الفصل الثامن

قرص يحل مشكلات اجتماعية معقَّدة

(١) إضفاء النزعة الطبية، أو: «هل ستجعل أقراص زيت السمك ابني عبقريًّا؟»

في عام ٢٠٠٧، نشرت دورية «بريتش ميديكال جورنال» تجربةً كبيرة مُجراة بعناية بنظام التوزيع العشوائي والعناصر الضابطة، أُجريت في مواقع كثيرة مختلفة، تحت إشراف علماء تلقَّوْا تمويلًا حكوميًّا، أسفرت عن نتيجة إيجابية مدهشة. فقد أظهرت التجربة أن أحد العلاجات قد يفضي إلى تحسُّن هائل في سلوك الأطفال العدواني. كان العلاج آمنًا تمامًا، وكانت الدراسة مصحوبة بتحليل كفاءة تكاليف جذَّابٍ للغاية.

هل أُشيرَ إلى هذه التجربة على الصفحة الأولى في «ديلي ميل» الموطن الطبيعي للعلاجات الإعجازية (ومصدر حالات الذعر الخفية المشئومة)؟ هل جرت متابعة التجربة في صفحات الصحة، مصحوبةً بموضوعٍ مصوَّر، يصف الشفاء المذهل لأحد الأطفال، ومقابلةٍ مع أمٍّ جذَّابة تخفَّفت من وسواسها نستطيع جميعًا أن نتعاطف معها وجدانيًّا؟

لا. لقد تجاهلتْ جميعُ وسائل الإعلام البريطانية التجربةَ بالإجماع، على الرغم من اهتمامها بالسلوك العدواني والعلاجات الإعجازية، لسبب واحد؛ ألا وهو: لم يكن البحث يدور حول استخدام قرص، بل كان يدور حول برنامج تربوي عملي، غير مكلِّف.

في الوقت نفسه، ولأكثر من خمس سنوات الآن، لا تزال الصحف والمحطَّات التليفزيونية تحاول إقناعنا، من خلال «العلم»، بأن أقراص زيت السمك أثبتت أنها تحسِّن من أداء الأطفال في المدرسة، ونتائج اختبارات الذكاء، والسلوك، والانتباه، وما هو أكثر من ذلك. في حقيقة الأمر، لا يمكن أن يكون هناك شيءٌ أبعد عن الحقيقة من ذلك. نحن على وشك تلقِّي بعض الدروس الشائقة جدًّا حول وسائل الإعلام، وعن المحظورات عند إجراء التجارب، وعن رغبتنا الجماعية في وجود تفسيرات ذات طابع طبي، وذات وَقْعٍ علمي، للمشكلات اليومية. هل أقراص زيت السمك فعالة؟ هل تجعل الأطفال أكثر حذقًا وأفضل سلوكًا؟ الإجابة المباشرة هي: لا يمكن لأحدٍ أن يعرف في الوقت الراهن. فعلى الرغم من كل ما قيل، لم تُجْرَ أي تجربة على الإطلاق على الأطفال العاديين.

ولكن الصحف تجعلك تعتقد غير ذلك. عرفتُ أول ما عرفتُ ﺑ «تجارب دورهام» عندما شاهدت في نشرة الأخبار أن ثمة تجربةً مُزْمَعًا إجراؤها على ٥٠٠٠ طفل باستخدام كبسولات زيت السمك. هذه شهادة مدهشة في حق القِيَم الإخبارية لوسائل الإعلام البريطانية، كون هذا الخبر عن هذه التجربة يظل على الأرجح — وأنا في غاية الاستعداد لأن أشير إلى ذلك — أكثر التجارب الإكلينيكية التي سُرِدَت بشكل جيد خلال السنوات القليلة الماضية. فقد أُذيعت التجربة في «القناة الرابعة» و«آي تي في»، وفي جميع الصحف القومية، وفي بعض الأحيان أكثر من مرة. وجرى التنبؤ بثقةٍ بنتائج مبهرة.

دقَّت هذه التجربة نواقيس الخطر لسببين؛ الأول هو أنني كنت أعلم نتائج التجارب السابقة باستخدام كبسولات زيت السمك على الأطفال — سأشير إلى ذلك في حينه — ولم تكن مثيرةً لهذه الدرجة. السبب الثاني هو أنه كقاعدة أساسية، متى أَخْبَرَك أحدهم أن التجربة التي يجريها ستُفضِي إلى نتائج إيجابية قبل أن يبدأ فيها، فاعلم إذن أنك في طريقك إلى قصة شائقة.

إليك ما كانوا يخطِّطون للقيام به في «التجربة»: الاستعانة ﺑ ٥٠٠٠ طفل في الصف الثانوي، وإعطاؤهم جميعًا ستَّ كبسولات زيت سمك يوميًّا، ثم مقارنة أدائهم في اختباراتهم مع مستوى الأداء الذي قدَّره لهم المجلس دون تناول الكبسولات. لم يكن ثمة مجموعة «ضابطة» للمقارنة بها (مثل حمام أكوا ديتوكس بلا أقدام فيه، أو شمع الأذن على مائدة الرحلات، أو مجموعة أطفال يتناولون كبسولات علاج وهمي بلا زيت سمك فيها). لا شيء.

ربما لا تحتاج مني الآن أن أخبرك أن هذه الطريقة مستحيلة، وفوق كل شيء تتَّسم بالإهدار؛ حيث تمضي في إجراء دراسةٍ على قرصٍ من المفترض أنه يحسِّن الأداء الدراسي، من خلال استخدام كبسولات تقدَّر قيمتها بمليون جنيه استرليني جرى التبرع بها، فضلًا عن ٥٠٠٠ طفل رَهْن التجربة. لكن أرجوك أن تُجَاري رجلًا عجوزًا، وتدعني أُثري تخميناتك بالتفاصيل؛ لأننا إذا غطَّينا الموضوعات النظرية كما يجب أولًا، فسيصبح «الباحثون» في دورهام أكثر عَبَثِيةً بشكلٍ مُسَلٍّ.

(٢) سبب وجود مجموعة تتلقَّى علاجًا وهميًّا

إذا قسَّمتَ مجموعةً من الأطفال إلى نصفَيْن، وأعطيتَ كبسولة علاج وهمي إلى إحدى المجموعتين، والكبسولة الحقيقية للمجموعة الأخرى، يمكنك إذن مقارنة مدى جودة أداء أفراد كل مجموعة، والحكم على كون المكوِّنات في القرص هي التي صنعت الفارق في الأداء، أم أن مجرد تناول القرص والمشاركة في تجربة هو الذي أثَّر في الأداء. لماذا يُعتبر هذا مهمًّا؟ لأن عليكَ أن تتذكَّر أنه بغض النظر عما تفعل للأطفال، في تجربة على قرص يحسِّن أداءهم، سيتحسَّن أداؤهم لا شك.

أولًا: تتحسَّن مهارات الأطفال بمرور الوقت على أي حال؛ فهم يَنْمُون، ويمر الوقت، ويصبحون أفضل في أداء الأعمال. ربما تظن أنك حاذق، وأنت جالس تقرأ هذا الكتاب، لكن الأمور لم تكن تمضي على هذا النحو دومًا، مثلما قد تخبرك أمك.

ثانيًا: يعرف الأطفال — وآباؤهم — أنهم يتلقَّوْن هذه الأقراص لتحسين أدائهم؛ لذا سيكونون عُرضةً لأثر العلاج الوهمي. كنتُ قد استفضْتُ في الحديث عن ذلك بإسهاب استثنائي؛ لأنني أعتقد أن القصة العلمية الحقيقية للعلاقات بين الجسد والعقل شائقة إلى أبعد الحدود من أي شيء يجري اختلاقه من خلال مجتمع العلاج الإعجازي، لكن يكفي هنا التذكير بأن أثر العلاج الوهمي في غاية القوة؛ فسيتوقع الأطفال — عن وعي أو غير وعي — أن يتحسَّنوا، وهكذا سيتوقَّع آباؤهم ومُدَرِّسوهم. فالأطفال حسَّاسون بدرجة مدهشة تجاه توقُّعاتنا منهم، وأي شخص يشك في تلك الحقيقة يجب إلغاء أُبُوَّته.

ثالثًا: سيُبْلِي الأطفال بلاءً أفضل فقط من خلال وجودهم في مجموعة خاصة تجري دراستها، وملاحظتها، والعناية بها؛ حيث يبدو أن مجرد حقيقة أن «يكون المرء محلَّ تجربة» يُحَسِّن من الأداء، أو الشفاء من المرض. ويُطلَق على هذه الظاهرة «تأثير هاوثورن»، ليس على اسم شخص، ولكن على اسم المصنع الذي لوحِظ هذا التأثير فيه لأول مرة. في عام ١٩٢٣، كان توماس أديسون (نعم، مخترع المصباح الكهربي) يرأس «لجنة علاقةِ جودةِ وكميةِ الإضاءةِ بالفاعلية في الصناعات». كانت تقارير متنوعة من شركات عديدة قد أشارت إلى أن الإضاءة الأفضل ربما تزيد الإنتاجية؛ لذا مضى باحثٌ يُدعى دمينج مع فريقه لاختبار النظرية في مصنع هاوثورن التابع لشركة ويسترن إلكتريك في شيشرون، بولاية إلينوي.

سأقدِّم لك النسخة «الخرافية» المبسَّطة للنتائج، كنوع من الحل الوسطي النادر بين التحذلق والبساطة. عندما زاد الباحثون من مستويات الإضاءة، وجدوا أن الأداء قد تحسَّن. لكنهم عندما خفَّضوا من مستويات الإضاءة، تحسَّن الإنتاج أيضًا. في حقيقة الأمر، لقد وجدوا أن الإنتاجية كانت تزيد على أي حال. وكانت هذه النتيجة مهمة جدًّا؛ فعندما تقول للعمال إنهم جزءٌ من دراسة خاصة لاكتشاف ما قد يؤدي إلى تحسين الإنتاجية، ثم تفعل شيئًا … فإنهم يحسِّنون من إنتاجيتهم؛ ممَّا يُعَدُّ نوعًا من تأثير العلاج الوهمي؛ لأن العلاج الوهمي لا يتعلَّق بآليات عمل قرص سكري، بل بالمعنى الثقافي لتدخُّلٍ ما، وهو ما يشمل، بين أشياء أخرى، توقعاتك، وتوقعات الأشخاص الذين يُشرِفون على ما تقوم به ويقيسون أداءك.

بالإضافة إلى كل هذه الأمور التقنية، يجب أيضًا أن نضع نتائج أطفال المرحلة الثانوية — النتيجة التي قِيست في هذه «التجربة» — في سياقها الصحيح. تمتلك دورهام سجلَّ اختبارات في غاية السوء؛ لذا ستقاتل لَجْنَتها بضراوةٍ بكل طريقة ممكنة لتحسين الأداء في المدارس، باستخدام جميع أنواع المبادرات والجهود الخاصة المختلفة، ومن خلال التمويل الإضافي، بالتوازي مع إجراء «تجارب» زيت السمك.

يجب أن نتذكَّر أيضًا ذلك الطقس الإنجليزي الغريب الذي من خلاله تتحسَّن نتائج المرحلة الثانوية سنويًّا، وعلى الرغم من ذلك فإن أيَّ شخص يشير إلى أن الاختبارات تصبح أكثر سهولة يتعرَّض للنقد؛ لتقويضه إنجاز الطلاب الناجحين. في حقيقة الأمر، بالنظر لما وراء الموقف الحالي، سيبدو هذا التزايد في سهولة الاختبارات واضحًا؛ فهناك أوراق اختبار في المستوى العادي مضى عليها أربعون عامًا أكثر صعوبة من اختبارات المستوى المتقدِّم الحالية، وهناك اختبارات جامعية نهائية في الرياضيات حاليًّا أسهل من اختبارات المستوى المتقدِّم الثانوية القديمة.

الخلاصة: ستتحسَّن نتائج الشهادة الثانوية على أي حال؛ وستحاول دورهام بكل ما أوتيت من قدرات وإمكانات أن تحسِّن من نتائج الشهادة الثانوية فيها من خلال وسائل أخرى على أي حال، وستتحسَّن نتيجة أي طفل في الشهادة الثانوية يتناول أقراصًا، وهو ما يرجع إلى تأثير العلاج الوهمي وتأثير هاوثورن.

كان يمكن تفادي هذا كله من خلال تقسيم المجموعة إلى نصفَيْن، وإعطاء علاج وهمي لمجموعة واحدة، والفصل بين الأثر المحدَّد لأقراص زيت السمك، والأثر العام لجميع الأشياء التي أشرنا إليها أعلاه. سيُفضي هذا الإجراء إلى معلومات مفيدة جدًّا.

هل من المقبول بأي حال من الأحوال إجراءُ التجربة التي أُجريت في دورهام؟ نعم. يمكن إجراء ما يُطلَق عليه «تجربة مفتوحة» دون مجموعة تتناول علاجًا وهميًّا، وهو ما يُعدُّ نوعًا مقبولًا من البحوث. في حقيقة الأمر، ثمة درسٌ مهمٌّ متعلِّق بالعلم هنا. يمكن إجراء تجربة أقل تدقيقًا، لأسباب عملية، ما دام الباحث يعرف ماذا يفعل عندما يقدِّم دراسته، حتى يستطيع الآخرون أن يقرِّروا كيف يفسرون نتائج التجربة.

لكنْ ثمة تحذيرٌ مهمٌّ. إذا أجرى الباحث هذا النوع من دراسات «الحل الوسط»، في ظل عدم وجود مجموعة تتناول العلاج الوهمي، أو «دراسة مفتوحة التسمية»، آملًا في الحصول على أدق صورة ممكنة لفوائد العلاج، فإذن يجب إجراء تجارب كهذه بأكبر قدرٍ ممكن من الحرص، مع ضرورة الوعي التام بأن النتائج قد تنحرف جرَّاء التوقعات، من خلال تأثير العلاج الوهمي، ومن خلال تأثير هاوثورن، إلخ. يمكنك أن تُشرِك أبناءك في الدراسة في هدوء وحذر، قائلًا بطريقة عَرَضية عَفْوِيَّة إنك تُجري دراسةً صغيرة غير رسمية على بعض الأقراص، دون أن تكشف عما تتوقع من التجربة، وتُناوِلهم العلاج دون تنبيه، ثم تقيس النتائج في النهاية بهدوء.

كان ما جرى في دورهام هو العكس تمامًا. فكان ثمَّة طاقم تصوير، وفَنِّيُّو صوت وإضاءة تَعِجُّ بهم قاعات الدرس. وأُجريت مقابلات مع الأطفال في الإذاعة، وفي التليفزيون، وفي الصحف، وأيضًا مع آبائهم، ومُدَرِّسيهم، كما أُجرِيت مقابلة مع مادلين بورتوود، مُختَصة علم النفس التربوي التي كانت تُجري التجربة، وديف فورد، رئيس قطاع التعليم؛ حيث تحدَّثا في ثقةٍ — على نحوٍ غريب — عن مدى توقعهما إحرازَ نتائج إيجابية. لقد قاموا حرفيًّا بكل شيء كان من شأنه — من وجهة نظري — أن يضمن تحقُّق نتائج إيجابية غير حقيقية، ويفسد أي فرصة لأنْ تفضي الدراسة إلى أيِّ معلومات جديدة مفيدة وذات مغزًى. كم مرة يتكرَّر هذا؟ في عالم حركة التغذية — للأسف — يبدو أن هذا بروتوكول بحثيٌّ نمطيٌّ.

يجب أن نتذكَّر أيضًا أن «تجارب» زيت السمك هذه كانت تقيس بعض النتائج التي تتَّسم بالتقلُّب الشديد. يُعتبر الأداء الدراسي في أحد الاختبارات، و«السلوك» (وهي كلمة ذات أثر دلالي هائل، لم أرَ مثله في كلمة أخرى على الإطلاق) أشياء ضخمة، ومتغيرة، ومتحولة. فخلافًا لأكثر نتائج التجارب، سوف يتغيَّر الأداء والسلوك من لحظة إلى أخرى، في ظل ظروف، ونماذج عقلية، وتوقعات مختلفة. فالسلوك ليس كمستوى الهيموجلوبين في الدم، أو حتى الطول، ولا الذكاء أيضًا.

كان مجلس دورهام وشركة إكوازن في منتهى النجاح في حملاتهما الإعلامية، سواء من خلال شغف لا سبيل لاحتوائه حيال تحقيق نتيجة إيجابية أو حماقة صِرْفة (لا أعلم حقيقة أيٍّ منهما)، حتى إنهما أفسدا «تجربتهما» بشكل فعلي. فقبل ابتلاع كبسولة زيت السمك الأولى من قِبَل أيِّ طفل، كان المكمِّل «آي كيو» المعروف والتجربة كلاهما قد حظيا بدعاية واسعة في الصحف المحلية، وفي «ذا جارديان»، و«ذي أوبزرفر»، و«ديلي ميل»، و«ذا تايمز»، و«القناة الرابعة»، و«بي بي سي»، و«آي تي في»، و«ديلي إكسبريس»، و«ديلي ميرور»، و«ذا صن»، و«جي إم تي في»، ومجلة «ومانز أون»، والكثير من وسائل الإعلام الأخرى. لم يستطع أحدٌ الادِّعاء أن أطفالهم لم يتلقَّوْا معرفةً مسبقة جيدة.١

لستَ مُختَصًّا في مجال علم النفس التربوي، ولستَ رئيس قطاع التعليم في أحد المجالس، ولستَ المدير العام لإحدى شركات صناعة الأقراص العريقة في السوق التي بلغ حجم أعمالها ملايين الجنيهات الاسترلينية، والتي تُجري عددًا هائلًا من «التجارب». لكنني متأكدٌ تمامًا من أنك تتفهَّم تمامًا جميع هذه الانتقادات والمخاوف؛ لأن هذا في نهاية المطاف ليس علم صواريخ.

(٣) دورهام تدافع عن نفسها

باعتباري شخصًا على قدرٍ من البراءة والتفتُّح، ذهبتُ إلى الأشخاص القائمين على التجربة، وأوضحت لهم أنهم قاموا بالأشياء التي من شأنها ضمان أن تُسفِر تجربتهم عن نتائج لا قيمة لها. فهذا هو ما كان سيفعله أي شخص في سياق أكاديمي، ولم تكن هذه إلا تجربة على أي حال. كان ردُّهم بسيطًا؛ فقد قال ديف فورد، كبير مفتشي المدارس في دورهام، والعقل المدبِّر وراء المشروع لتوزيع الكبسولات وقياس النتائج: «لقد كنا في غاية الوضوح، هذه ليست تجربة.»

بدا هذا ردًّا فاترًا بعض الشيء. أُهاتفهم للإشارة إلى أنهم يُجرون بحثًا مصمَّمًا بطريقة في غاية السوء، وفجأة يصير كل شيء على ما يرام؛ لأن هذه لم تكن، في حقيقة الأمر، «تجربةً». كانت ثمة أسباب أخرى للاعتقاد بأن هذا لم يكن دفاعًا منطقيًّا على الإطلاق؛ فقد أطلقتْ عليها رابطة الصحافة تجربة. وأطلقت عليها صحيفة «ديلي ميل» تجربة. وقدمتها «القناة الرابعة»، و«آي تي في»، وكلُّ مَن كان يُغَطِّي أخبارها، على نحوٍ في غاية الوضوح، باعتبارها بحثًا (يمكنك مشاهدة مقاطع الفيديو على موقع www.badscience.net). الأكثر أهمية، أن البيان الصحفي لمجلس دورهام قد أطلق عليها «دراسة» و«تجربة»، مرارًا وتكرارًا.٢ لقد كانوا يعطون أطفال المدارس شيئًا ويقيسون النتائج. وكان المصطلح الذي استخدموه في الإشارة إلى ذلك «تجربة». وها هم الآن يقولون إنها لم تكن تجربة.

انتقلْتُ إلى إكوازن، الشركة المصنِّعة التي لا يزال يُكال لها الثناءُ في جميع الصحف لاشتراكها في هذه «التجارب» التي كادت تضمن — من خلال أوجه القصور المنهجية التي ناقشناها توًّا — تحقيق نتائج إيجابية زائفة. وقد أوضح آدم كليهر، الرئيس التنفيذي للشركة، هذا بصورة أكبر: كانت هذه «مبادرة». لم تكن «تجربة»، ولم تكن «دراسة»؛ لذا لا أستطيع أن أنقدها باعتبارها كذلك، على الرغم من صعوبة تجاهل حقيقة أن البيان الصحفي لإكوازن كان يتحدث عن تناول كبسولات وقياس النتائج، والكلمة التي استخدَمَتْها الشركة نفسها للإشارة إلى هذا النشاط كانت: «تجربة».

كذلك أطلقت عليها د. مادلين بورتوود، مختصة علم النفس التربوي التي كانت تقود الدراسة: «تجربة» (مرتين في «ديلي ميل»). وكل مادة منشورة كانت تصفها بأنها بحث. فقد كانوا يعطون المشاركين «س» ويقيسون التغيير «ص». فأطلقوا عليها تجربة، وكانت تجربة، لكنها تجربة غبية. لم يدهشني القول ببساطة: «آه، لكن ليست هذه تجربة» باعتباره دفاعًا ملائمًا، أو حتى ناضجًا، فلم يَبْدُ أنهم يعتقدون أن إجراء تجربة كان أمرًا ضروريًّا حتى، كما أوضح ديف فورد أن الأدلة تُظهِر أن زيوت السمك مفيدة. لِنَرَ معًا.

(٤) الأدلة على فائدة زيت السمك

تُعدُّ زيوت أوميجا-٣ «أحماضًا دهنية أساسية»، وهي تسمَّى «أساسية» لأن الجسم لا يصنعها (على خلاف الجلوكوز أو فيتامين د، على سبيل المثال)؛ لذا على المرء تناولها. ينطبق هذا الأمر على كثير من العناصر؛ مثل الكثير من الفيتامينات، على سبيل المثال، ويُعَدُّ هذا واحدًا من الأسباب الكثيرة لضرورة اتِّباع نظام غذائي متنوِّع، فضلًا عن المتعة كسبب آخر من هذه الأسباب.

تتوافر هذه الأحماض في زيوت الأسماك، وفي زيت زهرة الربيع المسائية — في صورة مختلفة قليلًا — وزيت بذرة الكتان، ومصادر أخرى. إذا نظرتَ إلى مخططات التدفق البيانية في أحد كتب الكيمياء الحيوية الدراسية المقرَّرة، فسترى أن ثمة قائمة طويلة من الوظائف تؤديها هذه الجزيئات في الجسد؛ إذ تشارك في بناء الأغشية، وأيضًا في بناء بعض الجزيئات الأخرى التي تشارك في عملية الاتصال بين الخلايا، على سبيل المثال خلال حالات الالتهابات. لهذا السبب يعتقد بعض الأشخاص أنه قد يكون من المفيد تناولها بكميات أكبر.

أنا منفتح على الفكرة، لكن ثمة أسبابًا وجيهة للتشكك في الأمر؛ لأن ثمة تاريخًا طويلًا في هذه الحالة. ففي الماضي، قبل عقود من «تجارب» دورهام، شهد مجال بحوث الأحماض الدهنية الأساسية حالات تزييف، وسرية، ودعاوى قضائية، ونتائج سلبية تمَّ التكتم عليها، وعرض الإعلام لها على نحو كاذب على نطاق ضخم، فضلًا عن بعض الأمثلة المدهشة للغاية لأشخاص يستعينون بالإعلام لتقديم نتائج بحوث إلى العامة مباشرة، من أجل تفادي الجهات التنظيمية. وسنعود لمناقشة هذا الجانب لاحقًا.

أُجريت ست تجارب — قُمْ بإحصائها — حتى الآن على زيت الأسماك في الأطفال، علمًا بأنه لم يتم إجراء أيٍّ من هذه التجارب على أطفال «عاديين»؛ فقد أُجريت جميع التجارب على أطفال ينتمون إلى فئات خاصة ممن يعانون مرضًا أو آخر، مثل عسر القراءة، وقصور الانتباه، وفرط الحركة، إلخ. أسفرت ثلاث من تلك التجارب عن بعض النتائج الإيجابية، في بعض الأشياء الكثيرة التي قامت بقياسها (لكن تذكَّر، إذا قستَ مائة شيء في إحدى الدراسات، فسيتحسَّن بعضها مصادفة، مثلما سنرى لاحقًا)، وأسفرتْ ثلاث أخرى عن نتائج سلبية. وقد وُجد — وهو شيء يدعو للسخرية — أن المجموعة التي كانت تتناول العلاج الوهمي قد أبْلَتْ بلاءً أفضل من المجموعة التي تناولتْ زيت السمك في بعض المتغيرات التي جرى قياسها. نتائج جميع هذه التجارب جميعًا ملخَّصة على الإنترنت على موقع www.badscience.net.

وعلى الرغم من ذلك، يقول آدم كليهر، الرئيس التنفيذي لإكوازن: «جميع بحوثنا، المنشورة وغير المنشورة، تُظهِر أن تركيبة «آي كيو» تستطيع حقًّا المساهمة في دعم الأداء في الفصل الدراسي.» جميعها.

ولكي نأخذ عبارة كهذه على محمل الجد، سيتوجَّب علينا أن نقرأ البحث. لا أتَّهِم أحدًا ولو لثانية بأي احتيال بحث، وعلى أي حال، إذا ساور أحدًا الشكُّ في وجود احتيال أو تزييف، فلن تُسهِم قراءة البحث في اكتشاف ذلك؛ لأنه في حال إذا ما كان الباحثون قد زيَّفوا نتائج بحوثهم بأي قدر من الدافعية، فسيكون على المرء الاستعانة بخبير في الإحصاء في مجال الطب الشرعي، وتكريس الكثير من الوقت، والحصول على قدْرٍ كبير من المعلومات لاكتشاف التزييف. لكننا في حاجة إلى قراءة البحث المنشور بغرض إثبات ما إذا كانت النتائج التي جرى استخلاصها من قِبَل المشاركين في البحث صحيحة، أو ما إذا كان ثمة مشكلات منهجية تجعل تفسير النتائج ما هو إلا نتاج تفكير توَّاق، أو عدم كفاءة، أو ربما مجرد رأي خاص لا تتفق معه.

كان بول بروكا، على سبيل المثال، عالِم جماجم فرنسيًّا مشهورًا في القرن التاسع عشر أُطلِق اسمه على منطقة بروكا، الجزء من الفصِّ الأمامي في الدماغ المشارك في عملية توليد الكلام (وهو الجزء الذي يُصاب بعطب تام لدى كثير من ضحايا السكتة الدماغية). من بين اهتماماته الأخرى، كان بروكا يقيس حجم الأدمغة، وكان دومًا يشعر بالانزعاج الشديد من حقيقة أن الأدمغة الألمانية كانت دومًا أثقل من الأدمغة الفرنسية بمقدار مائة جرام؛ لذا قرَّر أن هناك عوامل أخرى، مثل الوزن الكلي للجسد، يجب أخذها في الاعتبار أيضًا عند قياس حجم الدماغ. وقد فسَّر هذا الإجراءُ سببَ كِبَرِ حجم الأدمغة الألمانية عن حجم الأدمغة الفرنسية على نحوٍ أشعره بالارتياح. لكن على الرغم من جهوده البارزة فيما يتعلَّق ببيان الكيفية التي تزيد بها أدمغة الرجال عن النساء، فإنه لم يَقُم بأيٍّ من التعديلات اللازمة. وسواء أكان الأمر مصادفةً أم عمدًا، كان التفسير الذي قدَّمه ضعيفًا.

أجرى شيزاري لومبروزو، أحد رواد مجال «علم الجريمة الحيوي» في القرن التاسع عشر، عددًا من التعديلات غير المتسقة على نحوٍ مشابه، مشيرًا إلى غياب الحساسية تجاه الألم بين المجرمين و«الأجناس الأقل» باعتبارها علامةً على طبيعتهم البدائية، لكنه يحدِّد الصفة نفسها باعتبارها دليلًا على الشجاعة والإقدام لدى الأوروبيين. يكمن الشيطان في التفاصيل، ولهذا السبب يقدِّم العلماء أساليب إجراء البحث والنتائج كاملة في بحوث أكاديمية، وليس في الصحف أو في البرامج التليفزيونية، ولهذا السبب لا يمكن نشر البحوث التجريبية في وسائل الإعلام التقليدية وحدها.

ربما تَشعُر، بعد هراء «التجربة»، أننا يجب أن نكون حَذِرين حيال قبول تقييم دورهام وإكوازن لبحوثهما، لكن الشكوك كانت ستساورني حيال مزاعم الكثير من الأكاديميين الجادِّين بالطريقة نفسها (وكانوا سيرحِّبون بهذه الشكوك، وسأكون قادرًا على قراءة أدلة البحوث التي اعتمدوا عليها في إجرائها). كنتُ قد طلبتُ من إكوازن تقديم دراساتهم العشرين الإيجابية، وقيل لي إن عليَّ توقيع اتفاق حفاظ على السرية للاطلاع عليها، وهو عبارة عن اتفاق للحفاظ على سرية أدلة بحثية لادِّعاءات روِّج لها على نطاق واسع، تعود إلى سنوات مضتْ، في وسائل الإعلام ومن قِبَل موظفي مجلس دورهام، حول جانب خلافي للغاية في مجال التغذية والسلوك، يحظى باهتمام بالغ من العامة، وادِّعاءات حول تجارب أُجريتْ — أستميحك عذرًا إذا كنتُ أتحدَّث بنبرة عاطفية هنا — على أطفالنا في المدارس. ولكنني رفضت.٣

في الوقت نفسه، كانت ثمة تقارير عن تجارب إيجابية على زيوت الأسماك أُجريت في دورهام، باستخدام منتجات إكوازن نُشرت في جميع الصحف والمحطات التليفزيونية؛ حيثما ولَّيت نظرك، وهي تقارير تعود إلى عام ٢٠٠٢ على الأقل. بدا كما لو كانت ثمة حفنة من هذه التجارب، في مواقع متعددة، أجراها العاملون في مجلس دورهام على أطفال المدارس الحكومية في دورهام، لكن لم يكن ثمة أيُّ علامة لأي شيء من ذلك في الأدبيات العلمية (بخلاف دراسة واحدة أجراها باحث من أكسفورد، أُجريت على أطفال كانوا يعانون من اضطراب التناسق الحركي النمائي). كانت ثمة بيانات صحفية تتسم بحماس بالغ أصدرها مجلس دورهام، تتحدَّث عن تجارب إيجابية، بالتأكيد. وكانت هناك مقابلات صحفية أجرتْها مادلين بورتوود، تحدَّثت فيها في حماس بالغ عن النتائج الإيجابية (وتحدثت أيضًا عن كيف أن زيت السمك كان يُحسِّن من مشكلات البشرة لدى الأطفال، ومشكلات أخرى)، لكن لم يكن ثمة أي دراسات منشورة.

تواصلتُ مع دورهام، وأوصلوني بمادلين بورتوود، العقل العلمي المدبِّر لهذه العملية الضخمة والمستمرة. إنها تَظهر بانتظام في التليفزيون وتتحدَّث عن زيوت الأسماك، مستخدمةً مصطلحات متخصصة بشكل غير ملائم مثل «طَرَفي» إلى جمهور غير متخصص. يقول مقدمو البرامج التليفزيونية: «يبدو الأمر معقدًا، لكن العِلم يقول …» تبدو بورتوود في غاية الحماسة بشكل جليٍّ عند الحديث إلى الآباء والصحفيين، لكنها لم تُجِبْ على مكالماتي. واستغرق المكتب الصحفي أسبوعًا كاملًا للرد على رسائلي الإلكترونية. طلبت الحصول على تفاصيل الدراسات التي أجرَوْها، أو كانوا يُجرُونها، وبدتِ الردود غير متسقة مع التغطية الإعلامية. بل بدا أن إحدى التجارب، على الأقل، غير موجودة. طلبتُ الحصول على التفاصيل المنهجية للتجارب التي كانوا يُجرُونها، ونتائج التجارب التي اكتملتْ، فقالوا ليس قبل النشر.

كانت إكوازن ومجلس دورهام قد درَّبوا ودلَّلوا عددًا ضخمًا من الصحفيين، وأشبعوهم بالمعلومات والبيانات عبر السنوات، مانحين إياهم الكثير من الوقت والجهد، وبقدْر ما أستطيع أن أرى، ثمة فرق واحد بيني وبين أولئك الصحفيين؛ ألَا وهو أنه، من خلال ما يكتبون، يبدو أنهم لا يعرفون إلا قليلًا جدًّا عن تصميم التجارب، بينما أنا أعرف — حسنًا — أكثر قليلًا (وها أنت تعرف أيضًا).

في غضون ذلك، ظلوا يحيلونني إلى موقع durhamtrials.org، كما لو كان يحتوي على بيانات مفيدة. كان من الواضح أن الموقع قد خَدَع الكثير من الصحفيين والآباء قبلي، وهو يرتبط بكثير من القصص الإخبارية وإعلانات إكوازن. لكن، كمصدر معلومات عن «التجارب»، يُعتبر هذا الموقع مثالًا نموذجيًّا لأسباب ضرورة نشر أي تجربة قبل طرح أي ادِّعاءات مبالغ فيها عن النتائج. من الصعب أن تجد شيئًا ذا أهمية على الموقع. في المرة الأخيرة التي ألقيتُ نظرةً على الموقع، كانت ثمة بعض البيانات المستعارة من تجربة حقة منشورة في موضع آخر من قِبَل بعض الباحثين من أكسفورد (تصادف أن أُجريت في دورهام)، لكن، بخلاف ذلك، لا يوجد أي أثر للتجارب التي أُجريت في دورهام باستخدام العلاج الوهمي كعنصر ضابط، والتي ظلت تظهر في الأخبار. كانت ثمة رسوم بيانية كثيرة تبدو معقدة، لكنها كانت تبدو أنها تدور حول «تجارب» دورهام الخاصة، التي أُجريت في غياب مجموعة العلاج الوهمي الضابطة. يبدو أن هذه الرسوم كانت تشير إلى التحسُّنات، مصحوبةً برسوم جرافيك تبدو عِلمية في مظهرها لتوضيحها، لكن لم تكن ثمة إحصاءات توضح ما إذا كانت التغييرات ذات دلالة إحصائيًّا أم لا.

يكاد يكون من المستحيل الإشارة إلى كمية البيانات الغائبة عن هذا الموقع، وكيف يجعل ذلك ما هو موجود على الموقع لا طائل منه. وكمثال على ذلك، ثمة «تجربة» سُردتْ نتائجها في صورة رسم بياني، لكن لا يوجد في أي مكان بالموقع على الإطلاق — قَدْر ما أرى — ذِكرٌ لعدد الأطفال الذين أُجريت عليهم الدراسة. يصعب تخيُّل معلومة أساسية أبسط من ذلك. لكن يمكنك أن تجد الكثير من الشهادات الشديدة الحماسة التي لم تكن لِتُوجَد على موقعٍ لأحد معالجي الطب البديل ممن يبيعون علاجات سحرية. يقول أحد الأطفال: «لا أحب مشاهدة التليفزيون الآن. أحب قراءة الكتب فقط. أفضل مكان في العالم بأسره هو المكتبة. أحبها جدًّا.»

كنت أشعر أن العامة يستحقون أن يعرفوا ما جرى في هذه التجارب. وربما كانت هذه التجربة هي أكثر التجارب الإكلينيكية التي نُشرت على نطاق واسع خلال الأعوام القليلة الماضية، وكانت مثار اهتمام عامٍّ كبير، وكانت التجارب تُجرى على الأطفال من قِبَل موظفين حكوميين. لذا تقدمتُ بطلبٍ بموجب قانون حرية تداول المعلومات من أجل المعلومات التي ستحتاج لمعرفتها حول إحدى التجارب: ما جرى في التجربة، هُوية الأطفال المشاركين، القياسات التي جرت، إلخ. كل شيء، في حقيقة الأمر، من الإرشادات القياسية والكاملة في المعايير الموحدة لنشر التجارب التي تصف أفضل الممارسات في كتابة نتائج التجارب العلمية. ورَفَض مجلس دورهام، متعلِّلين بالتكاليف.

لذا أقنعتُ قرَّاء العمود الصحفي بأن يطلبوا الحصول على القليل من المعلومات، حتى لا يطلب أيٌّ منَّا شيئًا مكلفًا. اتُّهمنا بإدارة «حملة كَيْدية» لإشاعة «الذعر». وشكاني رئيس المجلس إلى صحيفة «ذا جارديان». وقيل لي في نهاية المطاف إن أسئلتي يمكن الإجابة عنها إذا سافرتُ مسافة ٢٧٥ ميلًا شمالًا إلى دورهام شخصيًّا. وواصل العديد من القراء ما بدأتُه، مطالبين بالحصول على المزيد من المعلومات؛ فقيل لهم إن كثيرًا من المعلومات التي لم يُسمح لهم بالاطلاع عليها لم تكن موجودة على أي حال.

أخيرًا، في فبراير ٢٠٠٨، بعد انخفاض محبِط في معدَّل تحسُّن النتائج في صفوف الشهادة الثانوية، أعلن المجلس عدم وجود أي نية من قبلُ لقياس مستوى الأداء في الاختبارات. وأدهشني هذا. وحتى أكون في منتهى الدقة، كان ما قالوه، ردًّا على سؤال مكتوب من مدير مدرسة متقاعد ساخط، كما يلي: «مثلما قلنا سابقًا، لم يكن في نيتنا قط، ولم يقترح مجلس المقاطعة قط، أن يستخدم المجلس هذه المبادرة في استخلاص استنتاجات عن فاعلية أو عدم فاعلية استخدام زيت السمك لتعزيز نتائج الاختبارات.»

أن يقال إن هذا يتناقض مع ادِّعاءاتهم السابقة لا يُعتبر إلا تقليلًا من الأمر. في مقالة في «ديلي ميل» ترجع إلى ٥ سبتمبر ٢٠٠٦، عنوانها «إطلاق دراسة على زيت السمك لتحسين درجات الشهادة الثانوية»، قال ديف فورد، كبير مفتشي المدارس في المجلس: «سنستطيع تتبُّع تقدُّم سَيْر التلاميذ وقياس ما إذا كانت إنجازاتهم أفضل من النتائج المتوقعة لهم.» قالت د. مادلين بورتوود، مُختَصة علم النفس التربوي التي كانت تقود «التجربة»: «لقد أظهرتِ التجاربُ السابقة نتائج لافتة، وأنا واثقة من أننا سنرى فوائد ملحوظة في هذه التجربة أيضًا.»

ينص البيان الصحفي لمجلس مقاطعة دورهام منذ بداية إجراء «التجربة» على الآتي: «سيطلق كبار المسئولين التربويين في مقاطعة دورهام مبادرة فريدة للعودة إلى المدرسة اليوم، وهي مبادرة يعتقدون أنها قد تسفر عن تحقيق معدلات قياسية في النجاح في شهادات التعليم الثانوي في الصيف القادم.» يشير البيان الصحفي إلى أن الأطفال يُعطَوْن أقراصًا «للنظر فيما إذا كانت الفوائد المثبتة التي حقَّقتْها للأطفال والشباب في تجارب سابقة يمكن أن تُحسِّن من الأداء في الاختبارات أيضًا.» كبير مفتشي المدارس في المجلس «مقتنع» بأن هذه الأقراص «يمكن أن تؤثر تأثيرًا مباشرًا على نتائجهم في الشهادة الثانوية … وسوف تستمر التجربة على مستوى المقاطعة حتى يُكمِل التلاميذ اختباراتهم في الشهادة الثانوية في يونيو المقبل، والاختبار الأول لفاعلية المكمِّل سيجري عندما يؤدُّون الاختبارات التجريبية في ديسمبر الحالي.» ويقول ديف فورد في البيان الصحفي حول التجربة التي لم تكن تجربة — مثلما يُقال لنا الآن — ولم يكن مقصودًا منها على الإطلاق جمع بيانات حول نتائج الاختبارات: «نستطيع تتبُّع تقدُّم التلاميذ، ونستطيع قياس ما إذا كانت نتائجهم أفضل من النتائج المتوقعة.» وقد لاحظتُ أيضًا في شيءٍ من الدهشة أنهم عدَّلوا البيان الصحفي الأصلي على موقع دورهام، وحذفوا كلمة «تجربة».

لماذا يُعدُّ كلُّ هذا مهمًّا؟ حسنًا، أولًا، مثلما قلت، كانت هذه التجربة أكثر التجارب التي كُتِب عنها في ذلك العام، وحقيقةُ أنها كانت مثالًا في منتهى الحماقة تجعلها تقوِّض فَهْم العامة لجوهر طبيعة الأدلة والبحوث. فعندما يدرك الناس أن فهمهم قد تعرَّض للخلل عن عمد، فإن مثل هذه التجارب تقوِّض إيمان العامة بالبحوث، وهو ما لا يؤدي إلَّا إلى تقويض الرغبة في المشاركة في البحوث، بالطبع، مع ملاحظة أن ضم المشاركين في التجارب أمرٌ صعب بما يكفي في أفضل الأحوال.

الأكثر من هذا أن هناك أيضًا بعض القضايا الأخلاقية شديدة الأهمية في هذا السياق؛ فالناس يتبرَّعون بأجسادهم — وأجساد أطفالهم — للمشاركة في التجارب، بناءً على معرفتهم بأن النتائج ستُستخدم في تحسين المعرفة الطبية والعلمية، ويتوقعون أن البحوث التي تُجرى عليهم ستُجرى على نحو مناسب، وستكون مفيدة بشكل متعمَّد، وأن النتائج ستُنشر كاملة، حتى يراها الجميع.

رأيتُ كُتيِّبات معلومات الآباء التي كانت تُوزَّع للتعريف بمشروع دورهام، ولم أجد بها أيَّ غموض على الإطلاق في الترويج للمشروع باعتباره مشروعًا بحثيًّا علميًّا. تُستخدم كلمة «دراسة» سبع عشرة مرة في واحد من هذه الكتيبات، على الرغم من أن ثمة فرصة قليلة أن تُسفر «الدراسة» (أو «التجربة»، أو «المبادرة») عن أي بيانات مفيدة، للأسباب التي عرضناها، وعلى أي حال أُعلن عن أن أثر التجربة على نتائج الشهادة الثانوية لن يُنشر.

لهذه الأسباب كانت التجربة — في رأيي — غير أخلاقية.٤ سيكون لديك رأيك الخاص، لكن يصعب جدًّا فهم أي تبرير يمكن تقديمه لحجب نتائج هذه «التجربة»؛ إذ إنها انتهت. يجب السماح للتربويين، والباحثين الأكاديميين، والمدرسين، والآباء، والعامة، بالاطلاع على أساليب إجراء التجربة والنتائج، واستخلاص نتائجهم الخاصة حول أهميتها، مهما كان ضعف تصميمها. في حقيقة الأمر، هذا هو الموقف نفسه كما في حالة البيانات حول فاعلية مضادات الاكتئاب التي حُجِبت من قِبَل شركات الأدوية، ويُعَدُّ مثالًا آخر يوضح أوجه الشبه بين صناعات الأقراص هذه، على الرغم من جهود صناعة الأقراص المكمِّلة الغذائية الحثيثة في تقديم نفسها باعتبارها «بديلًا» بشكل ما.

(٥) القوة في القرص؟

يجب أن أوضِّح بجلاءٍ أنني — ولي الحق تمامًا في أن أقول هذا — لستُ شغوفًا تمامًا بما إذا كانت كبسولات زيت السمك تحسِّن نتيجة اختبارات ذكاء الأطفال أم لا، وأقول هذا لعددٍ من الأسباب. بادئ ذي بدء، أنا لست صحفيًّا متخصصًا في شئون المستهلك، أو خبيرًا في أساليب الحياة، وعلى الرغم من العوائد المالية المجزية بلا حدود، لا يعنيني على الإطلاق أن «أُسدِي نصائح صحية إلى القرَّاء» (حتى أكون أمينًا، أفضِّل أن تضع العناكب بيضًا على بشرتي على أن أفعل ذلك). لكن أيضًا، إذا فكرت في الأمر بطريقة عقلانية، فربما لن تكون أي فائدة يجلبها زيت السمك للأداء في المدرسة على هذا القدْر من الأهمية المبالغ فيها. فلا يوجد لدينا وباءٌ يتعلَّق بالأشخاص النباتيين البُدَناء، على سبيل المثال، بالإضافة إلى أن البشر قد أظهروا قُدْرة على التنوع قدْر تنوع عاداتهم الغذائية، من ألاسكا إلى صحراء سيناء.

لكن أكثر من أي شيء آخر، مخاطرًا بأن أبدو كأكثر شخص مملٍّ تعرفه، أكرِّر مرة أخرى: لن أبدأ بالحديث عن الجزيئات، أو الأقراص، باعتبارها حلًّا لمثل هذه الأنواع من المشكلات. لا أستطيع أن أمنع نفسي من ملاحظة أن الكبسولات التي تروِّج دورهام لها تتكلَّف ٨٠ جنيهًا استرلينيًّا لكل طفل، بينما تنفق فقط ما لا يزيد عن ٦٥ جنيهًا استرلينيًّا لكل طفل يوميًّا في الوجبات المدرسية. إذن يمكن الابتداء من هنا. أو ربما يمكن الحد من الحملات الإعلانية للوجبات السريعة الموجَّهة للأطفال، مثلما فعلتِ الحكومة مؤخرًا. ربما تناقش التثقيف والتوعية حول الغذاء والعادات الغذائية، مثلما فعل جيمي أوليفر مؤخرًا على نحوٍ طيب جدًّا، دون اللجوء إلى أساليب العلم الزائف المراوِغة أو الأقراص السحرية.

ربما حتى تتنحَّى جانبًا عن التهوُّس بموضوع الغذاء — لمرة واحدة فقط — وتُلقي نظرة على مهارات التربية، أو توظيف المدرسين واستبقائهم، أو الإقصاء الاجتماعي، أو حجم الفصل الدراسي، أو عدم المساواة الاجتماعية، والفجوة في الدخْل الآخذة في التزايد، أو برامج التربية، مثلما قلنا في البداية. لكن وسائل الإعلام لا تريد قصصًا كهذه. يبدو العنوان «قرص يحل المشكلات الاجتماعية المعقدة» أقرب إلى قصة إخبارية من أي شيء يتضمَّن برنامج تربية مملًّا.

يرجع هذا جزئيًّا إلى شعور الصحفيين بقيمة الأخبار، لكن الأمر يتعلق أيضًا بكيفية الدفع بالأخبار إلى الصدارة. لم ألتقِ هاتشنز «وآخرين»، مؤلفي دراسة التربية التي بدأ هذا الفصل بها — أنا على أتم استعداد أن يُقال لي إنهم يسهرون في سوهو هاوس حتى الثانية صباحًا كل ليلة، يتبادلون أحاديث النميمة مع صحفيي وسائل الإعلام المرئية والمسموعة أثناء تناولهم الشامبانيا والطعام — لكن في واقع الأمر أشك في أنهم أكاديميون متواضعون هادئون. تمتلك الشركات الخاصة، في الوقت نفسه، قوة علاقات عامة ذات ميزانيات هائلة، وموضوعًا واحدًا تروِّج له، ووقتًا لترسيخ العلاقات مع الصحفيين المهتمِّين، وفهْمًا ماكِرًا لرغبات العامة والإعلام، وآمالنا الجمعية، وأحلام المستهلكين.

ليست قصة زيت السمك قصة فريدة بأي حال من الأحوال؛ فبصورة متكررة، وفي سباقٍ لبيع الأقراص، يبيع الأشخاص إطارًا تفسيريًّا أوسع، ومثلما أشار جورج أورويل لأول مرة، تكمن عبقرية الإعلان الحقيقية في بيع الحل «إضافة إلى» المشكلة في آنٍ واحد. فعملت شركات الدواء بجد، من خلال حملاتها الإعلانية الموجهة مباشرة نحو المستهلك وما تمارسه من ضغط، للدفع ﺑ «فرضية السيروتونين» لعلاج الاكتئاب، على الرغم من أن الأدلة العلمية على هذه النظرية لا تزال تتضاءل أكثر فأكثر سنويًّا، وتروِّج صناعة المكملات الغذائية، لسوقها الخاصة، لأوجه القصور في العادات الغذائية باعتبارها سببًا قابلًا للعلاج للمزاج السيئ (عن نفسي ليس لديَّ علاج إعجازي لتقديمه، ومرة بعد مرة أكرِّر، أعتقد أن الأسباب الاجتماعية لهذه المشكلات تعتبر أكثر تشويقًا، وربما أكثر قابلية للتدخل).

كانت قصص زيت السمك هذه مثالًا كلاسيكيًّا لظاهرة يُشار إليها على نحو واسع بظاهرة «التطبيب»؛ أي بسط نطاق اختصاص الطب الحيوي إلى مجالات ربما لا يكون مفيدًا أو ضروريًّا الاستعانة فيها بمجال الطب الحيوي. في الماضي، كان الأمر يُصوَّر باعتباره شيئًا يفرضه الأطباء على عالَم سلبي لا تراوده أي شكوك، باعتباره توسعًا في الإمبراطورية الطبية، لكن في واقع الأمر يبدو أن قصص الطب الحيوي الاختزالية هذه تروق لنا جميعًا؛ نظرًا لأن المشكلات المعقدة غالبًا ما تنطوي على أسباب في غاية التعقيد، وربما تكون الحلول شاقة وغير مُرضية.

في أكثر صورها عدوانية، وُصِفت هذه العملية باعتبارها «اتجارًا بالمرض». ويمكن العثور على هذه العملية في عالَم العلاجات الوهمية — ويُعَدُّ الوعي بمثل هذه العلاجات مثل إزالة الغشاوة عن العينين — لكن في شركات الدواء الكبرى تمضي القصة على النحو الآتي: جرى حصد الثمار الدانية للأبحاث الطبية كلها، وسرعان ما استنفدت الصناعة بأسرها الكيانات الجزيئية الجديدة. كان عدد الأبحاث الجديدة خمسين بحثًا سنويًّا خلال تسعينيات القرن العشرين، لكن انخفض هذا الرقم حاليًّا ليبلغ عشرين بحثًا سنويًّا، وكثير من هذه الأبحاث ليس إلا نسخًا. إن صناعة الدواء تمر بأزمة.

ولأنها لا تجد «علاجات جديدة» للأمراض التي نعاني منها بالفعل، تخترع شركات صناعة الأقراص بدلًا من ذلك «أمراضًا جديدة» للعلاجات التي تتوافر لديها بالفعل. وتشمل الأمراض المفضلة الحديثة اضطراب القلق الاجتماعي (استخدام جديد لأدوية «إس إس آر إي»)، اضطراب الوظيفة الجنسية لدى الإناث (استخدام جديد لعقار الفياجرا لدى النساء)، متلازمة تناول الطعام ليلًا (أدوية «إس إس آر إي» مرة أخرى)، إلخ؛ مشكلات بالمعنى الحقيقي، لكنها ربما ليست بالضرورة مشكلات تُحَلُّ عن طريق الأقراص، وربما لا يمكن تصوُّرها على النحو الأفضل في إطار مصطلحات الطب الحيوي الاختزالية. في حقيقة الأمر، يعتبر النظر إلى إعادة تأطير الذكاء، وفقدان الرغبة الجنسية، والخجل والإرهاق، باعتبارها مشكلات أقراص طبية، جهلًا مُطبِقًا، واستغلالًا، وسلبًا صريحًا للتمكين.

ربما تدعم هذه الآليات الطبية الحيوية البدائية فوائد العلاج الوهمي المستمدة من تناول الأقراص، لكنها أيضًا مُغرية نظرًا لما تستبعده. ففي التغطية الإعلامية حول إعادة تسويق الفياجرا كعلاج للنساء في أوائل العقد الأول من الألفية الجديدة، واختراع مرض اضطراب الوظيفة الجنسية لدى الإناث الجديد، على سبيل المثال، لم تكن الأقراص وحدها هي التي بِيعت، بل التفسير أيضًا.

تعرض المجلات الفاخرة قصصًا عن أزواج يمرون بمشكلات في علاقاتهم، ذهبوا إلى الممارس العام ولم يفهم مشكلتهم (لأن هذه هي الفقرة الأولى في أي قصة طبية في وسائل الإعلام)، ثم ذهبوا إلى المتخصص، لكنه لم يساعدهم أيضًا، ثم ذهبوا إلى عيادة خاصة، وأجرَوا اختبارات دم، وفحوصات على مستويات الإفرازات الهرمونية، وتشخيصات غامضة بالأشعة لمستوى تدفق الدم في البظر، وفهموا: كان الحل متمثلًا في قرص، لكن لم يكن ذلك إلا نصفَ القصة فقط. لقد كانت مشكلة آلية. لم يكن ثمة ذِكْرٌ إلا نادرًا لأيٍّ من العوامل الأخرى، من أنها كانت تشعر بالإرهاق جراء كثرة العمل، أو أنه كان مُرهَقًا من كونه أبًا جديدًا، ومواجهته صعوبة في التوافق مع حقيقة أن زوجته قد صارت الآن أمَّ أطفاله، ولم تَعُد المرأةَ المشاكسة التي احتضنها وقبَّلها لأول مرة على أرضية مبنى اتحاد الطلاب على صوت أغنية «ألا ترغب بي يا حبيبي؟» لفريق هيومان ليج في عام ١٩٨٣. لا؛ لأننا لا نريد أن نتحدث عن هذه الموضوعات، مثلما لا نريد أن نتحدث عن عدم المساواة الاجتماعية، أو تفكُّك المجتمعات المحلية، أو التفكك الأسري، أو أثر عدم اليقين الوظيفي، أو التوقعات المتغيرة والأفكار الفردانية، أو أيٍّ من العوامل الصعبة المعقدة الأخرى التي تلعب دورًا في التنامي الظاهر للسلوك المعادي للمجتمع في المدارس.

لكن فوق هذا كله يجب أن نُثنِي على عبقرية مشروع زيت السمك الضخم هذا، وكل مُختَص تغذية قدَّم أقراصه في وسائل الإعلام، وفي المدارس؛ نظرًا لأن القائمين على المشروع، أكثر من أي سبب آخر، روَّجوا للأطفال، خلال أكثر أوقات حياتهم التي تتولَّد فيها الانطباعات، رسالةً في غاية الإقناع والجاذبية؛ ألَا وهي أنك بحاجة لتناول أقراص لممارسة حياة صحية عادية، وأن العادات الغذائية وأساليب الحياة المتوازنة لا تكفي في حدِّ ذاتها، وأن قرصًا واحدًا يمكنه أن يعوِّض أي وجه من أوجه القصور في أي جانب آخر. ودفعوا برسالتهم تلك مباشرةً إلى المدراس، والعائلات، وإلى عقول آبائهم القَلِقين، ونيتهم تتمثَّل في أن على كل طفل أن يفهم أنه بحاجة إلى تناول عدة كبسولات ملوَّنة كبيرة باهظة الثمن، مع ضرورة تناول ستٍّ منها على ثلاث جرعات يوميًّا، وهو ما سيُحسِّن سِماتٍ حيوية لكنها غير ملموسة، كالتركيز، والسلوك، والذكاء.

هذه هي الفائدة العظمى في صناعة الأقراص، من كل الجوانب. كنت سأفضِّل أقراص زيت السمك على الريتالين، لكن أقراص زيت السمك تُسوَّق لكل طفل في البلاد، ولا شك في أنها فازت في السباق. يخبرني الأصدقاء أن في بعض المدارس يُعتبر من قبيل إهمال الطفل ألَّا يشتري هذه الكبسولات، وأن أثرها على هذا الجيل من أطفال المدارس، الذين نشَئُوا على الأقراص، سيستمر في الإتيان بثمار طيبة غنية لجميع الصناعات، بعد وقت طويل من نسيان كبسولات زيت السمك.

(٦) التهدئة: عقدة صناعة الدواء

تُعتبر صناعة التغطية الإخبارية كوسيلة لزيادة الوعي بإحدى العلامات التجارية طريقًا معروفًا (وهو طريق يكمن أيضًا وراء تلك القصص الفارغة من المحتوى من قبيل «وجد العلماء المعادلة لحل …» التي سنراها في فصل لاحق). بل إن شركات العلاقات العامة تحسب شيئًا يُسمَّى «مكافِئات الإعلان» الخاصة بفترة الانتشار المجانية التي تحصل عليها العلامة التجارية، وخلال تلك الفترة التي يصدر فيها المزيد من الأخبار على يد أعداد أقلَّ من الصحفيين، يكون أمرًا حتميًّا أن يرحِّب الصحفيون بالحصول على هذه النسخ الفاخرة الملوَّنة بمثل هذه الطرق المختصرة. كذلك تحمل الأخبار والقصص البارزة المطوَّلة حول أحد المنتجات ثقلًا أكبر في الخيال العام أكثر من إعلان مدفوع، وتحظى على الأرجح بنسبة قراءة أو مشاهدة أكثر.

لكن ثمة فائدة أخرى أقلَّ وضوحًا من التغطية الصحفية لمنتَج طبي غير حقيقي؛ فبينما تخضع الادِّعاءات التي يمكن تقديمها في الإعلانات وعلى عبوات المكمِّلات الغذائية و«المنتجات شبه الطبية» للوائح تنظيمية محكمة، لا يوجد مثل هذه اللوائح التي تغطي الادِّعاءات التي يقدمها الصحفيون.

يعتبر هذا التقسيم البارع للعمل أحد أكثر السمات تشويقًا في مجال العلاج البديل. فكِّر للحظة في جميع الأشياء التي كنت تعتقد أنها صحيحة، أو على الأقل سمعتَ بمزاعم منتظمة حيالها، عن المكمِّلات الغذائية المختلفة: الجلوكوزامين يمكن أن يعالج التهاب المفاصل؛ مضادات الأكسدة تقي من السرطان وأمراض القلب؛ زيوت السمك أوميجا-٣ تحسِّن من الذكاء. هذه المزاعم شائعة جدًّا حاليًّا، وتمثِّل جزءًا من ثقافتنا مثلما تمثِّل «أوراقُ الحماض العلاجَ الفعال للسعات نبات القراص»، لكن لا يمكن أن نجد مزاعم كهذه إلا نادرًا، إن وجدت على الإطلاق، مكتوبة بصورة واضحة على العبوات أو في المواد الإعلانية.

بمجرد أن يدرك المرء هذا، تصبح المكمِّلات الغذائية الملوَّنة موضوعًا أكثر تشويقًا قليلًا؛ فتجد كاتب العمود المتخصص في العلاج البديل يطرح زعمًا مبالَغًا فيه وواهيًا علميًّا بشأن الجلوكوزامين، قائلًا إنه سيحسِّن من ألم مفاصل القراء، وستنشر شركة تصنيع الأقراص، في الوقت نفسه، إعلانًا في صفحة كاملة عن الجلوكوزامين، لا يشير إلا إلى جرعة التناول، وربما يطرح زعمًا تافهًا على مستوى البيولوجيا الأساسية، بدلًا من الفاعلية الإكلينيكية، من قبيل «الجلوكوزامين مكوِّن كيميائي معروف من مكونات الغضروف.»

في بعض الأحيان، يكون التداخل متشابكًا بما يكفي ليكون مثيرًا. يمكن التنبؤ ببعض الأمثلة. يطرح إمبراطور صناعة أقراص الفيتامين باتريك هولفورد، على سبيل المثال، ادِّعاءاتٍ شاملةً شديدة المبالغة شملت جميع أنواع المكمِّلات الغذائية في كتبه حول «التغذية المثالية»، غير أن هذه الادِّعاءات نفسها تغيب عن أغلفة مجموعة أقراص الفيتامين «أوبتيمَم نيوتريشن» (والتي تعرض بدلًا من ذلك صورة فوتوغرافية لوجهه).

تُعتبر كاتبة عمود الصحة البديلة سوزان كلارك — التي دفعت، بين أشياء أخرى، بأن الماء يحتوي على سعرات حرارية — مثالًا بارزًا آخر على هذا الخط الرفيع الذي قد يتخطَّاه الصحفيون في بعض الأحيان. فقد كان لها عمود في «صنداي تايمز»، وفي «جرازيا»، و«ذي أوبزرفر» لسنوات عديدة. ومن خلال هذه الأعمدة أوصتْ باستخدام منتجات إحدى الشركات، «فيكتوريا هيلث»، بتكرار لافت؛ فكان ذلك وفق تقديراتي يحدث بمعدل مرة شهريًّا، بصورة منتظمة مثل الساعة. تنفي الصحف وجود أي مخالفة، وكذلك هي، ولا أملك سببًا واحدًا للتشكيك في ذلك. لكنها كانت تقوم بعمل مدفوع الأجر لصالح الشركة في الماضي، وها هي قد تركتْ جميع وظائفها في الصحف التي كانت تعمل بها لتشغل وظيفة بدوام كامل في «فيكتوريا هيلث»؛ حيث تكتب في مجلتها الخاصة (إنه مشهد يذكِّر على نحو غريب بالتدفق الحر المعروف للموظفين في أمريكا بين قطاع تنظيم صناعة الدواء ومجالس إدارات العديد من شركات الدواء. في حقيقة الأمر — وفي ذلك مخاطرة مني بالإفراط في التأكيد على الفكرة — ربما لاحظت أنني أسرد الآن قصة جميع صناعات الدواء، باستخدام أمثلة من وسائل الإعلام السائدة، وهي أمثلة لا يمكنك الفصل بينها).

كانت الجمعية الصيدلانية الملكية تعبِّر عن قلقها حيال استراتيجيات التسويق الخفية هذه في صناعة الدواء الرئيسية منذ عام ١٩٩١؛ إذ صرَّحت الجمعية قائلة: «نظرًا لمنعها من وضع ملصقات على المنتجات تتضمَّن ادِّعاءات طبية مفصَّلة إلا إذا خضعت لإجراءات الترخيص، تلجأ شركات التصنيع والتسويق إلى أساليب مثل تبنِّي المشاهير للمنتجات والترويج لها، وأدبيات منتجات مجانية مزيفة في ادِّعاءاتها الطبية، وحملات صحفية أفضتْ إلى موضوعات صحفية ترويجية غير نقدية في صحف ومجلات واسعة الانتشار.»

يُعد الولوج إلى عالم وسائل الإعلام الذي لا يخضع لأي ضوابط أمرًا معروفًا جيدًا كميزة سوقية بالنسبة إلى شركة إكوازن، وهي ميزة لا يكِلُّون من التشديد على أهميتها وإقناع الآخرين بها. ففي البيان الصحفي الذي أُعلِن فيه عن استحواذ شركة الدواء «جالنيكا» عليها، أعلنت الشركة قائلة: «لقد ظهرتْ تغطية البحوث التي أظهرتْ فوائد منتجنا «آي كيو» مرات عدة في التليفزيون والإذاعة الحكوميَّيَن … وهي التي يرجع الفضل إليها بشكل واسع كعامل مؤثر في النمو الهائل في قطاع أوميجا-٣ في المملكة المتحدة منذ عام ٢٠٠٣.» صدقًا، كنت أفضِّل أن أرى ملصقًا مكتوبًا عليه «صندوق هراء» على جميع الأغلفة والإعلانات؛ حيث يستطيع منتجو العلاج البديل طرح أي ادِّعاءات يريدونها بحرية، بدلًا من هذه التغطية الصحفية المضلِّلة؛ لأن الإعلانات على الأقل تُوصف بشكل واضح بأنها كذلك.

(٧) عجلات الزمن

بالطبع لا تكون تجارب دورهام هذه هي المرة الأولى التي يرى العالَم فيها جهدًا استثنائيًّا كهذا في ترويج فوائد ومميزات أحد منتجات المكمِّلات الغذائية من خلال قصص إعلامية عن بحوث لا يمكن الاطلاع عليها. كان ديفيد هوروبن مليارديرًا حقَّق ثروته من صناعة الدواء في ثمانينيات القرن العشرين — أحد أكثر الرجال ثراءً في بريطانيا — وبلغتْ قيمة إمبراطورية المكمِّلات الغذائية «إفامول» (التي قامتْ، مثل إكوازن، على أساس «الأحماض الدهنية الأساسية») المملوكة له قيمةً تزوغ لها الأبصار؛ بلغتْ ٥٥٠ مليون جنيه استرليني في قمة مجدها. وقد مضتْ جهود شركته لأبعدَ من أي شيء يمكن أن يجده المرء في عالم إكوازن ومجلس دورهام.

في عام ١٩٨٤، أُدين الموظفون في شركات توزيع «هوروبن» في الولايات المتحدة قضائيًّا بتهمة تزييف المكمِّلات الغذائية التي تنتجها الشركة والترويج لها باعتبارها دواءً؛ إذ كانوا يحاولون التحايل على القواعد التنظيمية لهيئة الغذاء والدواء التي كانت تمنعهم من طرح ادِّعاءات لا أساس لها حول أقراص المكمِّلات الغذائية في الإعلانات من خلال تصميم تغطية إعلامية تعاملت مع الأقراص كما لو كانت ذات فوائد طبية مثبتة. خلال نظر القضية، عُرِضت الأوراق والمستندات باعتبارها دليلًا على أن هوروبن قال في صراحة أشياء من قبيل: «بداهة لا يمكن الإعلان عن زيت زهرة الربيع المسائية لهذه الأغراض، لكن بداهة أيضًا ثمة طرق لتوصيل المعلومات …» كانت مذكِّرات الشركة تشير إلى خطط ترويجية مفصلة؛ مثل زرع مقالات حول أبحاثهم في وسائل الإعلام، واستخدام باحثين لطرح ادِّعاءات نيابة عنهم، من خلال البرامج الإذاعية التي تتضمَّن مشاركات هاتفية من المستمعين وما إلى ذلك.

في عام ٢٠٠٣، أُدين كبير الباحثين لدى هوروبن، د. جوران جمال، من قبل «جي إم سي» بتهمة اختلاق بيانات أبحاث حول التجارب التي كان قد أجراها لصالح هوروبن. كان جمال قد وُعِد بالحصول على نسبة ٠٫٥ في المائة من أرباح المنتج إذا طُرِح في السوق (لم يكن هوروبن مسئولًا، غير أن هذا الاتفاق المالي يُعتبر غير معتاد نوعًا ما؛ ما يجعل بصر المرء يزوغ أمام حجم الإغراء).

مثلما كان الحال مع أقراص زيت السمك، كانت منتجات هوروبن دومًا تظهر في الأخبار، لكن كان يصعب الحصول على بيانات البحوث. وفي عام ١٩٨٩، نشر هوروبن تحليلًا ماورائيًّا مشهورًا للتجارب في إحدى دوريات الأمراض الجلدية التي وجدت أن هذا المنتج الرائد، زيت زهرة الربيع المسائية، فعَّال في علاج الإكزيما. استبعد هذا التحليل الماورائي التجربة الكبيرة المنشورة المتاحة (التي كانت سلبية)، لكنه شمل دراستَيْن هما الأقدم، وسبع دراسات إيجابية صغيرة أُجريت تحت رعاية شركته (كانت هذه الدراسات لا تزال غير متاحة في المراجعة الأخيرة التي استطعتُ العثور عليها، في عام ٢٠٠٣).

في عام ١٩٩٠، رفضت الدورية مراجعة بيانات أجراها اثنان من الأكاديميين بعد أن تدخَّل محامو هوروبن. وفي عام ١٩٩٥، تعاقدت وزارة الصحة على إجراء تحليل ماورائي من قِبَل أحد العلماء المتخصصين في مجال علم الأمراض. شمل هذا التحليل عشر دراسات غير منشورة أجرتْها الشركة التي كانت تسوِّق زيت زهرة الربيع المسائية. وَصَفَ المشهدَ الذي تلا ذلك كاملًا البروفيسور هيول ويليامز بعد عَقْد كامل في مقال افتتاحي في دورية «بريتش ميديكال جورنال». ثارت الشركة جراء تسريب معلومات، وألزمتْ وزارة الصحة جميع المؤلفين والمحكِّمين بتوقيع إقرارات مكتوبة لطمأنتها بشأن صحة النتائج التي توصلوا إليها. ولم يُسمَح للباحثين الأكاديميين بنشر تقريرهم. العلاج البديل، دواء الناس!

منذ ذلك الحين تبيَّن في إثر مراجعة أوسع غير منشورة، أن زيت زهرة الربيع المسائية «ليس» فعَّالًا في علاج الإكزيما، وأنه فَقَد الترخيص الطبي باستخدامه. ولا يزال يُشار إلى القضية من قِبَل شخصيات قيادية في مجال الطب القائم على الأدلة، مثل سير إيان تشالمرز، مؤسس «آرتشي كوكرين»، كمثال لشركة دواء ترفض الإفصاح عن المعلومات حول التجارب الإكلينيكية للأكاديميين الراغبين في اختبار صحة مزاعمهم.

أشعر أن من واجبي أن أذكر أن ديفيد هوروبن هو والد المديرة المؤسِّسة لإكوازن، كاثرا كليهر، التي كان لقبها الأصلي هوروبن، وكان زوجها والمدير المشارك آدم كليهر قد ذكره تحديدًا في المقابلات باعتباره مصدر تأثير كبير على ممارساته التجارية. لا أشير هنا إلى أن ممارساتهما التجارية واحدة، لكن من وجهة نظري أن أوجه الشبه — من خلال البيانات التي لا يمكن الاطلاع عليها، ونتائج البحوث التي ينتهي بها المطاف بتقديمها مباشرةً إلى وسائل الإعلام — مدهشة.

في عام ٢٠٠٧، ظهرت نتائج شهادة الثانوية العامة للأطفال في دورهام في العام الذي أجرَوْا فيه اختبار تناول زيت السمك. وكانت هذه المنطقة منطقة مدارس لا تحقِّق نتائج طيبة، وتتلقَّى كمًّا هائلًا من الجهود والإسهامات الإضافية من جميع الأشكال. في العام السابق، دون تناول زيت السمك، كانت النتائج — عدد الأطفال الذين يحصلون على خمسة تقديرات في شهادة الثانوية العامة تتراوح من جيد جدًّا إلى متوسط — قد تحسَّنت بنسبة ٥٫٥ في المائة. وبعد تناول زيت السمك، تدهور معدل التحسن بصورة ملحوظة؛ إذ صار معدل التحسن ٣٫٥ في المائة فقط. كان هذا في مقابل زيادة في نتائج شهادة الثانوية العامة بنسبة ٢ في المائة على مستوى البلاد. ربما كنتَ ستتوقَّع تحسُّنًا من منطقة تنخفض فيها معدلات النجاح تتلقى المدارس فيها كمًّا هائلًا من المساعدات الإضافية والاستثمار، وربما تتذكَّر أيضًا — مثلما قلنا — أن نتائج الثانوية العامة تتحسَّن سنويًّا على المستوى القومي. إذا كان ثمة أي دلالة في الأمر برمته، تبدو الأقراص كما لو كانت مرتبطة بتباطؤ في تحسُّن الأداء.

في الوقت نفسه، تعتبر زيوت الأسماك حاليًّا أكثر منتجات الأغذية المكمِّلة شعبيةً في المملكة المتحدة؛ إذ يبلغ حجم المبيعات السنوي لهذا المنتج وحده ما يقدَّر بأكثر من ١١٠ ملايين جنيه استرليني سنويًّا. وقد قامت عائلة كليهر مؤخرًا ببيع إكوازن إلى شركة دواء كبرى، نظير مبلغ لم يُفصَح عنه. إذا كنتَ تظن أن نقدي حادٌّ أكثر مما ينبغي، أدعوك لأن تلاحظ أنهم قد انتصروا.

هوامش

(١) في حقيقة الأمر، من الصعب المبالغة في وصف مدى التضخم الذي وصل إليه سِيرك تجارب زيت السمك، عبر السنوات العديدة التي أُجريت فيها التجربة على مدارها. فقد صدَّق البروفيسور سير روبرت ونستون، صاحب الشارب الأنيق الذي قدَّم عددًا لا نهائيًّا من البرامج «العلمية» في محطة «بي بي سي»، على منتج منافس من منتجات أوميجا-٣، من خلال حملة إعلانية قضت هيئة المعايير الإعلانية بوجوب توقفُّها؛ لخرقها معاييرها للمصداقية والثبوتية.
(٢) كدليل على الحماقة المدهشة لمجلس دورهام، بلغ الأمر بهم أن غيَّروا من صياغة هذا البيان الصحفي على موقعهم، كما لو أن ذلك قد يعالِج عيوب التصميم الكبيرة.
(٣) على الرغم من أنك لن تستطيع أن تعرف إذا كنتُ قد وقَّعتُ على ذلك بالفعل أم لا؛ إذ لم أكن سأصبح قادرًا على إخبارك.
(٤) بينما لا نزال نناقش موضوع الأخلاقيات، زعم مجلس دورهام أن إعطاء العلاج الوهمي لنصف الأطفال سيُعتبر في «حدِّ ذاته» أمرًا غير أخلاقي، وهو ما يعد مثالًا آخر على سوء فهمٍ أساسي للغاية من جانبهم. فنحن لا نعرف إذا كانت زيوت الأسماك مفيدة أم لا. وكان ذلك سيصبح الهدف من وراء إجراء بحث نظري ما في هذا المجال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤