكيرنا التي تفضي بنا إلى رصد أنماط وصلات في العالم من حولنا، في الوقت الذي يكشف الفحص عن كَثَب عدم وجود أيٍّ من ذلك.

يُعَدُّ تعبير «النكوص إلى المتوسط» في الأساس تعبيرًا آخر عن ظاهرةٍ تدور الأشياء جميعها بموجبها في دورة طبيعية، مثلما يحب مُختَصُّو المعالجة المثلية أن يشيروا إليها. لنفترض أن لديك ألمًا في الظهر يظهر ويختفي؛ تمر بك أيام طيبة وأيام سيئة، وأسابيع طيبة وأسابيع سيئة، وعندما يبلغ الألم مبلغه، تتحسَّن الحالة إلى الأفضل؛ هذا هو الحال مع آلام ظهرك.

بالمثل، تشتمل الكثير من الأمراض على ما يُطلَق عليه «تاريخ طبيعي». تتميز هذه الأمراض بسوء حالتها في البداية، ثم لا تلبث أن تتحسَّن. ومثلما قال فولتير: «يتمثل فن الطب في تسلية المريض بينما تؤدي الطبيعة دورها في علاج المرض.» هَبْ أنك مصاب بالبرد؛ ستتحسن حالتك في غضون أيام قليلة، ولكنك تشعر بالبؤس في اللحظة الراهنة. من الطبيعي بمكان عندما تكون الأعراض في أسوأ حالاتها أن تفعل ما من شأنه تحسين حالتك. ربما تتناول علاجًا مثليًّا. ربما تذبح شاةً وتعلِّق أحشاءها حول عنقك. وربما تُجْبر طبيبك على كتابة مضادات حيوية لك (لقد أدرجتُ هذه الوسائل العلاجية وَفق الترتيب التصاعدي لهُرائها).

ثم عندما تتحسَّن — مثلما سيحدث بلا شك عند الإصابة بالبرد — فستفترض بصورة تلقائية أن ما فعلتَه، أيًّا ما كان، عندما كانت الأعراض عند أكثر مستوياتها سوءًا هو السبب في شفائك قطعًا، وهو ما يمثِّل مغالطةَ «حدث بعده، إذن هو سببه» المنطقية السببية، وما إلى ذلك. في كل مرةٍ تُصاب بالبرد من الآن فصاعدًا، ستعود إلى طبيبك، تتشاحن معه من أجل كتابة بعض المضادات الحيوية، في حين يقول: «لا أظن هذه فكرة صائبة»، لكنك ستُصِرُّ على موقفك؛ لأن العلاج نجح في المرة السابقة، وستزداد مقاومة المجتمع لتأثير المضادات الحيوية، وفي النهاية ستموت النساء العجائز جرَّاء بكتيريا العنقوديات الذهبية المقاوِمة للميثيسلين؛ بسبب هذا النوع من عدم العقلانية في تفسير أسباب الشفاء، لكن هذه قصة أخرى.٣

يمكن النظر إلى مفهوم النكوص إلى المتوسط بطريقة أكثر رياضية، إذا كنت تفضِّل ذلك. في برنامج بروس فورسايث «بلاي يور كاردس ويل»، عندما يضع بروس الورقة رقم ٣ على السبورة، يصرخ الجمهور جميعه قائلًا: «أكثر!» لأنهم يعرفون احتمال أن تكون ورقة اللعب التالية أكثر من ٣، «هل تريدون أن ننتقل إلى ورقة لعب أعلى أم أقل من ولد؟ أعلى؟ أعلى؟» «أقل!»

لعل النسخة الأكثر تطرفًا للنكوص إلى المتوسط تتمثَّل فيما يطلِق الأمريكيون عليه شؤم الظهور في مجلة «سبورتس إلستريتيد»؛ فوَفْق القصة الرائجة، متى ظهر أحد الرياضيين على غلاف المجلة، فسرعان ما يسوء به الحال. لكن لا يبلغ الرياضي غِلاف المجلة إلا عندما يتربَّع على عرش رياضته؛ أي أن يكون أحد أفضل الرياضيين في العالم. وحتى يصبح الرياضي الأفضل على الدوام خلال الأسبوع الذي تظهر المجلة فيه، من المحتمل أيضًا أن يحالفه حظٌّ غير عاديٍّ. وينقضي الحظ، أو «الضجة»، عمومًا، و«ينكص إلى المتوسط» من تلقاء نفسه، مثلما يحدث عند إلقاء أحجار النَّرْد. إذا لم تُفْلح في فهم ذلك، فابدأ في البحث عن سبب آخر لذلك النكوص، ولن تجد سوى … شؤم الظهور في مجلة «سبورتس إلستريتيد».

يزيد مُختَصُّو المعالجة المثلية من فُرَص نجاح علاجاتهم بالحديث عن «المضاعفات»، بتوضيح أنه في بعض الأحيان قد يؤدي العلاج الصحيح إلى ازدياد الأعراض سوءًا قبل أن تتحسَّن، زاعمين أن ذلك جزءٌ من عملية العلاج. بالمثل، غالبًا ما سيقول مروِّجو منتجات الديتوكس إن علاجاتهم قد تجعل المرء يشعر بمزيد من السوء في البداية، مع خروج السموم من الجسد؛ ووَفْق شروط هذه العهود، يُعدُّ أي شيء يحدث للمريض بعد تناول العلاج دليلًا على الحَذْق الإكلينيكي للمعالج ومهارته في وصف العلاج.

لذا، يمكن أن نعود إلى أنصار المعالجة المثلية مجددًا، ونقول: «تشعر أنك تتحسَّن، وهو ما أتَّفق معك فيه، لكن ربما يرجع ذلك إلى «النكوص إلى المتوسط»، أو ببساطةٍ «التاريخ الطبيعي» للمرض.» مرة أخرى، لا يستطيع مثل هؤلاء قول «لا» (أو على الأقل قول «لا» دون أن يكون لها أي معنًى، ربما في نوبة غضب)؛ نظرًا لعدم توافر أي طريقة ممكنة لديه لمعرفة هل سيتحسنون على أي حال أم لا. وذلك في الأوقات التي يتحسنون فيها فيما يبدو بعد زيارة أحد مُختَصي المعالجة المثلية. ربما يكون «النكوص إلى المتوسط» هو التفسير الصحيح لعودة هؤلاء المرضى إلى حالتهم الصحية الطبيعية. ولا يمكنهم أن يعرفوا ذلك بأي حال من الأحوال. ومرة أخرى، لا يملك هؤلاء إلا تكرار عبارتهم الأصلية: «كلُّ ما أعرفه أنني أشعر كأن العلاج ناجع. فأنا أشعر بتحسن عندما أتناول علاجًا مثليًّا.»

ربما يكون هذا هو أبعد ما يمكن أن يرغبوا في المُضِيِّ إليه، ولكن عندما يتطرَّق أحدُ هؤلاء إلى ما هو أبعد من ذلك، ويقول: «إن المعالجة المثلية ناجعة»، أو يتفوَّه ببعض العبارات عن «العلم»، تصبح تلك هي المشكلة. فلا يمكننا أن نقرِّر مثل هذه الأمور ببساطة بناءً على الخبرات الفردية؛ للأسباب المذكورة أعلاه، فربما يخطئ مثل هؤلاء في اعتبارِ أثرِ العلاج الوهمي أثرَ علاجٍ حقيقي، أو يخطئون في اعتبارِ نتيجةٍ جاءت مصادفةً أنها نتيجة حقيقية. حتى لو كانت لدينا حالة حقيقية غير ملتبسة ومدهشة لأحد الأشخاص تحسَّنت حالته من سرطان ميئوس من شفائه، فسنظل نتوخَّى الحذر في الاستناد إلى تجربة ذلك الشخص؛ لأنه في بعض الأحيان، عن طريق المصادفة البحتة، تقع المعجزات فعلًا، في بعض الأحيان ولكن ليس كثيرًا.

على مدار سنوات عديدة، تتبَّع فريقٌ من أطباء الأورام الأستراليين حالة ٢٣٣٧ مريضًا في مرحلة متأخرة من السرطان في الرعاية التلطيفية. وبينما كان المرضى يموتون، في المتوسط بعد خمسة أشهر، كان واحدٌ في المائة فقط منهم يظل على قيد الحياة بعد خمس سنوات. وفي يناير ٢٠٠٦، جرى نشر هذه الدراسة في صحيفة «ذي إندبندنت»، على نحو مُحَيِّر، كالآتي:

ثبوت نجاح علاجات «إعجازية»

وجد الأطباء أدلة إحصائية على أن العلاجات البديلة؛ مثل النظم الغذائية الخاصة، ووصفات الأعشاب، والعلاج الروحي، يمكنها فيما يبدو علاج الأمراض المُعْضِلة، ولكن لا تزال الأسباب غير معروفة لهم.

لكن «لم تكن» الدراسة تهدف تحديدًا إلى إثبات وجود علاجات إعجازية (فلم تبحث الدراسة أيًّا من هذه العلاجات، بل كان ذلك تلفيقًا من الصحيفة فقط لا غير)، بل أظهرت هذه الدراسة شيئًا أكثر تشويقًا بكثير؛ ألا وهو أن الأشياء المدهشة تحدث ببساطة في بعض الأحيان، فيمكن أن يظل الأشخاص على قيد الحياة، على الرغم من ضعف فُرَص ذلك؛ لأسباب غير معروفة. ومثلما بيَّن الباحثون في بحثهم، يجب التعامل مع ادِّعاءات العلاجات الإعجازية بحَذَر؛ نظرًا لأن «المعجزات» تحدث بصورة روتينية، في نسبة واحد في المائة من الحالات وَفْق الدراسة نفسها، و«دون» أي تدخل علاجي محدَّد. ويتمثَّل الدرس الأساسي في هذه الورقة البحثية في أننا لا نستطيع الاستدلال من خلال خبرة أحد الأشخاص، أو حتى مجموعة من الأشخاص، جرى انتقاؤهم انتقاءً لإثبات وجهة نظر محدَّدة.

إذن، كيف ننتقل من هذه النقطة؟ تكمن الإجابة في أخذ عينة كبيرة من الأفراد، عيِّنة من المرضى الذين يُمثِّلون الأشخاص الذين نأمُل في علاجهم، مع الأخذ في الاعتبار جميع خبراتهم الفردية، ودمْج هذه الخبرات جميعًا معًا. باختصار: تمثِّل هذه العملية بحثًا طبيًّا أكاديميًّا إكلينيكيًّا، ولا يوجد في الأمر ما هو أكثر من ذلك؛ فلا يوجد سرٌّ، ولا يوجد «منظور منهجي مختلف»، ولا دخان أو مرايا. إنها عملية واضحة تمامًا، وربما أنقذت هذه الفكرة أرواحًا أكثر، على نطاق أكبر، من أي فكرة أخرى سوف تصادفها هذا العام.

كذلك لا تُعتبر هذه فكرة جديدة؛ فقد ظهرت التجربة العلاجية الأولى في العهد القديم، والمثير في الأمر أنه على الرغم من أن مفهوم علم التغذية قد صار مؤخرًا فقط ما يُمكن أن نطلق عليه «هُراء الساعة»، كانت التجربة الأولى تتمحور حول الطعام. كان النبي دانيال يتحدث مع الخَصِيِّ الرئيسي للملك نبوخذ نصر حول حصص طعام أَسْرى اليهود. فبينما كان طعام أسرى اليهود طعامًا دسمًا ونبيذًا، أراد النبي دانيال أن يتناول جنوده الخضراوات فقط. ساور الخَصِيَّ القلقُ خشية أن تسوء حالة الجنود إذا لم يتناولوا وجباتهم الدسمة، وأن يُفعل به ما يُمكِن أن يُفعل بخَصِيٍّ حتى تصبح حياته أسوأ حالًا. على الجانب الآخر، كان النبي دانيال على استعداد للتوصل إلى حل وسط؛ فاقترح إجراء أول تجربة إكلينيكية على الدوام:

فقال دانيال لرئيس السقاة … «جرِّب عبيدك عشرة أيام. فليُعْطونا القطاني لنأكل، وماءً لنشرب، ولينظروا إلى مناظرنا أمامك، وإلى مناظر الفتيان الذين يأكلون من أطايب الملك. ثم اصنع بعبيدك كما ترى.»

فسمع لهم هذا الكلام وجرَّبهم عشرة أيام. وعند نهاية العشرة الأيام ظهرت مناظرهم أحسن وأسمن لحمًا من كل الفتيان الآكلين من أطايب الملك. فكان رئيس السقاة يرفع أطايبهم وخمر مشروبهم ويعطيهم قطاني.

سفر دانيال: الإصحاح الأول: ١–١٦

إلى درجة ما، ليس هناك في الأمر أكثر من ذلك؛ لا يوجد شيءٌ غامضٌ بصورة خاصة إزاء أي تجربة علاجية، وإذا أردنا معرفة هل أقراص المعالجة المثلية ناجعة أم لا، يمكننا إجراء تجربة مماثلة. دعنا نتحدث عن تجربة كتلك تفصيلًا. سنأخذ عيِّنة، قُلْ من مائتي شخص، إلى عيادةٍ للمعالجة المثلية، ثم نقسمهم عشوائيًّا إلى مجموعتين، ونجعلهم يَمُرُّون بكامل مراحل العملية بدءًا من زيارة أحد مُختَصي المعالجة المثلية، وتشخيص حالاتهم، والحصول على الوصفة الطبية لأي شيء يريد أن يصفه المُختَص. ولكن في الدقيقة الأخيرة، ودون معرفتهم، سنغيِّر الوصفات العلاجية لِنِصْف عدد المرضى من تناول أقراص سكرية إلى تناول أقراص سكرية غير فعالة لم يَجْرِ تقوية مفعولها بشكل سحري من خلال المعالجة المثلية. بعد ذلك، في وقت ملائم لاحقًا، يمكننا حساب عدد الأشخاص في كل مجموعة ممن تحسَّنت حالتهم.

من خلال حديثي مع مُختَصِّي المعالجة المثلية، صادفتُ قدْرًا كبيرًا من القلق حِيالَ فكرة القياس، كما لو كانت هذه عملية غير واضحة بما يكفي، كما لو كانت عمليةً تَزُجُّ بشيء زجًّا في مكان لا يتلاءم معه؛ نظرًا لأن كلمة «قياس» تبدو علمية ورياضية؛ لذا يجب أن نتوقف قليلًا ونفكِّر حيال ذلك جيدًا. لا تتضمَّن عملية القياس أيَّ أسرار غامضة، ولا تنطوي على استخدام أجهزة خاصَّة. فنحن فقط نسأل المشاركين في التجربة هل يشعرون بتحسُّن أم لا، ونُحصِي إجاباتهم.

في إحدى التجارب — أو في بعض الأحيان في العيادات الخارجية — ربما نطلب من المرضى قياس ألَمِ ركبتهم على مقياس يتدرَّج من واحد إلى عشرة يوميًّا، في مفكِّرة يومية، أو حساب عدد الأيام التي لا يشعرون فيها بالألم خلال أسبوع، أو قياس أثر الإجهاد الذي يتعرضون له على حياتهم خلال ذلك الأسبوع؛ كم عدد الأيام التي استطاعوا فيها الخروج من المنزل؟ وما المسافة التي استطاعوا قطعها سيرًا؟ وما حجم الأعمال المنزلية التي استطاعوا أداءها؟ يمكنك أن تسأل أيَّ عدد من الأسئلة البسيطة، المباشِرة، والذاتيَّة جدًّا؛ إذ تتمثل مهمة الطب في نهاية المطاف في تحسين الحياة، والتخفيف من حدة الآلام.

ربما نُطوِّر العملية أكثر، ونعمل على جعلها معيارية، ونجعل مقارنة نتائجنا بنتائج البحوث الأخرى أكثر سهولة (وهو أمر طيِّب، يُسْهِم في تحقيق فهم أكبر لأي حالة من الحالات وعلاجها). ربما نستخدم «استبيان الصحة العامة»، على سبيل المثال؛ نظرًا لأنه يُمَثِّل «أداة» معيارية. ولكن على الرغم من كل هذا الصَّخَب، لا يمثل «استبيان الصحة العامة-١٢»، كما هو معروف، سوى قائمة بسيطة من الأسئلة حول حياة المُسْتَبْيَن وأعراض مرضه.

إذا كنت من مناهِضِي الخطاب السُّلطَوِي، فتذكَّر هذا إذن: يُعتبر إجراء تجربة ضابطة باستخدام علاج وهمي على علاج معترَف به — سواء أكان هذا العلاج علاجًا بديلًا أو أيَّ شكل من أشكال العلاج الطبي — عمليةً هدَّامة بطبيعتها. فأنت تُقَوِّض، من خلال إجراء تجربة كتلك، أركانَ اليقين الزائف، وتَحْرِم الأطباء والمرضى والمعالجين من علاجات كانت تَسُرُّهم فيما مضى.

هناك تاريخ طويل من الانزعاج الذي سبَّبتْه التجارب، في مجال الطب مثلما في مجالات أخرى، وسيَنْصِب الأشخاصُ من جميع الخلفيات أشكالَ الدفاعات كافةً في مواجهة هذه التجارب. فقد وصف آرتشي كوكرين، أحد آباء الطب القائم على الأدلة، ذاتَ مرة — بشكل طريف — كيف تدفع مجموعاتٌ مختلفة من الأطباء الجراحين بأنَّ وسائل علاجهم للسرطان هي الأكثر فاعلية؛ فقد كان واضحًا بشكل جَلِيٍّ لهم كافة أن علاج كلٍّ منهم هو الأفضل. مضى كوكرين لأبعد من ذلك قُدُمًا، فجمع مجموعة منهم معًا في غرفة، بحيث يشهد كلٌّ منهم يقينَ الآخر الراسخ والمتناقض في آن واحد، وذلك في مسعاه لإقناعهم بالحاجة إلى إجراء تجارب. بالمثل، ربما يُعارض القضاة بشدة فكرة إصدار أحكام مختلفة على متعاطِي الهيروين؛ اعتقادًا منهم بتوافر المعرفة الأفضل لديهم في كل حالة فردية. هذه المعارك معارك حديثة، ولا تقتصر بأي حالٍ من الأحوال على عالَم المعالجة المثلية.

لذا، نصطحب مجموعةَ الأشخاص الخارجين من عيادة المعالجة المثلية، ونُحَوِّل نصف ما يتلقونه من أقراص إلى أقراص ذات أثر وهمي، ونرى مَن منهم تتحسَّن حالته. وتُعَدُّ هذه التجربة تجربةً ضابطةً باستخدام علاج وهمي تُجرى على أقراص المعالجة المثلية، وليست هذه مناقشة افتراضية نظرية؛ فقد أُجريت هذه التجارب بالفعل على علاجات المعالجة المثلية، ويبدو، إجمالًا، أن المعالجة المثلية لا تُسفر عن نتائج أفضل من العلاج الوهمي.

لكن ربما تكون قد سمعتَ مُختَصِّي المعالجة المثلية يقولون إن هناك نتائج إيجابية في المعالجة المثلية؛ بل ربما تكون قد رأيتَ نتائج بعض هذه التجارب تحديدًا مذكورة في بحوث أخرى على سبيل الاستشهاد. ماذا يحدث هنا؟ الإجابة مدهشة، وتأخذنا إلى قلب الطب القائم على الأدلة. هناك «بعض» التجارب تشير إلى أن المعالجة المثلية تُبلِي بلاءً أفضل من العلاج الوهمي، لكنها ليست سوى بعض التجارب، وهي، على وجه العموم، تجارب تكتنفها «أخطاء منهجية». وبينما يبدو الأمر منطويًا على جوانبَ تقنيَّة، لا يعني الأمر أكثر من أن هناك مشكلات في الطريقة التي أُجريت بها التجارب، وهي مشكلات كبيرة إلى الدرجة التي تشير إلى أن التجارب أقل من أن تكون «تجارب عادلة» للعلاج.

بينما تَعِجُّ أدبيات العلاج البديل بحالات عدم الكفاءة بلا شك، تُعتبر أوجه القصور في التجارب مسألةً شائعةً جدًّا في مجال الطب بأسره. في حقيقة الأمر، ربما يُعتبر من العدل بمكانٍ القولُ إن جميع أنواع البحوث يكتنفها بعض «أوجه القصور»؛ نظرًا لأن كل تجربة تتضمَّن نوعًا من التوسط بين ما هو مثالي، وما هو عملي أو رخيص (غالبًا ما تفشل أدبيات الطب المكمِّل والبديل بصورة سيئة عند مرحلة التفسير؛ فبينما يعرف الأطباء أحيانًا إذا ما كانوا يستشهدون بأوراق بحثية لا فائدة منها، ويشيرون إلى أوجه القصور، لا يميل مُختَصُّو المعالجة المثلية إلى نقد أي شيء إيجابي).

لهذا من الأهمية بمكان نشر البحوث، كاملةً، وذِكْر أساليب إجرائها ونتائجها لمراجعتها. وتلك واحدة من الأفكار المتكرِّرة في هذا الكتاب، وهي فكرة مهمة؛ لأن الناس عندما يُطلقون ادِّعاءات بناءً على بحوثهم، نحتاج إلى أن تكون لدينا القدرة على أن نقرِّر بأنفسنا حجم «أوجه القصور المنهجية»، ونتوصَّل إلى حكمنا النهائي حول: هل كانت النتائج محل ثقة؟ وهل كانت تجارب هؤلاء «تجارب عادلة»؟ والأشياء التي تَعُوق التجارب عن أن تكون عادلةً تصبح بدهية للغاية بمجرد أن تعرفها.

(٤) التعمية

تتمثَّل إحدى السمات المهمة لأي تجربة جيدة في أن يكون القائمون على التجربة أو المرضى لا يعرفون هل كانوا قد حصلوا على أقراص المعالجة المثلية السُّكَّرية أو أقراص السكر ذات الأثر الوهمي؛ لأننا نريد أن نطمئن إلى أن أي فرق يجري قياسه هو نتاج الفرق بين القرصين، وليس فرقًا نابعًا من توقعات أو تحيزات الأشخاص. أما إذا كان الباحثون على دراية بأيٍّ من مرضاهم المحبَّبين قد حصل على العلاج الحقيقي، وأيهم حصل على العلاج الوهمي، فربما لا يلتزمون بقواعد اللعبة، أو ربما يُغيِّر ذلك من تقييمهم لحالة المريض، بصورة واعية أو غير واعية.

دعْني أَقُلْ إنني أجري دراسة على قرص طبي جرى ابتكاره لتقليل ضغط الدم المرتفع. أعرف أيٌّ من مرضاي يتلقى قرص ضغط الدم الجديد الباهظ الثمن، وأيُّهم يتلقى العلاج الوهمي. يدخل أحد المرضى ممن يتلقَّوْن العلاج الجديد الباهظ وتجري عملية قياس ضغط دم له تشير إلى تجاوز الضغط الحدود المعتادة، بمعدل أعلى كثيرًا مما كنت أتوقع، خاصة أنه يتلقى هذا الدواء الجديد الباهظ الثمن؛ لذا أُعيد فحص ضغط دمه؛ «للتأكد فقط من أنني لم أرتكب خطأً.» وعند قياس الضغط مرة أخرى، تكون النتيجة طبيعية؛ لذا أُدوِّن هذه النتيجة وأتجاهل القراءة المرتفعة.

لا تعتبر قراءات ضغط الدم دقيقة؛ مثل تفسير الرسوم الكهربية للقلب، وتفسير الأشعة السينية، ودرجات الألم، وكثير من وسائل القياس الأخرى التي تُستخدم بشكل روتيني في التجارب الإكلينيكية. أذهب لتناول الغداء، غير دارٍ على الإطلاق بأنني أعبث في هدوءٍ ودون ضوضاء بالبيانات، محطِّمًا نتائج الدراسة، ومُصْدِرًا أدلةً غير دقيقة؛ ومن ثَمَّ في نهاية المطاف، أقتل الناس (لأن أكبر أخطائنا سيكمن في نسيان أن البيانات تُستخدم لاتخاذ قرارات خطيرة في العالم الواقعي، وأنَّ المعلومات السيئة تسبِّب المعاناة والوفاة).

هناك أمثلة عديدة جيدة من التاريخ الطبي الحديث أدَّى فيها الفشل في ضمان إجراء عمليةِ «تعمية» مناسبة، كما يُطلق عليها، إلى وقوع مهنة الطب بأسرها في الخطأ بشأن تحديد أيُّ طرق العلاج أفضل. فلم تتوافر لنا طريقة لمعرفة هل الجراحات الصغيرة أفضل من الجراحات المفتوحة، على سبيل المثال، حتى جاء مجموعة من الجراحين من شيفلد وأجروا تجربة مصطنعة تمامًا، جرى فيها استخدام الضِّمَادات وبُقَع الدم الزائفة، للتأكد من عدم معرفة أحدٍ أيُّ أنواع من العمليات أُجريت لأي مريض.

fig2
شكل ٤-١: نسبة التحسن على المدى القصير.

اجتمع بعضٌ من أهم الشخصيات في مجال الطب القائم على الأدلة معًا، وأجْرَوْا مراجعةً لعملية التعمية في جميع أنواع التجارب على العقاقير الطبية، ووجدوا أن التجارب التي لم تُجْرَ فيها تعميةٌ كافية، بالغت في فوائد العلاجات التي تجري دراستها بنسبة ١٧٪. إن التعمية ليست مجرد أداة مجهولة لاصطياد الأخطاء، خاصة بحفنة من المتحذلقين مثلي، تُستخدم في الهجوم على العلاجات البديلة.

في سلسلة من التجارب القريبة من تجارب المعالجة المثلية، أظهرت مراجعةٌ للتجارب على الوخْز بالإبر لعلاج آلام الظهر، أن الدراسات التي أُجرِيَت فيها عمليات التعمية على نحوٍ صحيح أظهرت فائدةً ضئيلة للعلاج بالوخْز بالإبر، وهي نتائج «ليست لها دلالة إحصائيًّا» (سنعود إلى ما يَعْنيه ذلك لاحقًا). في الوقت نفسه، أظهرت التجارب التي لم تُجْرَ فيها عملية تعمية — التجارب التي كان يعرف فيها المريض هل كان جزءًا من مجموعة العلاج أم لا — فائدةً هائلةً إحصائيًّا للعلاج بالوخز بالإبر (كان العلاج الوهمي المستخدَم كعنصر ضابط في تجربة الوخز بالإبر — في حال كونك تتساءل عن ذلك — علاجًا مزيَّفًا، باستخدام إبر مزيَّفة، أو باستخدام الإبر في مواضع «خاطئة»، مع وجود عنصر طريف جديد يزيد الأمور تعقيدًا في إجراء مثل هذه التجارب يتمثَّل في أن إحدى مَدَارس الوخز بالإبر سوف تزعُم في بعض الأحيان أن مواضع الوخز المزيَّفة التي تستخدمها مدرسة أخرى في العلاج إنما تمثِّل المواضع الحقيقية التي تستعين بها تلك المدرسة في العلاج).

لذا، مثلما نرى، تُعتبر عملية التعمية مُهمَّة، ولا تُعتبر أي تجربة جيدة بالضرورة. لا يمكنك أن تقول: «ها هي تجربةٌ تُظهر أن هذا العلاج ناجع»؛ نظرًا لأن هناك تجارب جيدة، بمعنى «تجارب عادلة»، وهناك تجارب رديئة. وعندما يقول الأطباء والعلماء إن دراسةً ما قد شابَهَا العَوَارُ المنهجي ولا يُعتمد عليها، لا يرجع ذلك إلى سوء نية هؤلاء، أو محاولتهم الإبقاء على «الهيمنة»، أو الحفاظ على الرشاوَى القادمة من شركات صناعة الدواء؛ بل لأن الدراسة جرى تنفيذها بصورة رديئة — فلا يكلِّف شيئًا إجراءُ عملية تعمية مناسبة — ولأنَّ التجربة بمنتهى البساطة لم تكن عادلة.

(٥) التوزيع العشوائي

دعنا نخرج من الإطار النظري، ونستعرض بعض التجارب التي يستشهد بها مُختَصُّو المعالجة المثلية لدعم ممارساتهم. أمامي الآن دراسة متوسطة المستوى لتجارب للمعالجة المثلية باستخدام زهرة العطاس، أجراها الأستاذ الدكتور إدوار إرنست، وهي تجربة تُغني عن أمثلة كثيرة. ويجب أن نوضِّح تمامًا أنَّ أوجُهَ القُصُور هنا لا تُعتبر فريدة من نوعها، وأنني لا أُضْمِر هنا أي ضغينة، ولا أتصرف بسوء نية. نحن لا نفعل سوى ما يفعله الأطباء والأكاديميون عند تقييم الأدلة.

هكذا بحث هيدلبرانت «وآخرون» (مثلما يقولون في المجال الأكاديمي) حالة اثنتين وأربعين امرأة يخضعن للمعالجة المثلية باستخدام زهرة العطاس لعلاج الألم المتأخِّر للعضلات، ووجدوا أن العلاج قد أدَّى إلى نتائج أفضل من العلاج الوهمي. تبدو هذه الدراسة من الوهلة الأولى دراسةً منطقية إلى حدٍّ ما، ولكن إذا نظرتَ بإمعان أكثر، فلن تجد أي عملية «توزيع عشوائي» جرت الإشارة إليها على الإطلاق في إطار التجربة. يُعتبر التوزيع العشوائي مفهومًا أساسيًّا آخر في التجارب الإكلينيكية. فنحن نضع المرضى عشوائيًّا في المجموعة التي تتلقَّى أقراص العلاج الوهمي السُّكَّرية أو المجموعة التي تتلقَّى أقراص المعالجة المثلية السُّكَّرية؛ لأننا إن لم نفعل ذلك، يصبح هناك خطر أن يضع الطبيب أو مُختَصُّ المعالجة المثلية — بصورة واعية أو غير واعية — المرضى الذين يعتقد أنهم قد يتحسنون في مجموعة العلاج بالمعالجة المثلية، ويضع المرضى الذين لا أمل في شفائهم في مجموعة العلاج الوهمي؛ ومن ثم يُزيِّف النتائج.

ليس التوزيع العشوائي فكرة جديدة؛ فقد كان أول من جاء بها في القرن السابع عشر جون بابتستا فان هلمونت، وهو ثوري بلجيكي تحدَّى الأكاديميين في عصره في اختبار علاجاتهم؛ مثل الفصد والتطهير (بناءً على «نظرية») مقابل علاجاته، التي قال إنها تعتمد أكثر على الخبرة الإكلينيكية. «لنأخذ من المستشفيات، أو من المعسكرات، أو من أي مكان آخر، مائتَيْ شخصٍ فقير أو خمسمائة، يعانون من الحمى، أو التهاب الجنبة، إلخ. ولنقسِّم هؤلاء إلى مجموعتين، ثم نُجرِ قرعةً، وربما يكون نصفهم من نصيبي، ونصفهم الآخر من نصيبكم … وَلْنَرَ عدد الموتى في كل مجموعة من مجموعتَيْنا.»

من النادر بمكانٍ العثورُ على قائم بتجربةٍ مُهْمِلٍ إلى الحد الذي لم يُجْرَ معه توزيع عشوائيٌّ للمرضى على الإطلاق، حتى في عالم الطب المكمِّل والبديل. لكن يشيع بصورة مدهشة العثور على تجارب يطبَّق فيها أسلوب التوزيع العشوائي بشكل غير كافٍ؛ فبينما تبدو التجارب منطقية للوهلة الأولى، فإنه عند تدقيق النظر نرى أن القائمين على التجربة قد قاموا بما يُشبه العبث، كما لو كانوا يوزِّعون المرضى بشكل عشوائي، ولكن يَظَلُّون مُفْسِحين المجال أمامهم للتأثير، بصورة واعية أو غير واعية، على المجموعة التي ينضم إليها كل مريض.

في بعض التجارب التي لا تتسم بالكفاءة على الإطلاق، في جميع فروع الطب، يجري «توزيع عشوائي» للمرضى داخل مجموعة العلاج أو مجموعة العلاج الوهمي بحسب ترتيب انضمامهم إلى التجربة؛ فيتلقَّى المريض الأول العلاج الحقيقي، ويتلقَّى الثاني العلاج الوهمي، والثالث العلاج الحقيقي، والرابع العلاج الوهمي، وهكذا. وبينما يبدو هذا الإجراء عادلًا بما يكفي، فإنه في الواقع لا يمثِّل سوى فجوة هائلة تفتح الباب واسعًا في تجربتك لتحيُّزٍ منهجي مُحتمَل.

لنتصوَّر وجود مريض يَعتقد مُختَصُّ المعالجة المثلية عدم وجود أي أمل في شفائه، مريض تدعو حالته إلى الإحباط ولن يتحسَّن أبدًا، مهما كان العلاج الذي يتلقَّاه، فيأتي الدور في الدراسة على مريض يتلقَّى علاج «المعالجة المثلية» في إطار التجربة. من غير المُستحيل أن يقرِّر مُختَصُّ المعالجة المثالية — مرة أخرى، بصورة واعية أو غير واعية — أن هذا المريض على وجه الخصوص «لن يكون مهتمًّا على الأرجح» بالاشتراك في التجربة. ولكن على الجانب الآخر، إذا جاء هذا المريض الميئوس من شفائه إلى العيادة في وقت كان الدور فيه في التجربة لمرضى مجموعة العلاج الوهمي، فربما يشعر الطبيب المسئول عن تسجيل المرضى في التجربة بتفاؤل أكثر كثيرًا حيال تسجيل مثل هذا المريض في مجموعة العلاج الوهمي هذه.

ينطبق الأمر نفسه على جميع الأساليب الأخرى غير المناسبة للتوزيع العشوائي؛ سواء أكان بحسب الرقم الأخير في تاريخ الميلاد، أو تاريخ الذهاب إلى العيادة، إلخ. بل توجد دراسات تزعم إجراء توزيع عشوائي للمرضى عن طريق قذف عُملة، وأستَميحُك عذرًا (بل أستَميحُ عُذرًا المجتمعَ الطبيَّ العاملَ في مجال الطب القائم على الأدلة بأسره) في القلق من أن يُفسِح قذف العملات في حد ذاته المجالَ واسعًا للتلاعب بالنتائج؛ إذ قد يجري الاختيار بناءً على أفضل الاحتمالات الثلاثة، وما إلى ذلك. آسف، أعني أفضل النتائج الخمس. آه، لم أرَ تلك العملة، لقد سقطت على الأرض.

هناك أساليب كثيرة عادلة بحقٍّ لإجراء عملية التوزيع العشوائي، وعلى الرغم من أنها تتطلَّب قليلًا من المنطق، فإنها لا تحتاج إلى أي تكلفة مادية إضافية. يتمثل الأسلوب الكلاسيكي للتوزيع العشوائي في جعل المشاركين في التجربة يقومون بطلب رقْمِ هاتفٍ محدَّد؛ حيث يجلس أحد الأشخاص قبالة كمبيوتر يحتوي على برنامج للتوزيع العشوائي (ولا يقوم القائم بالتجربة بهذا الإجراء إلا عند الانتهاء بالكامل من تسجيل المريض وإقراره الالتزام بالتجربة). ربما يُعتبر هذا الأسلوب أكثر الأساليب شعبيةً بين أكثر الباحثين تدقيقًا، الذين يحرصون على ضمان إجراءِ «اختبار عادل»؛ لأنك حينها يجب أن تكون دجَّالًا قُحًّا حتى تعبث بنتائج التجربة، وربما عليك أيضًا أن تعمل بجِدٍّ شديدٍ حتى تُتْقِن فنون الدجل العلمي. سنعود مجددًا للسخرية من الدجَّالين حالًا، لكنك تتعلَّم الآن إحدى أهم أفكار التاريخ الفكري الحديث.

هل عملية التوزيع العشوائي مهمة حقًّا؟ مثلما في التعمية، درس الباحثون أثر التوزيع العشوائي في عدد هائل من الدراسات النقدية لعدد كبير من التجارب، ووجدوا أن التجارب التي تَستخدم أساليب غير أمينة في التوزيع العشوائي تُبالِغ في تقدير آثار العلاج بنسبة ٤١٪. في حقيقة الأمر. لا تتمثَّل المشكلة الكبرى للتجارب الرديئة الجودة في كونها قد استخدمت أسلوبًا غير مناسب في التوزيع العشوائي، بل في أنها لا تكشف عن «طريقة» التوزيع العشوائي للمرضى على الإطلاق، وهو ما يُعتبر إشارة تحذير كلاسيكية، وتشير في الغالب إلى أن التجربة قد أُجريت بطريقة رديئة. مرة أخرى، لا أتحدث هنا انطلاقًا من تحيُّزٍ ما؛ فالتجارب التي لا تكشف عن طرق واضحة في إجراء التوزيع العشوائي تبالغ في تقدير آثار العلاج بنسبة ٣٠٪، وهو ما يقترب تقريبًا من نسبة التجارب التي تُجْري عملياتِ توزيعٍ عشوائيٍّ باستخدام أساليب في منتهى الرداءة.

في حقيقة الأمر، وكقاعدة عامة، يجدُر بالمرء القلق دومًا عندما لا يُفصِح الباحثون عن تفاصيل كافية عن أساليبهم ونتائجهم. حقيقةً (أَعِدُ بأن أتوقف عن هذا حالًا) لقد أُجريت دراستان رائدتان على كون المعلومات غير الكافية في البحوث الأكاديمية ترتبط بالنتائج الرديئة، المبالَغ فيها، ونعم، تبالغ البحوث التي لا تكشف عن أساليب إجرائها في فوائد العلاجات بنسبة ٢٥٪ تقريبًا. تمثِّل الشفافية والتفاصيل كلَّ شيء في العلم. وقد تَصَادَفَ أنْ صار هيدلبرانت وآخرون — من غير جريرةٍ من جانبهم — بمنزلة محور الارتكاز في هذه المناقشة حول التوزيع العشوائي (وأشعر بالامتنان لهم في ذلك)؛ فربما أجروا عملية توزيع عشوائي لمرضاهم، وربما فعلوا ذلك بطريقة مناسبة تمامًا، لكنهم لم يكشفوا عن ذلك في دراستهم.

لِنَعُد مرة أخرى إلى الدراسات الثماني في مقال إرنست النقدي حول المعالجة المثلية باستخدام زهرة العطاس — وهو اختيار اعتباطي تمامًا من جانبنا — نظرًا لأن هذه الدراسات تبيِّن إحدى الظواهر التي نشهدها مرارًا وتكرارًا في دراسات الطب المكمِّل والبديل؛ ألا وهي أن معظم التجارب الثماني تتسم بالقصور المنهجي الشديد، وتكشف عن نتائج إيجابية للمعالجة المثلية، بينما أظهرت الدراستان المحترمتان — أكثر «الاختبارات عدالة» — عدم وجود فرق في النتائج بين المعالجة المثلية والعلاج الوهمي.٤

إذن تستطيع أن ترى الآن — كما آمُل — أنه عندما يقول الأطباء إنَّ بحثًا «لا يُعتمَد عليه»، لا يُعتبر ذلك بالضرورة من قبيل الخداع؛ فعندما يستبعد الأكاديميون عمدًا بحثًا رديئًا يغازل المعالجة المثلية، أو أي نوع آخر من البحوث، من مراجعة منهجية لأدبيات المجال الطبي، لا يرجع ذلك إلى أي نوع من التحيُّز الشخصي أو الأخلاقي، بل ببساطة إلى أنه إذا كان ثمَّة بحثٌ ليس له جدوى، إذا لم يكن البحث يمثِّل «اختبارًا عادلًا» للعلاجات، فقد أسفر هذا البحث عن نتائج لا يُعتمد عليها؛ ومن ثم يجب النظر إلى مثل هذا النوع من البحوث بحذَرٍ شديد.

هناك بُعْدٌ أخلاقيٌّ وماليٌّ هنا أيضًا؛ لا يكلف إجراء عملية التوزيع العشوائي أيَّ أموال. ولا تكلِّف عملية تعمية المرضى المشاركين في التجربة بشأن هل سيتناولون علاجًا حقيقيًّا أم علاجًا وهميًّا، أيَّ أموال. وبشكل عام لا يتطلَّب إجراء البحوث بصورة فعالة وأمينة أموالًا أكثر بالضرورة، بل يتطلَّب الأمر ببساطةٍ التفكيرَ قبل البدء في إجراء البحث. فلا يمكن إلقاء اللوم فيما يتعلَّق بأوجُه القصور في هذه الدراسات إلا على مَن أجرَوْها. وفي بعض الحالات، سيكون هؤلاء الأشخاص هم من يُديرون ظهورهم للأسلوب العلمي باعتباره «منظورًا منهجيًّا قاصرًا». في المقابل لا يعدو منظورهم المنهجي الجديد العظيم أكثرَ من مجرد «اختبارات غير عادلة».

تنتشر أنماط البحث هذه في أدبيات العلاج البديل بأسره. وعمومًا، تميل الدراسات القاصرة لأن تكون هي تلك الدراسات التي تفضِّل المعالجة المثلية، أو أي علاج بديل آخر، بينما تميل الدراسات المُجْرَاة بصورة جيدة، التي جرى فيها استبعاد جميع مصادر التحيُّز والخطأ القابلة للتحكم فيها، لِأَن تُظهِر أن علاجات الطب البديل لا تُسْفِر عن نتائج أفضل من العلاج الوهمي.

جرت دراسة هذه الظاهرة بعناية، وهناك علاقة خطِّيَّة طردية تقريبًا بين الجودة المنهجية لأيٍّ من تجارب المعالجة المثلية والنتائج التي تُسفِر عنها. فكلَّما زادت رداءة التجربة — أي كلما كانت التجربة تمثِّل «اختبارًا عادلًا» بصورة أقل — ازدادت احتمالات تفوق المعالجة المثلية في نتائجها من العلاج الوهمي. ويقيس الأكاديميون — تقليديًّا — جودة إحدى الدراسات من خلال استخدام أدواتٍ معيارية مثل «مقياس جاداد»، وهو عبارة عن قائمة تتألَّف من سبعِ نقاط تشمل أشياءَ ذكرناها توًّا؛ مثل: «هل ذكر الباحثون أسلوب التوزيع العشوائي المستخدَم؟» و«هل جرى تقديم معلومات إحصائية كافية؟»

يُظهر الرسم البياني — وهو مُسْتقًى من ورقة إرنست البحثية — ما يجري عند تطبيق مقياس جاداد على تجارب المعالجة المثلية. في الناحية العليا إلى اليسار، يمكنك أن تلاحظ التجارب الرديئة التي تتضمَّن أوجه قصور هائلة في التصميم، والتي تجد أن المعالجة المثلية أفضل كثيرًا جدًّا من العلاج الوهمي. في الناحية السفلى إلى اليمين، يمكنك أن ترى أن باقتراب النتيجة في مقياس جاداد من خمسة، وهي النتيجة القصوى؛ أيْ مع ازدياد «عدالة التجارب»، ينحو الخط البياني إلى بيان أن المعالجة المثلية لا تُسفر عن نتائج أفضل من العلاج الوهمي.

fig3
شكل ٤-٢

غير أن هناك سرًّا غامضًا في هذا الرسم البياني؛ شيئًا غريبًا، أشبه بالروايات البوليسية التي لا يُعرف القاتل فيها إلا في النهاية. تبرز تلك النقطة الصغيرة إلى الجانب الأيمن من الرسم البياني، التي تمثِّل التجارب العشر الأفضل جودةً، وتتحقَّق من خلالها أعلى النتائج في مقياس جاداد، بشكل واضح يشِذُّ عن الاتجاه العام للتجارب الأخرى جميعًا. تمثل هذه النقطة نتيجةً شاذةً؛ فعلى حين غِرَّة، فقط في الطرف الأقصى من الرسم البياني، تَظْهر تجاربُ ذات جودة معقولة تكسر الاتجاه العام، وتُظهِر أن المعالجة المثلية تُسفِر عن نتائج أفضل من العلاج الوهمي.

ماذا يحدث هنا؟ أستطيع أن أقول لك ما أعتقده: بعض الأوراق البحثية التي تشكِّل هذه النقطة جرى التلاعب في نتائجها. لا أعرف أيُّ هذه الأوراق البحثية العَشْر جرى التلاعب في نتائجها، ولا كيف حدث ذلك، أو مَنْ فَعَل ذلك، لكن هذا ما أظن أنه حدث. غالبًا ما يُضطر الأكاديميون لصياغة النقد العنيف بِلُغة دبلوماسية. فها هو البروفيسور إرنست، الرجل الذي صمَّم هذا الرسم البياني، يناقش الحالة الغريبة المثيرة للدهشة في هذا الرسم. ربما تُفَك شفرة عبارته الدبلوماسية «نعم يا سيدي» وتخلُص إلى أن الرجل يشير إلى وجود خداع ما أيضًا.

ربما تكون هناك فَرْضِيات عديدة لتفسير هذه الظاهرة. ربما يُفضِّل العلماء الذين يُصِرون على أن علاجات المعالجة المثلية تماثل من كل وجهٍ العلاجاتِ الوهميةَ، التفسيرَ التالي؛ يعكس التلازم الذي تُظهره نقاط البيانات الأربع (نتائج جاداد من ١–٤) الحقيقة تقريبًا، وسيُفضي استقراء هذه العلاقة التلازمية بالعلماء إلى توقُّع أنْ تُظْهِر تلك التجارب، التي تنطوي على أقل مجالٍ ممكن للتحيُّز (نتيجة مقياس جاداد = ٥)، أن علاجات المعالجة المِثلية لا تعدو كونها علاجات وهمية صِرْفة. لكن حقيقة أنَّ متوسط نتائج التجارب العشر البالغ ٥ نقاط على مقياس جاداد يتناقض مع هذه الفكرة، تتوافق مع الفرضية القائلة إن بعضَ مُختَصِّي المعالجة المثلية الماهرين منهجيًّا والمقتنعين بآرائهم (لا كلهم) قد نشروا نتائج أبحاث تبدو مقنعةً، لكنها، في حقيقة الأمر، غيرُ موثوق بها.

لكن هذه المسألة مثيرة للاهتمام وجانبية، وفي إطار الصورة الكبيرة، ليست هذه المسألة ذات أهمية؛ نظرًا لأنه، على وجه العموم، وحتى بأخذ هذه الدراسات المريبة في الاعتبار، تَظَلُّ «التحليلات الماورائية» تُظْهر، على وجه العموم، أنَّ المعالجة المثلية ليست أفضل من العلاج الوهمي.

ماذا نعني بالتحليلات الماورائية؟

(٦) التحليل الماورائي

ستكون هذه الفكرة آخر الأفكار الكبيرة التي أعرضها، إلى حينٍ، وهي فكرة ساهمت في إنقاذ أرواح أشخاص أكثر مما سوف تلتقيهم على الدوام. تُعتبر عملية التحليل الماورائي أمرًا بسيطًا جدًّا في تنفيذه، من بعض الجوانب؛ كلُّ ما عليك هو جمع جميع النتائج من جميع التجارب حول موضوع معيَّن، ثم دَمْجها جميعًا في بيان إحصائي كبير، وإجراء العمليات الحسابية اللازمة، بدلًا من الاعتماد على الحَدْس الكلي لديك حول جميع النتائج من كل تجربة من تجاربك الصغيرة. وتعتبر عملية التحليل الماورائي مفيدة على نحو خاصٍّ عندما تكون هناك تجارب كثيرة، كلٌّ منها أصغر من أن تُسفِر عن إجابة حاسمة، لكنها جميعًا تبحث الموضوع نفسه.

لذا، إذا كان هناك، قُلْ، عَشْر تجارب طُبِّقَ فيها التوزيع العشوائي، ويجري استخدام العلاج الوهمي فيها كعنصر ضابط، تبحث هل أعراض الربو تتحسَّن من خلال المعالجة المثلية، ويضم كلٌّ منها عددًا محدودًا من المرضى لا يتجاوز الأربعين مريضًا، يمكن ضمُّ جميع هؤلاء في تحليل ماورائي واحد؛ ومن ثم تتوافر (من بعض الجوانب) تجربةٌ تضم أربعمائة شخصٍ.

في بعض الحالات الشهيرة للغاية — على الأقل، شهيرة في عالم الطب الأكاديمي — أظهرت التحاليل الماورائية أن العلاجات التي كان يُعتقد عدمُ فاعليتها سابقًا تُعتبر في حقيقة الأمر جيدةً؛ نظرًا لأن التجارب التي كانت قد أُجريت كانت أصغر كثيرًا، كلٌّ بمفرده، من أن تكشف الفائدة الحقيقية، وهو ما أعاق اكتشاف الباحثين لها.

مثلما ذكرتُ، ربما تكون المعلومات وحدها سببًا في إنقاذ الحياة، وأحد أعظم الابتكارات المؤسَّسِية خلال الثلاثين عامًا الماضية يتمثَّل، لا شكَّ، في مؤسَّسة «كوكرين كولابوريشن»، وهي مؤسَّسة دولية غير هادفة للربح مكوَّنة من الأكاديميين، تنشر ملخصات دورية لأدبيات البحوث حول أبحاث الرعاية الصحية، بما في ذلك التحليلات الماورائية.

يُظهر شعار كوكرين كولابوريشن رسم «بلوبوجرام» مبسَّطًا، وهو مخطط بياني لنتائج تحليل ماورائي رائد يبحث في إحدى وسائل التدخلِ العلاجيةِ للأمهات الحوامل. عندما تلد النساء قبل ميعادهن، مثلما قد تتوقَّع، يتكبَّد المواليد على الأرجح معاناةً بالغة ويموتون. فخطرت فكرةٌ لبعض الأطباء في نيوزلندا بأنَّ تناوُلَ جرعة قصيرة المدة من أحد الستيرويدات الرخيصة ربما يُسهم في تحسين النتائج. وأُجريت سبع تجارب لاختبار هذه الفكرة بين عامَي ١٩٧٢ و١٩٨١. وبينما أظهرت تجربتان من التجارب السبع وجود فائدة علاجية من تناول الستيرويد، لم تفلح التجارب الخمس الأخرى في اكتشاف أي فائدة، وبسبب ذلك، لم تحظَ الفكرة بأي شهرة.

fig4
شكل ٤-٣

بعدها بثماني سنوات، في عام ١٩٨٩، أُجري تحليل ماورائي عن طريق تجميع كل بيانات هذه التجربة. إذا نظرتَ إلى البلوبوجرام في الشعار السابق، تستطيع أن ترى ما حدث. يمثِّل كلُّ خط أفقي دراسةً واحدة؛ فإذا كان الخط إلى أعلى اليسار، فذلك يعني أن الستيرويدات كانت أفضل من العلاج الوهمي، وإذا كان إلى أعلى اليمين، فيعني ذلك أن الستيرويدات كانت أسوأ من العلاج الوهمي. أما إذا لامس الخط الأفقي للتجربة خط «تأثير الصفر» الرأسي الكبير الذي يمر في المنتصف، فالتجربة إذن لم تُظهر أي فرقٍ واضحٍ سواء في استخدام العقار أو العلاج الوهمي. شيء أخير: كلما كان الخط الأفقي أطول، كانت نتائج التجربة أقلَّ يقينًا.

بالنظر إلى البلوبوجرام، يمكننا أن نرى أن هناك دراساتٍ كثيرةً نتائجها غير مؤكدة، وخطوطًا أفقية طويلة، تكاد تلامس الخط الرأسي الأوسط ﻟ «تأثير الصفر»، إلا أن جميع هذه الخطوط تقع إلى اليسار؛ لذا يبدو أنها جميعًا تُشير إلى أن الستيرويدات «ربما» تكون مفيدةً، حتى إذا كانت كل دراسة في حد ذاتها لا تعبِّر عن قيمة إحصائية كبيرة.

تُظهر الماسة — إلى الأسفل — النتيجة المجمَّعة؛ ألا وهي أن ثمة أدلة قوية جدًّا، في حقيقة الأمر، على أن الستيرويدات تقلِّل — بنسبة ٣٠٪ إلى ٥٠٪ — من مخاطر وفاة الرُّضَّع نتيجة مضاعفات الولادة المبكرة. يجب أن نتذكَّر دومًا التكلفة الإنسانية لهذه الأرقام المجردة؛ فقد كان الأطفال الرضَّع يموتون بلا داعٍ؛ نظرًا لحرمانهم من هذا العلاج المنقِذ للحياة على مدى عقد من الزمان. كانوا يموتون «بالرغم من توافر المعلومات الكافية لمعرفة ما كان ينقذهم»؛ نظرًا لأن المعلومات لم يَجْرِ تجميعها معًا، وتحليلها منهجيًّا، في تحليل ماورائي شامل.

نعود مجددًا إلى المعالجة المثلية (لعلك تدرك الآن لماذا أجِدُها تافهة). نُشِرَ تحليل ماورائي مؤخَّرًا في دورية «ذا لانست» الطبية. صَاحَبَ البحثَ مقالٌ افتتاحي عنوانه: «نهاية المعالجة المثلية» أجرى شانج وآخرون تحليلًا ماورائيًّا عميقًا للغاية على عددٍ هائل من تجارب المعالجة المثلية، ووجدوا، بشكل عامٍّ، بالنظر إلى جميع النتائج، أن المعالجة المثليَّة لا تُفضي إلى نتائج أفضل من العلاج الوهمي.

تَحفَّز مُختَصُّو المعالجة المثلية تحفزًا شديدًا. وإذا أشرتَ إلى هذا التحليل الماورائي، فسيحاولون أن يخبروك أنه ليس إلا مجرد خِداع. إن ما فعله شانج والآخرون، بصورة أساسية، مثلما حدث في جميع التحليلات الماورائية السابقة التي أظهرت نتائج سلبية للمعالجة المثلية، هو استبعاد التجارب ذات الجودة الرديئة من تحليلهم.

يحب مُختَصُّو المعالجة المثلية انتقاءَ التجارب التي تقدِّم لهم الإجابة التي يرغبون في سماعها، وتجاهُل التجارب الأخرى؛ وهي ممارسةٌ يُطلَق عليها «انتقاء الكرز». لكن يمكنك أنت أيضًا انتقاء التحليلات الماورائية التي تفضِّلها، أو تسيء تأويلها. لم تكن دراسة شانج وآخرين إلا أحدث التحليلات ضمن سلسلة طويلة من التحليلات الماورائية لإظهار أن المعالجة المثلية لا تختلف عن العلاج الوهمي. ولعل ما يثير دهشتي هنا بحقٍّ هو أنه على الرغم من النتائج السلبية لهذه التحليلات الماورائية، واصل مُختَصُّو المعالجة المثلية — وصولًا إلى قمة الممارسات الطبية — الزعمَ بأنَّ هذه التحليلات نفسَها «تدعم» استخدام المعالجة المثلية، ويقومون بذلك من خلال الاستشهاد فقط بنتائج «جميع» التجارب المذكورة في كل تحليل ماورائي. ويشمل هذا الرقم جميع التجارب ذات الجودة الأكثر رداءة، ويتمثل أكثر الأرقام مصداقية، مثلما تعرف الآن، في العيِّنة المحدودة لأكثر «الاختبارات عدالةً»، وعندما تنظر إلى هذه التجارب، تجد أن المعالجة المثلية ليست أفضل أداءً من العلاج الوهمي. إذا كان هذا يدهشك (وسأكون مندهشًا تمامًا لذلك لو كنتُ مكانك)، فإنني بصدد إعداد ملخَّص مع بعض الزملاء، وستجده قريبًا منشورًا على الإنترنت على موقع www.badscience.net، بجميع التفاصيل، شارحًا فيه نتائج التحليلات الماورائية المختلفة التي أُجرِيتْ على المعالجة المثلية.

يحب الإكلينيكيون، والخبراء، والباحثون جميعًا، قولَ أشياء مثل: «هناك حاجة إلى إجراء المزيد من البحوث.» إذ إن عبارات كتلك تبدو تقدُّميَّةَ الفِكْر ومنفتِحَةَ الأفُقِ. في حقيقة الأمر، لا يحدث هذا دومًا، وربما لا يعرف كثيرون أن هذه العبارة تحديدًا تم حظْر ذكرها في دورية «بريتش ميديكال جورنال» لسنوات عديدة؛ نظرًا لأنها لا تضيف شيئًا؛ فربما تشير إلى ما هو غير متوافر في البحوث، وحول من، وكيف، وقياس ماذا، ولماذا ترغب في القيام بمزيد من البحوث، ولكن لا تعتبر المطالبة غير المكترثة، التي تبدو منفتحة ظاهريًّا لإجراء «مزيد من البحوث»، ذات معنًى أو حتى مفيدة.

كان هناك أكثر من مائة تجربة معالجة مثلية طُبِّق فيها التوزيع العشوائي، يجري استخدام العلاج الوهمي فيها كعنصر ضابط، ولقد حان الوقت لأن تتوقَّفَ هذه التجارب. فلا تُسفِر أقراص المعالجة المثلية عن أي نتائج أفضل من أقراص العلاج الوهمي، وهو ما نعلمه جميعًا. لكن هناك مجال لإجراء بحوث أكثر تشويقًا. فبينما يشعر الأشخاص بأن المعالجة المثلية إيجابية بالنسبة إليهم، يكمن أثر العلاج على الأرجح في العملية بأسرها المتمثلة في زيارة أحد مُختَصِّي المعالجة المثلية، والاستماع إلى شكواهم، وتقديم تفسير من نوعٍ ما لما يشعرون به من أعراض، وجميع الفوائد الثانوية الأخرى للطِّبِّ القديم، ذي الطابع الأبوي، المُطَمْئِن (وأيضًا النكوص إلى المتوسط، كدت أنسى).

لذا، يجب أن نقيس ذلك؛ وإليك الدرس الأخير الرائع في الطب القائم على الأدلة الذي يمكن أن تعلِّمنا إياه المعالجةُ المثلية: في بعض الأحيان، تحتاج إلى خيال خصب حِيَال نوعيات البحوث التي تجريها، والحلول الوسط التي تقبل بها، وأن تكون مدفوعًا بالأسئلة التي تحتاج إلى إجابة، لا بالأدوات المتوافرة لك.

بينما يُعتبر من قبيل الأمور الشائعة جدًّا أن يبحث الباحثون المسائل التي تهمهم، في جميع مجالات الطب، من الممكن أن يهتم الباحثون بأمور تختلف تمامًا عما يهم المرضى أنفسهم. وقد توجَّهت إحدى الدراسات بالفعل بسؤالٍ إلى أشخاص مصابين بهشاشة العظام في الرُّكبة عن أي نوعٍ من البحوث يرغبون في إجرائها، فكانت الإجابات مدهشة؛ فقد أراد هؤلاء إجراء عمليات تقييم واقعية متعمِّقة لفوائد العلاج الطبيعي والجراحة، وفوائد التدخلات التَّوْعَوِيَّة واستراتيجيات التكيُّف، وأمور أخرى عملية. لم يُرِدْ هؤلاء المرضى إجراء تجربة أخرى يقارَن فيها قرص واحد بآخر، أو بعلاجٍ وهْمِيٍّ.

بالمثل، في حالة المعالجة المثلية، يرغب مُختَصُّو المعالجة المثلية في الاعتقاد بأن قوة العلاج تكمُن في قرص الدواء، وليس في عملية زيارة المُختَص، وتبادل الحديث معه، وما إلى ذلك. وهذه المسألة من الأهمية البالغة بمكانٍ بالنسبة إلى هُوِيَّتهم المِهْنية. لكني أعتقد أن زيارة أحد مُختَصي المعالجة المثلية ربما تمثِّل تدخلًا علاجيًّا مفيدًا، في بعض الحالات، لبعض الأشخاص، حتى لو كانت الأقراص العلاجية مجرد علاج وهمي. وأظن أن المرضى سيتَّفقون معي في ذلك، وأظن أن ذلك سيكون أمرًا شائقًا لقياسه، وهو أمرٌ أظنه سيكون سهلًا، وربما تفعل شيئًا يُطلَق عليه «تجرِبةُ قائمةِ انتظارٍ» عملية.

تصطحب مائتي مريض، على سبيل المثال، جميعهم مناسِبون للخضوع للمعالجة المثلية، يتلقَّوْن علاجهم حاليًّا في عيادة أحد الأطباء، وجميعهم لا يمانعون الإحالة إلى المعالجة المثلية، ثم تقسِّم هؤلاء عشوائيًّا إلى مجموعتين؛ كل مجموعة تضم مائةَ مريض. تتلقَّى إحدى المجموعتين العلاج من خلال مُختَصٍّ في المعالجة المثلية مثلما هو معتادٌ؛ من أقراص، ومشورة علاجية، ودخان، وفودو، إلى جانب أي علاج آخر يتلقونه، مثلما يحدث في العلاج الحقيقي. أما المجموعة الأخرى، فتنتظر ضمن قائمة انتظار، ويتلقَّى أفراد هذه المجموعة علاجًا كالمعتاد، سواء أكان ذلك «إهمالًا» أو علاجَ ممارسٍ عامٍّ، أو أيًّا ما كان العلاج، دون أن يشمل العلاج المعالجةَ المثلية. بعد ذلك تُقَيِّم النتائج، وتقارن أيٌّ من المجموعتين تحسَّنت حالتها أكثر.

ربما تدفع بأن نتيجة إجراء تجربة كتلك ستكون نتيجةً إيجابية غير مهمة، ويبدو بديهيًّا أن مجموعة المعالجة المثلية ستتحسن حالتها أكثر؛ ولكن تظلُّ هذه التجربة في انتظار إجرائها حقيقةً. تعتبر هذه التجربة «تجربة عملية»؛ فلم يَجْرِ تعميةُ أفراد المجموعتين في التجربة، وهو أمرٌ لا يمكن تنفيذه في هذا النوع من التجارب، وفي بعض الأحيان يكون علينا قبول الحلول الوسط في أساليب البحث التجريبية. سيكون إجراء تجارب كهذه بتمويل حكومي مسألةً مشروعةً (أو ربما تَلَقِّي أموال من بوارون، وهي شركة أقراص المعالجة المثلية تُقَدَّر قيمتها بنحو ٥٠٠ مليون دولار)، ولكن لا يوجد ما يمنع مُختَصِّي المعالجة المثلية من تحيُّن الفرص وإجراء بحوث كهذه لحسابهم؛ لأنه على الرغم من خيالات مُختَصي المعالجة المثلية، الناشئة عن نقصٍ في المعرفة، يُعتبر مثل هذا النوع من البحوث صعبًا، وسحريًّا، ومكلِّفًا، في حين لن يتكلَّف إجراء مثل هذه التجربة كثيرًا.

في حقيقة الأمر، ليس المال حقًّا هو ما ينقص مجتمعَ بحوثِ علاج الطب البديل، خاصةً في بريطانيا؛ إن ما ينقصه هو معرفةٌ بالطب القائم على الأدلة، وخبرةٌ في طريقة إجراء تجربة. فأدبيَّات ومناقشات الطب البديل تطفح بالجهل والغضب المرير إزاء أي شخص يجرؤ على تقييم التجارب. وتبدو برامجهم الدراسية في الجامعات، بقدر ما يَجْرُءون على الإقرار بما يدرِّسون من خلالها (إذ يجري إخفاء كل شيء فيها بصورة مريبة)، كما لو كانت تلتفُّ حول أسئلة كهذه تهدِّد سلطتهم وتفجِّر المزيد من التساؤلات. كنت قد اقترحت في أماكن مختلفة، من بينها مؤتمرات أكاديمية، أن الشيء الوحيد الذي سيضمن تحسين جودة الأدلة في الطب المكمِّل والبديل يتمثَّل في تمويل خط ساخن للطب القائم على الأدلة، وهو خط يستطيع أيُّ طبيب يفكر في إجراء تجربة في عيادته الاتصالَ به والحصول على المشورة حول طريقة إجرائها على نحو صحيح؛ لتجنُّب هدر الجهد في إجراء «اختبار غير عادل» سينظر إليه مَنْ هُم خارج المجال — عن حقٍّ — بازدراء.

في أحلامي الخيالية (أنا جادٌّ تمامًا، إذا كان لديك المال الكافي) ستحتاج إلى منشور، وربما إلى برنامج تدريبي قصير وَضَعَه أشخاص لكي يغطي الأساسيات؛ ومن ثم كانوا لا يطرحون أسئلة حمقاء، ولا يتلقَّوْن خدمة دعم هاتفية. في الوقت نفسه، إذا كنت مُختَصَّ معالجةٍ مثلية عقلانيًّا وترغب في إجراء تجربة يجريها ممارس عام، فربما يمكنك زيارة منتديات موقع العلم الزائف؛ حيث يوجد أشخاص قد يستطيعون تقديم بعض المؤشرات (ضمن المحاربين والمسوخ الطفوليين …)

لكن هل سيقتنع مُختَصُّو المعالجة المثلية بذلك؟ أظن أن ذلك سيجرح شعورهم المِهْني. فغالبًا ما ترى مُختَصي المعالجة المثلية يحاولون شق طريقهم عبر هذه المنطقة الشائكة، وغيرَ قادرين على اتخاذ قرارٍ بشأن ذلك. ها هي، على سبيل المثال، مقابلة على محطة راديو ٤، محفوظة كاملة على الإنترنت؛ حيث تدلو د. إليزابيث طومسون (استشاري المعالجة المثلية، وكبير المحاضرين الشَّرَفِيين في قسم الطب التلطيفي في جامعة بريستول) بِدَلْوِها.

تبدأ د. طومسون حديثها بأمور معقولة: المعالجة المثلية ناجعة، لكنها تنجح من خلال آثار غير محددة، والمعنى الثقافي للعملية، والعلاقة العلاجية، فلا يتعلق الأمر في المعالجة المثلية بأقراص العلاج، إلخ. تُقرُّ د. طومسون وتقول إن المعالجة المثلية تتمحور حول المعنى الثقافي وأثر العلاج الوهمي: «لقد أراد الناس أن يقولوا إن المعالجة المثلية تُشْبِه مركَّبًا صيدلانيًّا … لكنها ليست كذلك، بل هي أسلوب علاجي معقَّد»، على حد قولها.

ثم سألها المحاور: «ماذا تقولين للأشخاص الذين يقصدون الصيدلية الكائنة في الشارع الرئيسي؛ حيث يمكنهم شراء علاجات المعالجة المثلية؛ إذ يكونون مصابين بحمَّى القَشِّ، فينتقون أحد عقاقير علاج حمَّى القش؛ أعني ليس من المفترض أن تكون هذه هي الطريقة التي يجري بها العلاج؟» مرت لحظة من التوتر. أستميحك عذرًا د. طومسون، لكنني شعرتُ أنكِ لم تكوني راغبة في أن تقولي إن أقراص العلاج ناجعة، بمفردها، عندما تشترينها من أحد المَحَالِّ، فبقطع النظر عن أي شيء آخر، لقد قُلْت توًّا إن أقراص المعالجة المثلية لا تعالج الأمراض.

لكن لا ترغب د. طومسون أيضًا في الحياد عن الرَّكْب وتقول إن الأقراص لا تُسفر عن أي مفعول. أترقَّب ما سيحدث. كيف ستتفادى هذه الإشكالية؟ هل هناك بناءٌ لُغويٌّ معقَّد بما يكفي، ومحايد بما يكفي، لاجتياز ذلك؟ إذا كان هناك شيء كهذا، فلا يبدو أن د. طومسون تضع يديها عليه: «قد تمر هذه العلاجات مرورًا سريعًا دون ملاحظة، وربما تكون دقيقة جدًّا في وصفها … ولكن يجب أن يكون لديك حظٌّ وافر كي تدخل الصيدلية وتشتري العلاج الصحيح.» لذا تكمن القوة العلاجية، ولا تكمن في الوقت ذاته، في الأقراص، «موجب، وليس موجبًا»، مثلما يقول فلاسفة المنطق.

إذا لم يستطع مُختَصُّو المعالجة المثلية الالتفاف حول متناقضة «لا تكمن القوة العلاجية في الأقراص»، فكيف يستطيع هؤلاء إذن التحايُل على البيانات السلبية؟ تعتبر د. طومسون — من خلال ما شهدْتُ — من مُختَصِّي المعالجة المثلية الذين يتَّسِمون بوضوح التفكير والتمدُّن، وهي في ذلك، تُعتبر فريدة من نوعها؛ فقد كان مُختَصُّو المعالجة المثلية حريصين على إبقاء أنفسهم خارج البيئة المتحضِّرة للجامعة، التي يمكن فيها لتأثير الزملاء وتساؤلهم أن يُسْهِم في تنقية وصَقْل الأفكار، والتخلص من الرديء منها. وفي مغامراتهم النادرة، ينضم مُختَصُّو المعالجة المثلية إلى الجامعات سرًّا، مقيمين جدارًا يحميهم ويحمي أفكارهم من سهام النقد أو المراجعة، رافضين حتى مشاركة ما في أوراق اختباراتهم مع الآخرين.

من النادر العثورُ على مُختَصِّ معالجةٍ مثلية منخرطٍ في مسألة الأدلة العلاجية، ولكن ماذا يحدث عندما يُقدِمون على ذلك؟ سأخبرك. يصبح هؤلاء غاضبين، ويُهدِّدون بالتقاضي، ويصرخون، ويجأرون بصوتهم نحوك في الاجتماعات، ويشكُون كذبًا إلى لجنة شكاوى الصحافة وإلى رئيس تحرير الجريدة التي تكتب فيها، مستعينين بمغالطات وادِّعاءات مضحكة — تستغرق جميعُها وقتًا طويلًا للكشف عنها، بالطبع، ولكن ذلك هو الهدف من هذا الإيذاء والمضايقات — ويرسلون رسائل بريد إلكتروني تنطوي على كراهية، ويتهمونك مرارًا وتكرارًا بأنك — بشكل أو بآخر — أسيرُ شركات الأدوية الكبرى (كذبًا، على الرغم من أنك تبدأ في التساؤل عن سبب التزامك بأي مبادئ عندما تواجه مثل هذا النوع من السلوك). يمارس هؤلاء أساليب الإرهاب، وتشويه السمعة، وصولًا إلى قمة الممارسات المنحرفة في مهنة الطب، ويبذلون أقصى ما في وُسْعِهم في محاولة يائسة «لإسكاتك»، ويتفادَوْن إجراء أي مناقشة حول الأدلة. عُرِفَ عن هؤلاء أيضًا تهديدهم باستخدام العنف (لن أناقش هذا هنا، ولكنني آخُذُ هذه الأمور على محملٍ بالغِ الجِدِّ).

لا أقول إنني لا أستمتع بقليل من المُزَاح والدُّعابة في هذا الصدد، بل فقط أُشير إلى أنني لا أرى شيئًا مثل ذلك في معظم المجالات الأخرى، ويبدو مُختَصُّو المعالجة المثلية لي — من بين جميع الأشخاص الآخرين في هذا الكتاب، اللهم باستثناء مُختَصي التغذية الغريبي الأطوار — سلالةً غاضبةً فريدةً من نوعها. جرِّبْ بنفسك بالحديث معهم حول الأدلة، وأخبرني ماذا وجدتَ.

لعل رأسك يؤلمك الآن، بسبب مُختَصي المعالجة المثلية المشاغبين المُرْبكِين، وبسبب دفاعاتهم الشاذة الملتوية، وفي حاجة الآن إلى عملية تدليك علمية لطيفة. لماذا تتَّسِمُ مسألة الأدلة بكل هذا القدر من التعقيد؟ لماذا نحتاج إلى جميع هذه الخُدَع الحاذقة، وهذه المناظير المنهجية البحثية الخاصة؟ الإجابة بسيطة: إن العالم أكثر تعقيدًا بكثير من مجرد روايات بسيطة حول أقراص تجعل صحة الأشخاص أفضل. نحن بشر، نتَّسِم باللاعقلانية، ولدينا أوجه قصور، وسُلطة العقل على الجسد أكبر من أي شيء مرَّ بِخَلَدِك من قبلُ.

هوامش

(١) عند تناول الجرعات الكبيرة المناسبة، تحتوي الكينا على مادة الكينين، التي يمكن حقًّا استخدامها لمعالجة مرض الملاريا، مع أن طفيليات الملاريا محصَّنة ضدها في الوقت الحاليِّ.
(٢) للمتحذلقين، تبلغ نسبة التركيز ٣٠٫٨٩سي.
(٣) بينما يصف الأطباء في بعض الأحيان المضادات الحيوية للمرضى الذين يُلِحُّون في طلبها في غضبٍ، على الرغم من عدم فعاليتها في معالجة نزلة برد فيروسي، تشير كثير من البحوث إلى أن ذلك يأتِي بآثار عكسية، حتى ولو كان من قبيل توفير الوقت؛ ففي إحدى الدراسات، أفضى وصفُ المضادات الحيوية بدلًا من تقديم المشورة حول حُسْن إدارة الصحة الذاتية عند الإصابة بالتهاب في الحلق، إلى زيادة أعباء العمل بشكل عام على الأطباء عن طريق الزيارات المتكررة إليهم. وقد قُدِّر أنه في حال وصف الطبيب المضادات الحيوية لعلاج التهاب الحلق لعدد من المرضى أقل بمقدار مائة كل عام، فسيَعْتقِد عددٌ أقل من المرضى بمقدار ثلاثة وثلاثين مريضًا أن المضادات الحيوية فعالة، ويخطِّط عددٌ أقل من المرضى بمقدار خمسة وعشرين مريضًا لاستشارة الطبيب بشأن المشكلة في المستقبل، وسيعود عددٌ أقل بمقدار عشرة في السنة التالية لزيارة الطبيب مرة أخرى. إذا كنتَ مُختَصَّ معالجة مثلية، أو مندوب مبيعات عقاقير، فبإمكانك أن تقلب هذه الإحصاءات رأسًا على عَقِب وتبحث عن طرق للترويج أكثر، لا أقل، للمنتجات.
(٤) أجرى بنسنت دراسةً ذات تَعْمِية مزدوجة، باستخدام علاج وهمي على تسعة وخمسين شخصًا يُجْرُون عمليات جراحية في الفم. شعر أفراد المجموعة التي خضعت للمعالجة المثلية باستخدام زهرة العطاس بألمٍ أقلَّ كثيرًا من الألم الذي شعر به أفراد المجموعة التي تلقَّت العلاج الوهمي. إن ما لا تميل عادةً إلى قراءته في المواد الترويجية لآثار نبات العطاس أنَّ واحدًا وأربعين شخصًا قد قرَّروا عدم استكمال الدراسة، وهو ما يجعلها دراسةً لا قيمة لها على الإطلاق؛ فقد تبيَّن أن المرضى الذين لا يستكملون التجارب لا يتلقَّون عادة الأقراص اللازمة مثلما ينبغي، وتحدُث لهم أعراض جانبية على الأرجح، وتقل احتمالات تحسُّن حالتهم، وهكذا. إنني لا أتشكَّك في هذه الدراسة لأنها تعارض تحيزاتي الخاصة، ولكن نظرًا لمعدل التسرُّب الكبير للمشاركين في الدراسة. ربما غاب المرضى المتسرِّبون في عملية المتابعة لأنهم تُوُفُّوا، على سبيل المثال. وتميل عملية تجاهل المتسربين من إحدى التجارب إلى المبالغة في فوائد العلاج الذي يُجْرَى اختباره، ويُعتبر معدل التسرُّب المرتفع دومًا علامةً تحذيرية.
لم تذكر دراسة جبسون وآخرين شيئًا عن التوزيع العشوائي، ولم تذكر أيَّ شيء عن الجرعة العلاجية المستخدمة من علاج المعالجة المثلية، أو معدل تناولها. وليس من السهل أخذ الدراسات على محملٍ بالغ الجِد عندما لا تتضمَّن سوى هذا القدر اليسير للغاية من المعلومات.
كانت هناك دراسة أجراها كامبل، شَارَكَ فيها ثلاثة عشر شخصًا (وهو ما يعني عددًا محدودًا جدًّا من المرضى في مجموعتَي المعالجة المثلية والعلاج الوهمي). ووجدت الدراسة أن المعالجة المثلية قد أسفرت عن نتائج أفضل من العلاج الوهمي (في هذه العينة الضئيلة من المرضى)، لكنها لم تتأكد هل كانت النتائج مؤثرة إحصائيًّا، أم أنها مجرد نتائج جاءت مصادفة.
أخيرًا، أجرى سافدج «وآخرون» دراسةً على عشرة مرضى فقط، ووجدوا أن المعالجة المثلية قد أسفرت عن نتائج أفضل من العلاج الوهمي، لكن الدراسة لم تتضمن أيضًا أي تحليل إحصائي للنتائج.
هذه هي أنواع الأوراق البحثية التي يزعم مُختَصُّو المعالجة المثلية أنها تمثِّل أدلةً لدعم حالاتهم، أدلة يزعمون أن العاملين في المجال الطبي يتجاهلونها على سبيل التضليل والغش. فَضَّلَتْ هذه الدراساتُ كافةً استخدامَ المعالجة المثلية، وكلها تستحق التجاهل؛ لأن أيًّا منها لا يمثل ببساطةٍ «اختبارًا عادلًا» للمعالجة المثلية؛ نظرًا لأوجه القصور المنهجية في هذه التجارب.
يمكنني أن أَمْضِيَ في ذكر مئات الأمثلة على تجارب المعالجة المثلية، على أن الأمر مُؤلِم بما يكفي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤